مقالات

واقعية التشريع الإسلامي

الكاتب : المفتي الدكتور حسان أبو عرقوب

أضيف بتاريخ : 06-03-2016

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي دائرة الإفتاء العام


 

واقعية التشريع الإسلامي ومظاهرها

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ومن سار على دربهم إلى يوم الدين، أما بعد:

فالمقصود بواقعية التشريع: "مراعاة الواقع القائم في التشريع، ومعالجة قضاياه". [مدخل لدراسة الشريعة والفقه ص110 للدكتور يوسف القرضاوي]

إن التشريع الإسلامي في كلِّ قسم من أقسامه، يتَّسم بالواقعيّة، فهو لا يُحَلّق في فضاء الخيال، ولا يغوص في أعماق المثاليّة، بل يسير مع طبيعة الإنسان الذي كلف بحمل الأمانة.

هذه الواقعيّة هي أحد أسباب قَبول الناس لهذا التشريع، وهي أحد ضمانات ديمومة الشريعة وصلاحيتها  لكل زمان ومكان.

ومِنْ مظاهر الواقعيّة في التشريع الإسلامي التّدرجُ في تشريع الأحكام، حيث نزل التشريع الإسلامي وعند العرب من العادات المتجذرة التي يأباها هذا التشريع، فلم يمنعها مرة واحدة، كي لا تنفر نفوسهم منه، بل سار بتحريمها على مراحل، فكان ذلك أدعى لقبول هذا التغير في العادات والسلوك، وأقرب للانقياد لحكم الشرع دون عنت أو مشقة". [المدخل للفقه الإسلامي  ص15 لمحمد سلام مدكور]

ومثال التدرج في التشريع، أنّ الخمر التي عشقها العرب وتَغنّوا بها حُرّمتْ على مراحل، حيث نزل بمكة قول الحقّ سبحانه: (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) النحل/67.

فكان المسلمون يشربونها وهي حلالٌ لهم، ثمّ نزل قول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) البقرة/219، فشربها قومٌ وتركها آخرون، ثم نزل قول الحقّ سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) النساء/43، فَقلَّ عددُ الشّاربين لها.

وأخيرًا نزل قول الله تعالى مُعلنًا التّحريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) المائدة/90-91.

فقال عمر بن الخطاب: "انتَهينا يا ربّ". [انظر هذه المراحل وتفصيلاتها في تفسير الإمام الرازي، الرازي: مفاتيح الغيب 6/395].

ومِنْ مظاهر الواقعيّة في التشريع الإسلامي رفعُ الحرج، لأنّ مِنْ أصول التشريع العمليّ دخولَ التكاليف تحت قدرة المكلف، هذا من حيث الابتداء، لكن قد ينجم عنْ ممارسة بعض التكاليف نوع مشقة وحرج يلحق بالمكلف، فيرفع المشرع الحرج عمّن لحق به، قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج/78.

يقول الإمام الشاطبي: "إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع". [الشاطبي الموافقات في أصول الشريعة 1/273].

ونلحظ أنّ التشريع الإسلامي جاء بالتخفيف ورفع الحرج على ستة أشكال. [السيوطي: الأشباه والنظائر 82]

أولاً: الإسقاط، ويتمّ مِنْ خلاله إسقاط العبادة عند وجود العذر، كسقوط الحجّ -أي عدم وجوبه- إذا لم يكن الطريق آمنًا. [ابن حجر الهيتمي: تحفة المحتاج في شرح المنهاج 4/ 21]

ثانيًا: الإنقاص، وذلك بإنقاص العبادة المفروضة، كجواز قصر الصلاة الرباعية للمسافر.[الشربيني: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع1/171].

ثالثًا: التقديم والتأخير، كتقديم العبادة المفروضة عن وقتها أو تأخيرها عنه لسبب، كجواز الجمع بين الظهر والعصر أو المغرب والعشاء، حال المطر الغزير جمع تقديم. [الشربيني: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنها1 / 533]. أو حال السفر جمع تقديم أو تأخير [الشربيني: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج 1/ 529].

رابعًا: الإبدال، كإجزاء التيمم بالتراب بدلا عن الوضوء والغسل بالماء عند فقده أو تعذر استعماله. [ابن حجر الهيتمي: تحفة المحتاج في شرح المنهاج 1/ 325].

خامسًا: التغيير، كتغيير هيئة الصلاة عند وجود العذر المقتضي لذلك، كالصلاة جالسًا لمن عجز عن القيام، أو مضجعًا لمن عجز عن الجلوس. [الشربيني: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1/ 154].

سادسًا: الترخيص، كإباحة أكل الميتة عند المخمصة. [الشربيني: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج 6/ 163].

ومن مظاهر الواقعيّة في التشريع الإسلامي، وضع القواعد العامة دون التفاصيل، وذلك في أغلب المعاملات، فنجدُ العمومَ والإطلاق في معظم النصوص المتعلقةِ بأحكام المعاملات، وذلك مراعاة لتغيّر مصالح العباد بين زمان وآخر، ومكان وآخر.

وإنما جاءت النصوصُ بالقواعد العامّة، وتركتْ التفصيل لساحات الاجتهاد؛ لعلاج أيِّ مُستجدٍ أو طارئ على المجتمع الإسلامي، ومثال ذلك: تحريم الربا، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل، وهكذا.

والحاصل أن الواقعية من سمات التشريع الإسلامي، وقد تجلت بثلاثة مظاهر رئيسة، التدرج، والتخفيف ورفع الحرج، ووضع القواعد العامة دون التفاصيل في معاملات الناس.

واتّصاف الشريعة الإسلامية بالواقعية في التشريعات وأحكام الحلال والحرام هو من نعم الله تعالى وعظيم فضله على الناس، حيث أرادت أن تسلك بهم أحسن المسالك، وتنهض بأمورهم على أقوم طريقة، فمن الحريّ بنا أن نحمد الله على يسر أحكامها وواقعيتها، وأن نلزم هذه الشريعة في حياتنا قولاً وعملاً.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

رقم المقال [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب




التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha