ترفق الإسلام في تشريع العبادات وأثره في محاربة الغلو(*)
المفتي: سعيد أحمد فرحان
ملخص البحث
يركز البحث في مضمونه على مفهوم الغلو ومعناه ونشأته، ممهداً لذلك بتعريف الغلو، وذكر بعض أسبابه، وكيفية مجابهة الإسلام له والتحذير منه مستعرضاً لتاريخ نشأته وتطور مراحله بدءاً من العهد النبوي مبيناً ورود لفظ الغلو في الكتاب والسنة ثم العصور اللاحقة إلى العصر الحديث.
وقد ذكرت بعض المصطلحات التي لها علاقة بالغلو؛ مبيناً الفرق والاتفاق بينها وبين الغلو كالتشدد والتنطع ونحوها.
ثم ختمت البحث بالفصل الذي يعتبر موضوع البحث وهو: التصدي للغلو في ميزان الشرع، ذاكراً في البداية يسر الإسلام في التكاليف الشرعية وسماحته في التخفيف عن المكلفين بشتى الطرق والموضوعات، ثم تطرقت لبعض المحاولات التي دخلت على الأمة الإسلامية من أبواب شتى أدت إلى خلخلة البنيان الإسلامي، وبينت أثرها في إذكاء الغلو ووضحت موقف الشرع منها وأخيراً ذكرت بعض القواعد الأصلية في الشرع التي تدعو إلى الاعتدال واليسر، والله ولي التوفيق.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن من أهم نتاج الحضارة والتعامل مع الآخرين ومخالطتهم، ومخرجات العولمة والثورة الهائلة في عالم الاتصالات، ما نراه من أثر ذلك في تفكير وسلوكيات بعض الناس، وما نتج عن ذلك الأثر على معتقداتهم، ومنهجياتهم التي أصبحت تعاني من الغلو والتطرف، ذلك الغلو الذي اقتحم حياتنا وأصبحنا نعاني منه الأمرين؛ وما الإرهاب الذي نذوق مُرّه منذ مدة إلا نتاجاً وإفرازاً طبيعياً لهذا الغلو.
هذا الأثر له سلبيات وويلات عانت منها الأمة طويلاً، وما زالت تعاني، وستعاني منها إن لم تتوصل للعلاج الناجع لها؛ فأمر الغلو جد خطير، ولا بد للأمة من النهوض بالعمل الجاد والتفكير السليم، والرجوع إلى المنهج النبوي؛ لإبعاد شره عن المجتمع والناس والدولة ككل.
وهذا البحث جهد متواضع لمحاولة إلقاء بعض الضوء على المنهج الإسلامي في التصدي للغلو ونبذه، وقد جعلته في ثلاثة فصول كل منها يحتوي على عدة مباحث.
الفصل الأول: معنى الغلو، وفيه مباحث.
المبحث الأول: الغلو لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: استعمال لفظ الغلو في الكتاب والسنة.
المبحث الثالث: بعض المصطلحات القريبة من الغلو.
الفصل الثاني: الغلو عبر التاريخ، وفيه مباحث:
المبحث الأول: أسباب الغلو.
المبحث الثاني: مراحل تطور الغلو.
المبحث الثالث: موقف الشرع من ذلك.
الفصل الثالث: التصدي للغلو في ميزان الشرع.
المبحث الأول: يسر الإسلام في التكاليف الشرعية.
المبحث الثاني: محاولات خلخلة البنيان الإسلامي، وأثرها في إذكاء الغلو وموقف الشرع من ذلك.
المبحث الثالث: قواعد أصلية في الشرع تدعو إلى الاعتدال واليسر.
وأخيراً الخاتمة.
الفصل الأول
معنى الغلو، واستعمال الشرع له
المبحث الأول: الغلو لغة واصطلاحاً:
الغلو لغة:
تدور معاني الغلو حول الزيادة وتجاوز الحد، وكأن الغلو هو الارتفاع عن الشيء المعتاد ومجاوزته، ومن ذلك قولهم إذا غلا القدر: كأن ماءه تجاوز حده.
جاء في المعجم الوسيط في باب الغين: "غلا السّعر وَغَيره غلوا وَغَلاء زَاد وارتفع وَجَاوَزَ الْحَد، فَهُوَ غال وغلي والنبت ارْتَفع وَعظم والتف وَفُلان فِي الأَمر وَالدّين تشدد فِيهِ وَجَاوَزَ الْحَد وأفرط فَهُوَ غال"[1].
وجاء في تاج العروس: "وغلا في الأمر غلواً، كسمو؛ من باب قعد؛ (جاوز حده)، وفي الصحاح: جاوز فيه الحد، وفي المصباح: غلا في الدين غلوا تشدد وتصلب حتى جاوز الحد. ومنه قوله تعالى: (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) المائدة/ 77، وقال ابن الأثير: الغلو في الدين البحث عن بواطن الأشياء والكشف عن عللها وغوامض متعبداتها، وقال الراغب: أصل الغلو تجاوز الحد"[2].
أما معنى الغلو في الاصطلاح فهو لا يخرج عن المعنى اللغوي؛ فقد عرف الإمام ابن حجر الغلو بقوله: "الغلو هو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد"[3].
وعرفه ابن تيمية قال: "والغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك"[4].
المبحث الثاني: استعمال لفظ الغلو في الكتاب والسنة:
وقد ورد لفظ الغلو في القرآن والسنة موافقاً للمعنى اللغوي؛ قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) المائدة/ 77، أي: لا تجاوزوا الحد كما قاله المفسرون. قال الإمام أبو السعود رحمه الله تعالى: (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) المائدة/ 77، أي لا تتجاوزا الحد، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عن رتبة الرسالة إلى ما تقوَّلوا في حقه من العظيمة ولليهود عن وضعهم له عليه السَّلامُ عن رتبته العلية إلى ما تقوَّلوا عليه من الكلمة الشنعاء، وقيل هو خاص بالنصارى كما في سورة النساء فذكَرَهم بعنوان أهلية الكتاب لتذكير أن الإنجيل أيضاً ينهاهم عن الغلو"[5].
الغلو في السنة النبوية:
وكما ورد لفظ الغلو في القرآن الكريم، ورد كذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، منها:
روى الإمام النسائي في سننه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: (هَاتِ، الْقُطْ لِي) فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ: (بِأَمْثَالِ هَؤُلاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)[6].
فهذا الحديث أصل عظيم في مواجهة الغلو والتشدد والشطط؛ فإذا كان الغلو والتشدد في أمر كاختيار الحصى لرمي الجمار مرفوض؛ فكيف بما هو فوقه من الأمور الشرعية وغيرها؟! فليست العبرة بحجم الحصاة، وأنها كلما كبرت كان أفضل، لا، وإنما هي مسألة توجيه وتربية وتأصيل. فلم يرض النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقر الصحابي على الحصى التي اختارها، بل وجهه إلى اختيار حصى صغيرة، وهذا الهدي النبوي في التربية والتوجيه نحو منحى الاعتدال والتوسط لهو خير رد على دعاة التشدد والتنطع والغلو؛ وعلى هذا القياس والنهج النبوي لا يرتبط عظم الأجر بعدد الركعات، بقدر ما يرتبط بالخشوع والقنوت والتفكر، أو أن التطوع بمئة ركعة خير من التطوع بثلاث عشرة كما كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم.
كما ورد التحذير من الغلو عن السلف الصالح في كثير من النصوص، ومن ذلك ما رواه أبو نعيم في الحلية عن مخلد بن الحسين, قال: «ما ندب الله العباد إلى شيء إلا اعترض فيه إبليس بأمرين ما يبالي بأيهما ظفر إما غلواً فيه وإما تقصيراً عنه"[7]، فانظر كيف اقترن الغلو بالتقصير، كما اقترن الإفراط بالتفريط، وكما يقولون من غير إفراط ولا تفريط؛ فالغلو صنو التقصير.
المبحث الثالث: بعض المصطلحات القريبة من الغلو:
وردت في السنة النبوية بعض المصطلحات التي تشير إلى معنى قريب من معنى الغلو في مجموعة من الأحاديث ومن أقوال السلف، ومن هذه الكلمات:
التنطع: معنى التنطع قريب لمعنى الغلو؛ فهو يكاد أن يكون غلواً من حيث كونهما يشتركان في التشدد والإفراط.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التنطع مثل ما حذر من الغلو، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) قَالَهَا ثَلاثاً[8]،
قال الإمام النووي في تعريف المتنطعين: "هم المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم"[9].
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم حال من يتشدد بالعبادة ويغالي فيها ويجتهد فوق الاستطاعة بمن يركب دابته في السفر ويشد عليها ويسارع إلى قطع المسافة في أقصر وقت حتى يهلك دابته فهو بذلك لا قطع المسافة ولا أبقى على دابته، حيث روى الإمام البيهقي بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ رَبِّكَ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لا سَفَرًا قَطَعَ، وَلا ظَهْرًا أَبْقَى، فَاعْمَلْ عَمَلَ امْرِئٍ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَمُوتَ أَبَدًا، وَاحْذَرْ حَذَرًا يَخْشَى أَنْ يَمُوتَ غَدًا)[10].
التشدد: وهو قريب من الغلو من حيث كلاهما إعطاء الأمر والاهتمام به أكثر مما يستحق، وقد حذر منه أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)[11].
الإسراف: الإسراف قريب من الغلو من حيث أنه تجاوز للحد، وميل عن الصواب والاعتدال، بقطع النظر عن حكمه هل هو حرام أم حلال، وهل هو في المحرمات أم يكون كذلك في المباحات، فكل ذلك ليس هنا بحثه وإنما ننظر إلى الإسراف على أنه تجاوز وإساءة، وقد عرفه الجرجاني بأنه: تجاوز الحد في النفقة، وقيل: أن يأكل الرجل ما لا يحل له، أو يأكل مما يحل له فوق الاعتدال، ومقدار الحاجة. وقيل: الإسراف تجاوز في الكمية، فهو جهل بمقادير الحقوق[12].
الفصل الثاني
الغلو عبر التاريخ
المبحث الأول: أسباب الغلو:
للغلو أسباب عديدة، لكن السبب الرئيسي له والذي ترد إليه معظم الأسباب الأخرى هو الجهل: سواء الجهل بالأحكام الفقهية أو الجهل بحكمة التشريع؛ فالغلو باب من أبواب الشيطان كما سبق وذكرنا من أقوال التابعين حيث يدخل على المسلم به مستغلاً جهله في الحكم، وكم من شخص تشدد بأمر نتيجة جهله كان له فيه سعة؟!
ومعلوم أن من أهم حكم التشريع رفع الحرج والتيسير على الناس، قال الله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير) الحج/ 78، وروى الإمام البخاري وغيره عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا)[13]. فهذا الحديث الصحيح يبين منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الاختيار وغيره، أنه كان قائماً على اليسر ورفع الحرج، فكيف بعد ذلك يأتي شخص ويدعي أن الإسلام يدعو إلى التشدد، أو أن التشدد مطلوب في الدين وهو من عزائم الأمور، فهذا كله يدحضه الكتاب والسنة بشكل لا مراء فيه.
ومن أسباب الغلو كذلك العصبية المذهبية، حيث إن كل أتباع مذهب يطعنون في آراء الآخرين، وهذا إنما منبعه من الغلو في التمسك بالرأي ومخالفة الآخرين.
ومن أسبابه أيضاً حب الظهور ولفت الانتباه، وكما قيل حب الظهور يكسر الظهور.
ومن أسبابه قلة الاطلاع وضيق الأفق.
ومن أسبابه وخاصة بالنسبة لغير المسلمين الطعن في الدين، وغيرها من الأسباب والتي في مردها ترجع إلى قلة العلم وجهل حكمة التشريع
المبحث الثاني: الغلو عبر التاريخ:
تحذير القرآن من الغلو في عهد التنزيل
في بداية التشريع لما كان القرآن الكريم يتنزل على النبي صلوات الله عليه وسلامه، كانت بداية الإشارة إلى الغلو التحذير منه، كما في قول الله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) النساء/ 171، وكذا قول الله عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) المائدة: 77، فقد أخبرنا الله عز وجل عن الغلو عند أهل الكتاب وعاقبة ذلك؛ ليحذرنا من الغلو ومن السير في طريقه واتخاذه منهجاً في الحياة، وكأن القرآن الكريم يقول لنا يا أيها الذين آمنوا لا تغلوا في دينكم فتكونوا مثل أهل الكتاب تتبعونهم في ضلالاتهم؛ فإياكم وذلك.
وكما نبه القرآن وحذر من الغلو كذلك نبه النبي الكريم وحذر منه، وقد أوردنا في مبحث سابق بعض الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تدعو إلى نبذ التشدد والغلو والتنطع؛ وما كان هذا التنبيه والتحذير إلا لمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم خطورة هذا الأمر وإدراك عاقبته.
وفي التاريخ الإسلامي الكثير من الشواهد والأمثلة على ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرنا جزءاً منها فيما سبق، وسنذكر بإذن الله تعالى جزءاً فيما يلي.
في العهد الراشدي وما بعده
ظهر الغلو في عهد الخلفاء الراشدين أكثر وضوحاً وأشد تنظيماً، بل ظهرت الفرق التي غالت في شتى المجالات؛ فمنها من غالى في الأشخاص كالذين رفعوا من مرتبة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنهم من غالى في التكفير كالخوارج، وكثير من الفرق الأخرى غالت في مجالات شتى.
ثم بعد ذلك زادت قاعدة الغلو، وكان الغلاة يقوون ويضعفون بحسب قوة وضعف الدولة الإسلامية، وحادثة القرامطة وما فعلوه في الحجيج وفي الحجر الأسود شهيرة في التاريخ.
وكان كلما ظهر الغلو ظهر التصدي له من أهل السنة والجماعة على مر العصور، والفتن والسجالات التي ظهرت بين الغلاة وأهل السنة تزخر بها كتب ومراجع التاريخ.
المبحث الثالث: موقف الشرع من الغلو:
إن من أحد أهم ميزات التشريع الإسلامي الوسطية والاعتدال، وهذه الوسطية سمة كل موقف من مواقف الشرع، وكل حكم من أحكامه، ومن هذا المنطلق كان موقف الشرع من الغلو قبل كل شيء رافضاً له؛ وهذا أمر بديهي؛ لأن الوسطية والغلو نقيضان، فكيف يتقبل الشرع الإسلامي السمح المعتدل الغلو؟
ومن منطلق سماحة الإسلام واعتداله أول ما جابه به الغلو: الحجة والمنطق، وحاربه بالجدال بالتي هي أحسن، وهذا من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكرنا أنه صلوات ربي وسلامه عليه كان يجابه الغلو بالحجة، ولم يكن فظاً مع المغالين، حتى أنه ما كان يعنفهم، بل كان يتبع معهم ألين الأساليب، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)[14].
