مقالات

إثبات العقيدة الإسلامية بالنقل والعقل

الكاتب : الباحث الدكتور حمزة مشوقة

أضيف بتاريخ : 20-03-2025


إثبات العقيدة الإسلامية بالنقل والعقل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فهذا مقال يتناول أهم الأسئلة الشرعية التي يسأل عنها الناس غالباً في موضوع إثبات العقيدة الإسلامية بالنقل والعقل، استقاها الباحث من الكتب المعتمدة عند أهل السنة والجماعة.

1. هل حث الإسلام على استخدام العقل في إثبات العقيدة الإسلامية؟

أكد الإسلام على مكانة العقل ورفع من مقامه؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، ودعا الإسلام إلى ضرورة استخدام العقل وإعماله؛ قال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20].

وقد أمر الله تعالى بالتفكر والتأمل في نظام الكون وإتقانه؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]؛ قال العلامة القاسمي في تفسير الآية السابقة: "لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول، فيستدلون على قدرته، سبحانه، القاهرة، وحكمته الباهرة، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جلّ شأنه" [تفسير القاسمي 1/ 459].

وقد أمرنا الله تعالى باتباع أدلة العقول للتوصل إلى الإيمان بالله تعالى؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].

قال الإمام الغزالي: "مثال العقل البصر السليم عن الآفات والأدواء، ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء... فالمعرض عن العقل مكتفياً بنور القرآن، مثاله المتعرّض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور" [الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 10)].

2. هل يعتبر العقل حجة ودليلاً لإثبات العقيدة الإسلامية؟

الأصل الشرعي أن مسائل أصول العقيدة تفيد القطع، ولذلك يجب أن تكون الأدلة الموصلة إليها قطعية، والأدلة القطعية بعضها نقلي وبعضها عقلي؛ قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، والعلم يفيد القطع، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] فقد بينت الآية أن الإيمان وأصول العقائد لا تبنى على الظن.

وعلى ذلك فالأدلة العقلية تعتبر في المنظور الشرعي حجة في مجال العقائد وآلة يتوصل بها إلى الإيمان بالله تعالى؛ قال الإمام ابن الجوزي: "أعظم النعم عَلَى الإنسان العقل لأنه الآلة فِي معرفة الإله سبحانه، والسبب الذي يتوصل به إِلَى تصديق الرسل إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل" [تلبيس إبليس (ص: 3)]، وقال الإمام العز بن عبدالسلام: "والعقل هو مناط التكليف بإجماع المسلمين، مع أنَّ الشرع قد عدَّل العقل، وقبِل شهادته، واستدلَّ به في مواضع من كتابه، كالاستدلال بالإنشاء على الإعادة، وكقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]، وقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]، فيا خيبة من ردَّ شاهداً قبله الله، وأسقط دليلاً نصبه الله" [ملحة الاعتقاد للعز بن عبدالسلام (ص: 22)].

3. هاتِ أمثلة على بعض الدلائل العقلية الواردة في القرآن الكريم؟

أقام الله تعالى الحجج العقلية في مسائل الإيمان والعقيدة ومن الأمثلة على ذلك:

1- دليل وحدانية الله تعالى، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]؛ أي لو تولى أمور السموات والأرض إله غير الواحد الأحد لفسد نظام العالم؛ لما يحدث بينهما من الاختلاف والتنازع في التدبير وقصد المغالبة، ألا ترى أنه لا يوجد ملكان اثنان لمدينة واحدة، فكان القول بوجود إلهين باطلا، فثبت أن مدبّر العالم إله واحد.

2- دليل الحدوث: إثبات أن كل متغير فهو مخلوق، وأن الخالق لا يتغير؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 75 - 79].

3- دليل الإتقان؛ أي إن نظام الكون المتقن يدل على وجود فاعل مُريد وهو الله تعالى؛ قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].

ومن أحسن من كتب في الدلائل والحجج العقلية وأصلها في القرآن الكريم الإمام أبو الحسن الأشعري في رسالة [استحسان الخوض في علم الكلام]، والشيخ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني في كتاب [العقيدة الإسلامية وأسسها].

4. ما هي حدود العقل في المنهج الإسلامي؟

جعل الله للإنسان القدرة على إدراك وتخيل أشياء غير موجودة أمامه، فعقل الإنسان يستطيع الحكم على الأشياء والقدرة على إدراكها على جهة التفصيل، ولكن مهما بذل الإنسان من جهد في ذلك فإنه لن يدرك أو يتخيل سوى الأشياء الموجودة في عالم المشاهدة (الكون).

ولا يقتصر دور العقل في إدراك الحقائق الكونية والحكم عليها، بل يستدل العقل على أن هذا الكون لا يمكن أن يكون قد نشأ من ذاته بل يجب أن يكون مُنشؤه واجب الوجود مُريد قادر عالم متصف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقص، ويستطيع أن يستدل على وجود يوم حساب يُجمع فيه الخلائق ويحاسبون على ما قدموه من أعمال؛ لأن الله تعالى القادر الذي أوجد المخلوقات من العدم لن يعجزه إعادة بعثهم ومحاسبتهم على ما قدموا من أعمال، ولأن الله تعالى يستحيل عليه الظلم، ومن مقتضى عدله ألا يترك الظالم بغير حساب وألا يدع المظلوم من غير إنصاف، فلابد من وجود حياة أخرى يحاسب فيه الناس على ما قدموا من أعمال.

ولكن العقل لا يستطيع إدراك حقائق عالم ما بعد المشاهدة (عالم الغيب)، فلا يستطيع إدراك حقيقة الإله، ولا يستطيع إدراك حقيقة يوم الحساب وما سيجري فيه؛ يقول الإمام الشافعي: "إن للعقل حداً ينتهي إليه، كما أن للبصر حداً ينتهي إليه" "مناقب الشافعي للبيهقي" (2/ 187).

وبذلك يتبين أن العقيدة الإسلامية مبنية على الحجج والأدلة العقلية؛ لأن العقل السليم يتوصل إلى وجوب وجود الخالق ويتوصل إلى وجود اليوم الآخر، ولكن هذا العقل لا يستطيع أن يدرك حقيقة ذلك الإله وحقيقة اليوم الآخر؛ لأن إدراك العقل محدود، والله سبحانه وتعالى غير محدود، فلا يستطيع المحدود أن يتصور غير المحدود.

5. ما هي نظرة الإسلام للعلاقة بين العقل والنقل؟

يعتبر النقل والعقل المستندان الأساسيان اللذان يقوم عليهما الدين، فالإنسان لا يهتدي إلى الإيمان إلا بالعقل، ولكنه لا يعرف أحكام الدين إلا بالنقل، فالنقل والعقل يتعاضدان ولا يمكن أن يتعارضان؛ قال الإمام أبو منصور الماتُريدي: "السّمع وَالْعقل هما أصل مَا يعرف بِهِ الدّين" [التوحيد للماتريدي (ص: 4)]، وقال الإمام الغزالي: "اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع والشرع لم يتبين إلا بالعقل فالعقل كالأس والشرع كالبناء ولن يغني أس ما لم يكن بناء ولن يثبت بناء ما لم يكن أس" "معارج القدس في مدارج معرفة النفس" (ص: 57).

6. هل يشترط أن تكون أدلة العقائد الإسلامية قطعية؟

تنقسم العقائد إلى قسمين: الأول أصول العقائد كالإيمان بالله وملائكته وباليوم الآخر، فهذا القسم يكفر جاحدها بشروط، والثاني: فروع العقائد كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه يوم الإسراء والمعراج، فهذا لا يكفر جاحده.

فالقسم الأول يكفر جاحده بشروط:

أولاً: أن يكون ثبوتها قطعياً، ومعنى الثبوت القطعي الدليل الثابت الذي لا يقبل الاختلاف في ثبوته كالقرآن الكريم والسنة المتواترة.

ثانياً: أن تكون الدلالة قطعية، ومعنى الدلالة القطعية ألا تحتمل إلا معنىً واحداً، ولا تقبل التأويل ولا الاختلاف في الرأي.

ثالثاً: أن تكون من المعلوم من الدين بالضرورة التي يشترك في العلم بها العالم والعامي، ولا تقبل التشكيك بها.

والقسم الثاني يثبت بالأدلة القطعية إذا كانت دلالتها ظنية تحتمل أكثر من معنى، ويثبت أيضاً بالأدلة الظنية، ومعنى الدليل الظني الدليل الثابت الذي يقبل الاختلاف في ثبوته كحديث الآحاد.

وهذا المعنى مروي عن الإمامين الشافعي وأحمد؛ قال الإمام الشافعي: "فإن قال لنا قائل: هل يفترق معنى قولك حجة؟ قيل: نعم إن شاء الله، فإن قال: فأين ذلك؟ قلنا: أما ما كان نص كتاب بيِّنٍ أو سنة مجتمع عليها، فالعذر فيها مقطوع ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب، أما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون محتملاً للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب، وقلنا: ليس لك إن كنت عالماً أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة العدول وإن أمكن فيهم الغلط ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم والله ولي ما غاب عنك منهم" [الرسالة (ص: 458)]، فقد فرّق الشافعي بين خبر العامة وهو المتواتر وخبر الخاصة وهو الآحاد، فالأول مقطوع ولا يسع أحد الشك فيه، وأما الثاني فيلزم العمل به كما يلزم العمل بشهادة الواحد.

وروى القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد أنه قال: إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، فيه حكم أو فرض، عملت بالحكم والفرض، وأَدَنْتُ الله تعالى به، ولا أشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك" ثم علق القاضي على كلامه: "فقد صرح القول بأنه لا يُقطع به" [العدة في أصول الفقه (3/ 898)].

وبناء على ذلك نقول إن من خصائص عقيدتنا الإسلامية أن أصولها مبنية على أصول راسخة لا تقبل الاختلاف أو التشكيك، وأما المسائل الفرعية في العقيدة الإسلامية فتثبت بالأدلة القطعية والظنية، وقد يختلف فيها العلماء كاختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج.

7. ما حجية السنة النبوية في إثبات العقيدة الإسلامية؟

السنة النبوية كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وقد قسم العلماء السنة النبوية من حيث وصولها إلينا إلى متواتر وآحاد، وفيما يأتي تفصيل ذلك:

أولاً: السنة المتواترة: وهي الأحاديث الذي رواه رواة كثيرون بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب، مثل أحاديث معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الأحاديث مقطوع بصحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك فيحتج بها في إثبات أصول العقائد الإسلامية وفروعها.

ثانياً: سنة الآحاد التي رواها راوٍ أو راويين في كل طبقة من طبقات السند ولم تصل إلى حد التواتر، وحكمه أنه إذا ثبتت صحته لزم قبوله وأفاد الظن؛ وذلك لأن الحكم على عدالة الراوي وضبطه واتصال السند هو حكم ظني، ولهذا اختلف علماء الحديث فيما بينهم في تصحيح كثير من الأحاديث أو تضعيفها، كما اختلفوا في توثيق كثير من الرواة أو تضعيفهم، فالحكم على الحديث الآحاد بأنه يفيد الظن هو من جهة رواته، وليس من جهة كونه كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل ما ثبت يقيناً أنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهو يفيد القطع؛ قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].

قال الحافظ ابن عبد البر: "والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا" "التمهيد" (1 / 7).

وبناء على ذلك نقول إن السنة النبوية أصل وحجة في إثبات العقيدة الإسلامية، فما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم يعتبر حقاً يجب قبوله إذا تواتر أو ثبت صحته، ولكن جمهور العلماء قرروا أن حديث الآحاد الصحيح يفيد الظن من جهة رواته الذين رووه حتى وصل إلينا، لأن الحكم بعدالتهم وضبطهم هو حكم ظني، فاحتاط العلماء في المسائل العقدية التي جاءت بها أحاديث الآحاد الصحيحة – ولم يأت بها قرآن أو سنة متواترة – من فروع العقيدة التي يلزم قبولها ويسوغ فيها الاختلاف ولا يترتب على إنكارها تكفير، وجعلوا المسائل قطعية الدلالة التي جاءت في القرآن والسنة المتواترة والمشهورة أصول العقائد التي لا يجوز الاختلاف فيها.

ومن الأمثلة على فروع العقائد التي ثبتت بأحاديث الآحاد الصحيحة أسماء الله الحسنى، فكثير من الأسماء الحسنى ثبتت بالأحاديث الصحيحة ولم ترد في القرآن الكريم ولا في السنة المتواترة كاسم الله الواجد والماجد والوتر والجليل وغير ذلك، فيجوز إطلاقها على الله تعالى والدعاء والذكر بها "انظر: [الأسماء والصفات للبيهقي" (1/ 22)].

8. هل يجوز رد أحاديث الآحاد في العقيدة؟

لا يجوز رد أحاديث الآحاد الصحيحة في العقيدة الإسلامية، بل يلزم قبولها والتصديق بها، ولكن لا يترتب على عدم التصديق بها تكفير، وخير مثال على ذلك أن الصحابة اختلفوا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه يوم الإسراء والمعراج، مع كون المسألة قد ورد فيها بعض الأحاديث، ومع ذلك فلم يكفر بعضهم بعضاً، وللتوسع في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه يراجع [شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 5)].

قال الإمام الغزالي: "كل ما ورد السمع به ينظر، فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به قطعاً إن كانت الأدلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لا يتطرق إليها احتمال، وجب التصديق بها ظناً إن كانت ظنية" [الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 115)].

9. هل يجوز رد أحاديث عذاب القبر بدعوى أنها تخالف القرآن؟

عذاب القبر ثبت بالكتاب والسنة المتواترة وأحاديث الآحاد الصحيحة؛ قال الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]؛ قال الإمام ابن الجوزي: "وهذه الآية تدل على عذاب القبر، لأنه بيَّن ما لهم في الآخرة فقال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا" [زاد المسير في علم التفسير (4/ 40)].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك، حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة) رواه مسلم (2866).

ومسألة عذاب القبر قد تواترت بها الأحاديث تواتراً معنوياً؛ قال الإمام الغزالي: "وأما عذاب القبر فقد دلت عليه قواطع الشرع إذ تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم بالاستعاذة منه في الأدعية واشتهر قوله عند المرور بقبرين: (إنهما ليعذبان) ودل عليه قوله تعالى {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 45، 46]، وهو ممكن، فيجب التصديق به" [الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 117)]، وبناء على ذلك فلا يجوز إنكار عذاب القبر؛ لأنه من أصول العقائد.

10. هل يجوز إنكار أحاديث معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بدعوى مخالفتها للعقل؟

معجزة القرآن الكريم تعتبر ثابتة ثبوتاً قطعياً، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا يجوز إنكارها أو ردها، ومن أنكرها فهو في خطر عظيم على دينه؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88]، وغيرها من الآيات والأحاديث الكثيرة.

وأما بقية معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كنبع الماء بين أصابعه وتكثير الطعام ففيها تفصيل:

أولا: وردت بعض هذه المعجزات في القرآن الكريم، مثل معجزة انشقاق القمر؛ قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، فهذا النوع من القطعي الذي لا يجوز إنكاره.

ثانياً: أكثر المعجزات وردت في أحاديث متواترة أو مشهورة قريبة من التواتر مثل نبع الماء من أصابعه صلى الله عليه وسلم، والمتواتر يفيد القطع، وأما المشهور فحكمه قريب من القطع.

ثالثاً: بعض المعجزات وردت في أحاديث آحاد صحيحة، وللتوسع في معرفة هذه المعجزات ورواياتها يراجع [الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (1/ 482)].

