المنكر: معناه، وحكمه، ومراتب تغييره
الحمد الله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأودع فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه ليشكروه، حكم فعدل، وقضى فما ظلم، وأشهد ألا اله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى من سار على نهجه واستنّ بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ميزة لهذه الأمة عن غيرها من الأمم، قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران/110، وذلك حتى يبقى المجتمع الإسلامي مجتمعا نقياً طاهراً بعيداً كل البعد عن المنكرات.
إلا أن المجتمع المسلم إنما هو خليط من البشر، والبشر يخطئون ويقعون في المعاصي والمنكرات، ولذا وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم كلاً أمام مسؤوليته في محاربة هذا المنكر الغريب على جسم هذا المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم.
ولكن محاربة المنكر وتغييره يحتاج إلى فقه دقيق وفهم عميق حتى نجني ثماره الطيبة، وحتى لا يترتب على تغيير المنكر منكرٌ أكبر منه، فقد يسعى البعض لتغيير المنكر بيده دون حساب للعواقب، أخذاً بظاهر هذا الحديث.
وقد يتعدى البعض الآخر على حرمات وخصوصيات الأفراد، وقد يسمح البعض لنفسه برفع السلاح، والخروج على الحاكم المسلم، والاعتداء على الممتلكات العامة، وترويع الآمنين، بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الأمر الذي اختلط على كثير من الناس في هذه المرحلة الحرجة التي يمرّ بها عالمنا الإسلامي، مما يقتضي دراسة هذا الموضوع دراسة علمية دقيقة مستنيرة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال أهل العلم حتى نكون على بصيرة من أمرنا، وحتى يكون حكمنا على الأشخاص والمؤسسات وفق المنهاج الصحيح دون تشكيك أو تخوين، وعلى العلماء أنْ يحافظوا على رحم العلم الذي يجمعهم، وأن يتناصحوا فيما بينهم للوصول إلى الحق المنشود حتى تبرأ ذمتهم أمام الله عز وجل دون اتباع للهوى أو انتصار لحزب أو جماعة.
فما معنى المنكر؟ وما حكمه؟ وما هي شروط تغييره؟ وما هي مراتب التغيير ودرجاته؟
أولا: معنى المنكر
المنكر: ضد المعروف، وقد اختلف العلماء في تحديد معناه فمنهم من قصره على الكفر، ومنهم من جعله شاملاً لمحرمات الشرع، ومنهم من استعمله في كلّ ما نهى عنه الشرع "أحكام القرآن للجصاص" 2/222، ومنهم من جعله في كلّ ما عُرف بالعقل والشرع قبحُه "لباب التأويل في معاني التنزيل" 1/399.
ومنهم من جعله أعمّ من ذلك، فقال: المنكرُ هو ما تنكره النفوس السليمة وتتأذى به مما حرمه الشرع ونافره الطبع وتعاظم استكباره وقبح غاية القبح استظهاره في محل الملأ. "الموسوعة الفقهية" 17/ 251، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) رواه مسلم.
ثانياً: حكم تغيير المنكر
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تغيير المنكر فرض على الكفاية في الجملة، وذلك لقوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران/104، إلا أنَّ تغيير المنكر قد تعتريه الأحكام التكليفية، فقد يكون أحياناً فرض عين كما هو الحال في الأئمة والولاة ومن ينتدبهم وليّ الأمر عنه لقوله تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الحج/41، ويكون كذلك في حقّ من يكون في موضع لا يعلم بالمعروف والمنكر إلا هو، أو لا يمكن من إزالته غيره كالزوج والأب.
وكذا إنكار المنكر بالقلب هو فرض عين على كل مكلّف لقوله صلى الله عليه وسلم: (وهو أضعف الإيمان).
وقد يكون تغيير المنكر حراماً في الحالات التالية:
أولاً: في حقّ الجاهل بالمعروف والمنكر الذي لا يميز موضوع أحدهما من الآخر، فهذا يحرم في حقه؛ لأنه قد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
ثانياً: أن يؤدي إنكار المنكر إلى أعظم منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيؤدي نهيه عن ذلك إلى قتل النفس، فهذا يحرم في حقه "إحياء علوم الدين" 2/428.