وهذه المنهجية التي اتبعها الصحابة من بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحوادث في ذلك أكثر من أن تحصى، منها ما رواه ابن أبي شيبة بسنده قال: "لَمَّا كَانَتِ الْحُكُومَةُ بِصِفِّينَ وَبَايَنَ الْخَوَارِجُ عَلِيًّا رَجَعُوا مُبَايِنِينَ لَهُ, وَهُمْ فِي عَسْكَرٍ, وَعَلِيٌّ فِي عَسْكَرٍ, حَتَّى دَخَلَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ مَعَ النَّاسِ بِعَسْكَرِهِ, وَمَضَوْا هُمْ إِلَى حَرُورَاءَ فِي عَسْكَرِهِم, فَبَعَثَ عَلِيٌّ إِلَيْهِمْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَكَلَّمَهُمْ فَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ مَوْقِعًا, فَخَرَجَ عَلِيٌّ إِلَيْهِمْ فَكَلَّمَهُمْ حَتَّى أَجْمَعُوا هُمْ وَهُوَ عَلَى الرِّضَا, فَرَجَعُوا حَتَّى دَخَلُوا الْكُوفَةَ عَلَى الرِّضَا مِنْهُ وَمِنْهُمْ"[15]، فهؤلاء اثنان من أكابر الصحابة وعلمائهم، كلاهما استخدم الحوار والحجة في مواجهة الغلو.
الفصل الثالث
التصدي للغلو في ميزان الشرع
المبحث الأول: يسر الإسلام في التكاليف الشرعية:
الإسلام دين الله تعالى للبشرية جمعاء، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء/ 107، ولما كان دين الله تعالى للعالمين وكانت رسالة سيدنا محمد خاتمة الرسالات، اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون دين يسر وسعة؛ وهذا ما جعله صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان.
والأدلة على يسر الإسلام من الكتاب والسنة عديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
قال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/ 185، وقوله سبحانه وتعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) النساء/ 28.
ومن السنة النبوية: ما أخرجه الشيخان عن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا)[16].
وقال عليه الصلاة والسلام: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَمُقَامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ خَيْرٌ مِنْ صَلاتِهِ سِتِّينَ سَنَةً)[17].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) الحديد/ 27)[18].
ومن الأدلة العملية على يسر الإسلام، وأن هذا اليسر ليس بالشيء النظري فقط؛ لما فرض الله تعالى التكاليف العملية لهذا الدين ميزها باليسر ورفع المشقة والحرج، كما سبقت الإشارة عند قول الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج/78، فكانت سمة التكاليف اليسر، وميزة الدين السماحة والبعد عن الغلو والتطرف، والأمثلة والأدلة على ذلك كثيرة وعديدة، منها:
في أركان الإسلام مثلاً: فرض الله تعالى صلوات خمسة في اليوم والليلة لا تتطلب وقتاً لأدائها أكثر من نصف ساعة، وفوق هذا راعى فيها أحوال الناس وظروفهم من مرض أو خوف ونحوهما، ودليل ذلك من السنة الصحيحة ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ، فَقَالَ: (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)[19]. وقال الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) البقرة/ 238، 239.
والزكاة لما كانت فرضاً مالياً -وقد جبلت النفس البشرية على الشح-كانت مرة في كل عام، وبنسبة ضئيلة من المال وبعد مرور حول كامل على الملك.
ومن الأركان ما فرض مرة واحدة في العمر وهو الحج، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يجب إلا على المستطيع، وأن فيه ما فيه من اليسر والسعة على ما سنبينه فيما بعد بإذن الله تعالى.
المبحث الثاني: موقف الشرع في التعامل مع أحداث ساعدت على الغلو:
دائماً وعلى مر الزمان كانت توجد محاولات لخلخلة البنيان الإسلامي، وهذه المحاولات منها ما كان دخيلاً على الإسلام ومجتمعه، وكان هدفه زعزعة الدين والكيد له وللمسلمين، ومنها ما كان من داخل المجتمع الإسلامي نفسه، فكما أنه كان هناك محالات لتخفيف الغلو ونبذه وتقريب التيارات المختلفة من الحق والاعتدال، كان هناك محاولات وأساليب وأمور جرت على الساحة أدت إلى توسيع هوة الخلاف واشتداد أثر الغلو، وبالتالي عاد ذلك على الأمة بالوبال وزاد من الفرقة والشتات، والتمسك أكثر بالغلو، ومن هذه الأحداث:
الغزو الثقافي:
لما حاولت أوروبا غزو الدول الإسلامية عسكرياً عبر الحملات الصليبية فلم تنجح، حاولت مع الخيار الثقافي عبر غزوها للأمة الإسلامية والعربية بشكل خاص ثقافياً، وهذا الغزو الثقافي أحدث شرخاً في جدار الأمة وهذا الشرخ امتدت تداعياته إلى كافة المجالات حيث ظهرت نتيجة لذلك فئة من الناس تشربت الحضارة الغربية وافتتنت بمظهرها الخارجي، وهذه الفئة كانت من مختلف طبقات المجتمع، ومن الطبيعي أن يكون من هذه الطبقات من هو مشتغل بالعلم الشرعي، وبذلك تأثر هؤلاء بهذا الغزو، وهناك عوامل ساعدت على هذا الغزو، لخصها صاحب كتاب "هكذا كادوا للإسلام وزوروا التاريخ"، حيث قال: "كانت بريطانيا وفرنسا قد قررتا العمل من داخل الدولة العثمانية لتفريغ المنطقة العربية والتركية بعامة ومنطقة بلاد الشام بخاصة من معتقداتها الروحية وغزوها ثقافياً تمهيداً لإسقاط الخلافة، ومن ثم تفكيكها واستعمارها.
