ما الفخر إلا لأهل العلم
المفتي الدكتور لؤي الصميعات
أعظم نعمة أنعمها الله تعالى علينا أن بعث فينا محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، يقول الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) آل عمران / 164. وهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم كان رجلاً أُميَّاً، يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ..) الأعراف / 157.
وأيضاً قوله تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الأعراف / 158.
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ) صحيح البخاري.
لذا كان أول ما أنزل عليه قول الله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) العلق / 1، فأول وسيلة للتعلم وأهمها القراءة ثم الكتابة بالقلم يقول الله تعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) القلم / 1.
وعن يزيد بن أبي حبيب، أن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: أوصاني أبي رحمه الله فقال: يا بني أوصيك أن تؤمن بالقدر خيره وشره، فإنك إن لم تؤمن أدخلك الله النار قال: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: الْقَدَرُ قَالَ: فَكَتَبَ مَا يَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ) مسند أحمد.
للعلم والعلماء مكانة عالية في الإسلام، حيث رفع الله تعالى من شأنهم وجعلهم في المقدمة في كل شيء، ومما يدلّ على فضل العلم والعلماء:
- أمر الله تعالى بطاعتهم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء / 59.
- أوجب الله تعالى الرجوع إليهم وسؤالهم عما أشكل، فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل / 43.
- عظم الله تعالى قدرهم بأن أشهدهم على أعظم مشهود وهو وحدانيته، فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) آل عمران / 18.
- نفى الله تعالى التسوية بينهم وبين غيرهم، فقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر / 9-10.
- بين أنهم هم أهل الفهم عن الله عز وجل، فقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) العنكبوت / 43.
- ذكر أنهم هم أهل الخشية منه سبحانه، فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فاطر / 28.
هذا بعض ما ورد في كتاب الله تعالى، وأما في السنة النبوية فقد بينت أن العلماء:
- هم أهل الخيرية في الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) سنن ابن ماجه.
- هم صمام الأمان لهذه الأمة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) صحيح البخاري.
- هم النجوم التي يهتدى بها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا مَثَلُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ مِثْلُ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ, إِذَا رَآهَا النَّاسُ اقْتَدُوا بِهَا, وَإِذَا عُمِّيَتْ عَلَيْهِمْ تَحَيَّرُوا) [المدخل للبيهقي]. والنجوم خلقها الله تعالى لحكم ذكرها في كتابه وهي:
أ- الاهتداء بها، يقول الله تعالى: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) النحل / 16.
ب- زينة للسماء، يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) الملك / 5.
ج- رجوماً للشياطين، يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) الملك / 5.
- هم ورثة الأنبياء، فعن قيس بن كثير، قال: قدم رجل من المدينة على أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو بدمشق فقال: ما أقدمك يا أخي؟ فقال: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما جئت لحاجة؟ قال: لا، قال: أما قدمت لتجارة؟ قال: لا، قال: ما جئت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الحِيتَانُ فِي المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ، كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) سنن الترمذي.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) سنن أبي داود.
لذلك جعل الإسلام طلب العلم إلزامياً على المسلم؛ لأن سعادته ونجاته في الدنيا والآخرة لا تكون إلا به، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) سنن ابن ماجه.
وأما سلفنا الصالح؛ فقد وردت عنهم الكثير من النصوص التي تبين فضل العلم والعلماء وتحث على طلب العلم، ومنها:
- يروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: "كن عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً، ولا تكن الخامسة فتهلك". قال: فقلت للحسن: من الخامسة؟ قال: "المبتدع". [الإبانة الكبرى لابن بطة 1 / 341].
- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "تعلموا العلم؛ فإن تعلمه لله تعالى خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلم صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار أهل الجنة، والأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والدين عند الأجلاء، يرفع الله تعالى به أقواما، ويجعلهم في الخير قادة وأئمة، تقتبس آثارهم، ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى الحيتان في البحر وهوامه، وسباع الطير وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظلم، يبلغ بالعلم منازل الأخيار، والدرجة العليا في الدنيا والآخرة. والتفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به توصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام، إمام العمال، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء" [حلية الأولياء 1 / 239].
- وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ، وَعِمَادُ هَذَا الدِّينِ الْفِقْهُ وَمَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ) [جامع بيان العلم وفضله 1 / 127].
- وعن عمران بن مسلم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه العلم، وتواضعوا لمن تعلموه العلم، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم" [شعب الإيمان 3 / 281].
في هذا الزمان يفتخر كثير من الأمم -من أهل الشرق والغرب- بالتقدم العلمي الذي أبهر العالم وأوصلهم إلى قمة الحضارة، وما هذا إلا بسبب اشتغالهم وانشغالهم بالعلم نظرياً وتطبيقياً، في حين -ومما يؤسف له- أننا مع توفر وسائل العلم وسهولة نواله إلا أن أمتنا ما تزال ترزح تحت وطأة الغزو الثقافي والجهل الذي هدم بيوتنا وكرامتنا بل حتى ديننا ،وما أصدق قول الشاعر:
العلم يبني بيوتاً لا عماد لها والجهل يهدم بيت العز والكرم
ينبغي على أمتنا أن تعود إلى سالف مجدها وتاريخها في طلب العلم النافع الذي يفيدها ويفيد الإنسانية جمعاء حيث كنا سادة الأمم لما كنا نتعلم ونعلم غيرنا، والعلماء في هذه الأمة هم سادة الناس فالناس موتى وأهل العلم أحياء ، وما أصدق قول الإمام علي رضي الله عنه حين قال:
"الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
وإن أتيت بجود في ذوي نسب فإن نسبتنا جود وعلياء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء".
[البقاعي نظم الدرر 6 / 127]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.