المصالح المرسلة وأثرها في حفظ مقاصد الشرع الكبرى
قانون السير أنموذجا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي العربي الهاشمي الكريم، وعلى آله وأصحابه الطيبين، وعلى من دعا بدعوته إلى يوم الدين.
الإسلام شرع الله للعالمين، والدستور الباقي إلى يوم الدين، اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون الحاكم على الناس أجمعين، في كل مكان وفي كل حين؛ ولكي يتم ذلك على أكمل وجه وأدق تفصيل أراد اللطيف الخبير أن تكون أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة لكل نواحي الحياة، كفيلة بتنظيم علاقة الإنسان مع ربه عز وجل بداية، وعلاقة الإنسان مع نفسه، وعلاقة الإنسان مع غيره، وهذه الأخيرة هي عماد المجتمعات الإنسانية، فلا تقوم قائمة لأي تجمع إلا بما يضمن يسر وسهولة سريان أموره في منظومة واضحة آمنة.
وقد شرع الله تعالى العبادات لتكون تنظيماً إلهيا لعلاقة الإنسان بربه، وأما فيما يتعلق بتنظيم علاقة الناس لبعضهم بعضا؛ فقد شرع المعاملات بشقيها الإنساني والمالي بضوابطها الشرعية، لكافة نواحي الحياة التي يتعامل بها الناس، ولا تختلف فيها حاجاتهم من زمن لآخر كالإجارة والبيع والوكالة، وغيرها.
وفي الأمور الدنيوية العامة التي يتعامل بها كل الناس في معاشهم، وقد تختلف فيها الحاجات وتتحكم بها عادات الناس وتقاليدهم ونحو ذلك، وضع الشارع الحكيم الأطر العامة لذلك، وترك لولي الأمر تنظيم أحكامها وفق قوانين وأسس تناسب كل عصر وكل بيئة، وهذا ما يسمى بالمصالح المرسلة، وهي المصالح التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها، ولا دليل على إلغائها، بل أرسلت من قبل الشارع حتى يكون مجال الاجتهاد فيها لتحقيق المصلحة، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: "صار جمع المصحف واجباً ورأياً رشيداً في واقعة لم يتقدم بها عهد؛ فلم يكن فيها مخالفة، وإلا لزم أن يكون النظر في كل واقعة لم تحدث في الزمان المتقدم بدعة، وهو باطل باتفاق، لكن مثل هذا النظر من باب الاجتهاد الملائم لقواعد الشريعة وإن لم يشهد له أصل معين، وهو الذي يسمى المصالح المرسلة"[1].
وربط عز وجل سعادة الدارين بطاعة ذلك كله، سواء التشريعات الربانية، أو الاجتهادات البشرية بضوابطها الشرعية.
وإلزاماً للمكلفين بوجوب الطاعة في التشريعات آنفة الذكر كلها قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، قال الإمام البيضاوي: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، يريد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعده، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية. أمر الناس بطاعتهم بعد ما أمرهم بالعدل تنبيهاً على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق"[2].
وطاعة الله عز وجل عماد الدين، وأصل التسليم، ومنها تنبثق الطاعتين المذكورتين في الآية الكريمة السابقة؛ فطاعة الله عز وجل فيما أمر ونهى باتباع شرائع القرآن الكريم، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما شرع وهدى في تعاليم السنة النبوية المطهرة، وطاعة أولي الأمر فيما يقرونه من أمور وتعليمات تضمن للناس السلامة والأمن وانتظام معاشهم.
وهنا يكمن خلل قاتل يقع فيه الكثير من الناس، فيظنون أن هذه القوانين الوضعية ليس لها قوة إلزام مثل القوانين الإلهية، بحجة أنها ليست من عند الله، وأنها وضعية، ولا يجب الالتزام بها وجوباً شرعياً، وهذا خطأ، بل خطيئة، وقد أكد العلماء على وجوب طاعة ولي الأمر في مثل هذه الأمور، قال الإمام النووي: "تجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يخالف حكم الشرع، سواء كان عادلاً أو جائرا"[3].
وقال الإمام ابن قاسم العبادي: "وظاهر أن منهيه كمأموره [أي: ما يأمر به الإمام] فيمتنع ارتكابه ولو مباحا... يتجه الوجوب في المباح حيث اقتضاه مصلحة عامة"[4].
وفي مخالفة مثل هذه القوانين مفاسد جمة، أهمها:
- مخالفة أمر الله تعالى حيث قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
- الاعتداء على الآخرين وترويعهم؛ فكيف يأمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه عند عدم الالتزام بالقوانين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ) رواه ابن ماجه.
- انتشار الفوضى والفساد؛ لأنه في حال غياب القانون تحل مكانه شريعة الغاب، والإسلام حرم جميع صور الاعتداء على المسلم، حتى في الناحية المعنوية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) رواه مسلم، وكلمة عرضه تشمل جميع النواحي المعنوية.