وقد استخدمت الدولتان مجموعة عوامل مساعدة لتحقيق أهدافها هي:
- الإرساليات والبعثات التبشيرية في غزو تبشيري موجه.
- الموارنة الذين ساندوا فرنسا دائماً (منذ الحروب الصليبية) ضد أهلهم وإخوانهم من العرب مسيحيين ومسلمين عن وعي كامل وسابق إصرار وتصميم.
- الدروز الذين ساندوا بريطانيا ضد أهلهم من المسلمين والمسيحيين العرب أيضاً عن وعي كامل وسابق إصرار وتصميم.
- الشباب العربي والتركي المثقف والمتشرب لشعارات الحرية الإخاء، والمساواة والمبهور بحضارة الغرب النورانية وقد قام هؤلاء الشباب بدورهم بنوايا حسنة في الغالب.
- يهود الدونمة الذين كانت لهم اليد الطولى في توجيه الأحداث وتزعم الجمعيات السرية التي خططت لإشاعة التعصب العرقي بين العرب والأتراك، وإثارة النزعة القومية لدى كل عنصر منها"[20].
فكان تأثير ذلك على الغلو من ناحيتين: ناحية الإفراط وناحية التفريط؛ فالتفريط الذي كان نتيجة هذا الغزو أدى إلى افتتان البعض بالحرية الأوروبية، وحالوا أن يدخلوها على الشرع ويلبسوها ثوبه، فما كان من ذلك إلا فئة متحررة، بل تكاد تكون خارجة عن الدين بالحرية والانفتاح الذي أدخلوه على الشرع باسم الحضارة.
والإفراط كان نتيجة عكسية لهذا التحلل والانغماس في الحرية، ورد فعل لمن نادى بالحرية والانفتاح، فنتج عن ذلك تيار متشدد سيمته الغلو.
وقد تصدى العلماء للفريقين؛ وذلك لأن الشرع يرفض كلا الاتجاهين، وقد جاءت نصوص من الكتاب والسنة تدعو إلى التمسك بالدين وعدم الالتحاق بالآخرين واتباعهم من غير بينة، قال الله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) الأعراف/3، وقال عز وجل: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) يونس/ 108، وفي سنن أبي داود عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا فَقَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ)، ثُمَّ
خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ: (هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ) ثُمَّ تَلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) الأنعام/ 153"[21].
فهذه قواعد لمواجهة أي شيء يخالف الشرع الحنيف، ودعوة إلى التمسك بالدين والعقيدة السليمة.
التبشير:
لا نقصد هنا من الحديث عن التبشير عمل الأوروبيين والمبشرين في نشر الدين وجهودهم في ذلك وما ترتب عليه فقط، بل يتعدى الحديث عن التبشير كسبب من أسباب الغلو، وهذا حدث من حيث جهود التبشير وطرقه المختلفة، فالتبشير كغيرة من الأحداث التي دخلت على البلاد الإسلامية والعربية منها بشكل خاص كان لها الكثير من الآثار على الناس، تلك الآثار التي أوجدت أناساً في الأمة مفتتنين بما يفعله المبشرون حيث دخلوا على البلاد بصور ظاهرها المصلحة والود وتقديم الخدمات السامية للناس، فمن المعروف أن التبشير لم يكن صراحة ووجهاً لوجه فقط، بل كان عن طريق تقديم خدمات نافعة للناس كالتعليم والصحة، وبغض النظر عن أهدافهم وتحقيقها فقد أحدثوا تأثيراً على الناس، يقول الدكتور مصطفى خالدي حول حقيقة هدف التبشير: "ولا ريب أن مرد هذه العداوة الشديدة إنما هو إلى الحروب الصليبية، على ذلك أجمع مؤرخو التبشير كلهم ، وهم في ذلك على صواب، ثم إن هذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن العداوة دنيوية سياسية لا صلة لها بالدين، إن المبشر "جيب" مثلاً يود أن يمحي الإسلام من العالم.
ويرى بعضهم أن السبب الأساسي في هذا الكره إنما هو بلا ريب راجع إلى العداوة التي أثارها الصليبيون، وإلى أن المسلمين لا يزالون متأثرين بموقف الدول النصرانية من الإسلام في أثناء الحروب الصليبية، إلا أن المستشرق الألماني "كارل بكّر" يرى السبب أبعد قليلاً من ذلك، إنه يرى أن الإسلام لما انبسط في العصور الوسطى أقام سداً في وجه انتشار النصرانية ثم امتد إلى البلاد التي كانت خاضعة لصولجانها وقريب من هذا ما رآه "غاردنر" أن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا، ويحاول المبشرون أن يروا العداوة بين الإسلام وبين الغرب دينية، ولكن الحقيقة لا تلبث أن تظهر في فلتات لألسنتهم"[22].
وأدى ذلك إلى نمو جانب من جوانب الغلو حتى عند بعض من ينسبون أنفسهم إلى علماء الدين، وقد اطلع علينا بعضهم بفتاوى شاذة وخاطئة كان آخرها أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لا يجب عليهم إتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وحجتهم في ذلك قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الحج/ 17، وهذا الفهم إنما دخل علينا نتيجة التبشير ومخالطة أهل الكتاب، وقد يكون بعضهم دافعه في ذلك استمالتهم.
وقد جاءت نصوص واضحة صريحة بخلاف ذلك، تناساها من يقول بما أسلفنا، ومن هذه النصوص: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آل عمران/85، وقول الله سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الأعراف/ 158.
وقال رسول صلى الله عليه وسلم محذراً من الانجرار خلف اليهود والنصارى؛ لعلمه عليه الصلاة والسلام بما سيكون بطريق الوحي: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ)، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ: (فَمَنْ)[23].
التشيع:
واحد من أهم الأمور التي أثرت على الأمة التشيع، فكان تأثيره واضحاً جلياً، وانسحب هذا التأثير على جميع مجالات الأمة، ومن المعلوم أن التشيع تاريخياً بدأ في عصر الخلافة الراشدة وقد كان يقوى ويضعف تبعاً لعوامل خارجية عديدة، وفي العصر الحالي يظهر تأثير التشيع والشيعة في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، لكن وبلا ريب أن الإعلام المرئي له التأثير الأكبر، وهذا مشاهد بوضوح في القنوات الفضائية التي تدعو للتشيع.
يقول الشيخ نعماني: "فالجهل بحقيقة الثورة الإيرانية بكل هذه الأمور جعل الكثير يتأثر بالدعاية التي تنفق عليها الحكومة الإيرانية بلايين الدولارات حتى تعطي الثورة صورة إسلامية خالصة"[24].
والمتتبع للإعلام الإسلامي، وخاصة للقنوات الفضائية، يلاحظ - بل إن الأمر أشد وأظهر حتى إنه ليبدو من الوهلة الأولى والنظرة الابتدائية- المد الشيعي ومحاولة التأثير على المسلمين بفكره ومعتقداته، وهذا بماذا يعود على الأمة، وما هي خطورته على وحدة الصف وعلى جمع الكلمة؟
لاشك أن هذا أمر شديد الخطورة فالخلاف بيننا وبين الشيعة أكثر من مجرد خلاف فقهي في فروع العبادات.
والواقع أن الانفلات الأمني الذي عانت منه بعض الدول الإسلامية؛ نتيجة للظروف التي شهدتها أدى إلى انفلات إعلامي، حيث يصبح المرء مع الكم القليل من معرفته ودرايته في الأمور كافة حيران لا يدري أين الصواب، فبدلاً من أن يكون الإعلام بمثابة المدرسة المتزنة والمرجعية الصادقة في تبيين الحقائق، أصبح وسيلة تشتيت وتفرق، وسلاح ناجع لإيصال الأفكار والمعتقدات؛ وهذا بالتالي أدى إلى نشوء تيارات معينة وتفشي ايدلوجيات بعضها مشبوه بين الناس، وهذا أيضاً ما غذى التيار المتطرف وعمل على تقويته، فمثلاً شهد الإعلام التلفزيوني في العراق بعد الاحتلال انعطافاً كبيراً في مساره من حيث الكم والنوع، تجلت في انتشار القنوات الفضائية حتى زاد عدد على ثلاثين قناة فضائية مختلفة المناشئ والاتجاهات والبث والتمويل والإدارة. ويلاحظ المتتبع لهذه القنوات الفضائية هيمنة القنوات الشيعية في عالم الفضائيات الدينية، ولا تكمن الخطورة في الكم إنما في الطرح المهدد للعقائد والأفكار والأخلاق الإسلامية"[25].
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) العنكبوت/12، 13.
ومع انتشار الفكر الشيعي الذي يقوم أصلاً على الغلو في المعتقد؛ تسرب للأمة بعض الغلو وشوائبه، سواء من حيث المغالاة في تقدير البشر أم من حيث التقليل من شأنهم، وكلا الأمرين مرفوض في ميزان الشرع.
العولمة:
خطر العولمة يتمثل في غزوها لثقافات الشعوب، وتأثيرها السلبي على سلوكياتهم وحتى على معتقداتهم، يقول بعض الكتاب المختصين في شؤون حاضر العالم الإسلامي: "نستطيع أن نفهم أهم مخاطر العولمة في عالمنا الإسلامي من هذا النظام الجديد، وبعض هذه المخاطر: الدعوة إلى وحدة الحضارات والثقافات، تذويب الفكر الإسلامي في المجتمعات الإسلامية واقتصارها على الاسم فقط، وسيطرة الغرب المتمثل في تربعه على عرش ثقافة وإعلام الأمم وتوجيهه"[26].
والعولمة أمر نادى به الكثير بنوايا مختلفة؛ فمنهم من افتتن بالتقدم التكنولوجي ومنهم من نادى به بحسن نية.
