النية وأثرها في رخصتي القصر والجمع
المفتي الدكتور محمد بني طه
المقدمة
الحمد لله عدد ما طار في السماء وعرج، وعدد ما مشى على الأرض ودرج، الذي بيده مفاتيح الفرج، نحمده تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله من اختاره الله واصطفاه، الرحمة المهداة، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
أما بعد،
فقد ارتضى لنا ربنا من الدين الحنيفية السمحة فلم يكلفنا بما لا نطيق، قال تعالى: (وما جعل الله عليكم في الدين من حرج) الحج /78، لذلك جاءت الرخص الشرعية تطبيقا لمبدأ رفع الحرج وإظهارا لخصيصة يسر الشريعة و سماحتها.
والصلاة أهم التكاليف الشرعية العملية التي جاء بها الإسلام، وقد يعتري المكلف فيها أحوال تجعل أداء الصلاة أمرا شاقا فشرعت لها الرخص لدفع المشقة عن المكلف ومن هذه الرخص رخصة قصر الصلاة وجمعها، والتي تتأثر بنية المكلف، فجاء هذا البحث لبيان أثر النية في رخصتي قصر الصلاة وجمعها.
وقد قسمت هذا البحث إلى مبحثين وخاتمة:
المبحث الأول: التعريف بالنية وبرخصتي القصر والجمع، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالنية
المطلب الثاني: التعريف برخصة قصر الصلاة
المطلب الثالث: التعريف برخصة جمع الصلاة
المطلب الرابع: وجوه الاختلاف بين رخصتي القصر والجمع
المبحث الثاني: أثر النية في رخصتي القصر والجمع، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الآثار المشتركة للنية في رخصتي القصر والجمع
المطلب الثاني: آثار النية الخاصة برخصة القصر
المطلب الثالث: آثار النية الخاصة برخصة الجمع
خاتمة البحث
المبحث الأول
التعريف بالنية وبرخصتي القصر والجمع
لا يخفى عظيم أثر النية في الصلاة، حيث النية من أركان الصلاة وتغييرها قد يعود على الصلاة بالبطلان، ولبيان أثر النية في رخصتي قصر وجمع الصلاة، لا بد من التعريف بالنية وبرخصتي القصر والجمع.
المطلب الأول: التعريف بالنية
النية لغة[1]: مفرد يجوز فيها تخفيف الياء وتشديدها، وتجمع على نيات ونوايا، وهي القصد، وقيل هي: توجه النَفس نحو العمل مع إرادة ورغبة وتصميم على القيام به، بغية مرام، أو هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع ودفع ضر حالا ومآلا.
فهي مطلق القَصد إلَى الْفعلِ.
أما شرعا فقد تعددت تعريفات العلماء للنية[2]:
فقيل: هي الإِرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله وامتثالا لحكمه.
وعرفها السبكي بقوله: هي قصد الفعل مع زيادة كونه لله تعالى.
والنية من أقسام الإرادة فهي قسيمة للعزم والهم، وتمتاز عنهما بأنها تختص باقترانها بالفعل.[3]
وللنية أهمية عظيمة تتضح من خلال النصوص الشرعية التي أوجبتها، ومن هذه النصوص:
- قول الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)[4] قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم النية.
- الحديث المتفق على صحته بين البخاري ومسلم وباقي الأئمة الستة وأحمد (الجماعة) من رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
قال ابن دقيق العيد رحمه الله في شرحه: "هذا حديث صحيح متفق على صحته وعظيم موقعه وجلالته وكثرة فوائده، رواه الإمام أبو عبد الله البخاري في غير موضع من كتابه، ورواه أبو الحسين مسلم بن الحجاج في آخر كتاب الجهاد، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله: "يدخل في حديث الأعمال بالنيات ثلث العلم" قاله البيهقي، وغيره، وسبب ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وجوارحه والنية أحد الأقسام الثلاثة"[5].
وللنية فائدتان[6]:
الفائدة الأولى: تمييز العبادات عن العادات، مثل الغسل فإنه مردد بين ما يفعل قربة إلى الله كالغسل عن الأحداث و يفعل لأغراض العباد من التبرد والتنظيف، فلما تردد بين هذه المقاصد وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب عما يفعل لأغراض العباد.
الفائدة الثانية: تمييز رتب العبادات، مثل الصلاة تنقسم إلى فرض ونفل، والنفل ينقسم إلى راتب وغير راتب، والفرض ينقسم إلى منذور وغير منذور، وغير المنذور ينقسم إلى ظهر وعصر ومغرب وعشاء وصبح، وإلى قضاء وأداء، فيجب في النفل أن يميز الراتب عن غيره بالنية وكذلك تميز صلاة الاستسقاء عن صلاة العيد.
وكذلك في الفرض تميز الظهر عن العصر، والمنذورة عن المفروضة، وتمييز الصلاة التامة عن المقصورة.
وأشكل على بعض المؤلفين الذين تكلموا على النية عدم ذكر الفقهاء السابقين الإخلاص وترتب الثواب على الأعمال كفائدة من فوائد النية وأغراضها، وقد نقل الإمام السيوطي الجواب على هذا الإشكال بقوله: "الإخلاص أمر زائد على النية لا يحصل بدونها وقد تحصل بدونه، ونظر الفقهاء قاصر على النية، وأحكامهم إنما تجري عليها، وأما الإخلاص فأمره إلى الله"[7].
ويمكن إضافة فائدة ثالثة للنية لم أر من تعرض لها، وهي الإتيان بالعبادة على الوجه الصحيح حيث يكون التأثير على العبادة بشكل غير مباشر، وذلك عندما يكون المنوي أمر خارجي لكن له تعلق بالعبادة، مثل نية الإقامة، فمن كان مسافرا و نوى الإقامة ثم أتى بالصلاة مقصورة أو جمعها مع فريضة أخرى في وقت واحد فلا تصح منه ولا تقبل، إلا إذا أتى بالصلاة على الوجه المطلوب بأن يأتي بها تامة وفي وقتها، وذلك لأنه غير نية السفر إلى الإقامة.
أما أثر النية في الآخرة فهو حصول الثواب، واشتراط النية في العبادات يقتضى استحضار الذهن عند العزم على العبادة، والتجرد من شواغل الدنيا والإخلاص لله تعالى فيها، فلا يلزم نية العبادة في كل جزء، إنما يلزم في جملة ما يفعله في كل حال.
وقد يستصعب ويستشكل البعض استحضار النية، لكن الأمر بخلاف ذلك، كما نقل الزركشي عن الغزالي. رحمهما الله. قوله: "أمر النية سهل في العبادات، وإنما يتعسر بسبب الجهل بحقيقة النية أو الوسوسة، فحقيقة النية القصد إلى الفعل، وذلك مما يصير به الفعل اختياريا، كالهوي إلى السجود فإنه يكون تارة بقصده وتارة يكون بسقوط الإنسان على وجهه بصدمة، فهذا القصد يضاده الاضطرار"[8].
المطلب الثاني: التعريف برخصة قصر الصلاة
يقال: قصر من الشيء: إذا نقص منه، وكل شيء حبسته فقد قصرته. قال الجوهري: وأقصرت من الصلاة: لغة في "قَصَرْتُ".[9]
وقصر الصلاة: ردها من أربع إلى ركعتين، مأخوذ من قصر الشيء إذا نقصه، ويجوز أن يكون قصرها حبسها عن تمامها، مأخوذًا من قصر الشيء: إذا حبسه
وقيل: "نقص مسافر نصف الرباعية".[10]
والصلاة التي تقصر هي: الظهر والعصر والعشاء، أما الصبح والمغرب فلا قصر فيهما؛ لأن الالتزام بأحكام الصلاة أمر تعبدي.[11]
وقصر الصلاة شرع لدفع المشقة حيث السفر مظنة المشقة، وهي تجلب التيسير، حيث ثبتت مشروعية القصر بالكتاب والسنة والإجماع، ومن هذه الأدلة:
- قوله تعالى (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا( [12]
- قصة يعلى ابن أمية رضي الله عنه ومحاورته لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وقد فهم من الآية أن القصر خاص بحالة الخوف، حيث قال له: ما بالنا نقصر وقد أمنّا، وقد قال الله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا(، فقال عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته".[13]
- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صحبت النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك).[14]
وقد ذكر الفقهاء شروطا لقصر الصلاة اتفقوا على بعضها كالسفر وأن تكون الصلاة رباعية، واختلفوا في بعضها الآخر، كطول السفر، وجوازه، وعلم المقصد، وعدم الاقتداء بمقيم، وعدم المنافي لها، ودوام السفر، والعلم بالكيفية.[15]
المطلب الثالث: التعريف برخصة الجمع
جمع الصلاة: هو أن يجمع المصلي بين فريضتين في وقت إحداهما، جمع تقديم أو جمع تأخير.
والصلاة التي يجوز فيها الجمع هي: الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء.[16]
وقد وضع العلماء شروطا للجمع اتفقوا على بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، و يمكن تلخيصها بما يلي: [17]
- دوام السفر.
- تقديم الأولى.
- ونية الجمع قبل فراغ الأولى: إما في الإحرام، أو في أثنائها.
- وأن لا يفصل بينهما بفاصل كبير.
- إذا جمع تأخيرا لم يلزمه إلا أن ينوي قبل خروج وقت الأولى بقدر ما يسع فعلها أنه يؤخر ليجمع، فلو لم ينوه أثم وكانت قضاء.
وقد ثبت الجمع بالسنة النبوية بأحاديث منها:
عن معاذ بن جبل:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، فيصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، صلى الظهر والعصر جميعا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب، أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب، عجل العشاء فصلاها مع المغرب)[18]
ويجدر التنبيه إلى أنه لا تلازم بين رخصتي الجمع والقصر، فلمن تحققت فيه شروطهما أن يترخص بالقصر دون الجمع أو بالجمع دون القصر.
المطلب الرابع: وجوه الاختلاف بين رخصتي القصر والجمع
هناك وجوه خلاف بين رخصتي القصر والجمع يمكن إجمالها بما يأتي:
- قصر الصلاة رخصة ثابتة بالقرآن الكريم، بينما جمع الصلاة ثابتة بالسنة النبوية.
- قصر الصلاة رخصة خاصة بالسفر بينما جمع الصلاة رخصة تتعلق بالسفر والحضر.[19]
- الأفضل قصر الصلاة لموافقة من أوجبها على المسافر، بينما ترك الجمع أفضل لقول من منعه.[20]
- قصر الصلاة لا يتعلق إلا بالصلاة الرباعية بينما جمع الصلاة يتعلق بجميع الصلوات ما عدا صلاة الفجر.
- رخصة الجمع يلزم منها إخلاء وقت العبادة الأصلي عنها بخلاف رخصة القصر فلا يلزم منها ذلك.[21]
- الفقهاء الذين قالوا بجواز جمع الصلاة متفقون على أنه من قبيل الرخصة، بينما الفقهاء مختلفون في القصر هل هو رخصة أم عزيمة.
- حكم قصر الصلاة للمسافر دائر بين الوجوب كما هو مذهب الحنفية والندب عند الجمهور بخلاف جمع الصلاة فيدور بين التحريم كما هو مذهب الحنفية والإباحة عند الجمهور إلا الجمع في عرفات ومزدلفة فحكمه الندب عندهم .[22]
- وقت نية القصر يكون عند التحرم بالصلاة وإلا لزم الإتمام، بينما نية الجمع يكفي فيها مقارنة الصلاة بأن ينوي الجمع في أثنائها؛ والفرق أن نية القصر وصف للصلاة نفسها تغير الصلاة الواحدة، فلا بد من نية تزيل أصل الصلاة وهو الإتمام فاشترط مقارنتها في ابتدائها، ونية الجمع وصف للصلاتين معا فاكتفى بها في الأثناء.[23]
- القصر يختص بالسفر الطويل، أما الجمع ففيه خلاف فبعض العلماء يخصه بالطويل وبعضه يجيزونه بالطويل والقصير.[24]
- الحجاج من أهل عرفة ومنى ومزدلفة يجوز لهم الجمع بينما لا يجوز لهم القصر؛ لأن أهل كل محل يتمون به صلاتهم ولا يقصرونها.[25]
- إذا طرأت الإقامة أثناء الصلاة المقصورة زالت الرخصة فورا ولزمه الإتمام، بخلاف الجمع فلا تبطل ويستمر الجمع على وجه معتبر عند الشافعية.[26]
المبحث الثاني
أثر النية في رخصتي القصر والجمع
يمكن تقسيم آثار النية في رخصتي الجمع والقصر إلى ثلاثة أقسام، كل قسم منها يكون في مطلب، وهذه المطالب هي:
المطلب الأول: الآثار المشتركة للنية في رخصتي القصر والجمع:
هناك آثار مشتركة للنية توجد في كل من رخصتي القصر والجمع، يمكن إجمالها في أربع مسائل هي:
المسألة الأولى: نية الإقامة
جمهور الفقهاء[27] على أن الإقامة وحدها بدون نية أو علم بها[28] لا تؤثر مهما طالت، فلو أقام المسافر لكن بدون نية أو لم يكن يعلم أنه سيقيم أو نوى ثم رجع عن نيته قبل الإقامة، فإن جميع ذلك لا يؤثر في الترخص بالقصر والجمع، ويبقى له حكم المسافر يقصر ويجمع مهما طالت المدة، قال الترمذي: "أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون".[29]
لكن الشافعية قالوا هناك ثلاثة صور لتخلف النية عن الإقامة، وهما:
الصورة الأولى: أن تكون إقامته بدون نية، وحكم المسافر في هذه الصورة أنه يأخذ حكم المقيم بمكثه أربعة أيام ولو لم يكن ينوي الإقامة، فيمتنع عن الترخص بمكثه أربعة أيام فأكثر.
الصورة الثانية: أن تكون إقامته بدون نية، لكنه يعلم أن حاجته لا تتنجز له إلا بإقامة أربعة أيام، لم يجز له الترخص كما لو نوى الإقامة أربعة أيام.
الصورة الثالثة: أن تكون إقامته معلقة بحاجة يقضيها وغرض يحققه، هو يتوقع ذلك في أية لحظة، فيترخص لمدة ثمانية عشر يوما فقط وبعدها يتم.[30]
أما إذا وجدت نية الإقامة فإنها تؤثر في رخصتي القصر والجمع، وتأثيرها يكون باعتبارات مختلفة، يمكن إجمالها بخمسة اعتبارات هي:
الاعتبار الأول: مدة الإقامة:
وقد اختلف العلماء في المدة المؤثرة والتي تخرج المسافر عن حكم السفر وتمنعه من الترخص بالقصر والجمع، على خمسة أقوال هي:
القول لأول: المدة المؤثرة هي نية الإقامة تسعة عشر يوما، وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين. قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة، صلينا ركعتين، وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة.[31]
القول الثاني: المدة المؤثرة هي نية الإقامة عشرة أيام، وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: "من أقام عشرة أيام أتم الصلاة".[32]
القول الثالث: المدة المؤثرة هي نية الإقامة اثنا عشر يوما، وهذا قول الأوزاعي رحمه الله.[33]
القول الرابع: المدة المؤثرة هي نية الإقامة خمسة عشر يوما، وهو قول سفيان الثوري وفقهاء الحنفية، الذين يرون أن المسافر إذا نوى الإقامة مدة خمسة عشر يوما فأكثر انقطع ترخصه وعليه الإتمام.[34]
وقد وضعوا لذلك شرطين:
الأول: أن يكون ذلك المكان صالحا للإقامة.
الثاني: أن تكون الإقامة المنوية في مكان واحد.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولا: ما أثر عن ابن عباس وابن عمر، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (إذا كنت مسافرا، فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يوما، فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري متى تظعن فأقصر)[35]، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، قال البابرتي: "والأثر في مثله من المقدرات الشرعية كالخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن العقل لا يهتدي إلى ذلك، وحاشاهم عن انحراف فكان قولهم معتمدا على السماع ضرورة."[36]
ثانيا: إن السفر لا يخلو في الغالب عن المكث القليل فيتسامح به، بخلاف المكث الكثير، فالمكث مدة خمسة عشر يوما يعد كثيرا فاصلا قياسا على أقل مدة الطهر خمسة عشر يوما؛ لأن لها أثرا في إسقاط الصلاة وإيجابها.