وقد يكون تغيير المنكر مكروهاً إذا أدى إلى الوقوع في المكروه، وقد يكون مندوباً إذا ترك المندوب أو فعل المكروه.
وقد يكون حكم تغيير المنكر التوقف إذا تساوت المصلحة والمفسدة؛ لأنّ تحقيق المصلحة ودرء المفسدة أمر مطلوب في الأمر والنهي، فإذا اجتمعت المصالح والمفاسد؛ فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعل ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن/ 16.
وإن تعذر الدرء درئت المفسدة ولو فاتت المصلحة، قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) البقرة/219.
وهذا الفهم العميق لو أردنا أن نطبقه على الواقع فنوازن بين المصلحة المرجوة من خروج الناس بالمسيرات والمظاهرات وبين المفسدة التي قد تترتب على ذلك من حيث مظنة إراقة الدماء وترويع الآمنين والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة وتعطيل عجلة الحياة في المجتمع لتبين لنا حرمة مثل هذه المسيرات والمظاهرات إن غلب على الظنّ تحقق ذلك.
ثالثاً: شروط تغيير المنكر
اشترط العلماء في المنكر المطلوب تغييره عدة شروط أهمها:
الشرط الأول: أن يكون منكراً بمعنى أن يكون محذور الوقوع في الشرع "مختصر منهج القاصدين" ص116، قال الغزالي: "المنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه.... إذ لا يتصور وقوع المعصية ممن رفع عنه القلم" "إحياء علوم الدين" 2/414.
الشرط الثاني: أن يكون المنكر موجوداً في الحال بأن يكون الفاعل مستمراً على فعل المنكر، وفيه احتراز عمّن شرب الخمر مثلاً وفرغ من شربها، وعلى من علم بقرينة الحال أنه عازم على الشرب الليلة فلا حسبة عليه إلا بالوعظ، وإنْ أنكر عزمه عليه لم يجزْ وعظه؛ لأنَّ فيه إساءة ظن بالمسلم "مختصر منهاج القاصدين" ص117.
واستثنى العلماء من ذلك حالتين:
الأولى: الإصرار على فعل الحرام من غير إحداث توبة، فهذا يجب الإنكار عليه.
الثانية: الإنكار على أرباب المذاهب الفاسدة والبدع المخلة، قال الغزالي: "إن البدع كلها ينبغي أن تغلق أبوابها وتنكر على المبتدعين بردعهم وإن اعتقدوا أنها الحق" "إحياء علوم الدين" 2/417.
الشرط الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً، والحكمة من وراء ذلك أننا أمرنا أن نجري أحكام الناس على ظواهرها من غير استكشاف عن الأمور الباطنة "الجامع لأحكام القرآن" 16 /333، قال عمر رضي الله عنه: "إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس علينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أضمر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة".
ذلك أن المستتر بمنكره لا يزال عنده بقية من حياء، والحياء من الإيمان، والإنسان له خصوصية والبيوت لها حرماتها، ولذا فإن المنكر الذي ينبغي أن يغير هو المنكر المستعلن الظاهر للناس، أما تسور الجدران والتجسس على الغير فهذا منهي عنه، لذلك روي أن سيدنا عمر رضي الله عنه أحسّ أن أحدهم يقوم بفعل ما في بيته، فتسور عليه الجدران، ودخل وفاجأه فلما رآه قال له: ما هذا؟ فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين إن كنُت قد أخطأت خطأً فقد أخطأت ثلاثاً، قال: وما هي؟ قال يا أمير المؤمنين: الله تعالى يقول: (وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)، وأنت تسوّرت علينا الجدار، وقال: (لا تجسّسوا) وقد تجسّست علينا، وقال: (لا تدخلوا بيوتاً حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) وأنت ما استأنست وما سلمت، فابتسم سيدنا عمر.
الشرط الرابع: أن يكون المنكر معلوماً بغير اجتهاد، فكل ما هو محلٌ للاجتهاد فلا حسبة فيه. "إحياء علوم الدين" 2/416، ولذا فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله متروك التسمية "مختصر منهاج القاصدين" ص117.
ولذا قال صاحب الفواكه الدواني: "يشترط كي يتغير المنكر أن يكون المنكر مجمعاً على تحريمه، أو يكون مدرك عدم التحريم فيه ضعيفاً" "الفواكه الدواني" 2 /392.
وما أجمع عليه أهل العلم من دقائق الأفعال والأقوال مما لا يقف على العلم به سوى العلماء، مثل فروع العبادات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأحكام، فهذا لا خلاف في جواز تغيير المنكر فيه لأهل العلم دون عوامّ الناس، فلا مدخل لهم في ذلك "الموسوعة الفقهية الكويتية" 17/ 258، أي أنه والحالة هذه لا يجوز لعوام الناس تغيير المنكر، بل إنّ تغيير المنكر لا يكون هنا إلا لأهل العلم.
رابعاً: مراتب تغيير المنكر
مما لا شكّ فيه أنّ إنكار المنكر بالقلب هو أقل مراتب تغيير المنكر، وذلك بنصّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو "أضعف الإيمان"، ولهذا فإنَّ الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم مكلف، وقد ذكر العلماء مراتب تغيير المنكر، نوجزها فيما يلي:
المرتبة الأولى:
التنبيه والتذكير، فإنّ الجاهل قد يقدم على الشيء لا يظنه منكراً، فإذا عرف أقلع عنه فهذا يجب تعريفه باللطف، فالإنسان لا يولد عالماً، فقد لا يؤدي العبادات بأركانها وشروطها، فهذا ينبه بطريق التلطف والرفق والاستمالة "مختصر منهاج القاصدين" ص117، "الموسوعة الفقهية" 17/265.
المرتبة الثانية:
النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى، ويكون ذلك في حقّ من عرف أنه اقترف المنكر وهو عالم بحرمته، فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعظه وينصحه ويخوفه بالله تعالى، ويذكره بالأخبار الواردة بالوعيد، ويحكي له سيرة السلف، ويكون ذلك بشفقة ولطف من غير عنف أو غضب، وههنا آفة عظيمة ينبغي عليه أن يتوقاها، وهو أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يرى عند التعريف عزّ نفسه بالعلم، وذل غيره بالجهل، وهذا كمن يخلص غيره من النار بإحراق نفسه، فعليه أن يحذر من ذلك وينظر؛ فإن كانت الحسبة - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- شاقة عليه ثقيلة على نفسه وهو يودّ أن يُكفى بغيره فليحتسب، فإنّ باعثه هو الدين، وإنْ كان الأمر بالعكس فهو متبع هوى نفسه متوسل إلى إظهار جاهه بواسطة إنكاره، فليتق الله وليحتسب أولاً على نفسه" "مختصر منهاج القاصدين" ص118.
قيل لداود الطاني: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، قال: أخاف عليه السوط. قيل: هو يقوى على ذلك، قال: أخاف عليه السيف، قيل: هو يقوى على ذلك، قال: أخاف عليه الداء الدفين العجب، "المرجع السابق".
ولذا فليحذر أولئك الذين يتخذون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لتحقيق مآربهم الشخصية وأجنداتهم الخاصة طلباً للشهرة والجاه، وليعلموا أن حب الظهور يقصم الظهور، وعليه كما قال صاحب مختصر منهاج القاصدين أن يحتسب على نفسه أولاً وليتق الله عز وجل.
المرتبة الثالثة:
الزجر والتأنيب والإغلاظ بالقول والتقريع باللسان والشدة في التهديد والإنكار، وذلك بحق من لا ينفع فيه وعظ ولا ينجح في شأنه تحذير برفق، بل يظهر عليه مبادئ الإصرار على المنكر، والاستهزاء بالوعظ والنصح، ويكون ذلك بما لا يعد فحشاً في القول، ولا إسرافاً فيه، خالياً من الكذب، بل يقول له: يا فاسق يا جاهل ألا تخاف الله، قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام (أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الأنبياء/ 67 "مختصر منهاج القاصدين" ص118، "الموسوعة الفقهية الكويتية" 17/ 266.
المرتبة الرابعة:
التغيير باليد ككسر الملاهي، وإراقة الخمور، وإخراجه من الدار المغصوبة بها، وهنا ذكر أهل العلم ضابطين لذلك:
أولاهما: أنْ لا يباشر التغيير ما لم يعجز عن تكليف المنكر عليه ذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه الخروج عن الأرض المغصوبة مثلاً، فلا ينبغي أن يجره ولا يدفعه.
ثانيهما: أن يكسر الملاهي كسراً يبطل صلاحيتها، ولا يزيد على ذلك، ويتوقى في إراقة الخمور كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً، وإلا جاز كسرها إن تعذر ذلك، وهنا نبه صاحب مختصر منهاج القاصدين إلى مسألة مهمة، وهي: هل يجوز كسرها زجراً، وكذلك الجر بالرجل في الإخراج من الدار المغصوبة به زجراً، قال: إنما يجوز مثل ذلك للولاة، ولا يجوز لآحاد الرعية بخلفاء والاجتهاد فيه "مختصر منهاج القاصدين" 119.
المرتبة الخامسة:
إيقاع العقوبة بالنكال والضرب، وذلك فيمن تجاهر بالمنكر وتلبس بإظهاره، ولم يقدر على وقفه إلا بذلك "الموسوعة الفقهية" ص617، ويقتصر في ذلك على قدر الحاجة، فإذا اندفع المنكر فينبغي أن يكف عن ذلك، ولكن الأولى أن يسبق إيقاع العقوبة بالنكال والضرب والتهديد والتخويف بالقول كأن يقول: دع عنك هذا، وإلا فعلت بك كذا وكذا، شريطة أن لا يهدد بوعيد لا يجوز تحقيقه كقوله: لأنهبن دارك أو لأسبين زوجتك؛ لأنه إن قال ذلك عن عزم فهذا حرام، وإن قال عن غير عزم فهذا كذب "مختصر منهاج القاصدين" ص119.
المرتبة السادسة:
رفع الأمر إلى الحاكم والإمام لما له من عموم النظر ونفوذ الكلمة ما لم تدع الضرورة لترك النصرة به لما يخشى من فوات التغيير، فيجب قيام المحتسب بما تدعو إليه الحاجة في الحال "إحياء علوم الدين" ص420.
بقي أن نشير إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي كيف يتم تغيير المنكر إذا صدر عن الأئمة والولاة، لقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة الولاة وأولي الأمر في غير معصية وعلى تحريم طاعتهما في المعصية "شرح النووي على مسلم" 12 /220.
ويرى الإمام الغزالي رحمه الله أنّ تغيير المنكر بحقهم يقع ضمن رتبة التعريف والوعظ فقط، أما ما تجاوز ذلك فإنه يحُرك الفتنة ويهيج الشر، ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر "إحياء علوم الدين" 2 /343.
وأما تخشين القول له، نحو: يا ظالم، يا من لا تخاف الله، فإنْ كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرّها إلى الغير لم يجز، وإنْ لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء، يقول صاحب مختصر منهاج القاصدين: والذي أراه المنع من ذلك، لأنهم إذا استمعوا من أحد الرعية يا ظالم يا فاسق رأوا غاية الذل، ولم يصبروا على ذلك، وساق أمثلة كثيرة من سيرة سلفنا الصالح كيف غيروا المنكر في زمانهم، وكيف نصحوا ولاة أمورهم بالوعظ والتعريف "مختصر منهاج القاصدين" ص123.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من اجتمع فيه ثلاث خصال؛ عالم بما يأمر به، عالم بما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به عدل فيما ينهى عنه، رفيق بما يأمر به رفيق بما ينهى عنه.
ودخل رجل عن المأمون خليفة المسلمين، وقال له: يا رجل يا فاجر يا كذا وكذا، وكان المأمون رجلاً كيساً فطيناً حكيماً، فقال له: يا هذا إنّ الله بعث من هو خيرٌ منك إلى من هو شرّ مني، وأمره بالرفق، لقد بعث الله موسى وهارون وهما خير منك إلى فرعون وهو شر مني، وكانت وصية الله لهما: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه/43ـ44، فخجل الرجل.
فما أحوج الأمة إلى فهم دقيق لمبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوحد صفها، ويجمع كلمتها، ويلم شعثها، ويحفظها من عدم الدخول في المتاهات التي تنخر في جسم وحدتها وكلمتها، فتؤدي إلى سفك دماء أبنائها بغير حق، وتدمر منشآتها بغير حق ولصالح من؟! وصدق الله حين يقول: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال/ 46.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين