نقد دعوى "المسار التكويني" في ترتيب سور القرآن الكريم
قراءة تحليلية نقدية في كتاب "مدخل إلى القرآن" لمحمد عابد الجابري(*)
المفتي الدكتور جاد الله بسام، مفتي في دائرة الإفتاء، دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن
الملخّص
يتناول البحث قضية ذات أثر بالغ في معنى القرآن وإحكامه، واستجلاء معانيه وأحكامه، وهي طبيعة ترتيب سور القرآن، هل هي بالتوقيف أم بالاجتهاد، ويكمن هذا الأثر البالغ في أن هذا الترتيب يشمل وجوهاً إعجازية في كيفيات إيراد الأساليب والمباني، وإبرام العبر والمعاني، وما أودع فيه من وجوه المناسبات اللفظية والمعنوية.
ويدرس البحث قضية ترتيب سور القرآن الكريم من جانبين:
الأول: يعرض أقوال العلماء في معيار ترتيب سور القرآن وأدلتهم مع مناقشتها، ويخلص إلى أنّ الترتيب الذي نجده في المصحف الآن هو ترتيب مجمع عليه، راجع إلى الوحي الكريم.
والثاني: يعرض مقترحات الجابري لإعادة بناء النصّ القرآني بحسب الترتيب النزوليّ للسور، وذلك فيما يسميه "المسار التكوينيّ لنصّ القرآن"، ويخلص من خلال نقد مقولة الجابري وتحليل مبانيها إلى أنها مقولة ضعيفة، ولا تسندها أدلة كافية.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد: فإنَّ من أعظم نِعَمِ الله تعالى على الناس أنْ بعث إليهم الأنبياء مبلّغين رسالته، داعين إليه، مبشرين ومنذرين، وأن نزل كتابه الأعظم على نبيه الأكرم صلى الله عليه وسلم على وفق نجوم مرتبة، تدرّجاً بالناس في هدايتهم، وتمهيداً لتمكن الحقّ في نفوسهم، فكان قرآناً عربياً غير ذي عوج، هادياً ومقوّماً للبشرية إلى قيام الساعة.
ومن المعلوم أنّ من فروض الكفاية على الأمة أن يحوطوا هذا القرآن بكل عناية ورعاية ممكنة، ومن جملة ذلك دفع الشبه عن جنابه الشريف، ونسأل الله تعالى أن يقدرنا على ذلك، إنه سميع مجيب.
أهمية البحث
علوم القرآن ممهدة لفهمه وتدبره، من حيث معرفة معناه وكيفية تفسيره، واكتشاف مخبآته، واقتناص دلالاته، فلا شكّ أن الاهتمام بها من أعظم الأسباب الموصلة إلى الفهم الأحسن للقرآن.
ومن أهمّ المباحث التي تتعلق بالقرآن مبحث ترتيب سوره، لارتباطه الوثيق بمعاني القرآن وتفسيره، إذ يظهر فيه بيان القرآن وإعجازه، ويتجلى فيه تناسقه وتناسبه، لذلك كان هذا المبحث غرضاً يتخذه مخالفو رسالة الإسلام السمحة، التي جاءت لتنبئ عن حقائق منظورة ومسطورة، فكان هذا البحث متناولاً لهذه القضية المهمة.
مشكلة البحث
ترتيب سور القرآن الكريم ترتيب مجمع عليه تلقته الأمة الإسلامية بالقبول، لكن بعض المفكرين الحداثيين المتأثرين بالتراث الاستشراقي زعموا أنّ القرآن لم يرتب ترتيباً صحيحاً، وأن الأولى أن يرتب ترتيباً على غير المعهود عندنا الآن في المصاحف، وأنّ هذا الترتيب المعهود إنما كان بتواطؤ من الصحابة رضي الله عنهم، لا غير.
ومن أجل هذا أردت أنْ أكتب هذا البحث لأبين فيه حقيقة الترتيب المصحفيّ، وأن الترتيب النزولي المدّعى عند المستشرقين ومن سار على طريقهم ليس إلا ضرباً من التخمين الذي لا يقوم على ساق.
أسئلة البحث
* هل الترتيب المصحفيّ له مستند؟
* هل الترتيب النزوليّ قائم على أدلة كافية تؤيده وتدعمه؟
* ما المراد بالمسار التكويني لنص القرآن عند الجابري؟
* ما علاقة الترتيب النزولي بالمسار التكويني لنص القرآن في دعوى الجابري؟
خطة البحث ومنهجه
قسمت بحثي للموضوع على تمهيد وثلاثة مباحث:
تمهيد: التعريف بالجابري واتجاهه الفكري.
المبحث الأول: طريقة ترتيب سور القرآن، وفيه مطلبان: المذاهب في الترتيب المصحفي، ومستند الترتيب النزولي لسور القرآن الكريم.
المبحث الثاني: ترتيب سور القرآن عند الجابري، وفيه ثلاثة مطالب: معيار ترتيب سور القرآن في المصحف عند الجابري، ونظرة الجابري لترتيب القرآن بحسب زمن النزول، ونظرة الجابري لترتيب سور القرآن عند المستشرقين.
المبحث الثالث: دعوى المسار التكويني لنصّ القرآن عند الجابري، وفيه ثلاثة مطالب: ضرورة الترتيب النزولي عند الجابريّ، والهدف منه، ومعاييره.
ويعتمد الباحث في تناول مشكلة البحث والإجابة عن الأسئلة المطروحة المنهج التحليلي النقدي، حيث يتناول الآراء عرضاً وتحليلاً ونقداً بالدليل والتعليل.
والله العظيم أسأل، أن يبعد عني الخطأ والخلل، وأن يوفقني إلى صالح القول والعمل، والحمد لله رب العالمين.
تمهيد
التعريف بالجابريّ واتجاهه الفكريّ
قبل الخوض في قضية هذا البحث، لا بدّ من التعريف بالجابريّ، وذلك بلمحةٍ موجزة عن شخصه وتكوينه الفكريّ وتأليفاته ومشروعه العام، وذلك ليتسنى فهم مقولاته وآرائه في القضية التي ندرسها في هذا البحث([1]).
الولادة والنشأة والوفاة
ولد محمد عابد الجابري نهاية عام 1935م في مدينة فكيك شرقي المغرب، وارتقى في مسالك التعليم في بلده، حيث قضى فيه 45 سنة مدرساً، ثم ناظر ثانوية، ثم مراقباً وموجهاً تربوياً لأساتذة الفلسفة في التعليم الثانوي، ثم أستاذاً لمادة الفلسفة في الجامعة.
حصل عام 1967م على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970م من كلية الآداب التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، وعمل أستاذاً للفلسفة والفكر العربي والإسلامي بالكلية نفسها، كما كان قيادياً بارزاً في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فترة طويلة، ثم اعتزل العمل السياسي مقدّماً استقالته من المسؤوليات الحزبية 1981م، ليتفرغ للإنتاج الفكري.
وتوفي الجابري يوم الاثنين 3 أيار 2010م في الدار البيضاء بعد معاناة طويلة مع المرض.
الاتجاه الفكريّ للجابريّ
أعاد الجابري قراءة فكر ابن خلدون، وأصدر ثلاثية (نقد العقل العربي) التي تكونت من ثلاثة إصدارات رئيسة في تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي. وقد أحدثت هذه الثلاثية هزّة في الأوساط الفكرية العربية، وأصدر الكاتب اللبناني جورج طرابيشي كتاباً ناقداً لها سماه «نقد نقد العقل العربي» يرد فيه على الجابري.
ويمكن أن نعدّ الجابري رشدي الفلسفة، وذلك لتبنيه مشاريع متعددة لإصدار ودراسة كتب الفيلسوف ابن رشد الحفيد، فقد أصدر كتابه: "ابن رشد: سيرة وفكر، دراسة ونصوص"، وحقق ثلاثة كتب لابن رشد الحفيد في الفلسفة، وهي:
* كتاب (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد) في ضمن مشروع فلسفي يهدف إلى إحياء مقولات ابن رشد الفلسفية، ولذلك سمّى عمله هذا (نقد علم الكلام ضداً على الترسيم الأيديولوجي للعقيدة ودفاعاً عن العلم وحرية الاختيار في الفكر والفعل)([2]).
* كتاب (فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) أو وجوب النظر العقلي وحدود التأويل، ضمن نظرة الجابري للعلاقة بين الدين والمجتمع([3]).
* كتاب (تهافت التهافت)، وتحقيقه لهذا الكتاب يقع ضمن نظرته بخصوص حرية الفكر وآليات الحوار، مؤيداً فيه ابن رشد ضدّ الغزالي، ولذلك شرح نظرته هذه ضمن عنونته للكتاب: انتصاراً للروح العلمية وتأسيساً لأخلاقيات الحوار([4]).
وتعدّ هذه الجهود بمثابة الشرح والتقرير وإحياء النزعة الرشدية الفلسفية على أكثر من صعيد فكري وثقافي.
وأما بالنسبة لأعماله التي تناول فيها القرآن الكريم، فتتلخص في عملين مباشرين:
* أوّلهما: مدخل إلى القرآن في ثلاثة مجلدات.
* ثانيهما: فهم القرآن الحكيم "التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" في ثلاث أجزاء أيضاً.
وينزع الجابريّ في مقولاته وآرائه منزع المستشرقين والحداثيين، سواءٌ في التعامل مع القرآن الكريم، أو دين الإسلام، أو شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، ولعل نشأته اليسارية لها أثر كبير في ذلك، ويظهر اتجاهه أيضاً من خلال تأثره بالفكر الاستشراقي والحداثيّ في اللغة والتاريخ وتحليل الأديان والنظر إلى النّصوص المقدّسة باعتبارها محلاً للتحليل والنقد، وسيزيد هذا البحث عمق النظرة إلى فكر الجابري بخصوص القرآن الكريم وقدسيته وكيفية فهمه وتفسيره([5]).
وهذه اللمحة حول سيرة الجابري واتجاهه الفكري ومؤلفاته تساعد في فهم نظرته إلى ترتيب سور القرآن الكريم وعلاقة رأيه في ذلك بتفسير القرآن الكريم وفهمه.
المبحث الأول
طريقة ترتيب سور القرآن
المطلب الأول: المذاهب في الترتيب المصحفيّ
يحسُن في بداية هذا المطلب أن أسارع على سبيل الإجمال الذي سيعقبه التفصيل والتدليل والتعليل في تقرير المذهب المعتمد في هذه القضية المهمة، وهو أنّ ترتيب سور القرآن ترتيب توقيفي لا مدخل فيه لرأي بشر كائناً من كان، وذلك لأدلّة كثيرة جداً، بل يكاد يكون الترتيب جزءاً من القرآن الكريم وصفة ذاتية له.
وأمّا القول بأنه اجتهاديّ؛ فصحيح أنه يذكر في كتب علوم القرآن الكريم، لكنه إنما يذكر من باب ما قد قيل في المسألة عند طائفة من العلماء، ولكنه قول لا يحظى بالاعتماد لضعف أدلته، وحضور أدلة القول الصحيح الذي يقابله.
وينبغي أن يتنبه هنا إلى أن ثمّة فرقاً كبيراً بين قول المستشرقين بترتيب سور القرآن الكريم حسب نزولها، ثمّ بناء تفسير القرآن وفهمه على هذا النحو من الترتيب، وبين ما يذكر عن بعض العلماء من أنّ الترتيب اجتهادي، ووجْه الفرق أنّ علماءنا ما ذهبوا فيما يُعلم إلى اشتراط تفسير القرآن وفهمه فهماً صحيحاً بترتيب النزول، وإنما يعدّون ترتيب النزول وأسبابه مساعداً من المساعدات في الفهم والاستنباط، بل نراهم ينصّون على وجوه المناسبات والتناسقات بين السور القرآنية الكريمة، وهو أمرٌ يبين اهتمامهم بالترتيب المصحفي لسور القرآن الكريم.
ويجدر التنبه أيضاً إلى أن بعض القائلين بالاجتهاد في ترتيب سور القرآن الكريم، إنما قصروا قولهم على سورة الأنفال وبراءة فقط، وأمّا سائر السور فإنها عندهم مرتّبة بالتوقيف لا بالاجتهاد، فيشبه أن يكون هؤلاء كأصحاب القول الأوّل في مسألتنا([6])، وهو قول نسبه الإمام البيهقي في كتابه "المدخل إلى علم السنن" للإمام أحمد، والظاهر أنّ البيهقيّ نفسه يقول به ويقرّه([7])، وقد أشار بعض العلماء إلى هذا القول على أنه مذهب ثالث([8])، لكني جعلته ضمن القول الأول لقربه منه وابتنائه على نفس الأصول والأدلة.
وأمّا التفصيل؛ فهاكه بعرض القولين مع ذكر لما قيل من أدلةٍ في هذا البحث لكلّ من الفريقين:
القول الأول: الترتيب المصحفيّ توقيفيّ
ذكر الكاتبون في علوم القرآن الكريم في هذه المسألة أدلّة القائلين بالتوقيف، ومنهم مالك والقاضي أبو بكر الباقلاني وشرف الدين الطيبي وأبو بكر الأنباري والكرماني وابن الحصار وابن حجر العسقلاني([9])، وابن الزبير الغرناطي([10])، وهو قول الزركشي والسيوطي نفسهما، مع أنهما ذكرا في البرهان والإتقان أنّ جمهور العلماء قائلون بأنّ الترتيب المصحفي اجتهادي([11])، وهذه النسبة في نظري القاصر محتاجة إلى مراجعة، خصوصاً أن تصفّح آراء العلماء يشهد بخلاف ذلك، والإمام السيوطي ساق النقول الكثيرة عن علماء الأمة التي تفيد أنّ الترتيب توقيفيّ لا اجتهاديّ، بخلاف هذه النسبة المحكية عن الجمهور.
وألخّص أدلّة هذا القول فيما يأتي([12]):
الدّليل الأوّل: إجماع الأمة على ترتيب المصحف بالصورة المعهودة من صدر الإسلام إلى يومنا هذا، وهو إجماع حجّة بالمعنى الفقهيّ الذي يمنع القول بالرأي المخالف، وقد يناقش هذا الدليل بأنّ الإجماع لا يدلّ على توقيفية الترتيب، وإنما يدلّ على عدم جواز العدول عن ترتيب المصحف، ويجاب عنه بأنّ الإجماع لا بدّ أن يستند إلى دليل، وذلك الدليل هو الدال على أن الترتيب توقيفيّ.
الدليل الثاني: "أنّ الصحابة أجمعوا على الترتيب الذي كتبت عليه المصاحف العثمانية، ولم يخالف فيه أحد حتى من كانت عندهم مصاحف مكتوبة على غير هذا الترتيب"([13])، ووجه الدلالة هنا؛ أن عدم مخالفة أحد من الصحابة الذين كان بحوزتهم مصاحف مكتوبة دال على انقيادهم لما ينبغي أن يكون حاكماً لهم في هذه القضية، وهي كون الترتيب توقيفياً، وإلا لما عدلوا عن ترتيب مصاحفهم.
الدليل الثالث: "أنّ الحواميم وضعت في المصحف متوالية، وكذا الطواسين، ولم توضع المسبحات كذلك، وهي السور التي افتتحت بتسبيح الله تعالى، بل فصل بينها بسورة المجادلة والممتحنة والمنافقون، كما أنه فصل بين طسم والشعراء وطسم القصص بطس، مع أنها أقصر منها، ولو كان الترتيب اجتهادياً لوضعت المسبحات على التوالي لتماثلها في الافتتاح، وأخرت طس عن القصص لما بين القصص والشعراء من التماثل في الافتتاح والتقارب في الطول"([14]).
الدليل الرابع: ما جاء من روايات تبين أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رتّب بعض سور القرآن الكريم تلوَ بعض، والتي نعدّها مستندات للإجماع المذكور، وذلك مثل([15]):
* ما جاء في المستدرك للحاكم، أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ، إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (طُوبَى لِلشَّامِ)، فَقُلْنَا: لِأَيِّ شَيْءٍ ذَاكَ؟ فَقَالَ: (لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهِمْ)، قال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"([16])، وعقب الإمام البيهقي على هذا بقوله: "قلت: وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الكتاب: الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم"([17]).
* قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)([18]).
* عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات"([19]).
الدليل الخامس: التناسب والتناسق، وذلك يظهر بما يذكره العلماء من أوجه التناسب بين سور القرآن الكريم بحسب الترتيب المصحفيّ([20])، فإنّ هذه الوجوه من التناسب لا تتفق حالة ترتيب السور على حسب النزول، وهذه المناسبات وإن كانت بالاجتهاد، إلا أنه اجتهاد معتبر توافرت فيه المحاسن، وتكاثرت فيه القرائن.
ويقول الغرناطي في إبطال إهمال التناسبات بين السور القرآنية: "اعلم أنّ الأمر في ذلك كيفما قُدّر فلا بدّ من رَعْي التناسب، والتفات التواصل والتجاذب...، فإذا سقط تعلّق الضّمان بترتيب النزول لم يبق إلّا([21]) رعي التناسب والاشتباه، وارتباط النظائر والأشباه"([22])، وقد أغلظ الغرناطي القول على من لم يعدّ التناسب سبباً في الترتيب، ولو على القول بأنه ترتيب اجتهادي، ويقول الشيخ خليفة: "الترتيب المصحفي للقرآن الذي عدل به نقلاً وإجماعاً بالكلية عن ترتيب النزول، والذي هو -من دون سواه- صفة القرآن المعجز، وخصيصة من أبرز وأعظم خصائصه الذاتية المبرزة لوجه جليل من وجوه إعجازه، والمطلعة على فنّ رفيع من فنون بلاغته، واقتداره بذلك في تناسب رائع وتناسق بديع، يخلب الألباب ويأخذ بمجامع القلوب على ناصية البيان، اقتداراً لم يسبقه فيه سابق ولا يلحقه فيه لاحق، بل الذي هو –فوق ذلك كله- نظم القرآن على التحقيق، سواء في اللوح المحفوظ وفي حصف السفرة الكرام البررة، وعلى لسان جبريل، ثم في قلب وعلى لسان نبي الرحمة وهادي الأمة وأصحابه الثقات العدول والذي وقع الإجماع عليه في المصحف الإمام الذي جبَّ كل ما كان قبله من المصاحف الخاصة، والذي صيغ وفقاً للعرضة الأخيرة له صلى الله عليه وسلم، بحيث صار هذا محلاً لإجماع الكافة، لا يسوغُ العدول عنه لكائن من كان"([23]).
وينبغي التنبه إلى أنّ إجماع الأمة على ترتيب سور القرآن كما هو بين أيدينا في المصحف اليوم هو أمر يقطع كلّ قول، ويعلو على كلّ دليل، ومستنداته واضحة من الآثار والأحاديث السابقة، وقد استفاض الباحث بوعصاب في تقرير دلالة الإجماع وسوق النصوص الشاهدة له([24]).
القول الثاني: الترتيب المصحفيّ اجتهاديّ
اعتمد القائلون بهذا القول على ما يأتي:
الدليل الأول: اختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب السور فيها، وذلك علامة كون ترتيب السّور اجتهادياً، إذ لو كان توقيفياً لما جاز للصحابة أنْ يخالفوا ما أوقفهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم([25]).
ولكن يجاب عن هذا الدليل بأنّ الصحابة رجعوا عن مصاحفهم في جمع عثمان، واتفقوا على ترتيب المصحف العثماني، وذلك يدلَ على أن ترتيبهم الأوّل ليس لتوقيف، كما أنّ اجتماعهم على مصحف عثمان يدلّ على أنه ناشٍ عن دليل، لا عن مجرد اختيار.
وأيضاً يمكن تعليل اختلاف مصاحف الصحابة بأنّها رتبت على أغراض متفاوتة فيما بينهم، يمكن تقديرها بحسب ظروفهم وما يكتنفهم من أحوال، وهذا أبعد ما يكون عن أن يُستمدَّ منه حكم شرعيّ.
الدّليل الثاني: ما روي عن ابن عباس أنه قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أنْ عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا -قال ابن جعفر: بينهما- سطراً: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، وكان إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده يقول: "ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وينزل عليه الآيات فيقول: "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وينزل عليه الآية، فيقول: "ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، وظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطراً: بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن جعفر: ووضعتها في السبع الطوال([26]).
وقد بيَّـن الأستاذ نور الدين عتر، أنّ هذه الرواية هي أقوى ما يستدلّ به القائلون بأنّ ترتيب السور غير توقيفي، ثمّ ناقش ذلك الاستدلال: "أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم، وهو استدلال غير سديد سنداً ومتنناً. أما السند؛ فإنّ إسناد هذا الحديث ضعيف، فيه يزيد الفارسي، وهو ضعيف، ضعفه البخاري وغيره، وقالا تفرد به فلا يصلح للاحتجاج، فضلاً عن أن يكون مرجعاً في قضية هامة كهذه. وأما المتن: فإنّ الصحابة يقرأون القرآن ويتلقونه، فكيف لا يوجد عند أحد منهم علم بسورتين من القرآن الكريم"([27]).