ثالثا: قياس مدة الإقامة المؤثرة في السفر على مدة الطهر بجامع أن كلا المدتين موجبة لما سقط من الصلاة، فكما أن مدة الطهر موجبة للصلاة الساقطة بالحيض، فكذلك مدة الإقامة موجبة للصلاة الساقطة بالسفر.[37]
القول الخامس: المدة المؤثرة هي نية الإقامة أربعة أيام فأكثر ما عدا يومي الدخول والخروج، وبه قال من الصحابة عثمان بن عفان رضي الله عنه ومن التابعين سعيد بن المسيب وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، لكن المشهور عند الحنابلة هو تحديدها بالصلوات وهي نية الإقامة إحدى وعشرين صلاة.[38]
واشترط المالكية لنية الإقامة المؤثرة شرطين هما: [39]
- أن تكون نية الإقامة أربعة أيام بلياليها، وذلك بأن يدخل قبل الفجر ويرتحل بعد غروب الرابع، فإن أقام ثلاث ليال وأربعة أيام لم يتم، وإن أقام أربع ليال وثلاثة أيام لم يتم.
- أن لا يغير نيته قبل الإقامة، فلو نوى الإقامة ثم رجع عن نيته تلك وغيرها قبل الإقامة فإنه يستمر في ترخصه.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولا: قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)، فأباح القصر بشرط الضرب والعازم على إقامة أربعة غير ضارب في الأرض فاقتضى أن لا يستبيح القصر.
ثانيا: إن الأربعة مدة الإقامة وما دونها مدة السفر، لما روي إن السائب بن يزيد قال: سمعت العلاء بن الحضرمي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر)[40]، فدل هذا الحديث على أن إقامة ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، فاستثنى الثلاث وجعلها مدة السفر، فعلم أن ما زاد عليها مدة الإقامة.[41]
ثالثا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمنى ثلاثا يقصر، وقدم مكة فأقام قبل خروجه إلى عرفة ثلاثا يقصر، ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه؛ لأنه كان فيه سائرا، ولا يوم التروية الذي خرج فيه سائرا.[42]
ثالثا: إن عمر رضي الله عنه أجلى أهل الذمة عن الحجاز، وجعل لمن قدم منهم تاجرا مقام ثلاثة أيام، فدلت السنة والأثر على أن الثلاث حد السفر وما فوقها حد الإقامة.[43]
وقد أجاب أصحاب هذا القول على أدلة المخالفين بما يلي[44]:
- أجابوا على قولهم بأن تحديد المدة المؤثرة لا يكون إلا بتوقيف، من وجهين:
أحدهما: أن هذا حجة عليهم؛ لأن الخلاف في المسافر إلى كم يقصر وإجماعنا وإياهم منعقد على جوازه في الأربع والخلاف في الزيادة عليها فلم يجز القصر فيما زاد عليها إلا بتوقيف أو إجماع.
الجواب الثاني: التوقيف معنا في المسألة. وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا".
- أجابوا على قياسهم مدة الإقامة المؤثرة على مدة أقل الطهر بأنه قياس فاسد؛ لأن أقل مدة الطهر تكون أقل من خمسة عشر يوما إذا كان بين النفاس والحيض أما مدة الطهر فتكون خمسة عشر يوما إذا كان بين حيضين.
- أجابوا على رواية تحديد المدة بخمسة عشر من وجهين[45]:
الوجه الأول: قالوا إن رواية تحديد المدة بخمسة عشر يوما ضعيفة.
الوجه الثاني: إن الراوي نقل بعض المدة التي ترخص فيها صلى الله عليه وسلم ولم يذكر زيادة، وذكر البعض لا ينافي أكثر منه لاحتمال أنه لم يحفظ إلا تلك المدة وغيره حفظ الزائد.
ولعل القول بأن المدة المؤثرة هي نية الإقامة أربعة أيام فأكثر ما عدا يومي الدخول والخروج هو الأحوط الذي يطمئن إليه القلب.
الاعتبار الثاني: مكان الإقامة
اختلف العلماء في مكان الإقامة المنوية هل يشترط أن يكون بمواصفات معينة، أم لا، اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يشترط في المكان حتى تكون الإقامة المنوية مؤثرة فيه أية مواصفات، فنية الإقامة تؤثر في الترخص بغض النظر عن المكان وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة.[46]
القول الثاني: وهو قول الحنفية، حيث قالوا يشترط في المكان حتى تكون الإقامة المنوية مؤثرة فيه المواصفات التالية[47]:
أولا: اتحاد مكان الإقامة المنوية، سواء كان هذا الاتحاد للمكان حقيقيا، كنية الإقامة في قرية واحده، أم كان اعتباريا كنية الإقامة في قريتين لكنهما تابعتين لبعضهما البعض، ويستثنى من ذلك إذا عزم على أن يقيم في الليالي بأحد الموضعين، ويخرج في النهار إلى موضع آخر، فإذا دخل أولا الموضع الذي عزم الإقامة فيه بالنهار لا يصير مقيما، وإن دخل أولا الموضع الذي عزم فيه الإقامة بالليالي يصير مقيما، ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا؛ لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه.[48]
ثانيا: أن يكون المكان المنوي الإقامة فيه صالحا للمقام عادة، فلو خيم في الصحراء فإن هذا لا يسمى إقامة تقطع حكم السفر؛ لأن موضع الإقامة موضع القرار، والمفازة ليست موضع القرار في الأصل، فكانت النية لغوا ومثل المفازة البحر، واستثنى على الأصح في المذهب القوم الذين تكون طبيعة عيشهم التنقل في الصحراء والسكن في الخيام، كالبدو الرحل فهؤلاء كأهل الحضر إذا نووا الإقامة خمسة عشر يوما أتموا بشرط أن يكون عندهم من الماء والكلأ ما يكفيهم تلك المدة.[49]
ثالثا: أن يكون المكان المنوي الإقامة فيه دار إسلام؛ لأن دار الحرب ليست دار إقامة، وهذا خاص بالعسكر أما غير العسكر فنية الإقامة تؤثر سواء في دار الإسلام أم دار الحرب.
ووافقت المالكية الحنفية في هذا الشرط، كما الحقوا إقامة العسكر في دار الإسلام عند انعدام الأمن بدار الحرب، لكن شرط الحنفية ألا تكون إقامة العسكر داخل مصر من أمصار المسلمين وإلا أتموا.[50]
الاعتبار الثالث: وقت نية الإقامة
ذكر الفقهاء لوقت حصول نية الإقامة عند المسافر عدة صور، يمكن إجمالها في أربعة صور:
الصورة الأولى: أن تحصل نية الإقامة عند المسافر عند ابتداء السفر، بأن ينوي المسافر عند ابتداء سفره الإقامة في بلد معين، فإذا كانت المسافة بين مكان النية والمكان المنوي الإقامة فيه مسافة قصر فإنه يترخص حتى يصل ذلك المكان، وإلا انقطع ترخصه بمجرد نية الإقامة، وهو قول المالكية، قال الدردير: "يعني أن نية الإقامة معتبرة في قطع القصر، ولو حدثت بخلال السفر أي في أثنائه من غير أن تكون مقارنة لأوله ولا لآخره، ورد بهذه المبالغة على ما رجحه ابن يونس من أن نية إقامة المدة المذكورة لا تقطع حكم السفر إلا إذا كانت في انتهاء السفر أو في ابتدائه".[51]
الصورة الثانية: أن تحصل نية الإقامة عند المسافر عند انتهاء السفر، بأن ينوي الإقامة في البلد الذي وصل إليه فينقطع ترخصه إذا كانت مدة الإقامة مؤثرة كما سبق.
الصورة الثالثة: أن تحصل نية الإقامة عند المسافر خلال السفر، بأن ينوي الإقامة أثناء سفره، فإنه يترخص حتى يصل ذلك المكان الذي نوى الإقامة فيه دون اعتبار للمسافة بين مكان النية والمكان المنوي الإقامة فيه، وهو قول المالكية والشافعية، يقول الدسوقي رحمه الله: "أما إذا كانت في خلاله فلا تقطع حكم السفر فله القصر إذا خلل المسافة بإقامات وكلما سافر قصر ولو دون المسافة".[52]
الصورة الرابعة: أن تحصل نية الإقامة أثناء الصلاة، بأن أحرم بالصلاة بنية القصر ثم نوى الإقامة بعد ذلك، اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: إن المسافر إذا استفتح الصلاة بنية القصر ثم نوى المقام فإنه يلزمه إتمام الصلاة ولا يجوز له قصرها، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة؛ لأن القصر رخصة سببها السفر، فوجب إذا زال سببها وهو السفر أن تزول رخصة القصر، كالمريض يصلي قاعدا لعجزه ثم يلزمه القيام لزوال مرضه، واستثنى الحنفية من ذلك إذا كانت نية الإقامة بعد خروج الوقت وهو فيها؛ لتقرر الفرض ركعتين بخروج الوقت.[53]
القول الثاني: إن المسافر إذا استفتح الصلاة بنية القصر ثم نوى المقام فإنه يقطعها إن لم يتم ركعة، فإن كانت النية بعد ركعة فإنه يشفعها بركعة وتصير له نفلا، ويحرم بصلاة جديدة يتم فيها.[54]
الاعتبار الرابع: الشك في نية الإقامة:
اختلف الفقهاء فيمن شك هل نوى الإقامة أم لا، هل يقصر أم يتم، على قولين:
القول الأول: الشك لا يؤثر في الترخص بالقصر والجمع، ويبقى له حكم المسافر يقصر ويجمع مهما طالت المدة، وهو قول المالكية، يقول الخرشي: "احترز به عن الشك فيها فيستمر على قصره؛ لأن من خوطب بالقصر لا ينتقل للإتمام بأمر مشكوك فيه".[55]
القول الثاني: الشك في نية الإقامة يؤثر؛ لأن الأصل الإتمام، وهو قول الحنفية الشافعية والحنابلة، قال الرحيباني رحمه الله: "أو شك مسافر في نية مدة إقامة، أي: في كونه نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة، أو لا لزمه أن يتم؛ لأنه الأصل، فلا ينتقل عنه مع الشك في مبيح الرخصة".[56]
الاعتبار الخامس: استقلال نية الإقامة
اتفق الفقهاء على أن نية المسافر الذي لا يستقل بنفسه ـ كالزوجة والعبد والجند مع قائدهم. إذا اتفقت مع نية من يتبعه تكون مؤثرة.
لكن في حالة اختلاف نية المسافر الذي لا يستقل بنفسه مع من يتبعه، بأن نوى الإقامة، اختلفوا في ذلك على قولين، هما:
القول الأول: ويرى أصحابه أن المسافر الذي لا يستقل بنفسه إذا نوى الإقامة فإن نيته تكون مؤثرة وهو وجه عند الشافعية.[57]
القول الثاني: ويرى أصحابه أن المسافر الذي لا يستقل بنفسه إذا نوى الإقامة فإن نيته لا تكون مؤثرة، وهو قول الحنفية والأصح عند الشافعية، يقول ابن الهمام رحمه الله: " التبع كالعبد والغلام والجندي والمرأة إذا وفاها مهرها، والأجير والتلميذ والأسير والمكره تعتبر نية الإقامة والسفر من متبوع دونهم، فيصيرون مقيمين ومسافرين بنيتهم".[58]
المسألة الثانية: نية قطع مسافة في السفر
اشترط الفقهاء لجواز ترخص المسافر أن ينوي قطع مسافة مقدرة، واختلفوا في مقدار هذه المسافة على قولين:
القول الأول: على المسافر أن ينوي قطع مسافة مقدرة بمسير ثلاثة أيام، وإلا لم يجز له الترخص، وهو قول الحنفية،والمعتبر عندهم زمن قطع المسافة، قال السمرقندي رحمه الله: "إذا خرج قاصدا موضعا ليس بينه وبين ذلك الموضع مدة السفر لا يصير مسافرا وإن قطع مسافة بعيدة أكثر من مدة السفر لأن الإنسان قد يخرج لحاجة إلى موضع لإصلاح الضياع لا للسفر ثم تبدو له حاجة أخرى فيجاوزه إلى موضع آخر ليس بينهما مدة السفر فلا بد من قصد مدة السفر"[59]
القول الثاني: على المسافر أن ينوي قطع مسافة مقدرة بمسير يوم كامل، وإلا لم يجز له الترخص، وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، والمعتبر عندهم المسافة لا زمن قطعها وتقدر بثمانية وأربعين ميلا، قال ابن رشد: "والذي ذهب إليه مالك -رحمه الله- أن الصلاة لا تقصر في أقل من مسيرة اليوم التام".[60]
المسألة الثالثة: نية المعصية بالسفر
يقسم الفقهاء السفر إلى ثلاثة أقسام:
- سفر طاعة كالحج والجهاد.
- سفر مباح كالتجارة.
- سفر معصية كقطع الطريق.
واتفقوا على جواز الترخص في سفر الطاعة والسفر المباح، واختلفوا هل يترخص في سفر المعصية أم لا، على قولين:
القول الأول: لا يجوز للمسافر بنية المعصية أن يترخص، وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، واحتجوا على ذلك بما يلي:
- إن الرخصة نعمة فلا تنال بالمعصية، فيجعل السفر معدوما في حقها كالسكر يجعل معدوما في حق الرخص المتعلقة بزوال العقل؛ لكونه معصية.
- قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)[61] فإنه جعل رخصة أكل الميتة منوطة بالاضطرار حال كون المضطر غير باغ أي خارج على الإمام ولا عاد أي ظالم للمسلمين بقطع الطريق فيبقى في غير هذه الحالة على أصل الحرمة ويكون الحكم كذلك في سائر الرخص بالقياس أو بدلالة النص أو بالإجماع على عدم الفصل.
القول الثاني: يجوز للمسافر بنية المعصية أن يترخص، وهو قول الحنفية، كما جاء في درر الحكام: "(ويرخص له) أي للمسافر (ولو) كان (عاصيا فيه) أي في سفره كقطع الطريق وعقوق الوالدين".[62]
واحتجوا على ذلك بأن نصوص الرخص جاءت مطلقة دون تقييد؛ ولأن الرخص لها علل إذا وجدت وجدت الرخصة، فقصر الصلاة علته السفر فلا دخل للمعصية فيه.
وأجابوا على الاحتجاج بقوله تعالى: (غير باغ ولا عاد)، أي في الأكل؛ لأن الإثم وعدمه لا يتعلق بنفس الاضطرار بل بالأكل، فيكون معنى الآية أي غير متجاوز في الأكل قدر الحاجة، على أن عاد مكرر للتأكيد، أو غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ولا مجاوز قدر ما يسد الرمق، ويدفع الهلاك،أو غير متلذذ ولا متردد، أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه ولا مجاوز سد الجوعة.[63]
المسألة الرابعة: نية المرور بالوطن وما في حكمه
قال الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة): إذا نوى المسافر دخول وطنه أو المكان الذي تقيم فيه زوجته انقطع ترخصه بمجرد نيته إذا كان بين المكان الذي سافر منه والمكان المنوي دخوله أقل من مسافة القصر.[64]
وكذلك قالت الشافعية إلا أنهم زادوا أنه لا يجوز له الترخص في المكان الذي تغيرت فيه نيته أو حتى تردد فيه بين المضي والرجوع، بغض النظر عن المسافة التي تفصله عن وطنه.[65]
المطلب الثاني:: آثار النية الخاصة برخصة القصر
هناك آثار للنية تخص رخصة القصر، يمكن إجمالها في أربع مسائل:
المسألة الأولى: اشتراط نية القصر:
اختلف الفقهاء في اشتراط نية القصر على قولين:
القول الأول: ويرى أصحابه أنه لا يشترط أن ينوي المسافر قصر الصلاة لجواز ترخصه فنية السفر تكفي؛ وعللوا ذلك بأن فرض المسافر هو قصر الصلاة فهو عزيمة وليس رخصة فلا يحتاج لنية أصلا، وهذا هو قول الحنفية، قال الكاساني: "فقد قال أصحابنا: إن فرض المسافر من ذوات الأربع ركعتان لا غير".[66]
القول الثاني: ويرى أصحابه أنه يشترط أن ينوي المسافر قصر الصلاة لجواز ترخصه وهذا مذهب الجمهور، لكن المالكية اكتفوا باشتراط نية القصر في أول صلاة يصليها في السفر ومن ثم تنسحب هذه النية على باقي صلوات السفر ولو لم توجد عنده نية القصر فيها.[67]
قال الدسوقي رحمه الله: "ينبغي أن يكون محل التردد في أول صلاة صلاها في السفر فإن كان قد سبق له نية القصر فإنه يتفق على الصحة فيما بعد إذا قصر لأن نية القصر قد انسحبت عليه فهي موجودة حكما وكذا يقال فيما إذا نوى الإتمام في أول صلاة ثم ترك نية القصر والإتمام فيما بعدها وأتم".[68]
المسألة الثانية: التردد في نية القصر
قال فقهاء الشافعية إن التردد في نية القصر له صورتان:[69]
الصورة الأولى: أن يقع التردد بين القصر والإتمام أثناء الصلاة ولو لزمن يسير فإنه يلزمه الإتمام؛ لأنه مضى وقت من الصلاة دون نية القصر.
الصورة الثانية: أن يقع التردد في أصل نية القصر وصحتها، بأن شك هل نوى القصر أم لا؟، وهذه الصورة لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون زمن الشك قليل، وهذا الشك لا يؤثر في صحة الصلاة كالفعل اليسير.
الحالة الثانية: أن يمضي على زمن الشك ركن، وفي هذه الحالة يكون الشك مؤثرا وتبطل الصلاة حتى لو تذكر أنه نوى القصر؛ لأن الركن الذي قارنه التردد لا يعتد به فكأنه زاده على الصلاة.
الحالة الثالثة: أن يكون زمن الشك طويلا لكن لم يمض عليه ركن، ففي صحة الصلاة في هذه الحالة وجهان بالبطلان وعدمه.
المسألة الثالثة: اقتداء المسافر بمن يجهل نيته
إذا اقتدى المسافر بإمام يجهل نيته في الصلاة، يكون لهذه الحالة خمس صور[70]:
الصورة الأولى: أن يقتدي المسافر بمن يظنه مسافرا ثم يتبين له خلاف ذلك، وقد اختلف العلماء في حكم صلاة المسافر في هذه الصورة على قولين:
القول الأول: بطلان صلاة المسافر الذي اقتدى بمن ظنه مسافرا إذا تبين له غير ذلك وهذا مذهب المالكية؛ لأنه يكون خالف إمامه نية وفعلا إذا نوى مفارقة، حيث يكون نوى القصر وإمامه الإتمام ويجلس ينتظر وإمامه يتم، ويكون قد خالف إمامه نية إذا استمر مع الإمام فعليه إعادة الصلاة على جميع الأحوال.
القول الثاني: الصلاة صحيحة وعليه الإتمام؛ لأن الأصل الإتمام وهذا قول الحنابلة و وجه عند الشافعية، جاء نهاية المطلب: "ما لو نوى مسافر القصر خلف من حسبه مسافرا، ثم تبين أنه مقيم، فإنه يلزم المقتدي الإتمام، ولا تبطل صلاته"[71]
الصورة الثانية: وهي أن يقتدي المسافر بمن يظنه مسافرا ثم لا يتبين له شيء، وحكم الصلاة في هذه الصورة البطلان على القول الظاهر عند المالكية.
الصورة الثالثة: وهي أن يقتدي المسافر بمن يظنه مسافرا ثم يتبين له أنه كذلك، وحكم الصلاة الصحة.
الصورة الرابعة: أن يقتدي المسافر بمن يظنه مقيما وينوي المسافر الإتمام ثم يتبين له خلاف ذلك، فصلاته باطلة وعليه إعادتها.
الصورة الخامسة: أن يقتدي المسافر بمن يظنه مقيما وينوي المسافر الإتمام ثم لا يتبين له حال إمامه فكذلك صلاته باطلة وعليه إعادتها.
المسألة الرابعة: اقتداء المسافر بالمقيم:
اتفق الفقهاء على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم عليه أن يتم معه[72]، لكن بعضهم وضع شروطا لوجوب الإتمام على المسافر في هذه الحالة:
- الحنفية: اشترطوا أن تكون القدوة داخل وقت الصلاة ولا يضر خروج وقت الصلاة أثناء الاقتداء، أما إذا وقع الاقتداء خارج الوقت فلا يجوز له إلا القصر؛ لأن فرض المسافر القصر ولا يتغير هذا الفرض إلا بنية الإقامة أو الاقتداء بمقيم داخل الوقت،أما خارجه فيبقى فرض المسافر القصر ولا يتغير، قال السرخسي رحمه الله: "وأما اقتداء المسافر بالمقيم في الوقت يجوز ويتغير فرضه، هكذا روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وبعد فوات الوقت لا يصح اقتداؤه؛ لأن فرضه لا يتغير بالاقتداء، فإن المغير للفرض إما نية الإقامة أو الاقتداء بالمقيم، ثم الفرض بعد خروج الوقت لا يتغير بنية الإقامة فكذلك الاقتداء بالمقيم، وإذا لم يتغير فرضه كان هذا عقدا لا يفيد موجبه"[73] .
- المالكية: قالوا حالة إقتداء المسافر بالمقيم لها أربعة صور هي:[74]
الصورة الأولى: أن ينوي المسافر الإتمام ويقتدي بمن علم أنه مقيم، ففي هذه الصورة يلزمه الإتمام سواء أدرك معه ركعة فأكثر أم لم يدرك ذلك.
الصورة الثانية: أن ينوي المسافر الإتمام ويقتدي بمن لا يعلم حاله، ففي هذه الصورة صلاته باطله ويلزمه إعادة الصلاة كما سبق ذكرة.
الصورة الثالثة: أن لا ينوي المسافر الإتمام كأن ينوي القصر أو يطلق النية ويقتدي بمن علم أنه مقيم ويدرك معه ركعة فأكثر يلزمه هنا الإتمام لمتابعة الإمام، ويعيد الصلاة في الوقت على المعتمد.
الصورة الرابعة: أن لا ينوي المسافر الإتمام كأن ينوي القصر أو يطلق النية ويقتدي بمن علم أنه مقيم ولا يدرك معه ركعة فأكثر فله القصر.
جاء في الشرح الكبير "والحاصل أن المسافر إذا اقتدى بالمقيم فإن نوى الإتمام أتم صلاته مطلقا أدرك مع الإمام ركعة أو أكثر أو لم يدرك معه ركعة وأما إن نوى القصر فإن أدرك مع الإمام ركعة أو أكثر فإنه يتم صلاته وإن لم يدرك معه ركعة فإنه يقصر".[75]
المطلب الثالث: آثار النية الخاصة برخصة الجمع
هناك آثار للنية تخص رخصة الجمع، يمكن إجمالها في مسألتين:
المسألة الأولى: نية الجمع
أولا: نية جمع التأخير:
اشترط الشافعية والحنابلة لجواز الترخص بجمع التأخير وجود نية الجمع في وقت الصلاة الأولى؛ لأن تأخيره الصلاة الأولى عن وقتها بنية الجمع في وقت الثانية جعل وقت الثانية وقت لها، فإذا عدمت نية الجمع وقت الأولى كان عاصيا بتأخيره لها عن وقتها.[76]
ثانيا: نية جمع التقديم
أما جمع التقديم فاختلفوا في اشتراط نية الجمع فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يشترط وجود نية الجمع في الصلاة الأولى ولو مع السلام، وهذا قول الملكية والشافعية على الراجح عندهم ومذهب الحنابلة.[78]
ويجدر التنبيه على أنه لا يضر التردد في نية الجمع، بخلاف نية القصر التي يشترط وجودها عند التحرم بالصلاة؛ لأن نية القصر إذا تأخرت عن وقت التحرم بالصلاة فإن هذا الجزء من الصلاة الذي تأخرت عنه يكون قد مضى على الإتمام فيمتنع القصر.[79]
القول الثاني: لا يشترط وجود نية الجمع في الصلاة الأولى، فلو وجدت في الصلاة الثانية كفى على القول المرجوح عند المالكية.
القول الثالث: لا تشترط نية الجمع مطلقا، فيكتفي بقصر الفصل بين الصلاتين؛ لأن السفر يرفع نية جمع الصلاة، وهو قول المزني من الشافعية.[80]
المسألة الثانية: نية الإمامة
اتفق الفقهاء القائلون بجواز الجمع على استثناء جمع عرفة ومزدلفة وجمع السفر من اشتراط نية الإمامة فيهما؛ لأن نية الإمامة تشترط في كل صلاة يشترط لها الجماعة، فيقتصر اشتراط نية الإمامة على جمع الصلاة بعذر المطر وما في حكمه؛ لأن الجمع رخصة لدفع المشقة التي تلحق الجماعة، حيث جاء في مواهب الجليل: "جمع المغرب والعشاء ليلة المطر، وأما جمع عرفة أو جمع المسافر يجد به السير فيقدم أو جمع المريض يخاف أن يغلب على عقله فلا يشترط فيه ذلك؛ لأن هذه الصلوات تصح فيها الصلاة بدون جماعة انتهى".[81]
أما الصلاة التي تشترط فيها الجماعة فقد اختلف الفقهاء في اشتراط نية الإمامة لجوازه جمعها على أربعة أقوال:
القول الأول: يشترط نية الإمامة في كلا الصلاتين، وهذا هو القول المشهور عند المالكية الذين قالوا إذا ترك الأمام نية الإمامة في كلا الصلاتين المجموعة تبطل الصلاة فيهما وعلى القول المرجوح تبطل في الثانية فقط، سواء نواها في الثانية أو نواها في الأولى دون الثانية، ولا تكفي نية الجمع لوحدها دون نية الإمامة بل لو نوى الجمع في الأولى دون نية الإمامة بطلت.[82]
القول الثاني: تشترط نية الإمامة في جمع الصلاة إذا كان الإمام يريد الجمع وإلا فلا، قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله: "يؤخذ من اشتراط الجماعة أن الإمام المريد للجمع يجب عليه نية الإمامة"[83]
القول الثالث: يشترط نية الإمامة في الصلاة الثانية فقط، وهو قول خلاف المشهور عند المالكية، واستدلوا على اشتراطها في الثانية دون الأولى بأن الصلاة الثانية هي التي يظهر فيها أثر الجمع.[84]
القول الرابع: لا تشترط نية الإمامة مطلقا لجواز الجمع، وهو قول الحنابلة و قول عند الشافعية؛ لأن شرط جواز الجمع الجماعة دون ارتباط بحال الإمام والمأموم، و قياسا على عدم اشتراط تأذي الإمام بالمطر بجامع أن كلا من التأذي والجماعة شرط لصحة الجمع، فكما لا يشترط في الإمام التأذي فلا يشترط نية الإمامة منه، قال ابن قدامة رحمه الله: "فالذي يتم به الجمع الجماعة لا عين الإمام والمأموم ولم تختل الجماعة".[85]
خاتمة البحث
وفي ختام هذا البحث يمكن صياغة النتائج التالية:
- النية ذات أثر عظيم وخطر كبير، فهي تتعلق بأعمال المكلفين من جهتين:
أ- ذات العمل من حيث صحته وفساده؛ لأن النية ركن وشرط لصحة الأعمال التعبدية وإجزائها، وكلام البحث على النية من هذه الجهة.
ب- الأثر المترتب على العمل، من حيث القبول وعدمه.
2. قصر الصلاة وجمعها من الرخص الشرعية التي جاءت للتيسير على المكلفين ورفع الحرج عنهم، وللنية فيهما أثر كبير.
3. للنية آثار مشتركة في رخصتي القصر والجمع وآثار تخص رخصة القصر وآثار تخص رخصة الجمع.
4. التردد في النية والشك فيها وعدم استحضارها كله تفاوت تأثيره في رخصتي الجمع والقصر.
وفي ختام هذا البحث أسأل الله تعالى أن يتقبله وينفع به. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
[1] معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 2311)، الكليات (ص: 902)، المنثور في القواعد الفقهية (3/ 284)