والخطر القادم من العولمة على سلوك المسلمين يكمن في تأثير ثقافات أخرى علينا، وهذا التأثير لا بد أن يكون له أثر على المجتمع؛ فالإنسان بطبعه يؤثر في غيره ويتأثر به، والتأثير القادم من العولمة يمكن أن يكون بالتفلت الذي قد يدخل على المجتمع المسلم –كما سبق الإشارة إلى ذلك-والتفلت وهو فرع عن التفريط هو في الحقيقة غلو مرفوض.
الطائفية:
من أهم المشاكل التي تواجه المجتمعات بشكل عام والإسلامية منها بشكل خاص: الطائفية، فهي معوق على مستوى التقدم والتطور وازدهار المجتمع كما إنها عنصر فعال في زيادة التفرق والشتات؛ وهذا أمر طبيعي ونتيجة حتمية، فالطائفية تصطدم مع تعاليم الإسلام التي تدعو إلى وحدة الصف وإلى التكامل بين أبناء الدولة الواحدة، قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) آل عمران/103، كما أن معيار التفاضل في الإسلام التقوى؛ فبقدر ما يكون الشخص تقياً يكون حرياً بتسلم القيادة إذا توافرت فيه الشروط الأخرى.
أما الطائفية فهي تقوم على أساس إخضاع الدين للمصالح السياسة الدنيا حيث يكون المعيار في التفاضل قومي أو عرقي أو قبلي... إلخ، وهناك من يرى أن الطائفية معول هدم وتفرق وتشتت بالجملة فليست هي كذلك من منطلق ديني بحت، بل قد تدخل على المجتمعات المدنية غير الإسلامية وتنهشها.
يقول الباحث حسام كصاي في كلامه عن أثر الطائفية المدمر: " يُعد خروج العرب من نزال الحضارة والنهضة والتقدم دافع قوي ومغذي هام لمد الخلايا المتطرفة والنائمة لتصحو وتطفو فوق أفق السطح، وأن تتبنى قيادة الأمة إلى هزائم، والنهوض الحضاري إلى نكوص، والتقدم الإسلامي إلى انتكاسة تاريخية... الأمر الذي حول العرب إلى جماعات مشتتة ضائعة في الصراع على الهوية، بين أن تكون هوية دينية أو قومية، حتى ضيعت الهويتين سواء"[27].
ومما لا شك فيه أن الطائفية معول هدم في الأمة وهذا المعول تضرب به يد غرضها الأول والأخير بث الفرقة والتشتت بين أفراد المجتمع، من حيث إن الطائفية تنادي لنفسها ولا تتقبل طرفاً آخر فتحارب كل الأطراف الأخرى لتفرغ لها الساحة ولا لأحد غيرها.
وكافة معاول الهدم والمرجعيات في الخطاب الإسلامي وغيره أول ما تقوم تقوم على أساس طائفي ومرجعية طائفية، والمجتمع الذي يقوم على الطائفية، أو يدخل عليه ريح منها؛ لا بد أن يكتوي بنار الغلو، ولا عجب من ذلك فالطائفية في الأصل هي المعاملة على أساس عرقي ونحوه، وهذا التعامل لا بد أن يكون فيه شيء من الغلو؛ لأنه قائم على تفضيل طائفة على طائفة.
المبحث الثالث: قواعد أصلية في الشرع تدعو إلى الاعتدال واليسر:
الإسلام دين اليسر والسماحة، ودين الرفق ورفع الحرج، وهناك قواعد وتشريعات وأحكام في الشرع تدل على ذلك أوضح الدلالة، منها: الترفق في العبادات الجماعية كالصلاة.
حيث إن الرفق أصل راسخ من أصول التشريع، وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ)[28]، فإذا كان الرفق مطلوب في حق العبد مع نفسه، ففي حق غيره منه أولى وآكد؛ فعلى سبيل المثال في العبادات الجماعية كالصلاة، علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الترفق بالمأمومين وعدم الإطالة عليهم بما يسبب الحرج والمشقة لبعضهم، ولو كان الإمام لا يعلم أن ممن يصلون معه ضعيف أو عاجز، فعليه أن يتبع وصية النبي صلى الله عليه وسلم ويُقَدر أن من هؤلاء ممن يصلون خلفه، أما في حالة الإنفراد فيطيل كيف شاء.
وقد وردت عن سيدنا معاذ رضي الله عنه قصة حين أطال على الناس وهو يؤمهم رواها الإمام مسلم في صحيحه عن جابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الأَنْصَارِيُّ لأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ. فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَّا. فَصَلَّى فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ مُعَاذٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ؟ إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)[29]. فلم يقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً على الإطالة بل لامه لوماً شديداً وبين له كيف أنه بعمله هذه يمكن أن يفتن بعض المصلين، والدين بعيد عن ذلك.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك منهجاً عاماً لمن يؤم الناس فقد روى الإمام البخاري في صحيحه: أَنَّ رَجُلا، قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالكَبِيرَ وَذَا الحَاجَةِ)[30].