ثم أيّـد الدكتور عتر قوله بتضعيف سند رواية ابن عباس برواية أخرى تبين حكمة عدم كتابة البسملة في أول البراءة، قال: "يؤيد ما ذكرناه أيضاً ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس، قال: سألت عليّ ابن أبي طالب: لم لم تكتب في براءة: بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف"([28])، فذلك الجواب لبيان حكمة عدم كونها جزءاً من التوبة، ولا حجة فيه أنه فعل صادر عن الصحابة رضي الله عنهم بمحض إرادتهم واجتهادهم.
وهذه الاستدلالات ضعيفة لا تفيد المطلوب، ويضاف إلى هذه الاستدلالات ما سيأتي من استدلالات للعدول عن الترتيب المصحفيّ إلى الترتيب النزوليّ، حيث إنّ دليل العدول هو بعينه دليل كون الترتيب المصحفي اجتهادياً لا توقيفياً.
والحاصل في هذا المطلب أنّ القول الصحيح هو أن ترتيب سور القرآن توقيفي، لا مدخل فيه لصنع البشر واجتهادهم وتأليفهم.
وأمّا أدلّة القول بأنّ الترتيب اجتهاديّ فهي ضعيفة، إذ لا دلالة في هذه الآثار على دعوى الترتيب النزوليّ، ومضمونها مضطرب (زيادة ونقصاناً، تقديماً وتأخيراً، مكية ومدنية)، كما أن ذكر السور لا يدلّ على الترتيب، بل هو للجمع المطلق، ومتون هذه الآثار مصادمة لما هو أقوى منها (منقولاً ومعقولاً)([29]).
ويجدر بي أن أشير إلى أنَّ بعض العلماء قد ذهب في دراسته لهذه المسألة إلى تقرير قول ثالث، وهو التوفيق بين المذهبين المذكورين، بأن ْيجعل الترتيب اجتهادياً من حيث إنه غير منصوص بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتوقيفياً من حيث إنّ الصحابة عند ترتيب السور استندوا إلى فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم وقراءته للقرآن الكريم بترتيب معيّن، فيكون الخلاف لفظياً على هذا، وقد ذهب إلى هذا التوفيق الإمام الزركشيّ في كتاب البرهان([30])، وهو توفيق أشبه بالقول الأول، لأنه يُرجع الترتيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: مستند الترتيب النزوليّ لسور القرآن الكريم
ذكر السيوطي ما يمكن أن يكون مستنداً لمن يقول بترتيب سور القرآن بحسب النزول في كتابه الإتقان([31])، وقد ذكرتها في المطلب السابق.
وقد اطّلع الجابري على ما نقله السيوطي، لكنه ساوى بين الروايات المنقولة في ذلك، لأنها قريبة الترتيب من بعضها، بحيث إنَّ الفارق قليل جداً يقع في تأخير سورة بمرتبة أو مرتبتين فقط من السور التي تليها في الترتيب، وقال: "وإذا نحن اقتصرنا على اعتماد ما ذكره السيوطي في هذا المجال -وقد حاول في كتابه الإتقان في علوم القرآن تتبع الروايات الخاصة بهذا الموضوع واستقصاءها- وجدنا أنفسنا إزاء عدد من اللوائح تقدم القرآن مرتباً حسب ترتيب النزول، منها لائحة ترتيب منسوب إلى جابر بن زيد، وأخرى من ترتيب البيهقي عن عكرمة والحسين بن أبي الحسن، وثالثة منسوبة إلى ابن عباس، ورابعة من اختيار السيوطي نفسه مما عرضه من لوائح وروايات"([32]).
وعلّق الجابري على هذه الروايات: "وهذه اللوائح لا يختلف بعضها عن بعض، ولا عن اللائحة المعتمدة لدى الأزهر وغيره، إلا في تقديم أو تأخير بعض السور... يمكن القول إن الأمر يتعلق في واقع الأمر بترتيب واحد"([33]).
وهذا الذي ذكره الجابري غير صحيح، فإنّ هناك ترتيباً وارداً عن ابن عباس ذكره السيوطي يوافق ترتيب المصحف تماماً، ويغاير الترتيب المذكور في القوائم الأخرى، وهذا الترتيب نقله السيوطي عن النحاس في كتاب الناسخ والمنسوخ، وهاك هذا النقل بطوله، قال السيوطي([34]):
"سمعت ابن عباس يقول: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحداً منهم إلا سُرَّ بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أبيّ بن كعب يوماً، وكان من الراسخين في العلم، عما نزل من القرآن بالمدينة فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة وسائرها بمكة"([35]).
وقال أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ: حدثني يموت بن المزرع، حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، أنبأنا أبو عبيدة معمر بن المثنى حدثني يونس بن حبيب سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: سألت مجاهداً عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي، فقال: سألت ابن عباس عن ذلك فقال: "سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: (قل تعالوا أتل) إلى تمام الآيات الثلاث وما تقدم من السور مدنيات، ونزلت بمكة سورة الأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل -سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرفه من أحد- وسورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج -سوى ثلاث آيات: (هذان خصمان) إلى تمام الآيات الثلاث فإنهن نزلن بالمدينة- وسورة المؤمنين والفرقان وسورة الشعراء- سوى خمس آيات من أخراها نزلن بالمدينة: (والشعراء يتبعهم الغاوون) إلى آخرها. وسورة النمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان -سوى ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام} إلى تمام الآيات- وسورة السجدة سوى ثلاث آيات: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) إلى تمام الآيات الثلاث وسورة سبأ وفاطر ويس والصافات وص والزمر سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة: (قل يا عبادي الذين أسرفوا) إلى تمام الثلاث آيات والحوا ميم السبع وق والداريات والطور والنجم والقمر والرحمن والواقعة والصف والتغابن إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة. والملك ون والحاقة وسأل وسورة نوح والجن والمزمل إلا آيتين: (إن ربك يعلم أنك تقوم) والمدثر إلى آخر القرآن إلا إذا زلزلت وإذا جاء نصر الله وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس فإنهن مدنيات. ونزل بالمدينة سورة الأنفال وبراءة والنور والأحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد وما بعدها إلى التحريم". هكذا أخرجه بطوله وإسناده جيد رجاله كلهم ثقات من علماء العربية المشهورين". انتهى النقل عن الإتقان.
وانظر هذه الرواية الهامّة في موضوعنا كيف أنّ الجابري أهملها ولم يأت لها على ذكر، مع موافقتها للترتيب المصحفيّ.
ووجه الاهتمام بسوق الرواية في هذا الموضع هو تخطئة الجابري في زعمه أنه ليس هناك ترتيب مرويّ عن أحدٍ بخلاف الترتيب الذي ذكره، في محاولة منه لنزع المصداقية عن الترتيب المصحفي لسور القرآن الكريم الذي نجد عليه المصحف اليوم، وإضفاء مصداقية على مشروعه في ترتيب المصحف بحسب دعوى النزول التي سنبين أنها لا تشملها الروايات والآثار الواردة في هذا الشأن.
وقد يرد على هذه الرواية بعض الإيرادات كتأخر نزول آيات أواخر سورة الشعراء مع تضمنها لاسم السورة الذي لا يتأخر إلى هذا الحدّ فيما يُتصوّر، وأنّ هذه الرواية لا يظهر منها أنها ترتب السور بحسب النزول، لكن المراد من سوق الرواية هو تفنيد زعم الجابري أنه ليس هناك ترتيب بخلاف الترتيب الذي ذكره، ويراد من سوق الرواية أيضاً الدلالة على أنّ سور القرآن الكريم بترتيبها الذي نجده في مصحفنا اليوم معلوم عند الصحابة، مع مغايرته لترتيب النزول، مما يدلّ على أن الترتيب المصحفيّ توقيفي، إذ إنهم لن يعدلوا عن ترتيب النزول إلا لسبب وهو التوقيف والاتباع.
ويضاف إلى ما سبق أنّ علماء الأصول والتفسير لم ينكروا أنْ يكون لترتيب النزول وأسبابه فائدة في المعنى، بل عدّوه مفيداً في الاستنباط للأحكام الشرعية، ودقة فهم المعنى، ومن ذلك ما ذكره الإمام الشاطبي، حيث قال: "العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام: قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه؛ كعلوم اللغة العربية التي لا بدّ منها، وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا نظر فيه هنا. ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإنّ علم العربية، أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكيّ والمدنيّ، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن"([36])، كما ذكر الشاطبيّ أيضاً في كتابه مسألةً في أنّ المدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكيّ([37]).
ومن هنا وجب التنبه إلى أنّ إنكارنا لترتيب السور القرآنية على تاريخ النزول ليس إنكاراً للفائدة التي نجتنيها من المعرفة بوضع التنزيل، ولكنه إنكار لما تنطوي عليه دعاوى بعض المعاصرين من تفكيك النصّ وتأريخيته وحصره في زمانه، كما هي دعاوى المستشرقين والحداثيين، بل زيادة على ذلك نقول: إن في تثبيت الصلة بين سور القرآن من حيث تاريخ النزول أكبر فائدة في دفع الشبه عن القرآن الكريم، ومعرفة وجوه الارتباط بين سوره وآياته([38]).
المبحث الثاني
ترتيب سور القرآن عند الجابريّ
المطلب الأول: معيار ترتيب سور القرآن في المصحف عند الجابريّ
ابتدأ الجابريّ كلامه في هذا الموضوع بتقرير حقيقة صحيحة، لكنها مخبأة بشيء من المراوغة، وهي أن المصحف الذي يضمّ سور القرآن الكريم الذي بأيدينا اليوم مرتب بنفس الترتيب الذي كان عليه المصحف العثماني، حيث قال في ذلك: "الأمر الوحيد الذي يمكن تقريره بيقين تامّ هو أن الترتيب الذي عليه قرآن المصحف اليوم هو نفسه الترتيب الذي أقرته اللجنة التي كلفها عثمان بجمع القرآن"([39]).
فالجابري لا يرى فرقاً في ترتيب المصحف اليوم وما كان عليه الأمر في جمع عثمان رضي الله عنه، وهذا صحيح، لكن وجه المراوغة في مقاله أنه ينزع قيمة الوحي عن الترتيب، وهذا باطل، والجابري يتكلم فيشعر القارئ بأن الحديث عن "قرآن ما"، لا عن القرآن الذي نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وحديث عن ما يسميه "قرآن المصحف" اليوم ومقارنته بقرآن جمع عثمان، وهكذا، فكأنه يرى أنّ القرآن ليس واحداً، بل هو نسخ كثيرة من زمن سيدنا عثمان رضي الله عنه إلى زماننا هذا، وكل نسخة وقع عليها تعديل وتبديل بحسب ظروف معينة، وكلّ ذلك باطل من القول وزور، سواء كان يرمي إليه بالفعل أو أنه مجرد احتمال.
