صلاة العيد، حِكَم وأحكام
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ونم بعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن من رحمة الله تعالى بالمسلمين أن جعل لهم عبادات عظيمة يتقربون بها إليه سبحانه وتعالى، وجعل لهم بعد انقضاء هذه العبادات أعياداً يفرحون بها بفضل الله تعالى ورحمته، أن وفقهم لأداء هذه العبادات وإتمامها، فعيد الفطر يأتي بعد عبادة الصيام، وعيد الأضحى يأتي بعد عبادة الحج، وإن أول ما يبتدئ به المسلم يوم عيده أن يكبر الله تعالى وأن يصلّي لله سبحانه صلاة العيد شكراً على تمام نعمة الله بأداء الطاعات والعبادات، فينتقل المسلم في أعياده من امتثال لأمر إلهي بأداء العبادة، إلى أمر بالفرح بأدائها، ومن عبادة إلى عبادة، وكذا حياة المؤمن في جميع مراحلها، يتنقل فيها من طاعة إلى طاعة، امتثالاً لتوجيه الله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162-163].
ولهذا فإن صلاة العيد أصبحت من شعائر الإسلام التي شرعها لنا الإسلام وندبنا لأدائها، لما فيها من إظهار للفرح والسرور، وتعظيم لشعائر الله تعالى، وإظهار لشعار المسلمين، وقد قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
* حكمة مشروعية صلاة العيد:
عيد الفطر يأتي بعد صوم رمضان وهو مترتب على إكمال صيام رمضان، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم واستوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار، فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب وآخره عتق من النار يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه، فشرع الله تعالى لهم عقب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله وذكره وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم في ذلك العيد الصلاة والصدقة، وهو يوم الجوائز يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم ويرجعون من عيدهم بالمغفرة([1]).
ولم يربط الإسلام أعياده بحوادث أرضية؛ لأن الأرض وما عليها مصيرها الفناء، وإنما ربط أعياده بإنجاز الطاعات الإلهية التي لا تُفني ثوابها الأيام، ثم هي تتكرر كل عام بتكرر القيام بالطاعة.
ثم إن لربط العيد بالطاعة معنى سامياً؛ فهو يشير إلى أن الغاية الأولى للمسلم في الحياة إنما هي رضا الله وطاعته، وتقوية الصلة به، أما المكاسب الدنيوية فهي ثانوية، وتكون مقبولة ومن جملة الطاعات إن أدت إلى رضا الله.
* حُكمها:
صلاة العيد سنّة مؤكدة ثبتت مشروعيتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يواظب عليها، ولم يثبت عنه أنه تركها، وهي صلاة تُسن جماعة.
قال الشافعي رضي الله عنه: "وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: صَلَاةُ جَمَاعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ، لَا أُجِيزُ تَرْكَهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ"([2]).
* وقتُها:
وقت صلاة الفطر ما بين طلوع الشمس إلى أن تزول، والأفضل أن يؤخرها حتى ترتفع الشمس قيد رمح، حتى يتمكن من تأخر عن تأدية زكاة فطره بالمبادرة إلى إخراجها قبل فوات وقتها([3]).
* مكانها:
ذكر العلماء أحوالاً عدة (وجميعها صحيحة) في أفضلية مكان صلاة العيد بما يراعي مصالح الناس والتيسير عليهم لتجنب المشقة، على الترتيب الآتي:
أولاً: إن كان المسجد واسعاً يتسع لجموع المصلين فالصلاة فيه أفضل من غيره -مع عدم كراهة الصلاة في المصليات وإن كان المسجد واسعاً-؛ لأن المكان موقوف فيه للصلاة، فينال فضل المسجدية، والمساجد هي أشرف وأطهر بقاع الأرض لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير البقاع المساجد وشرها الأسواق)([4])، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم يصلون العيد في المسجد الحرام، وفي المسجد النبوي.
ثانياً: إذا كان المسجد ضيقاً لا يتسع لأعداد المصلين، فيُسن أن تصلى صلاة العيد في المصليات الواسعة، لما ورد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى"([5]).
ثالثاً: إن كان هناك مرضى أو أصحاب أعذار أو كبار سن ضعاف، أو كان الجو ماطراً، فالأفضل أن تصلى صلاة العيد في المساجد حتى وإن كانت ضيقة؛ لما روي أن علياً رضي الله عنه استخلف أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه ليصلي بضعفة الناس في المسجد، ولما روي أبو هريرة رضي الله عنه قال: "أصاب الناس مطر في يوم عيد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم في المسجد"([6])، وروي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما صليا في المسجد في المطر([7]).
* آداب الخروج لصلاة العيد:
أولاً: الاغتسال ولبس أحسن الثياب والتطيب والتنظف وتقليم الاظفار:
أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتزين بأفضل الثياب، والتحلي بأجمل زينة والتطهر والتطيب عند الذهاب إلى المسجد يقول سبحانه: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]، ويتأكد هذا الندب والاستحباب في الصلوات التي يكون فيها اجتماع لأعداد كبيرة من المسلمين كصلاة الجمعة والعيدين، لما يحدث فيها من اجتماع للناس، فيحسن بالمسلم أن يلقى إخوانه برائحة طيبة زكية، فلا يرون منه إلا المظهر الحسن، ولا يشمون منه إلا أطيب الرائحة، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على تخصيص يوم العيد بالاغتسال والتزين، فروى الإمام مالك عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، "أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ، قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ"([8])، وروي عنه رضي الله عنه أنه: "كَانَ يَغْتَسِلُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، كَغُسْلِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ يَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ، إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى، فَإِذَا صَلَّى الإِمَامُ رَجَعَ"([9])، كما نصّ العلماء على أن الاغتسال يوم العيد فيه زيادة في العبادة على صلاة الجمعة؛ لأن الاغتسال يوم الجمعة مندوب لغيره وهو حضور صلاة الجمعة، أما غُسل العيدين فإنه مستحب لذاته لما فيه من التزين المستحب يوم العيد، فيسن الغسل للرجال والنساء والأطفال وكذلك أصحاب الأعذار ومن فاتته الصلاة، كل هؤلاء يُحسن ويُستحب لهم الغُسل، يقول الإمام الماوردي: "فَأَمَّا غُسْلُ الْعِيدِ فَسُنَّةٌ لِمَنْ أَرَادَ حُضُورَ الْعِيدِ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ أَنَّ غُسْلَ الْعِيدِ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَخْذِ الزِّينَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ مَنْ حَضَرَ الْعِيدَ، وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ كَاللِّبَاسِ، وَغُسْلُ الْجُمُعَةَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَطْعِ الرَّائِحَةِ، لأن لا يُؤْذِيَ بِهَا مَنْ جَاوَرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْضُرُ زال معناه"([10]).
ويدخُل وقت استحباب الغُسل بعد منتصف ليلة العيد، والأفضل أن يكون غُسله بعد صلاة الفجر، ولكن لو اغتسل قبل صلاة الفجر جاز له ذلك، وذلك تيسيراً على المسلمين، لأن صلاة العيد تكون في أول النهار، فلو لم يجز الغُسل قبل الفجر ضاق الوقت وتأخر عن التكبير إلى الصلاة.
وكذلك يُسن في يوم العيد للمسلم أن يلبس أحسن الثياب وأفضلها عند خرجه للصلاة احتفالاً وابتهاجاً بهذه المناسبة السعيدة، وإظهاراً لنعم الله سبحانه وتعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما على أحدكم إن وجد -أو ما على أحدكم إن وجدتم- أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبي مهنته)([11])، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد فيه ضعف "أنه كان يَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ "([12]).
وروى الحسن السبط رضي الله قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد وأن نضحي بأثمن ما نجد"([13]).
ثانياً: أكل تمرات في عيد الفطر قبل الخروج إلى الصلاة:
إن من مقاصد العيد هو الامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى، فيُنهي عبادة الصيام التي كانت واجبة عليه طاعة لله تعالى، بعبادة الإفطار التي أوجبها الله تعالى في هذا طاعة لله كذلك، وبذلك يتعلم الإنسان أنه مستسلم لأمر الله تعالى، فتتجلى فيه أسمى معاني الانقياد لله سبحانه، ويجسد بذلك قول الله تعالى: (قلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162-163]، فسبحان من أوجب علينا بالأمس الصيام، وسبحان من أوجب اليوم علينا الإفطار، سبحانه وتعالى يقدر الأمور ويضعها في نصابها، سبحانه وتعالى يقدر الليل والنهار.
فمن السنة المستحبة أن يبتدئ المسلم يومه قبل خروجه إلى صلاة العيد بتناول بضع تمرات، والسنة في تناولها أن تكون وتراً لما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ" وَقَالَ مُرَجَّأُ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا"([14]).
ثالثاً: الذهاب إلى المصلى ماشياً وأن يخالف الطريق فيذهب من طريق ويعود من طريق آخر:
من السنة أن يبكر المسلم إلى الصلاة ليأخذ موضعه، والمستحب أن يمشى ولا يركب؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة([15])، وذلك لما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى العِيدِ مَاشِيًا، وَأَنْ تَأْكُلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ"([16]).
قال الإمام الترمذي عقبه: "وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ: يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ إِلَى العِيدِ مَاشِيًا، وَأَنْ لَا يَرْكَبَ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ".
وروى ابن ماجه في السنن بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يخرج إلى العيد ماشياً، ويرجع ماشياً"([17]).
ومن السنن المستحبة للمسلم أن يخالف طريقه إلى مصلى العيد، فإن ذهب من طريق، فليرجع من طريق آخر، لما رواه جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ"([18])، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْعِيدَيْنِ، رَجَعَ في غير الطريق الذي خرج منه"([19]).
وقد ذكر الإمام زكريا الأنصاري وجوهاً من الحِكم المترتبة على مخالفة الطريق، منها أن أيام العيد هي أيام تهليل وتكبير لله تعالى، وبمخالفة طريق الذهاب لمُصلى العيد والرجوع منه استكثار من الدروب والطرق التي يُرفع فيها ذكر الله تعالى، وفي مخالفة الطريق كذلك يحصل مقصود العيد بملاقاة أكبر عدد من المسلمين وتحيتهم والسلام عليهم، والتواصل معهم في العيد، وفيه تفقد لأحوال المسلمين، فينتشر الفرح ويعمُّ السرور، وتظهر شعائر الإسلام، وفيه تغيير الطريق كذلك استبشار بتغير الأحوال من الذنوب إلى الطاعات ومن العسر إلى اليسر، والله تعالى أعلم([20]).
رابعاً: خروج المسلمين جميعاً إلى الصلاة من الرجال والنساء والأطفال:
كان الصحابة يخرجون كلهم إلى الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى النساء والأطفال، قالت أم عطية رضي الله عنها: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَهُنَّ في الْفِطْرِ وَالأَضْحَى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاَةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا لاَ يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ. قَالَ:(لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا) رواه البخاري ومسلم.
وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: "كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ العِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ البِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ وَطُهْرَتَهُ" رواه البخاري.
وآخر الحديث يشير إلى أن النساء كن يخرجن بلباس ساتر محتشم، أما مع التبرج فلا يجوز لهن الخروج، وما خروج النساء إلا للمشاركة في هذه الفرحة؛ لأنهن جزء من الأمة، ولتنالهن دعوة المسلمين.
خامساً: التبكير إلى مُصلى العيد والمواظبة على التكبير قبل صلاة العيد:
ثم إن الإسلام جعل التعبير عن الفرحة بالاجتماع الكبير لكل أهل بلد في بلدهم ثم يؤدون معاً الصلاة لله تعالى، وهم قبل الصلاة وبعدها يُكَبِّرون الله ويُوحِّدونه ويحمدونه على نعمه وتوفيقه، وما أجمل أصواتهم وهي ترتفع مرتلة: (الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. الله أكبر.. الله أكبر.. ولله الحمد) هذا هو النشيد الخالد الذي ينطلق معترفاً بأن الله أكبر من كل شيء؛ فهو القديم الخالد وما عداه محدث فان، وهو الإله الحق، وما عداه من آلهة مزعومة فانية.
ثم يعود المسلم ليكبر ويكبر ثم ينهي نشيده بالثناء على الله وشكره على الهداية، وهكذا يحلق المسلم فوق الدنيا وحطامها والحياة ونزهاتها والشكليات وسخافاتها فيقرر صوته المرتفع إلى السماء أن الله وحده هو الكبير وما عداه مخلوق عاجز.
ورفع الصوت بالتكبير في أيام العيد من الشعائر التي تميزت بها الأمة الإسلامية عن بقية الأمم السابقة، فالتكبير المطلق والمقيد في عيدي الفطر والأضحى -سواء كان فردياً أم جماعياً- هو سنة مستحبة، واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، وقد قال الله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة/185.
والمناسب لهذه الشعيرة أن تكون على وتيرة واحدة ومنتظمة من قِبل الناس؛ لأن التكبير الجماعي أقوى وأعلى صوتاً، وأوقع في النفس من أن يكبّر كل شخص وحده، وأحرى ألا يقع الاضطراب والتشويش بسبب اختلاف الأصوات وتعارضها إذا لم يكن بصوت واحد، ويؤيد ذلك ما يلي:
ما ثبت عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ) رواه البخاري.
قال الإمام البخاري رحمه الله: "كان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد، فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيراً. وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد".
جاء في "فتح الباري": قوله "ترتج" أي: تضطرب وتتحرك، وهي مبالغة في اجتماع رفع الأصوات".
فظاهر النصين يدلان على أن التكبير كان جماعياً بصوت واحد.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في "الأم": "إذا رأوا هلال شوال أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى في المسجد والأسواق والطرق والمنازل، ومسافرين ومقيمين، في كل حال، وأين كانوا، وأن يظهروا التكبير".
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله -بعد أن نقل العديد من الآثار عن الصحابة والتابعين في تكبير العيدين-: "وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال...وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده"([21]).
لقد طلب الإسلام منا أن نكبره في العيد أينما كنا: في الطريق والبيت والمسجد، فإن التكبير في هذا اليوم يكون فرحاً بإظهار شعار المسلمين، وتعظيماً لله ربّ العالمين الذي وفقنا لطاعته، وأحاطنا بعنايته وهدايته، ومما يُلتفت إلهي في هذا المقام ما قال مصطفى السباعي رحمه الله تعالى: "لو كبرت قلوب المسلمين كما تكبر ألسنتهم بالعيد، لغيروا وجه التاريخ، ولو اجتمعوا دائما كما يجتمعون لصلاة العيد، لهزموا جحافل الأعداء، ولو تصافحت نفوسهم كما تتصافح أيديهم؛ لقضوا على عوامل الفرقة، ولو تبسمت أرواحهم، كما تتبسم شفاههم؛ لكانوا مع أهل السماء، ولو ضحوا بأنانياتهم كما يضحون بأنعامهم؛ لكانت كل أيامهم أعيادا، ولو لبسوا أكمل الأخلاق كما يلبسون أفخر الثياب؛ لكانوا أجمل أمة على ظهر الأرض"([22]).
سادساً: عدم ترويع المصلين، وإدخال السرور إلى قلبهم:
فينبغي للمسلم حين يأتي المُسلم إلى مُصلى العيد وقد اجتمع فيه كبار السنّ والنساء والأطفال، أن يكون في اللطف والتهذيب، وأن يشعر الناس من حوله بالأمان، فيقبل عليهم بوجه بشوش، فيدخل بذلك السرور والطمأنينة في قلوبهم، لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن حمل السلاح في مُصلى العيد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ، فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا، لاَ يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا)([23]).
وروى البخاري عن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: "نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلاَحَ يَوْمَ عِيدٍ إِلَّا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا"([24]).
* كيفية صلاة العيد:
صلاة العيد ركعتان جهريتان، تصليان بلا أذان ولا إقامة، ويُسن أن تُصليا جماعة، يكبر الإمام في الركعة الأولى سبع تكبيرات زائدة على تكبيرة الإحرام ويكون التكبير في الأولى بعد دعاء الاستفتاح وقبل التعوذ، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات زائدة على تكبيرة القيام وتكون قبل التعّوذ للفاتحة، ويقوم بين كل تكبيرة والثانية بذكر الله تعالى وتسبيحه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويُسن أن يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى بسورة (الأعلى) أو سورة (ق)، وبعد الركعة الثانية بسورة (الغاشية) أو سورة (القمر)، ويُسن لصلاة العيد خطبة بعد أدائها، يذكر فيها الإمام بتقوى الله تعالى وصلة الأرحام، والتصدق على الفقراء.
أولاً: الأذان والإقامة لصلاة العيد:
صلاة العيد كغيرها من الصلوات المندوبة ليس لها أذان ولا إقامة خاصة، والسنة أن ينادى لها الصلاة جامعة لما روى عن جابر بن سمرة، قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين، غير مرة ولا مرتين، بغير أذان ولا إقامة"([25]).
ثانياً: التكبيرات في صلاة العيد:
السنة أن يكبر في صلاة العيد قبل القراءة تكبيرات زوائد، فيكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الافتتاح، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرة الرفع من السجود لما رواه الإمام أحمد بسند حسن عن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ فِي عِيدٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا"([26]).
ويستحب أن يقول بين كل تكبيرتين: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وأن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما ورد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه حين سُئل عمّا يقوله المصلي بين التكبيرات فقال: "تَبْدَأُ فَتُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً تَفْتَتِحُ بِهَا الصَّلَاةَ، وَتَحْمَدُ رَبَّكَ، وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَدْعُو"([27])، والحكمة من الزيادة في عدد التكبيرات، هو التذكير بتعظيم الله سبحانه وتعالى في هذا اليوم، وإفراده سبحانه وتعالى بالتعظيم، وذلك مخالفة لما درج عليه أهل الجاهلية من تعظيم الأصنام أو الظواهر الكونية في أعيادهم، فكان رفع الصوت بشعار المسلمين وتعظيم وتكبير الله تعالى وحده مطلوباً، في هذا اليوم يقول تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]، لذلك فإن من ترك هذه التكبيرات في الصلاة، فإن صلاته صحيحة، ولكن يفوته عظيم فضلها وشرفها.
ثالثاً: القراءة في صلاة العيد:
يُسن قراءة سورتي (الأعلى) و(الغاشية)، أو سورتي (ق) و(القمر) في ركعتي العيد؛ لما ورد عن النعمان بن بشير، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين، وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية"، قال: "وإذا اجتمع العيد والجمعة، في يوم واحد، يقرأ بهما أيضا في الصلاتين" صحيح مسلم، ولما ورد عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أنه سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى؟ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}([28]).
والحكمة من قراءة هاتين السورتين في اليوم العيد لما فيهما من تشابه أحوال الناس يوم القيامة بيوم العيد، فمن استثمر أوقات رمضان بالصيام، والإخلاص في العبادات والطاعات وقيام الليل وذكر الله عزّ وجل، نال الجائزة من الله تعالى، وأقبل على صلاته فرحاً مسروراً مُحسناً الظنّ بربه عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) متفق عليه، فهذه الفرحة الأولى في العيد تؤسس لفرحته الكبرى عند لقاء الله تعالى والإقبال عليه بالوصف الذي ذكره الله تعالى في سورة الغاشية بوجوه ناعمة لسعيها راضية، وعلى رأسه تاج الهداية وعلى عينيه علامة فكرة العبرة، وعلى أذنيه استماع الحق، وعلى لسانه الشهادة بالتوحيد، وفي قلبه المعرفة واليقين، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً، فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ، فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية: 8-15].