وفي رواية لمسلم: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: (أُمَّ قَوْمَكَ) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا قَالَ: (ادْنُهْ) فَجَلَّسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدْيَيَّ. ثُمَّ قَالَ: (تَحَوَّلْ) فَوَضَعَهَا فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، ثُمَّ قَالَ: (أُمَّ قَوْمَكَ. فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ، فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ)[31].
فكيف بعد ذلك يأتي أقوام مدعين أن الإطالة مطلوبة وهي سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً يدعو لخلاف ذلك؛ حيث في صلاة الجماعة كان يقرأ بالضحى والأعلى ونحوهما، وفي قيامه في الليل كان يقرأ طوال السور.
وفي الحج: الحج ركن عظيم من أركان الإسلام فرضه الله تعالى على المستطيع، وجعل له الشارع أركاناً وشروطاً وأعمالاً محددة، وجعل الالتزام بها شرطاً لصحته، ولكن في بعض الحالات خفف الشارع فيها بطريقة أو بأخرى، فهناك أكثر من مؤشر على أن الإسلام الأصل فيه اليسر ورفع الحرج في العبادات التي فيها ترتيب معين وأفعال محددة؛ والحج من العبادات التي تستلزم من المكلف كلفة بدنية ومالية، وغالباً ما تكون الكلفة البدنية مشقة، ومن هذه المؤشرات:
تسامح النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان يسأله في أعمال حجه أنه فعل كذا وكذا خلافاً لما قرره أو فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال خذوا عني مناسككم، فكان كلما سئل عن أمر من أمور الحج إلا قال افعل ولا حرج، والقياس كان على خلاف ذلك، روى الشيخان عن عبد الله بن عمر بن العاص: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ: (اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ) فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ: (ارْمِ وَلاَ حَرَجَ) فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلا قَالَ: (افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ)[32]، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خلل في الترتيب لا يبطل العبادة ولا يؤثر فيها.
وهذا يقودنا إلى المؤشر الثاني وهو ما استنبطه الفقهاء من الهدي النبوي في التخفيف في أمر الحج؛ حيث أن الأمر في الحج موسع بشكل كبير جداً، لم تتشدد فيه المذاهب الفقهية، وكانت عمدتهم في هذا افعل ولا حرج، حتى أن المذهب الشافعي قال بصحة حج من نسي أن يؤدي ركناً من أركانه، فقالوا أن حجه منعقد ويأتي بالركن لوحده فيما بعد حتى لو أدى عمرة فيما بعد وقع فعلها عن حجه وجبر خلله.
خاتمة
تبين لنا من خلال البحث المتقدم نتائج مفادها:
1- إن الإسلام دين يسر وليس دين تشدد، وأن التعاليم والتشريعات الإسلامية راعت أحوال الناس، بل إن كثيراً منها تماشى مع أعرافهم وعاداتهم.
2- إن الغلو أمر مرفوض في الدين، لا يقره ولا يرضاه لعباد الله تعالى، ومن فجر الدعوة كان ديدنها وديدن الدعاة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم محاربة الغلو، وقد بينا كثيراً من الأمثلة على ذلك.
3- الإسلام أصّل الأصول ووضع القواعد الراسخة للتيسير على الناس، وهذا لأجل أن يرشد العباد لذلك، فيكون اليسر ورفع الحرج مقياس لهم ومنارة يهتدون بها، فالقاعدة الفقهية تقول: "إذا ضاق الأمر اتسع".
التوصيات
1-نشر الفكر الوسطي خاصة في مراحل التدريس الأولى.
2-إعطاء الدعاة والخطباء دروس منتظمة وعقد ورشات تدريبية لهم تعمل على ترسيخ مبدأ اليسر في الدين عندهم، وليعلم الخطيب والداعية والإعلامي أن الخطاب الإسلامي ليس موضوعاً جامداً، وإنما يتجدد على مر الزمان، وبما يناسب كل زمن، مع المحافظة على ثوابته، وعند الحديث عن الخطاب الإسلامي يجب أن نفرق بين النصوص والأسلوب، أما النصوص فثابتة لا يجوز تغييرها أو التعرض لها، وأما الأسلوب فلا بد أن يوجه توجيهاً سليماً لكي يكون عاملاً من عوامل جمع الأمة على الخير ونبذ الفرقة[33].
3-التركيز على بتحذير الناس من الغلو في الدروس وخطب الجمعة.
4-إعطاء دروس منتظمة وإلقاء محاضرات في المدارس والجامعات والمساجد من قبل علماء مختصين؛ لنشر الفكر المعتدل.
5-عمل منشورات دورية تبين سماحة الإسلام.
والله ولي التوفيق، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(*) بحث مقدم إلى جامعة جرش الأهلية للمشاركة في مؤتمرها الرابع عشر بعنوان: مؤتمر الخطاب الإسلامي المعاصر ضمن المحور الرابع: مواجهة الغلو ومعالجته في ضوء الإسلام/ عمان في 23/جمادى الآخرة عام 1436هـالموافق 13/ نيسان عام 2015م
المراجع
1- المعجم الوسيط، تأليف مجمع اللغة العربية، (2/660)، دار الدعوة.