والذي يدّعيه المفسرون وعلماء القرآن الكريم أنّ الترتيب الحالي كما أنه موافق للترتيب زمن عثمان رضي الله عنه، كذلك هو الترتيب الذي سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم من الله تعالى ووحي منه.
وإذن؛ فإنّ القرآن يتفق ترتيبه الآن وفي كل عصر مضى وفي كل عصر آت بمضمون الوعد الإلهي الصادق، الذي يؤيده من الواقع كثرة الحفاظ وتنوع طرق الحفظ، أقول يتفق ترتيبه في كل الأوقات مع الترتيب الذي كان في زمن عثمان، لا بفعل اللجنة التي كلفها عثمان، ولكن بوحي من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينسب إلى الصحابة على جلالتهم أي فعل في الترتيب، كما لا ينسب لهم أي فعل في الإنشاء.
وليس ما أنسبه إلى الجابري إلا قوله هو، حيث صرح بعد ذلك بأنّ الأمر السابق هو الوحيد الذي يمكن أن نعرفه ونقرره بيقين تامّ، وأما غير ذلك فليس بيقين، حيث زعم أن معيار الترتيب الذي نراه الآن، لا نملك عنه يقيناً ولا معرفة، بل غاية ما هنالك أننا نملك عنه بعض المؤشرات فقط، قال الجابري: "أما ما هي المعايير التي اعتمدتها تلك اللجنة في ترتيب السور فذلك أمر لا نملك عنه سوى بعض المؤشرات، وأهمها ما يمكن استخلاصه من دراسة هذا الترتيب نفسه"([40]).
ولا شكَّ أن زعم الجابري بأنه لا معيار لترتيب المصحف إهمال لقيمة عليا وهي التي يتفق عليها المسلمون، وهي قيمة الوحي، والتي تتلخص في أنّ القرآن بكلِّه وكليته وجميعه ومجموعه من الله تعالى، ويشمل ذلك ترتيبه وأوضاع سوره وآياته الشريفة.
ثمّ ما معنى أن لا يكون ثمّة معيار لترتيب المصحف، إنّ تقرير الجابري لذلك يشعر بأنّ القرآن إما أنه رتّب بهذه الصورة صدفة وعشواء، أو أنّ الترتيب المصحفي على الأقل لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلّم.
وبخلافِ ما سبق، فقد حاول الجابري أنّ يلحظ معياراً ما في الترتيب المصحفي، وهو معيار الطّول والقصر غالباً، وذلك بحسب دراسة الجابري كما يرى، يقول: "سور القرآن في المصحف مرتبة في الأغلب الأعم حسب تدرّجها من الطوال إلى القصار، وهذا الترتيب من الأطول إلى الأقصر هو المنحنى العام"([41]).
ويتـنبه الجابري إلى وجوب أن تستنثى بعض السّور من معيار الطول والقصر، يقول: "بمعنى أنّ هناك استثناءات، وإذا كان من الممكن إخراج سورة الفاتحة من إطار الترتيب بوصفها «فاتحة الكتاب» كله، لتكون البداية من البقرة باعتبارها أول سورة نزلت في المدينة، فإن هناك سوراً أخرى تقدمت غيرها أو تأخرت عنها من دون اعتبار للطول والقصر"([42]).
لكن ما مستند الجابريّ في كون الطّول والقصر معياراً في ترتيب سور القرآن في المصحف، إنه بعض روايات كتب الحديث، حيث ساق رواية ضعيفة من مسند أحمد، جاء فيها: قال ابن عباس: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا -قال ابن جعفر: بينهما- سطرا: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، وكان إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده يقول: "ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وينزل عليه الآيات فيقول: "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"، وينزل عليه الآية، فيقول: "ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، وظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطراً: بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن جعفر: ووضعتها في السبع الطول([43]).
وقد قدّم الجابري هذه الرواية للقارئ في إظهار أشبه بستر، حيث كتب قبلها عبارة يقول فيها: "ومع ذلك فإنّ لدينا من الروايات ما يفيد أن معيار «الطول والقصر» كان متداولاً زمن عثمان بين الصحابة"([44])، ثم ساق الرواية السابقة، فهذا كلام من لا يرى لترتيب القرآن شيئاً يوجبه، إلا ما يكون بمحض الاجتهاد من غير اتصال بالوحي.
واستدلال الجابري بهذه الرواية ليس في محله، وذلك لأنها ضعيفة أولاً، سنداً ومتناً، ثم مصادمة لروايات أخر هي صحيحة خالية عن الإشكال، وقد مرّ ذلك في المبحث الأوّل.
أما ضعف المتن؛ فلأنه مصادم لما هو ثابت ومقطوع به ومجمع عليه، وهو الترتيب المصحفي المنقول بالتواتر، وأما ضعف السند، فلأن فيه رجلاً ضعيفاً لا يؤخذ بروايته([45]).
ثم أتبع الجابري استدلاله بالرواية السابقة، باستدلال آخر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل"([46])، ووجه الاستدلال بهذه الرواية عند الجابري غير مصرّح به، بل هو يريد أن يوحيَ للقارئ بأنّ القرآن فعلاً ما كان مرتباً بالوحي إلا على صورة مجملة غير مفصلة، وعلى صورة تتعرض للاحتمال ويكسوها ثوب الإجمال، بل قابلة للاستثناءات.
ويرى الجابري بالاستناد إلى هذه الرواية، أن القرآن الكريم يرجع ترتيبه إلى الأصناف الأربعة: السور الطوال، والمئون، والمثاني، والمفصل، مع ما يرد على ذلك من استثناءات.
وخلاصة نظرة الجابري لقضية ترتيب المصحف؛ تتمثل في الصورة الذهنية التي يستفيدها من فهمه للواقع القرآني في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن فهمه لموضوع جمع القرآن وترتيبه، وحاصل هذه الصورة الذهنية في نقاط:
1. الوحْي لم يرتّب القرآن، ولا النبيّ صلى الله عليه وسلم نصّ على الترتيب، لا بالقول ولا بالفعل، إذن ليس هناك معيار شرعيّ يحكم بالترتيب.
2. إن كان ثمة معيار لترتيب السور في المصحف يمكن أن يستفاد من الروايات، فهو معيار الطّول والقصر.
3. معيار الطول والقصر غير مطّرد، لوجود استثناءات كثيرة تَرِد عليه.
وقد بينت ما في هذه الصورة الذهنية من الخلل فيما سبق.
المطلب الثاني: نظرة الجابري لترتيب القرآن بحسب زمن النزول
تحدّث الجابريّ عن موضوعين يتعلقان بترتيب القرآن بملاحظة زمان النزول، وهما:
أولاً: المكي والمدني.
ثانياً: أول ما نزل وآخر ما نزل.
ويأتي الحديث عن هذين الموضوعين لما لهما من علاقة بترتيب سور القرآن الكريم من حيث زمن النزول.
أولاً: المكي والمدني
قرَّر الجابري في مطلع حديثه، أنّ المكي هو ما نزل قبل الهجرة بمكة، وأنّ المدني ما نزل بعد الهجرة بالمدينة، وذكر أنه يمكن أن يتداخل المكي بالمدني والعكس، مع أنّ وجود قرآن مدنيّ في جملة السور المكية أقلّ، ثم نقل عن السيوطي رحمه الله تعالى قوائم بالمكي والمدني والمختلف فيه من السور([47]).
واستخلص الجابري من القوائم التي ذكرها السيوطي أن الاختلاف شمل ذلك التصنيف، وذلك لأنّ هذا التصنيف لم يقع الاهتمام به إلا في المئة الثانية للهجرة في عصر التدوين، بل ذكر أن تحديد تلك القوائم ليس إلا بالرجوع إلى "جملة وقائع أو أمارات جزئية متعارضة"، وذلك بالتأكيد يفيد أن الترتيب المذكور لا يسمح "باستنتاج يتعدى مجرّد الظن والتخمين"([48])، وأما المعايير العامة التي ذكرها المؤلفون في علوم القرآن الكريم للقرآن المكي والمدنيّ فهي أيضاً لا تفيد يقيناً بترتيب النزول، وهذه أيضاً يظهر أنَّ الجابري لا يراها تفيد أكثر من الظنّ.
وبناء على ذلك؛ فإنّ التساؤل المشروع هنا، كيف يريد الجابري أنْ يصل إلى ترتيب سور القرآن ترتيباً زمانياً بحسب النزول من غير وجود ما يوصل إلى تلك المعلومات التي تنصّ على تأريخ نزول السور القرآنية أو نزول آيات معينة من تلك السور.
ثانياً: أوّل ما نزل وآخر ما نزل
يذكر الجابريّ في هذا الموضوع أيضاً مثل ما ذكره في الموضوع السابق، وهو أنّ العلماء اختلفوا في ترتيب أوّل ما نزل وآخر ما نزل، كما اختلفوا في المكي والمدني، ويسوق مختصراً لما قيل من أقوال في باب أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن الكريم.
ثمّ يلمح في آخر حديثه إلى نتيجة حتمية، وهي أنه "من الصعب تماماً إضفاء مقدار كاف من الصدقية والصحة على اللوائح التي تمدنا بجميع سور القرآن مرتبة حسب النزول، خصوصاً وقد رأينا كم كان الاختلاف بينهم كبيراً حول تمييز السور المكية من المدنية"([49]).
وختم الجابري حديثه بإظهار العلماء في هذه المسألة كالشّاكين أو المترددين في جواباتهم على الاختلافات المذكورة في مسألة أول ما نزل وآخر ما نزل، والحقيقة هي بخلاف ذلك، فإن مبحث أول ما نزل وآخر ما نزل ليس مبحثاً يُدّعى فيه القطع واليقين، بل هو مجرّد بحث من العلماء فيما يمكن التوصل إليه من خلال تلك الروايات، لا أكثر من ذلك ولا أقل، ومن ثمّ لا يكون محلاً للجزم أصلاً، إنما هو بحسب غلبة الظنون والترجيح بحسب القرائن التي تظهر للفقيه.
ولا نعدو الحقيقة إنْ قلنا: إنّ قضية ترتيب أول ما نزل وآخر ما نزل ليست من قطعيات القرآن، ولا من جملة ما يجب أن تشتمل عليه الضرورة والوثاقة، بل هي مباحث زائدة قد تفيد في أمور أخرى غير ثبوت القرآن ووثاقته، كإفادتها في عمليات استدلال المجتهدين واستنباطهم، من معرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمجمل والمبين وغير ذلك.
