للإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف ما معنى (التلقين)، وما معنى كلمة (يجوز)، و(لا يجوز).
أما تلقين الميت فهو: أن يجلس المسلم عند قبر أخيه المسلم بعد دفنه يخاطبه مذكراً إياه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وببعض قواعد العقيدة الإسلامية، من أن الموت حق، والجنة حق، والنار حق، وأن الله يبعث مَن في القبور، ويدعو له بالتثبيت عند سؤال الملكين. وليس للتلقين صيغة معيّنة، بل كل ما يؤدّي هذا المعنى يُسمَّى تلقيناً.
ومعنى كلمة (يجوز): أن فاعله لا يعاقبه الله تعالى.
ومعنى كلمة (لا يجوز): أن فاعله يعاقبه الله تعالى.
ولعل مقصود السائل: هل هو سنّةٌ أم لا؟ لأن السنة ما يُثاب فاعله ولا يُعاقب تاركه.
لكن تاركها يكون مسيئًا لمخالفته أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
بعد هذا نقول: هذا السؤال يُفهم جوابه من الأحاديث التالية:
1. ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى المشركين يوم بدر فأُلقوا في قليب (أي بئر لم تطو؛ أي لم تُبن بالحجارة من الداخل)، ثم جاء القليب فجعل ينادي الكفار بأسمائهم وأسماء آبائهم: (يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟! فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّاً؟!) فقال عمر: يا رسول الله، أتكلِّم أجساداً لا أرواح لها؟! فقال: (والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) رواه البخاري.
2. عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم؛ أتاه ملكان، فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل -محمد صلى الله عليه وسلم- فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعاً... الحديث) رواه البخاري ومسلم.
3. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل) رواه أبو داود.
4. ورُوي عن أبي أمامة قال: إذا أنا متُّ فاصنعوا بي كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات أحد من إخوانكم فسوّيتم التراب على قبره؛ فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فيقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون. فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبيّاً وبالقرآن إماماً. فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لُقِّن حُجَّته؟!) فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمه، قال: (ينسبه إلى أمه حواء: يا فلان بن حواء). هذا الحديث رواه الطبراني في "معجمه الكبير"، وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صالح، وبعض العلماء يضعف هذا الحديث وبعضهم يبالغ فيجعله موضوعًا.
5. وأوصى عمرو بن العاص رضي الله عنه بالوقوف عند قبره بعد أن يُدفن مقدار ما ينحر جزور؛ ليستأنس بالواقفين عند مراجعة رسل ربه له؛ أي سؤال الملكين.
نستخلص من هذا أن الأحاديث الثلاثة الأولى وهي أحاديث صحيحة تفيد ما يلي:
أ. أن الميت يسمع كلام الحيِّ إذا خاطبه، بل يسمع حركة من حوله.
ب. أن الميت يُسأل في قبره.
ت. أن من المشروع أن يستغفر الحي للميت بعد دفنه، ويطلب له التثبيت عند سؤال الملكين.
أما الحديث الرابع فقد استأنس به العلماء وقالوا: إذا كان الميت يسمع فلنسمعه هذه الكلمات التي هو بأمسِّ الحاجة إليها في هذا الموقف، وإن كان الحديث الذي ورد بها ليس قوياً، لكن مضمونه كلام حقٌّ صحيح، ولديهم قاعدة أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، وقد سُئل عن التلقين أحمد بن حنبل فقال: ما رأيت أحداً يفعله إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة، ويُروى فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه.
هذا ما قِيل في الموضوع، بناءً عليه فمن فعله لا ننكر عليه لأن له حجة ما. ومن تركه لا ننكر عليه؛ لأنه لا يرى هذا حجة.
ونسأل الله أن يلقننا حجتنا عند السؤال، وأن يرزقني من يقف على قبري مستغفراً مذكراً لي بهذه الكلمات.
واحرص على محبة المسلمين وأخوتهم ولا تفرق الصفوف بمثل هذه المسائل، فأهم شيء توحيد الله ووحدة الأمة، وراجع في هذه المسألة: "المغني" لابن قدامة/ ج2، "سبل السلام"/ ج2، "التاج الجامع للأصول"/ ج1. وحقيقة الأمر أن من ينكر التلقين إنما ينكره؛ لأنه لا يحفظ صيغة التلقين المتداولة، ويرى أنه لا يليق به أن يجلس على القبر ليلقن الميت، بدليل أن بعضهم يلقي خطاباً على القبر، ولم يمض بذلك السنة.
"فتاوى الشيخ نوح علي سلمان" (فتاوى الجنائز / فتوى رقم/2)