رمضان شهر الجد والعمل
سماحة المفتي العام السابق: الدكتور نوح علي سلمان
الحمد لله كما يُحب أن يُحمد، حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، وهدانا بالقرآن الذي أنزله في رمضان (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) البقرة/185. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله؛ فهي وصية الله عز وجل للناس أجمعين. قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً) النساء/131.
عباد الله:
لقد أكرمنا الله تعالى إذ مد في أعمارنا، حتى بلغنا الشهر المبارك -شهر رمضان-، وندعو الله عز وجل أن يعيننا على صيامه وقيامه، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، الذين يتقبل صيامهم وقيامهم، ويغفر ذنوبهم، ويعتقهم من النار، وعلينا أن نغتنم هذه الأيام المباركة وما فيها من نفحات وبركات لنكون من الفائزين؛ فإن صيام رمضان فريضة محكمة، يؤديها المسلمون منذ فرضت، بشوق وأريحية ونشاط، يجددون فيها العهد مع الله، على الطاعة والمحبة، والتمسك بشريعة الإسلام.
ومنذ نزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة/183 وجموع المسلمين جيلاً بعد جيل يلبون دعوة الله، ويستجيبون لأمره؛ كيلا يتخلفوا عن جموع المؤمنين من الأمم السابقة، الذين كتب عليهم الصيام فصاموا، وتساموا عن رغبات الجسد وشهوات النفس.
وكيف لا ينشط المسلم لأداء هذا الواجب وقد فُتِّحت أبواب الجنة، وأُغلقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فقد كان يُبَشِّر أصحابه بقدوم شهر رمضان، فهو شهر العمل الصالح والمغفرة والعتق من النار، وفرصة لا تتاح في العام إلا مرةً واحدة، فلا عذر لمعتذرٍ، ولا مجال للتواني والكسل، بل همة ونشاط وتسابق إلى الخيرات.. هذا شأن المسلمين كلما جاء هذا الشهر المبارك، ومن قصَّر وتوانى فقد ضيع الفرصة على نفسه وخالف السنة.
ومن مظاهر هذا النشاط -إلى جانب الصيام- الإقبال على صلاة التراويح، التي تغص بها المساجد ولله الحمد، فهي قيام الشهر الكريم، الذي وعد الله من صامه وقامه بمغفرة ما تقدم من ذنبه. قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه، ولذا نجد الأئمة يتنافسون في الخير؛ فمنهم من يختم المصحف كله في التراويح، ومنهم من يختم بعضه، وفي كلٍّ خير إن شاء الله.
عباد الله:
إن رمضان هو موسم قراءة القرآن، فالقرآن الكريم نزل في رمضان كما تعلمون، وكان جبريل عليه السلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فيدارسه القرآن، وظلت هذه سنةً متبعةً في هذه الأمة المباركة، يقرؤون القرآن في كل الأيام، ويضاعفون جهدهم في رمضان المبارك؛ فيختم بعضهم المصحف مرات، والمقتصد يختم مرةً واحدة.
أيها المسلمون:
إن هذا النشاط المضاعف في رمضان؛ مِن صيام، وقيام، وقراءةٍ للقرآن، وتنافس في الخير، وبذلٍ للصدقات، وإغاثة للمحتاجين، وتوسع في التوعية الدينية، هو خير دليلٍ على أن رمضان فعلاً هو شهر الخير والبركة، وإطلاق الطاقات الإسلامية الكامنة في الأمة.
فليس رمضان شهر تكاسل ونوم ولهو وطعام وشراب -كما يصوره البعض- بسبب ما يراه من تصرفات بعض المسلمين، بل هو شهر الجد والعمل والجهد المضاعف الخير، وعلى كل مسلم غيور على دينه أن يضاعف جهده في رمضان ليدفع التهمة الباطلة عن الإسلام والمسلمين، ويعطي الصورة الصادقة لرمضان، التي كان عليها الأحبة محمدٌ وصحبه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن الصحابة أجمعين..
فالموظف يجب أن يأتي إلى عمله مبكراً، ويلقى الناس بوجهٍ طلق، ويقضي حاجاتهم المشروعة بكل أريحيةٍ وإتقان، ويستمر في دوامه نشيطاً إلى نهاية الوقت، بلا تذمر ولا تأفف ولا كسل.
والطالب يجب أن يستغل الوقت لمضاعفة الدراسة والتحصيل، ويلقى معلمه بالبشاشة، ويلقاه معلمه بالرحمة والشفقة.
والتاجر يجب أن يكون رضي النفس، حريصاً على دينه، لا يضيع صلاة الجماعة من أجل الكسب الدنيوي، ولا يستغل أيام الشهر المبارك لرفع الأسعار، واستغلال حاجات الناس.
وهكذا كل مسلم، أينما كان موقعه يجب أن يزداد خيراً وبراً وسماحةً وكرماً في رمضان، بهذا أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) متفق عليه، وهكذا كان عليه الصلاة والسلام في رمضان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضان حين يلقاهُ جبريل، وكان يلقاهُ في كلِّ ليلةٍ مِنْ رمضان فيُدارِسه القرآن، فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخيرِ مِنَ الرِّيحِ المُرسلة" متفق عليه.
عباد الله:
هكذا يجب أن نكون، نقتدي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي غير رمضان، جادِّين في أعمالنا، مستقيمين في سلوكنا، حسنةً أخلاقنا، واسعةً صدورنا، سمحةً أكفنا بالخير، عامرةً بكتاب الله صدورنا، رطبةً بذكره ألسنتنا، نغتنم أوقات الخير، لنفوز بالخير العام في الدنيا والآخرة.
روي عن رسول الله صلى الله علية وسلم: (إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٌ؛ فَتَعَرَّضُوا لَهُ؛ لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا؛ فَلا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا) رواه الطبراني في "المعجم الكبير". ولا شك أن أيام رمضان من الأيام التي تهب فيها هذه النفحات الربانية؛ ففيها ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، وفيها يعتق الله الآلاف من النار، فطوبى لمن جد واجتهد واغتنم هذه الأيام المباركة بالعمل الصالح؛ فكان من الفائزين برضوان الله ورحمته وجنته.
طوبى لمن جد واجتهد؛ فأدى حق الله وحق العباد في رمضان وفي غير رمضان؛ فكان المسلم النموذجي الذي يدعو إلى الإسلام بعمله الصالح وخلقه المستقيم، ويعبر أجمل تعبيرٍ عن الدين الإسلامي الذي ارتضاه لنا رب العالمين، ورضينا بما رضيه الله تعالى لنا.
بارك الله لكم في هذا الشهر الكريم، وأعاننا على أداء حقوقه، وجعلنا من المقبولين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكل المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.