ويظهر من هذا أنّ الجابري لم يفهم حقيقة هذا البحث، فما أحد من العلماء المعتبرين سعى إلى ترتيب القرآن بحسب النزول ترتيباً يكون شأنه الاعتماد، وتكون غايته مقابلة الترتيب المصحفي، بل غاية ما هنالك أنهم قدموا رأياً فيما يمكن أن يكون قائمة ترتيبية بحسب زمن النزول مجردة عن دعوى اعتمادها، بل هي مقرونة باعتماد الترتيب المصحفي، والغاية منها ما سبق ذكره من الفوائد المعنوية التي تفيد في الأحكام، وهذا ما نصّ عليه بعض من فسر القرآن الكريم بحسب ترتيب النزول، كمحمد عزة دروزة، حيث ذكر أنّ هذا الترتيب ترتيب إجرائي للتفسير، وليس ترتيباً لسور القرآن الكريم، حيث يقول في مقدمة تفسيره: "وقد قلّبنا وجوه الرأي حول هذه الطريقة، وتساءلنا عما إذا كان فيها مساس بقدسية المصحف المتداول، فانتهى بنا الرأي إلى القرار عليها، لأنّ التفسير ليس مصحفاً للتلاوة من جهة، وهو عمل فنيّ أو علميّ من جهة ثانية، ولأنّ تفسير كل سورة يصحّ أن يكون عملاً مستقلاً بذاته، لا صلة له بترتيب المصحف، وليس من شأنه أن يمسّ قدسية ترتيبه من جهة ثالثة"([50]).
وكذلك يمكن القول بالنسبة لمن رتّب القرآن الكريم في تفسيره بحسب النزول، كالشيخ سعيد حوى مثلاً، فهم رتبوا التفسير على حسب النزول، ومسألتنا هي في ترتيب المصحف لا ترتيب التفسير، ومع ذلك فلا نوافقهم الرأي في صنيعهم هذا ولو في التفسير، لأنّ المسألة مرهونة بما ذكرناه سابقاً، ومرهونة بمدى حقية تقديم سورة على سورة بحسب النزول.
وكون القوائم التي بحسب زمن النزول غير قاطعة ولا يقينية ليس من تقرير الجابري وحده، بل هو أصل البحث عند العلماء، وذلك لحضور قائمة الترتيب المصحفي المعروفة والمجمع عليها، وإنما كان ذلك كذلك لصعوبة معرفة الترتيب النزولي، بل لتعذره أصلاً، ومن وجوه ذلك التعذر ما نقله الجابري نفسه([51]) عن ابن عاشور رحمه الله تعالى: "وقد تقدم القول في صدر سورة الفاتحة: إننا بينا إمكان تقارن نزول سور عدة في مدة واحدة، فليس معنى قولهم: نزلت سورة كذا بعد سورة كذا، مراداً منه أن المعدودة نازلة بعد أخرى، أنها ابتدئ نزولها بعد انتهاء الأخرى، بل المراد أنها ابتدئ نزولها بعد ابتداء نزول التي سبقتها"([52]).
لكنّ الجابري يصرّ على ترتيب السور النزولي بطريقة غير مفهومة في ظلّ ما تعرّفه هو من عدم إمكان الوصول إلى قول صحيح في موضوع ترتيب السور النزولي، بل ينسب إلى «الأزهر وغيره» لائحة معتمدة اليوم([53])، وهذه النسبة غير صحيحة ألبتة، ولا مسوّغ لها، حتى إنَّ الجابري لم يذكر مرجعاً يبين أن تلك اللائحة معتمدة لدى الأزهر، وكيف للأزهر أن يقرر اعتماداً لا يسنده العلم، بل الواقع أنّ علماء الأزهر كثر لا يقرِّرون ترتيب السور النزولي، بل يدحضونه ويبينون عدم إمكان التوصل إليه.
ويقول في ذلك الشيخ إبراهيم خليفة الذي تولى رئاسة قسم التفسير وعلوم القرآن الكريم بالأزهر نفسه الذي يتكلم عنه الجابري: "وبالجملة، فإن ترتيب السور، من حيث النزول، هو أمر معاكس لمنطق الواقع والمعقول والمنقول جميعاً، لسبب يسير جداً، هو أنه غير كائن، ولا يمكن أن يكون أصلاً"([54]).
وبناء على ذلك، وتنبيهاً للقارئ الكريم، فإنَّ كلام الجابري عن لائحة معتمدة لدى الأزهر ما هو إلا حديث خرافة، لا يصدقها الجابري نفسه، ولا يصحُّ لأحدٍ أن يصدقها، فلا شيء معتمد من هذا القبيل.
المطلب الثالث: نظرة الجابري لترتيب سور القرآن عند المستشرقين
لقد بدأ الجابري بتمهيد حسن لقضية ترتيب المستشرقين لسور القرآن، وهو ذكره لهدف المستشرقين من إعادة ترتيب القرآن بحسب النزول، وذلك الهدف هو "بناء تصور موضوعي لتطور الوحي المحمدي، والتعرف على الجانب الروحي من السيرة النبوية"([55]).
ولا شك أن مثل هذا الهدف يتسق ويتفق مع مسالك المستشرقين الذين يطعنون أصلاً في مصدرية القرآن من حيث كونه وحياً من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إذ ما معنى أن يكون الهدف من إعادة الترتيب أن يكون لـ "بناء تصور موضوعي لتطور الوحي المحمدي"، إنّ معنى ذلك أنّ الوحي تطور بحسب شخص محمد، وذلك يؤكده نسبة الوحي إلى محمد أيضاً، بل هذا المعنى نصّ عليه المستشرقون بلا حرج، إذ هو يتفق مع أصول إلحادية عند كثير من المستشرقين والحداثيين لا تؤمن بما وراء المحسوسات، متأثرة في ذلك بفلسفات أوروبية تأثرت بعصر التنوير.
ثمّ شرع الجابري في تلخيص تجربة المستشرق الألماني نولدكه، حيث ذكر أنه أشهر من اشتغل بهذا الموضوع من المستشرقين، وأنه اقترح معايير موضوعية لترتيب سور القرآن بحسب النزول، وخلاصة ما اعتمده نولدكه لمحاولة الترتيب، أمران: الإشارات التي تحيل في القرآن إلى وقائع تاريخية، وخصائص النصّ القرآني، ثم اعتمد المستشرق الفرنسي بلاشير ترتيب نولدكه وسار عليه في ترجمته لمعاني القرآن([56]).
وأيا ما كان عمل نولدكه أو غيره من المستشرقين في هذا الصدد([57])، فإن الجابري قد قرر في عنوان بارز أن عملهم لا جديد فيه، يقول: "يمكن القول إجمالاً إنه لا جديد، فالترتيب الذي اعتمده بلاشير مبني على التمييز بين خصائص القرآن المكي ومميزات القرآن المدني، وهي أمور معروفة، وقد فصل القول فيها كثير من المؤلفين المسلمين قديماً وحديثاً، كما أن كتب السيرة النبوية تقدم من الأحداث والاجتهادات ما يتطابق بهذه الدرجة أو تلك مع مراحل هذا التحقيب"([58]).
بل زاد الجابري في نقده لعمل المستشرقين أن جعل الترتيب التفصيلي الذي وضعوه اعتباطياً إلى حد كبير، ورأى ترتيب رواية ابن عباس أقرب إلى منطق مسار السيرة النبوية من ذلك الذي وضعه نولدكه([59]). وانتقد الجابري كذلك محمد عزة دروزة الذي اعتمد ترتيب النزول في تفسيره المسمى "التفسير الحديث"، وذلك بسبب عدم توظيف الترتيب في بناء تصور عن مسار نزول القرآن([60])، وهو ما يشير إلى قصد الجابري من الترتيب النزولي، فإنه بالنسبة له ليس مجرد ترتيب أو تجديد في صف السور، بل نتيجته المرجوّة تعود على كيفية الفهم وتشكيل ما يسميه بمسار تكوين النصّ القرآني.
هذا خلاصة رأي الجابري في ترتيب المستشرقين، ولا بدّ من هنا من تسجيل جهد الجابري بوصفه محاولة مستأنفة لترتيب القرآن بحسب النزول ترتيباً آخر غير ترتيب المستشرقين، تحت دعوى سمّاها "المسار التكويني لنصّ القرآن"، وهي التي سأتناولها في المبحث الثالث من هذا البحث.
لكن يجب أن أسجّل أيضاً هذا التناقض الظّاهر الذي وقع فيه الجابريّ، حيث كان من المفترض والمعقول أن يتراجع الجابري عن فكرة ترتيب سور القرآن حسب النزول، لكنه لا يزال مع تقدّمه في بحثه في ثنايا الكتاب يراها أولوية، ولم يدفعه ضعف تطبيق الفكرة إلى إعادة النظر في تقرير الأصول القوية لترتيب القرآن المصحفي، بل نراه يندفع مرة أخرى في التنظير لترتيب القرآن النزوليّ، لكن مع زيادة معانٍ أخرى من -وجهة نظره- لتسدّ الخلل الذي يوقعنا فيه الترتيب النزوليّ، وهذا في نظري المتواضع تناقض ظاهر لا مرية فيه.
والتناقض في طريقته أنه قرّر فيما سبق أنَّ الروايات لا تعطي لنا أكثر من مجرد تخمين بخصوص الترتيب النزولي ولا تعطي أي حقيقة واقعية، ومع ذلك تراه يقرّر الضرورة الواقعية للترتيب النزوليّ.
وهذا تذكير بما قاله الجابريّ بخصوص الأمر الأول: "الأمر الوحيد الذي يمكن تقريره بيقين تامٍّ هو أنّ الترتيب الذي عليه قرآن المصحف اليوم هو نفسه الترتيب الذي أقرته اللجنة التي كلفها عثمان بجمع القرآن"([61])، وكذلك يؤكد الجابري هذه النتيجة بقوله: "من الصعب تماماً إضفاء مقدار كافٍ من الصدقية والصحّة على اللوائح التي تمدّنا بجميع سور القرآن مرتبة حسب النزول، خصوصاً وقد رأينا كم كان الاختلاف بينهم كبيراً حول تمييز السور المكية من المدنية"([62]).
إذا قرأ أي أحد النصين السابقين للجابري، فهو سيعتقد حتماً أنّ الجابري سيقترح شيئاً غير هذا الترتيب النزوليّ الذي لا يصحّ، بل بيّنا أنه لا يمكن، لكن المفاجأة أن الجابري يصرّ على ما ثبت أنه لا يمكن أن يكون، حيث يقول: "ترتيب النزول المعتمد حالياً ضروري، ولكنه لا يكفي. هو ضروري لأنه لا يمكن بناء تاريخ من غير موادّ تاريخية، والموادّ التاريخية بالنسبة إلى موضوعنا تقدمها المرويات، وفي مقدمتها تلك التي تخص لوائح ترتيب النزول التي ذكرنا، إضافة إلى التي تتعلق بأسباب النزول وبالسيرة النبوية"([63]).
فكيف تجتمع عند الجابري مادة الضرورة (الترتيب النزولي للقرآن) مع مادة عدم الإمكان (عدم إمكان ترتيب القرآن بحسب الترتيب النزولي لعدم وجود روايات شاملة ولعدم نزول السور مكتملة بعضها تلو بعض)، هذا تناقض منطقيّ من المستوى الأول في القوّة والظهور، وليس عند الجابريّ حلّ له، فكان الأجدر أن يكفّ عن محاولة المحال، ويرضى بواقع الحال، لا عن قلّة وعدم كفاية، بل عن غناء وكفاية وخصوبة عالية في الترتيب الحالي المصحفي الذي يبدع العقل في اكتشاف أصناف من التناسقات والتراتيب التي يحتويها في كل المجالات على صعيد المعنى واللفظ([64])، ولم يزل المفسرون يظهرون هذه التناسبات والتناسقات على طول تفسير القرآن الكريم، فهذا الإمام الرازي مثلاً يعد التناسب "مفصل البلاغة وموجب حسن النظم"([65])، ويقول في ذلك الشيخ إبراهيم خليفة رحمه الله تعالى: "... الترتيب المصحفي للقرآن الذي عدل به نقلاً وإجماعاً بالكلية عن ترتيب النزول، والذي هو -من دون سواه- صفة القرآن المعجز، وخصيصة من أبرز وأعظم خصائصه الذاتية المبرزة لوجه جليل من وجوه إعجازه، والمطلعة على فنّ رفيع من فنون بلاغته، واقتداره بذلك في تناسب رائع وتناسق بديع، يخلب الألباب، ويأخذ بمجامع القلوب على ناصية البيان، اقتداراً لم يسبقه فيه سابق ولا يلحقه فيه لاحق"([66]).
وهنا أعيد التنبيه إلى أنّ الجابري يردّد عبارة باستمرار، وهي "الترتيب المعتمد اليوم"، يريد بذلك الترتيب النزولي، وليس ثمّة شيء معتمد من هذا القبيل، بل المعتمد هو الترتيب المصحفي الذي هو بين الدفتين، والذي يقرأ به في الحرمين، ويقرأ به كل الثقلين، ولا شيء بعد ذلك يجوز أن يدّعى اعتماده، وكأني بالجابري يحاول التهرب من شيء بإعادة تكرار عبارة "الترتيب المعتمد لدى الأزهر وغيره"، والله أعلم بذلك، لأنه يكرر العبارة من غير أن يأتي بمرجع ما لدى الأزهر، ولو ضعيفاً.
المبحث الثالث
دعوى المسار التكوينيّ لنصّ القرآن عند الجابريّ
المطلب الأول: ضرورة الترتيب النزوليّ عند الجابري
يرى الجابري في القرآن كتاب مفتوحاً، يريد بذلك أنه لا يمكن التعامل مع القرآن بوصفه وحدة مستقلة، بل يجب التعامل معه بحسب مقتضى الحال التي من شأنها التغير والتبدّل، يقول: "وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى أنّ القرآن كتاب مفتوح، يتألف من سور مستقلة تكونت مع تدرج الوحي... من أجل ذلك من غير الممكن التعامل مع القرآن كنص معماري مهيكل حسب ترتيب ما، إنه نص بياني من نتاج الوحي لا من إنتاج المنطق، والوحي كان ينزل حسب مقتضى الأحوال، والأحوال تتغير من حين لآخر"([67]).
فحديث الجابري عن انفتاح القرآن هو حديث يحمل في طياته مخاطر أيديولوجية مسبقة، وهذه الأيديولوجيا تتمثل في إدخال عنصر الزمان والمكان في بنية النص القرآني، وهذا الكلام ليس صحيحاً، وهي أيديولوجيا معروفة لدى الباحثين بأنها عناصر تشكل نظرات حداثية للقرآن الكريم، على اختلاف مدارس الحداثة.
نعم نسلِّم أنّ القرآن له أسباب نزول واقعية، ونزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هداية للناس، ويتحدث عن كثير من إشكالاتهم، لكن لا نسلم ولا يجوز أن يعتقد أحدٌ أن ذلك بانقطاع عن الوحي وثبات الأصل الإلهي.
يتمثل خطأ الجابري في أنه يدعي أن النصّ قابل للتغيير بهذه الصورة الفجة، وهي إعادة الترتيب وفق ظرف الزمان والمكان، اللذين تبين فيما سبق أنهما غير معلومين أصلاً على وجه التحديد لانقطاع ذلك السند التاريخي الذي يربطنا بوقت تنزل كل آية وحال تنزيلها، ويستغني عن اليقين الثابت من أن ترتيب القرآن المصحفي هو أيضاً من جملة الوحي الذي نزل بالقرآن الكريم.
ولعلّ الكلام المعسول من أنّ القرآن نصّ بياني، وأنه كتاب مفتوح، وأنه لا يُتعامل معه تعاملاً جامداً هيكلياً، قد ينطلي على بعض الناس، ويغتر ببريقه آخرون، لكنّ هذه الزخارف تزول عند التحقيق، إذ نسلم أن القرآن نصّ بيانيّ مفتوح لا يتعامل معه تعاملاً جامداً، لكن ندعي أيضاً بمقتضى النقل المتواتر الثابت والعناية الخاصة التي حظي بها القرآن على مرّ العصور، ابتداءً من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حضوره إلى يومنا هذا، ندعي أن الترتيب المصحفي بين الدفتين هو من جملة الوحي ومكوّن للقرآن.
ولقد أغمض الجابري الكلام في الحديث عن بيانية القرآن وكونه نصاً حياً، حيث ساوى بين عمل المفسّر والمترجم، من حيث إنّ كليهما لا يتعامل مع نصّ جامد في قالب، وهذا تشبيه خطير جداً، فإنّ التفسير غير الترجمة، وعمل كل منهما مبنيّ على قواعد خاصّة.
وبالإضافة إلى ذلك؛ فإنه لا أحد يدّعي أنّ القرآن نصّ جامد، بل كل المسلمين متفقون على أنّ نصّ القرآن غنيّ بالمعاني، لكن ما علاقة هذا بترتيب سور القرآن؟ إنّ للمنصف العاقل المتأمل أنْ يقرر بوضوح وبما تقرّر من أدلة الترتيب المصحفيّ، وأنه توقيفي أنّ بيانية القرآن وانفتاحه مبنيّ على الترتيب المصحفي، لا الترتيب النزولي الذي لا ينبني على سند صحيح.
وفرق كبير جداً بين انفتاح القرآن بمعنى غنائه بالمعاني وثرائه بالأساليب وأفانين الكلام وتنوّع الحجج، وبين انفتاحه بمعنى قبوله لأيّ عمل بشري مهما كان بعيداً عن جادّة الصواب، نعم فرق كبير بين هذين المعنيين، فلا معنى بعد هذا البيان لتغنّي الجابري بعبارة أنّ "القرآن كتاب مفتوح"، إذ هي تحمل معاني لا يقبلها العقل والوحي.
المطلب الثاني: الهدف من الترتيب النزوليّ
ذكر الجابري هدفه من محاولته لترتيب السور بحسب النزول، فقال: "وبالنسبة إلى موضوعنا الذي يتوخى بناء تصور منطقي عن المسار التكويني للنصّ القرآني، وفي نفس الوقت أقرب إلى الواقع التاريخي، أعني لوقائع السيرة النبوية، فإنّ ترتيب النزول المعتمد حالياً ضروري، ولكنه لا يكفي"([68]).
إذن؛ وبغض النظر عن عدم كفاية الترتيب النزوليّ التي يقرّ بها الجابريّ، إلا أنّ الهدف من المحاولة كما يظهر هو "بناء تصوّر منطقي عن المسار التكوينيّ للنصّ القرآني"، وبعبارة أخرى صريحة معبّـرة عن الهدف، يقول الجابري: "الهدف عندنا من الترتيب حسب النزول هو التعرف على المسار التكويني للنصِّ القرآني باعتماد مطابقته مع مسار الدعوة المحمدية"([69]).
إنّ الجابري يرمي إلى مطابقة النصّ القرآني لمسار الدعوة، باعتبار الدعوة تجلياً لذلك النص، وباعتبارها أيضاً مفسرة له، وشارحة لكيفيات كينونته وتكونه، هذا هو المفهوم من هدف الجابريّ.
نعم، إنّ الجابري يقصد إلى أنّ النصّ القرآني تكون بفعل المعيشة النبوية ومسايرته النبي للأحداث التي كانت تحيط به وتلفه وتؤثر عليه، بحيث إنّ النصّ القرآنيّ منعكس عن تلك المعيشة وتلك المعايشة.
إذن الذي يريد الجابري أن يوصلنا إليه، يظهر بشيء من التحليل والتعمق في الفهم، إنه يقول بعلاقة سببية بين القرآن والواقع.
يدّعي الجابري أننا يمكن أن نعرف جزءاً جيداً من العلاقة السببية بين نزول القرآن والأحداث المحيطة بالدعوة النبوية، بل جزءاً يمكننا من ردم الهوة التي لا نعرفها، وذلك من خلال تلك العلاقة السببية.
إنّ الواقع –بحسب الجابري- يشكل القرآن ويكوّنه، إذن إذا فهمنا الواقع يمكن أن نعيد فهم القرآن وقراءته بصورة صحيحة وإيجابية، هذا باختصار هدف الجابري.
وأما نقدي لهذا الهدف، فهو يتجلّى في نقاط:
1. ليس كلّ القرآن نازلاً على وفق الحوادث، بل منه ما نزل ابتداء، وهذا ما يقرّ به الجابري بنفسه.
2. ليس بصحيح أنّ الأحداث تفسر القرآن الكريم، الصحيح أنها طريق في معرفة المعنى، ويمكن للمعنى أنْ يتميز ويتجلى بقطع النظر عن الأحداث المحيطة بوقت النزول، وهذا مكمن من مكامن الإعجاز القرآنيّ.
3. طريقة الجابري في التنظير لهذه القضية معتمدة على أصول منافية لحقيقة القرآن الكريم، من حيث كونه كتاباً معجزاً خالداً خاتماً مصدقاً، بل هو يتعامل معه على أساس أنه نتاج بشري ليس موضوعاً لأكثر من إظهار أنموذج ما في زمان ما.
ينبغي أنْ يلاحظ القارئ الكريم في كلام الجابري أمرين:
الأمر الأول: نسبة مصدر التكوين للقرآن الكريم، وما في هذه الكلمة من ظلال قد تشير إلى سفر التكوين، وأيضاً ما تحتويه بحسب اللغة العربية من التدرج في حصول الشيء وتشكله، ومنافاة ذلك لما يقرره الإسلام من أنّ القرآن كلام الله تعالى الذي لا يحتمل صبغة التغير والتبدل الذي تحتمله الكتب الأخرى.