ومن أهم وأنفع القوانين التي تحمي أرواح الناس وأموالهم قانون السير؛ ذلك لأنه وُضع للمحافظة على الأرواح والممتلكات وعلى السلامة والأمن على حد سواء، ففيه حفظ للنفس وحفظ للمال، وهذان مقصدان من مقاصد الشريعة الخمس الكبرى، ومخالفة هذا القانون يضيع هذه المقاصد، وأقول هنا أن مخالفة هذا القانون هو عصيان لله عز وجل؛ لأنه سبحانه وتعالى هو من أمر بحفظ النفس والمال وهو عز وجل من أمر بطاعة ولي الأمر، لا سيما أن هذه الطاعة تنطوي على مصلحة ظاهرة، ولا غرو في ذلك فرعاية المصالح في الإسلام مصدر أصيل من مصادر التشريع.
وليس لأحد أن يستهين بأي مخالفة لقانون السير مهما كانت صغيرة، فالصغير قد يترتب عليه عواقب وخيمة، وكم من نفس أزهقت جراء مخالفة صغيرة، وهناك مثال بسيط على مخالفة يستهين بها معظم الناس، وهي عدم إعطاء الأولوية؛ فعند ارتكابها يكون فاعلها مقترفاً لأربعة محاذير شرعية، وهي: مخالفة قانون السير، والاعتداء على حق الغير، وترويع الآخرين، وأخيرا الأنانية والعجب.
والأعجب من ذلك والأغرب فئة من السواقين المستهترين الذين لم يكتفوا بمخالفة القانون وحسب، بل لا يدعون غيرهم يلتزمُ القانونَ، فإن أردت الالتزام بالقانون بترك مسافة أمان بينك وبين الآخرين مثلا، رأيته يغير مسربه بطريقة خاطئة وخطرة؛ ليسد هذه الفرجة بينك وبين الذي أمامك، وكأن لسان حاله يقول: "إذا لم تخالف القانون دعني أخالفه أنا".
ومن الكوارث التي تنتج عن مخالفة قانون السير الحوادث المرورية، والتي تكون معول الهدم في مقاصد الشرع من حفظ للنفس وللمال؛ فغالبا ما من حادث إلا نتيجة مخالفة ما، والطامة في ذلك الحادث الذي ينتج عنه وفيات، نعم نحن نعلم أنه لا يوجد سائق يتعمد قتل أحد، لكن قد يؤدي الاستهتار ومخالفة القوانين لمثل هذه النتائج الكارثية، فكان لزاماً وواجباً حتمياً على من يقود مركبة أن يلتزم بقانون السير، وأي مخالفة له مهما كانت حرام شرعا ويترتب عليها إثم، والاستهانة بهذا كارثية، ولنا عظة في قول الله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
والحرمة التي يتحملها السائق في حوادث السير متفاوتة بلا شك، والتقصير لا يكون وليد لحظة الحادث فقط، بل يمكن أن يكون التقصير في صيانة المركبة أو نتيجة خلل لم يراعه السائق فيتفاقم، فمن حصل معه حادث من غير تقصير منه بتاتا، لا إثم عليه ولكنه يجبر على تحمل التبعات المالية؛ لأن الإثم مغاير للضمان، فهو مؤاخذ شرعا بفعله وإن كان خطأ محضا، ولكن دون إثم، أما في حالة التقصير فتتفاوت درجة الإثم بتفاوت فداحة الحادث، وتعاظم استهتار السائق، فلا يمكن أن يوصف القتل الناتج عن مخالفة القانون واستهتار السائق بالقتل الخطأ.
وهنا نستذكر كلمات سماحة الشيخ نوح القضاة رحمه الله تعالى في حكم الالتزام بتعليمات قانون السير، حيث قال: "هذه الشروط لم توضع من باب التسلط على الرقاب، والحد من حريات الآخرين، بل هي في الحقيقة شروط اتفق عليها الخبراء، ويرون أنها ضروريةٌ لسلامة مَن يقود مركبةً على الطريق العام.
وبناء عليه من خالفها فهو آثم: سواء ألحق الضرر بنفسه أو غيره، أم لم يُلحق؛ لأن مجرد تعريض النفس أو الغير للخطر هو إثم يحاسب عليه العبد أمام الله، ويجب أن يحاسِبَه عليه ولاةُ الأمور."
نسأل الله عز وجل أن يهدينا إلى مكارم الأخلاق، ويصلح لنا أحوالنا، وأن يديم علينا الإيمان والأمن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] - الموافقات (3/41).
[2] - تفسير البيضاوي (2/80).
[3] - روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/47).
[4] - تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (3 / 70).