وأما من قصّر في شهر رمضان وأعرض عن ذكر الله تعالى، وفاته قطار الطاعات، فقد رَغِم أنفه وخسر وخاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ) سنن الترمذي، فهؤلاء يحضرون إلى صلاة العيد بوجوه خاشعة، خاضعة، وعلى رأسهم تاج الخسران والضلال، وعلى أذنيهم ختم الغفلة والحجاب، وعلى عينيهم السهو والشهوات، وعلى قلبهم ظلمة النكرة والجحود.
فحال الفئة التي ذكرها الله تعالى في سورة الغاشية بقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية: 1-7].
يقول الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى: "فينبغي لكل عاقل أن يترك النظر إلى الظاهر ولا يتقيد به، بل يكون نظره في يوم العيد نظر التفكير والاعتبار، فيشبه العيد بيوم القيامة، فليذكر نفخ الصور يوم القيامة عند سمع صوت بوق السلطان ليلة العيد، وإذا بات الناس ليلة العيد ورقدوا منتظرين عيدهم متأهبين له، فيذكر الرقود بين النفختين، وإذا رأى الناس صبيحة يوم العيد وقد خرجوا من قصورهم وبيوتهم مختلفي الأحوال متفاوتي اللباس والألوان كل له زي وحلية، واحد منهم مسرور وواحد مغموم، وواحد راكب وآخر ماش، وواحد غني، وآخر فقير، وواحد في فرحة وآخر في ترحة، فليذكر تفاوت أهل القيامة، أهل الطاعة مسرور وأهل المعصية مغموم، المتقي راكب والمجرم المشرك متعثر مكبوب على وجهه مسحوب أو ماش"([29]).
وكذلك فإن سورة الأعلى تحتوي على الحث على تزكية النفس، والمداومة على ذكر الله سبحانه وتعالى، وهو من أخصّ أعمال العيد، حيث ترتفع الأصوات بالتكبير والتهليل والتسبيح لله تعالى، يقول سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14-15].
والفلاح على وجهين:
أحدهما: الفوز والنجاة من النيران في العقبى، ومن الآفات والبلايا في الدنيا.
والثاني: اليمن والسعادة بالتوفيق للطاعة في الدنيا، والخلود في الجنان في الأخرى،
وقوله: (وذكر اسم ربه فصلى)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه وحد الله تعالى وصلى الصلوات الخمس، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: يعنى خرج إلى العيد فصلى([30]).
وكذلك فإن سورة الغاشية وسورة الأعلى تحتويان على تذكير الناس بتزكية النفوس وتأديبها، وأن ذلك هو المقصد الأساسي من العبادات، فقال الله تعالى في سورة الأعلى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) [الأعلى: 9-10]، وقال تعالى في سورة الغاشية: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) [الغاشية: 21]، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة العيد سورة (ق) وسورة (القمر)؛ وذلك لاشتمالهما على العبر والمواعظ بذكر الأمم الماضية وإهلاك المكذبين منهم، ولتذكير الحاضرين بالبعث والقيامة([31]).
رابعاً: خطبتي العيد:
يُسن لصلاة العيد خطبتين بعد أداء الصلاة لا قبلها كما في صلاة الجمعة، ويُسن للخطيب أن يزيد في التكبير في خطبتي العيد، فيستحب أن يكبر في افتتاح الأولى تسعاً، وفي الثانية سبعاً، ولعل ذلك مقصود منه لفت الانتباه إلى ما يقال في الخطبة، ومطلوب من الإمام في ذلك اليوم أن يستعرض أمور المسلمين المهمة، وتكون خطبته توعية للمستمعين إلى جانب الوعظ والتذكير بالله سبحانه وتعالى، لما ورد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاَةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ، وَيُوصِيهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ"([32]).
خامساً: الانصراف من الصلاة واستلام الجائزة:
وبعد الصلاة يحين وقت استلام الجائزة من الله سبحانه وتعالى جزاء ما قدموه من العبادات والطاعات في شهر رمضان المبارك، وهو زيادة فضل ومنّه منه سبحانه، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الطُّرُقِ، فَنَادَوْا: اغْدُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يَمُنُّ بِالْخَيْرِ، ثُمَّ يُثِيبُ عَلَيْهِ الْجَزِيلَ، لَقَدْ أُمِرْتُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَقُمْتُمْ، وَأُمِرْتُمْ بِصِيَامِ النَّهَارِ فَصُمْتُمْ، وَأَطَعْتُمْ رَبَّكُمْ، فَاقْبِضُوا جَوَائِزَكُمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، نَادَى مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ قَدْ غَفَرَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا رَاشِدِينَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَهُوَ يَوْمُ الْجَائِزَةِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ الْجَائِزَةِ" معجم الطبراني.
سادساً: حكم التهنئة بالعيد بعد انقضاء الصلاة:
من الأمور المستحبة أن يُهنئ المسلمون بعضهم البعض بعد انقضاء الصلاة، على ما أنعم الله تعالى عليهم من أداء عبادة الصيام العظيمة، وأداء عبادة العيد، وقد قال الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، وفي التهنئة تحقيق لمقصود العيد بإدخال الفرح والسرور على المسلمين وتفقد أحوالهم، ونشر البهجة والمحبة والأُلفة في المجتمع، وقد أورد الإمام البيهقي رحمه الله تعالى العديد من الروايات عن الصحابة والتابعين التهنئة بعد الصلاة بقولهم: "تقبل الله منا ومنك".
قال الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: "وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ عَقَدَ لِذَلِكَ بَابًا فَقَالَ: بَابُ مَا رُوِيَ فِي قَوْلِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي يَوْمِ الْعِيدِ "تَقَبَّلْ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك"، وَسَاقَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَخْبَارٍ وَآثَارٍ ضَعِيفَةٍ لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ وَيُحْتَجُّ لِعُمُومِ التَّهْنِئَةِ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ وَالتَّعْزِيَةِ، وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ وَمَضَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إلَيْهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَهَنَّأَهُ"([33]).
سابعاً: من فاتته صلاة العيد:
من فاته أداء صلاة العيد، فقد فاته خير عظيم، وضاعت عليه بهجةٌ عظيمة في أول ساعات العيد، حين يلتقي المسلمون ويرفعون أصواتهم بتكبيرات العيد التي تصدح بهجة وسروراً، ثم يهنؤون بعضهم بعد تمام الصلاة، ويُستحب لمن فاته حضور صلاة العيد بسبب عذرٍ كمرض ونحوه، أو بدون عذر، أن يصليها أداءً منفرداً في منزله أو مع أولاده وأهله بنفس هيأتها في الجماعة، وقبل خروج وقتها.
وأما من فاتته صلاة العيد حتى ذهب وقتها، فيُستحب له قضاؤها في أي وقت، يقول الإمام النووي: "في مذاهب العلماء إذا فاتت صلاة العيد، قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أنها يستحب قضاؤها أبدا"([34]).
وأما من جاء إلى المُصلى أو المسجد بعد انقضاء الصلاة وأثناء خطبة الإمام بعد الصلاة، ففيها حالتان:
الأولى: إن كانت الصلاة في مصليات العيد خارج المسجد، فالأولى للمتأخر عن الصلاة أن يجلس ويستمع للخطبة ثم يصلي صلاة العيد؛ لأن المصليات ليس لها صلاة تحية مسجد، كما يجوز أن تكون خطبة العيد قبل الصلاة وبعدها، ولكن السنة والأكمل أن تكون بعد الصلاة.
الثانية: إن كانت الصلاة في مسجد، وحضر متأخراً إلى المسجد والإمام يخطب بعد انتهاء صلاة العيد، فالأولى أن يصلي صلاة العيد بشرط أن يكون منفرداً، فلا تقام جماعة أخرى في المسجد أثناء خطبة الإمام([35]).
وأما من حضر إلى الصلاة ودخل فيها في الركعة الأولى وكان الإمام قد كبّر عددا من التكبيرات فإنه يتابع إمامه فيما تبقى من التكبيرات ويركع معه عند ركوعه، وأما إن حضر في الركعة الثانية، فإنه يكبر مع الإمام خمس تكبيرات، وتكون هذه هي الركعة الأولى بالنسبة له، ثم يقوم بعد سلام إمامه ويتم صلاته فيأتي بخمس تكبيرات كذلك، ويقرأ ما يُسن له قراءته في الثانية وإن كان تكراراً لما قرأه الإمام فيقرأ بسورة الغاشية أو القمر، ولا يُسن له الجهر فيها، حتى لا يشوش على الخطيب وعلى غيره من المصلين([36]). والحمد لله ربّ العالمين
([1]) ابن رجب الحنبلي، لطائف المعارف، ص276.
([2]) الماوردي، الحاوي الكبير، ج2، ص282.
([3]) الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي، ج1، ص222.
([4]) صحيح ابن حبان، رقم (1599).
([5]) صحيح البخاري، حديث رقم (956).
([6]) سنن ابن ماجه، رقم (1313).
([7]) الشيرازي، المهذب من فقه الإمام الشافعي، ج1، ص222.
([8]) موطأ الإمام مالك، باب الاغتسال يوم العيدين، حديث رقم (70).
([9]) شرح السنة للبغوي، ج4، ص302.
([10]) الماوردي، أبو الحسين علي بن محمد، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، ج1، ص373.
([11]) سنن أبي داود، حديث رقم (1078).
([12]) سنن البيهقي، حديث رقم (5984).
([13]) سنن أبي داود، حديث رقم (1078).
([14]) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، بَابُ الأَكْلِ يَوْمَ الفِطْرِ قَبْلَ الخُرُوجِ، حديث رقم (953).
([15]) المجموع للإمام النووي، ج5، ص10.
([16]) سنن الترمذي، باب في المشي يوم العيد، رقم (530).
([17]) سنن ابن ماجه، باب ما جاء في الخروج إلى العيد ماشياً، رقم (1294).
([18]) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، بَابُ الأَكْلِ يَوْمَ الفِطْرِ قَبْلَ الخُرُوجِ، حديث رقم (986).
([19]) صحيح ابن حبان، حديث رقم (2815).
([20]) انظر: أسنى المطالب في شرح روضة الطالب، ج1، ص283.
([21]) انظر: الفتوى رقم 2965، الصادرة عن دائرة الإفتاء العام الأردنية بتاريخ 27/7/2014م.
([22]) السباعي، مصطفى، هكذا علمتني الحياة، ط4، المكتب الإسلامي، ص119-120.
([23]) متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب المرور في المسجد، برقم (452)، وصحيح مسلم، باب أمر من مر بسلاح في مسجد أو سوق أو غيرهما من المواضع الجامعة للناس أن يمسك بنصالها، برقم (124).
([24]) صحيح البخاري، باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم، ج2، ص19.
([25]) صحيح مسلم، حديث رقم (887).
([26]) مسند الإمام أحمد، حديث رقم (6688).
([27]) سنن البيهقي الكبرى، رقم (6186).
([28]) صحيح ابن حبان، رقم (2820).
([29]) انظر: الإمام الجيلاني، عبد القادر بن موسى، الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل، تحقيق: صلاح بن محمد عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص35-40.
([30]) من مقال لسماحة المفتي العام السابق الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله تعالى.
([31]) تفسير الطبري، ج24، ص375.
([32]) صحيح البخاري، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، رقم (956).
([33]) أسنى المطالب في شرح روضة الطالب، ج1، ص283.
([34]) النووي، المجموع، ج5، ص29.
([35]) النووي، المجموع، ج5، ص22.
([36]) الإمام الجمل، سليمان بن عمر العجيلي، حاشية الجمل، ج1، ص584.