الأمر الثاني: مفهوم المطابقة الذي يجعله الجابري حاكماً على ترتيب القرآن، يرجع إلى عنصر الرأي والذوق والخبرة في تفسير الحوادث التي لم تنقل لنا بكلها، الأمر الذي بلا شك يحكمه الاحتمال وتتناوشه الظنون والآراء المختلفة والتقديرات المتعارضة، والتي ليس منها شيء يقطع بصحة شيء أو بطلانه، علاوة على أنّ ذلك الرأي والذوق ليس من شأنه أن يحكم على قضية الترتيب أصلاً، لأنها مسألة ينظر فيها إلى النقل، لأن الكلام هو شأن المتكلم، وليس للسامع جهد إلا أن يفهم الكلام على وجهه الذي أراده المتكلم.
هذا ما ينبغي أن يلحظ، مع ضرورة التنبه إلى أن الجابري بهذا الهدف الذي اختطه لنفسه يتماهى جداً مع نظرة حداثية تتكون في عنصر (أنسنة النص) و(تاريخانية النص)، وهي نظريات حداثية في فهم النصوص اللغوية تعتمد على تفكيك الدلالات وإزالة الاستقرار الدلالي([70]).
المطلب الثالث: معايير الترتيب النزولي
يقترح الجابري في محاولة ترتيب السور بحسب النزول معيارين عامين: معيار الرواية، ومعيار المنطق، وأما على سبيل التفصيل فإنَّ هناك محددات لهذه المعايير كما يقول الجابري.
أولاً: المعايير العامة
أما المعياران على سبيل الإجمال، فيتناولهما الجابري في سياق من إظهار الحاجة لهما وتبريرهما، بحسب التفصيل الآتي:
المعيار الأول: الرواية
يتمثل هذا المعيار في الروايات التي تبين أي تواريخ أو علاقات تاريخية تتعلق بآيات القرآن وسوره، وذلك يشمل أسباب النزول، وروايات السيرة النبوية، والأخبار التي تذكر ما يتعلق بنزول السور وترتيبها، كل ذلك حسب رؤية الجابري.
يقول الجابري: "لا يمكن بناء تاريخ من غير موادّ تاريخية، والموادّ التاريخية بالنسبة إلى موضوعنا تقدّمها المرويات، وفي مقدمتها تلك التي تخصّ لوائح ترتيب النزول التي ذكرنا، إضافة إلى التي تتعلق بأسباب النزول وبالسيرة النبوية"([71]).
كلام الجابري صحيح في أوّله، أي إنه لا يمكن لنا أن نبني تاريخاً من غير مواد تاريخية، والمراد بالتاريخ هنا ترتيب سور القرآن بحسب النزول، والمواد التاريخية هي التي تكوّن هذا الترتيب النزولي، فالمعنى إذن أن الروايات وهي بمثابة مواد البناء التاريخية لا بد أن تشمل هذا البناء وتغطيه، لكن ذلك متعذر وغير صحيح، ولا يمكن للجابري أن يدعيه أصلاً.
ومن هنا انطلق الجابري إلى المعيار الثاني، ليسد به خلل الفكرة التي يحاول تطبيقها على القرآن.
المعيار الثاني: المنطق
لكنْ هل تفي الموادّ التاريخية التي ذكرها الجابريّ بغرضه من محاولة الترتيب هذه، الجواب: قطعاً لا تفي، ولا تكفي، لذلك نرى الجابريّ يقترح مكمّلاً آخر يمثل معياراً إضافياً للترتيب النزولي، وهو معيار «المنطق»، ويريد الجابري بهذا المعيار اتساق الأجزاء بعضها مع بعض في إطار الكل الذي تنتمي إليه([72]).
يقول في هذا المعيار وكيفية إعماله في محاولة الترتيب: "الاعتماد على المرويات وحدها لا يكفي في الوفاء بغرضنا، فلا بد إذن من توظيف المنطق في عملية استثمار المواد التي يقدمها المأثور"([73]).
قال الجابري: "فإنَّ دور المنطق أو الاجتهاد، لا بدَّ أن يكون مركزاً أساساً على المطابقة بين المسارين: مسار السيرة النبوية، والمسار التكويني للقرآن"([74]).
لكن بتأمّل قليل وظاهر، يحقّ للباحث أن يسأل الجابري عن طريقة إعمال المنطق في مثل هذه المحاولة، أو بصورة أدقّ ما هي ضوابط إعمال المنطق هنا، فإنّ المطابقة المفترضة هنا هي بين طرفين، الطرف الأول: السيرة النبوية، والطرف الثاني: المسار التكويني للقرآن، وكل منهما مجهول غير معلوم، أما الطرف الأول، فلأنَّ روايات السيرة النبوية لا تفي بملأ الفراغ كله، فإنَّ الذي وردنا قليل جداً بالنسبة إلى واقع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الطرف الثاني، فلأنَّ المسار التكويني هو الذي نبغي معرفته أصلاً من عملية الترتيب النزولي، أو هكذا يفترض على الأقل.
ولا شكّ أنّ هذا يفرض إشكالاً منطقياً عقلياً على الجابري، وهو أنَّ المسار التكويني الذي ليس بمعروف عند الجابري، ضرورة كونه هدفاً له يريد التعرف عليه بواسطة ترتيب النزول، هو أيضاً دليل معرِّف على ترتيب النزول، فيصير المسار التكويني مجهولاً ومعروفاً، هذا تناقض، أو بعبارة أخرى يصير المسار التكويني ناشئاً عن ترتيب النزول، وفي نفس الوقت منشئاً لترتيب النزول، هذا دور([75])، وهو باطل.
وفي الحقيقة، ولا أخفي عجبي، أحاول أن أتفهم كيف يريد الجابري أن يسعى إلى هذه المحالات الباطلة بهذه الأساليب التي لا تجدي، لكني لا أجد جواباً مع طول التأمّل.
والجابري يظن أنه أغلق باب الاعتراض على مسلكه بقوله إنه سيُعمل المنطق في استثمار المأثور، لكن هيهات هيهات له ذلك، وكيف يصحّ ادعاء المنطق مع هذه الإشكالات التي تعترض ذلك، وإني أقول إن «المنطق» هنا كلمة لا معنى تحتها، هي فقط كلمة يقولها الجابري ليستر إشكال الطريقة واعوجاجها، ولو أسلمنا له ما يريد، فكيف تكون النتيجة، وهل هي مأمونة أو مضمونة؟ قطعاً لا، وما هذا الذي يقترحه الجابري بهذه الطريقة الفجة إلا هدر لماء القداسة عن نصّ الكتاب الحكيم.
ثانياً: الأسس والمحددات للمعايير العامة
في ضمن المعايير العامة يضع الجابري محدِّدات وأسساً خاصة لترتيب القرآن بحسب النزول، ويعمل الجابري المنطق (الاتّساق الداخلي) في تطبيقه لهذه المحدّدات، وبمطالعة ما كتبه الجابري في الموضوع هذا، وجدت أنه يتميز عنده ثلاث محدّدات لتقسيم سور القرآن وترتيبها.
المحدِّد الأول: التمييز بين المكيّ والمدنيّ (طبيعة السورة القرآنية)([76])
يشير الجابري بهذا المحدّد إلى مضمون السورة وأسلوبها، ويقترح بناء على ذلك أن ينقل بعض السور إلى لائحة السور المكية، وهو لم يأت في ذلك بجديد يذكر، وغاية ما هنالك أنه يقول بآراء قيلت قبله، من اعتبار السورة مكية أو مدنية، وليس هذا عملاً مؤثراً في أصول البحث (المسار التكويني لنص القرآن)، وإن كان له أثر في ذاته، لكن مما يؤخذ عليه أنه لم يبين وجه إلحاق ما يقترحه من السور بالقرآن المكي.
المحدد الثاني: وقائع السيرة النبوية([77])
عرض الجابري ما سمّاه «لحظات الدعوة المحمدية» في تسلسل تاريخي، ليخلص منه إلى أن وقائع السيرة النبوية من خلال تقسيم مراحل «الدعوة المحمدية» -كما يحلو للجابري أن يسميها- إلى مراحل:
1. المرحلة السرّية.
2. بداية التعرض للأصنام وبداية الصراع مع قريش.
3. مرحلة التعرض للأصنام واضطهاد قريش للمسلمين.
4. مرحلة حصار النبيّ وأهله في شعب أبي طالب.
5. مرحلة فكّ الحصار وعرض النبي نفسه على القبائل.
لقد عرض الجابري هذه المراحل بوصفها تزيدنا تبصراً بطريقة التعامل مع القرآن الكريم، حيث يقول: "إن التمييز بين هذه المراحل التاريخية في الدعوة المحمدية ضروري إذا نحن أردنا وضع تصنيف لسور القرآن يساوق وقائع السيرة"([78])، وقال: "أما توزيع السور في هذه المراحل، مرتبة حسب تاريخ النزول، فأمر صعب للغاية، وهذا ليس راجعاً فقط إلى أن سوراً كثيرة من القرآن تتألف من آيات نزلت في مرحلة، ثم أضيفت إليها آيات نزلت في مرحلة لاحقة... بل أيضاً لأن ما يطبع الروايات التي يمكن الاستعانة بها في هذا الشأن هو الاختلاف إلى حد التناقض"([79]).
ثم ختم الجابري كلامه بالنتيجة الحتمية التي لا بد منها في موضوع بحثي، وهي استحالة وضع قائمة تضم ترتيب السور ترتيباً نزولياً، وذلك بقوله: "ولما كان الأمر كما وصفنا، فما الفائدة إذا في الخوض في مسألة ترتيب النزول"([80]).
ولكن الجابري رجع فاعتمد لائحة الترتيب النزولي «المعتمد»، وهي اللائحة التي بينت أنه لا أصل لاعتمادها، ولا أصل لما يدعيه الجابري من أنها معتمدة، وأنها فقط لائحة تقريبية تعبر عن اجتهاد أصحابها في معرفة ما نزل من حيث زمان النزول، لا أكثر ولا أقل، وقد بينت فيما سبق أن أي ترتيب يدّعى بأنه ترتيب نزولي لسور القرآن فهو ادّعاء لا أصل له، وينقضه النقل والعقل.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ الجابريَّ لم يقدّم على الصعيد التطبيقيّ شيئاً جديداً يذكر في تدعيم نظريته في التعرّف على المسار التكويني لنصّ القرآن، وغاية ما ذكره إنْ هو إلا نوع من الترجيح لما وقع في مكيته ومدنيته اختلاف بين المفسرين، كضمّ سورة الزلزلة وسورة الرحمن وسورة الإنسان وسورة البينة وسورة الحج إلى قائمة السور المكية([81])، وكأن الجابري نظر في فهرس المصحف أو فيما يذكر إجمالاً في كتب علوم القرآن فوجد هذه السور معدودة "مدنية"، فاقترح أن تنقل إلى السور "المكية" بناء على تأمّله في موضوعها، وليس هذا بشيء فيما يدعيه من دعوى عريضة بحجم التعرف على "مسار تكوين نصّ القرآن".
وينجلي وجه الإشكال في ذلك بملاحظة أمرين:
* أنّ القول عن سورة ما بأنها "مدنية" قد يكون إجمالياً بحسب أغلب آيات السورة، ولا يكون ذلك منافياً لمكية بعض الآيات فيها.
* أنّ العلامات التي تدل على مدنية السورة أو مكيتها إنما هي علامات أغلبية وليست بالضرورة أن تطرد دائماً، فليس قولنا: القرآن المكي يتناول موضوعات العقائد، والمدني يتناول موضوعات الأحكام، حاصراً نافياً أن يكون في المدني ذكر شيء من العقائد أو أن يكون في المكي ذكر شيء من الأحكام.
ولنأخذ سورة الزلزلة مثلاً؛ فقد وردت آثار تدلّ على مكيتها، وأخرى تدلّ على مدنيتها، فالترجيح بحسب الرواية، ولا قطع في شيء من ذلك، ولذلك نرى الخلاف بين العلماء، لكن الراجح بحسب الروايات أنها مدنية فعدت في المدني.
وقد يكون كلام الجابريّ مبنياً في كثير منه على توهّمات منه، أو اعتبار لأقوال مرجوحة وضعيفة، يقول: "وأما سورة القلم التي تصنف ضمن السور الأوائل، وهناك من يجعلها أول سورة نزلت، فنحن نرجح أن يكون تاريخ نزولها متأخراً لعدة أسباب، منها: أنها تجادل المشركين وتسميهم مكذبين، وهذا جدل ينتمي إلى مرحلة متأخرة ثم هي تنتقد الأصنام، فضلاً عن ورود بعض القصص فيها (قصة أصحاب الجنة، وجزءاً من قصة يونس)، وهذا يجعلها تنتمي إلى مرحلة التعرض للأصنام"([82]).
وكلام الجابري هنا ضعيف، لأنه يفترض أنّ مجادلة المشركين وانتقاد الأصنام لا تكون في أوّل دعوة الإسلام، بل لا بدّ أن تكون في المرحلة الجهرية([83])، فمن ثَمّ لا تكون سورة القلم من أول ما نزل كما جاء في الروايات، وكلامه غير صحيح، لأن كون الدعوة سرية لا ينافي مجادلة المشركين ودعوتهم وانتقاد عبادة الأصنام، فإنها دعوة على كل حال، ولا يكون في الدعوة سكوت وعدم مجادلة، ولكن الفرق بين الدعوة الجهرية والسّرية لا يكمن في هذا، بل المراد بالجهرية أن تُظهر على رؤوس الأشهاد، وأنْ يُدعى إليها كل أحد بصورة جهرية وعامة، وليس المراد بها أنه لم يكن يعلم بها أحد، ولا تتصدّى لإبطال الباطل من عبادة الأصنام وكفر المشركين، كما يتوهّم الجابري.
وعلى الرغم من أنّ ما قدمه الجابري لا يحقق هدفه المنشود وهو "التعرف على مسار تكوّن النصّ"، نراه لا يحقق فرقاً كبيراً في الواقع، فعلى كل حال تظلّ السورة من أول ما نزل في الجملة، وهي مكية أيضاً.
ومثل هذا التوهّم ما سطره في كلامه على سورة المزمل، حيث ادّعى أنها مدنية، واستدل على ذلك بما رُوي من روايات في نزول قول الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل: 20]، ولم يذكر رواية بعينها، واستدل أيضاً بقوله سبحانه في مطلع السورة: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 4]، وزعم أنه يقتضي وجود عدد جيد نزل من آيات القرآن حتى يصحّ القيام بها، وهذا يرشّح تأخرها نسبياً بخلاف ما يروى من أنها من أوائل ما نزل([84]).
ووجه التوهّم أن المفسرين متفقون على تأخر نزول قول الله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل: 20]، إلا أنهم اختلفوا في مقدار ذلك التأخر، وتدلّ الروايات على أنه تأخر سنة أو أكثر، كما جاء في رواية الحاكم في المستدرك عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَخْبِرِينِي عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: "لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) [المزمل: 2] قَامُوا سَنَةً حَتَّى وَرِمَتْ أَقْدَامُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»([85])، ويجاب عن الاستدلال الثاني بأجوبة: إن القيام يصحّ بما كان قد نزل من القرآن الكريم أياً كان مقداره، وقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بعض الليالي بآية، وأيضاً حصول القيام يتحقق بالذكر والفكر والحمد والشكر، وذلك أعمّ من أن يكون بقراءة القرآن خاصّة.
وينبغي التنبه إلى أنّ كلام الجابري وغيره ممن يحاولون ما يحاوله لا يستقرّ على ساق، ولا يثبت على قدم، بل هو مجرد دعاوى وتمويهات وذوقيات شخصية، وقد نبه على ذلك الشيخ محمد عبد الله دراز، حيث قال: "إن كلمات (الصدمة العنيفة)، و(الجو الغريب) ونحوها من العبارات المألوفة والقوالب الجارية على أقلام الكتاب لا تقنع طالب الحقّ ما دامت تحلق في سماء هذا العموم المطلق الذي لا يُطبّق على مثال معين..."([86]).
إذن؛ يخلص لي في آخر هذا المطلب أنّ الجابري اضْطر لأنْ ينكر الفائدة من ترتيب النزول، وهي التي كانت هدفاً له فيما سبق، ثم راوح بعد إقراره هذا بين الإنكار والإقرار، فتارة يقول كما نقلت فيما سبق: "فما الفائدة إذا في الخوض في مسألة ترتيب النزول؟ وتارة يقول عن اللائحة التي ترتب السور حسب النزول: "ليست هناك لائحة غيرها، وليس بالإمكان بناء لائحة جديدة تحلّ محلها، ولكن بالإمكان التعامل معها، بفضل ما ذكرنا، بكثير من الوعي والتبصر..."([87]).
أرى أنّ الجابري وقف موقفاً محيراً من هذه المسألة، وذلك بسبب تمسكه بعنصر الزمان في ترتيب سور القرآن الكريم، والواقع أنه لا حاجة للتمسك بهذا العنصر، وذلك لوجود عنصر آخر هو الترتيب المصحفي الذي يعد جزءاً من نظم القرآن، وبه يظهر تناسب السور وتناسقها كأنها جملة واحدة فصلت تفصيلاً، لكن الجابري لا يمكن له أن يتخلى عن عنصر الزمان في ظل ما ذكرته سابقاً من هدفه إلى ربط التنزل القرآني بالزمان بوصفه نصاً بيانياً مفتوحاً، كما قال الجابري، لا بوصفه بناء هيكلياً جامداً، وقد بينت ما تحت هذه الكلمات من حقائق إنكار الوحي وكون القرآن كتاباً خالداً له قداسته، وله نفاذية في اللفظ والمعنى، والقالب والمضمون، وكيف لا؟ وهو الكتاب الوحيد الذي حظي بهذه الرتبة من الحفظ والتناقل المتواتر على مرّ العصور، وجعله الله الكتاب الخالد للرسالة الخالدة للنبيّ الخاتم صلوات الله وسلامه عليه.
الخاتمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
في ختام هذا البحث الذي قدّمت فيه نقداً لنظرة الجابري لموضوع ترتيب سور القرآن، وأسّست له بذكر ما قيل في هذه المسألة عند العلماء، فقد خلصت إلى النتائج والتوصيات الآتية:
النتائج
* الترتيب المصحفي ترتيب توقيفي، لم يكن باجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول جمهور العلماء في مسألة الترتيب المصحفيّ.
* حديث ابن عباس رضي الله عنهما، يكاد يكون هو الدليل المعتمد الوحيد عند القائلين بالاجتهاد، والاستدلال به غير صحيح، لضعفه سنداً، وعلته متناً، ومثل هذا الحديث لا يجوز أن يكون مستنداً لمثل هذا المطلوب.
* الترتيب النزوليّ مستند إلى بعض الروايات الضعيفة في سندها ومعناها، لضعفها وعدم دلالتها على الترتيب النزولي، ثم لمخالفتها لروايات أخر أقوى منها وأجدر بالاتباع.
* يرى الجابري أن ترتيب السّور المصحفي لا معيار له إجمالاً، وأنه من الضروريّ أن ترتب سور القرآن ترتيباً نزولياً.
* يهدف الجابريّ من قضية الترتيب النزولي إلى مطابقة مسار الدعوة لمسار تكوُّن نصّ القرآن الكريم، تحت عنوان "المسار التكويني لنص القرآن الكريم"، معتمداً في ذلك على خصائص القرآن المكي والمدني، وروايات أول ما نزل وآخر ما نزل.
* يقوم رأي الجابريّ في مسألة ترتيب النزول على عنصر (الأنسنة) و(تاريخانية النصّ)، وهما من خصوصيات الطريقة الحداثية في تفسير النصوص، التي تساوي بين القرآن وغيره من الكلام، وتعدّ امتداداً لأعمال المستشرقين في هذا الصدد.
التوصيات
* دراسة أثر دعوى المسار "التكوينيّ للنصّ القرآنيّ عند الجابريّ" على تفسيره للقرآن الكريم المسمى (فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول).
* إبراز العناصر الحداثية والاستشراقية في جهود الجابريّ لتفسير القرآن الكريم وآثار ذلك على الأحكام الشرعية المستفادة من النصوص.
(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الثاني، 1440هـ/ 2019م.
الهوامش
([1]) انظر المصادر الآتية في السيرة الذاتية لمحمد عابد الجابري، وهي مصادر حديثة تناسب شخص المترجم له:
* نوفل، أحمد، قراءة نقدية لمدخل الجابري للقرآن، مقال منشور في مجلة البيان، الشبكة العنكبوتية، 2010م.
* كركوب، عبد العالي، محمد عابد الجابري: حياته، مؤلفاته، مماته، مقال منشور بصحيفة الحوار المتمدن العدد، 4456 - 2014م.
* محمد عابد الجابري.. سيرة مفكر، أرشيف موقع الجزيرة على الشبكة العنكبوتية، من خلال مقابلات شخصية، منشور على موقع الجزيرة: aljazeera.net.
* محمد عابد الجابري، سيرة ذاتية، موقع الموسوعة الحرة (ويكيبيديا).