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ""وأشهر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تحدى به العرب، وهم أفصح الناس لسانا وأشدهم اقتدارا على الكلام بأن يأتوا بسورة مثله، فعجزوا مع شدة عداوتهم له وصدهم عنه... وأما ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وانشقاق القمر ونطق الجماد فمنه ما وقع التحدي به ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحد، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات شيء كثير" [فتح الباري لابن حجر (6/ 582)].

وبناء على ذلك فلا يجوز إنكار معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ثبتت بطريق قطعي، ولا يتناقض ذلك مع العقل السليم؛ لأن العقل السليم الذي يوصل إلى الإيمان بالله وقدرته يعرف أن الله تعالى هو الذي خلق هذا الكون وخلق القوانين الموجودة فيه، وهو القادر على تبديل تلك القوانين بمشيئته وإرادته، فتبدل بعض القوانين الكونية هو مستحيل في عادة الناس وما يشاهدونه يومياً، ولكن العقل لا يمنع ذلك؛ قال إمام الحرمين: "كل ما جوزه العقل وورد به الشرع وجب القضاء بثبوته" [لمع الأدلة (ص: 126)].

11. ما دور المنهج التجريبي في إثبات العقيدة الإسلامية؟

حث الإسلام على استخدام الحواس الظاهرة لإدراك حقائق هذا الكون، والتدبر والتفكر بما فيه؛ قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27].

ويتنبه إلى أن المعرفة الحسية والتجريبية لا تعتبر الطريق الوحيد الموصل للمعرفة؛ لأن طرائق المعرفة ثلاثة: الخبر الصادق والعقل والحس، ولأن المعرفة الحسية تعتمد على التفكير العقلي للوصول إلى النتائج، فمن أكبر الأخطاء المعرفية اعتبار الحس والتجربة الطريق الوحيد الموصل للمعرفة، وهذا ما ميز المنهج الإسلامي في عرض نظرية المعرفة عن الفلسفات غير الإسلامية التي وقعت بسبب هذا الخطأ الكبير في دوامة الشك والإلحاد.

ومن أبرز المجالات الدينية التي يمكن بحثها في إطار المنهج التجريبي دراسة أثر الدين والإيمان على النفس الإنسانية أو دراسة الآثار الاجتماعية للدين في تعزيز التكافل الاجتماعي واستقرار الحياة الاجتماعية.

فالمعرفة الحسية والتجريبية تعتبر حجة إقناعية على الآخرين، وفي زمننا المعاصر كثُر الاعتماد على المنهج التجريبي، ولذلك فالأولى بالعلماء والباحثين والدعاة أن يستخدموا حججاً مبنية على دراسات علمية تجريبية في عرض حقائق الدين الإسلامي.

12. هل تعتبر الفطرة حجة في إثبات العقيدة الإسلامية؟

تعتبر الفطرة مسلكاً معتبراً لترسيخ العقيدة والإيمان في قلب المسلم، وقد حث الإسلام على تلمس هذه الفطرة السليمة في داخلنا؛ قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، يقول الإمام الغزالي: "كل آدمي فطر على الإيمان بالله عز وجل بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه أعني أنها كالمضمنة فيها لقرب استعدادها للإدراك" [إحياء علوم الدين (1/ 87)].

فالإيمان بالله تعالى مكنوز في نفوس الناس، ولكن كثيراً من الناس تنكبوا عن فطرتهم واتبعوا الشياطين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ) رواه مسلم (2865)، وبناء على ذلك نقول إن الاعتماد على الفطرة السليمة يعتبر مسلكاً صادقاً موصل لترسيخ الإيمان، ولكنه لا يصح أن يكون حجة إقناعية على الآخرين؛ لأن كثيراً من الناس تنكبوا لفطرتهم، وإعادتهم إلى طريق الإيمان تحتاج للحجج الإقناعية، والله تعالى أعلم.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

رقم المقال [ السابق ]

اقرأ للكاتب




التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha