حقيقة الإقرار في قول الكفار ﴿ليقولن الله﴾
دراسة قرآنية (*)
الدكتور جاد الله بسام صالح/ مفتٍ بدائرة الإفتاء العام
الملخّص
يتناول هذا البحث تفسير مجموعة من الآيات الكريمة التي تتضمن إقرار الكفار بالله تعالى حين يوجه إليهم السؤال حول خالقية الله تعالى، وتتمثل مشكلة البحث الرئيسة في استجلاء مدى ارتباط إقرار الكافرين بمعتقدهم الحقيقي، وبعبارة أخرى: التحقق من مدى اتّصاف الكافرين بحقيقة هذا الإقرار الذي حكته الآيات الكريمة عنهم.
ولمعالجة هذا الموضوع وضّح الباحث أنّ السؤال المذكور في الآيات إنما هو في مقام الاستدلال على وجود الله تعالى، أو الإرشاد إلى حقيقة الإيمان، أو التوبيخ للكافرين على كفرهم، أو الامتنان على عباده بما جعل لهم من النّعم العظيمة.
وباستقراء آراء المفسرين وجد الباحث أنّ كلامهم يدور حول مذهبين في تفسير جواب السؤال المسوقِ على ألسنة الكفار، الأول: تفسير الإقرار بأنه معرفة الكفار بالحقّ مع كفرهم به، والثاني: أنّ الكفار كاذبون في إقرارهم، وأنّ جوابهم مسوق على لسان الفطرة لا على ألسنتهم هم، وهذان المذهبان لا تناقض بينهما، وإنما يختلفان بالاعتبار فقط، على أنّ أكثر المفسّرين ذهب في تفسيره إلى المذهب الثاني، لأنّ الاستفهام بـ (من) يفيد أنّ الكفار يعرفون وجوب وجود خالق رازق مدبر للعالم، فليس جائزاً أن يكون السؤال عن معرفتهم المعروفة للسائل، وكذلك الفاصلة القرآنية تبين أنهم ما كان يجهلون ذلك، وإنّما وقع التعجّب من حالهم كيف يتناقضون ويكذبون.
وتوصل الباحث إلى أنه لم يقع من الكفار إيمان بالربوبية، لأنّ الإيمان ليس مجرد المعرفة، بل ينبغي أن يحصل معها التصديق الموجب للعبادة والانصراف عن الشرك والأنداد الناشئ عن اعتقاد أن الله هو رب العالمين، فما لم ينصرفوا عن الشرك فهم غير مؤمنين بالربوبية حقيقة، بل هم كاذبون في دعواهم.
الكلمات المفتاحية: إقرار الكفار. توحيد الربوبية. تفسير. ليقولن الله
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنّ تدبر كتاب الله تعالى هو أجلّ ما يقوم به الباحث الذي يبتغي الوقوف على أسرار كلام الله تعالى ومراده فيه، وكلّ وقت وجهد يصرف في سبيل ذلك فهو ذخر لصاحبه يوم القيامة يستوفيه، فالله أسأل أن يعينني على ذلك ويوفقني فيه.
موضوع البحث
اخترت أن أبحث في قضية من القضايا القرآنية الكريمة، أستعرض فيها معنى بعض الآيات الكريمة التي تفيد بظاهرها إقرار المشركين بالله تعالى رباً خالقاً ورازقاً ومدبراً لهذا الكون، مع أنهم موصوفون بالشرك والتكذيب بأبلغ العبارات والكلمات الدالة على ذلك.
والآيات المقصودة بالبحث من مثل قول الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61]، وما يقاربها في اللفظ والسياق مما سأذكره في مطالب هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وأتناول هذه الآيات الكريمة بقصد استجلاء مدى ارتباط إقرار الكافرين بمعتقدهم الحقيقي، ولذلك فإن الموضوع الرئيس هو التحقق من مدى اتّصاف الكافرين بحقيقة هذا الإقرار الذي حكته الآيات الكريمة عنهم.
مسوِّغاتُ البحث
تنبع دوافع البحث من الرغبة في معرفة السرّ الكامن وراء حكاية الآيات تصريح الكفار بالإقرار والاعتراف بالله تعالى، حيث يظهر من ذلك أنهم مؤمنون معترفون، مع أنّ القرآن صرّح بكفرهم في الآيات نفسها وفي مواضع كثيرة، بل ما كان السؤال المتوجه إليهم في الآيات المشار إليها إلا لكفرهم بالله العظيم، خصوصاً أنني وجدت بعض الآراء التي تقول بأن الكفار كانوا مؤمنين بالله تعالى إيمان ربوبية، أخذاً منهم بظاهر هذه الآيات.
مشكلة البحث وأهدافه
تتمثل مشكلة الدراسة الرئيسة في السؤال الآتي:
* ما المشكلات التفسيرية التي تدور حول الآيات مدار البحث؟
وأحاول من خلال هذا السؤال الرئيس الإجابة عن الأسئلة الفرعية الآتية في مباحث بحثي هذا ومطالبه:
* ما الآيات التي تدور حولها أسئلة البحث؟
* ما سياق ورود هذه الآيات؟
* ما فواصل الآيات الكريمة محلّ الدراسة، وما النسبة بينها، وما دلالة ذلك؟
* ما علة السؤال المفترض الموجه للكفار؟
* ما تفسير جواب الكفار على السؤال وما حقيقته، وما هي آراء المفسرين في ذلك؟
هذا، وإنّ البحث بصورة أساسية يهدف من خلال مشكلاته الرئيسة والفرعية إلى الإجابة عن السؤال الآتي:
* هل تصح دعوى أنّ الكفار مؤمنون بالربوبية أخذاً من ظاهر إقرارهم في الآيات الكريمة محلّ البحث في ضوء الأسئلة السابقة؟
وأسأل الله تعالى أن يوفقني فيما أبغيه، وأن يبلغني ما أرتجيه، وإني من كل ذنب وخطأ أستعفيه، والله هو الغفور الرحيم.
المبحث الأول
أسلوب الآيات في إيراد إقرار الكفار بالله تعالى
المطلب الأول: موارد الآيات الكريمة ذات النسق المشابه لموضوع البحث وسياقها
أولاً: الآيات المتشابهة في النسق
ورد في القرآن الكريم طائفة من الآيات الكريمة التي جاءت على نسق الآية محلّ البحث، وسأذكر هنا هذه الآيات ومواضعها بالتفصيل، وهي ستة موارد على نسق (ولئن سألتهم من... ليقولن الله):
المورد الأول: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: 61].
المورد الثاني: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: 63].
المورد الثالث: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان: 25].
المورد الرابع: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزمر: 38].
المورد الخامس: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف: 9].
المورد السادس: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: 87].
ويلاحظ أن أكثر هذه المواضع (أربعة مواضع) توجه فيها السؤال إلى الكفار عن خلق السماوات والأرض، وأنّ ثانيَ موضعي سورة العنكبوت وموضع سورة الزخرف وإن توجه السؤال فيهما إلى إنزال الماء وإحياء الأرض وخلق البشر، إلا أن هذه الأسئلة من جنس الأسئلة التي تناولتها المواضع الأخرى المذكورة.
ووجه ذلك: أنّ خلق السماوات والأرض وإنزال الماء وخلق الناس، كلها راجعة إلى السؤال عن ذلك المتصف بالقدرة والإرادة والعلم المحيط الذي لا يمكنه فعل هذه الأشياء بدون الاتصاف بتلك الصفات العليا التي هي صفات الإله الحق، كما أن هذه الأفعال كلها راجعة إلى التدبير والإنشاء، سواء كان في أصل خلق السماوات والأرض والبشر أو دوام إمدادهم بأسباب الوجود والبقاء من إنزال الماء وإحياء الأرض بعد موتها، فالسؤال دائر حول موضوع واحد تعددت جهاته ووجوهه.
وبملاحظة هذا التناسق؛ يمكن إدراج هذه المواضع الستة معاً، فإنّ القولَ فيها يكاد يكون متقارباً، لتقاربها اللفظيّ والمعنويّ، واتّحادها في كثير من الأمور التي سيستعرضها البحث بمعونة الله تعالى.
ثانياً: مقاصدُ السّور المكية التي وردت فيها الآيات
ذكر المصنّـفون في علوم القرآن الكريم أنّ القرآن المكيّ له ضوابط ومميزات بها يُعرف، وبها يتميّـز عن المدنيّ، ويستفاد من ذلك معرفة موضوعات السورة وسياق الآيات وما تعالجه من أمور، فهو ينعكس على العملية التفسيرية وصولاً إلى فهمٍ صحيحٍ ومستقيمٍ للقرآن الكريم.
وقد ذكر الشيخ أبو شهبة جملة من مميزات القرآن المكي، قال: "الدعوة إلى أصول الإيمان الاعتقادية من الإيمان بالله واليوم الآخر وما فيه من البعث والحشر والجزاء والإيمان بالرسالة وإقامة الأدلة العقلية والكونية والأنفسية على ذلك، وهذه الثلاثة وأدلتها هي التي يدور عليها غالباً الحديث في السور المكية، وذلك لأن القوم كانوا منغمسين في حمأة الشرك والوثنية... محاجة المشركين ومجادلتهم وإقامة الحجة عليهم في بطلان عبادتهم الأصنام، وبيان أنها بمعزل عن الألوهية واستحقاق العبادة، وأنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تخلق"([1]).
ولو نظرنا في السور المكية التي وردت فيها الآيات الكريمة التي هي محلّ البحث، فإنا نجد أنّ سورة العنكبوتِ؛ قد نزلت في أقسى الفترات، ولذلك تعرضت لتثبيت المؤمنين وتقويتهم، والحديث عن الدين والعقيدة والإيمان، فناسب أن تشتمل على منطق الكفار في مجادلتهم بالباطل في دين الله تعالى وألوهيته سبحانه وربوبيته، والإشارة إلى ضعف كلامهم وطريقتهم، جاء في مصاعد النظر للإمام البقاعي رحمه الله تعالى: "ومقصودها: الحث على الاجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى الله تعالى وحده، من غير تعريج على غيره سبحانه أصلاً، لئلا يكون مثل المعرِّج، مثل العنكبوت، فإن ذلك مثل كل من عرج عنه سبحانه، وتعوّض عوضاً منه، فهي سورة ضعف الكافرين، وقوة المؤمنين"([2]).
وأما سورة لقمان؛ فقد ذكر الطاهر ابن عاشور أنها نزلت لما سأل المشركون عن قصة لقمان وابنه، فجاءت لتبين مناحي الكمال النفسانيّ في وصايا لقمان لابنه، ومن أهمّها التحذير من الإشراك بالله تعالى، ومن أهمها تذكير المشركين بدلائل وحدانية الله تعالى ونعمه عليهم، كما بين ابن عاشور أن السورة اهتمت بذكر موقف المشركين من التوحيد، حيث قال: "وسلكت السورة أفانين ذات مناسبات لما تضمنته وصية لقمان لابنه، وأدمج في ذلك تذكير المشركين بدلائل وحدانية الله تعالى، وبنعمه عليهم، وكيف أعرضوا عن هديه، وتمسكوا بما ألفوا عليه آباءهم"([3]).
وأما سورة الزّمر؛ فقد تناولت أموراً اعتقادية إيمانية في مجملها، وهي مظاهر القدرة الإلهية الدالة على وجود الله وربوبيته الموجبة للعبادة، وأن الله تعالى مستحق للعبادة دون ما سواه، مع ذكر مشاهد من اليوم الآخر([4]).
وأمّا سورة الزخرف؛ فقد ذكر سيد طنطاوي في التفسير الوسيط أنها تحدثت في جزء منها عن "جهالات المشركين، وعن دعاواهم الكاذبة، وعن أقوالهم الفاسدة عند ما يدعون إلى الدخول في الدين الحق"([5])، ولذلك ناسب أن يُورد في هذه السورة موضعان من مواضع الآيات التي أبحث فيها.
وفي ختام هذا المطلب؛ يتبين أنّ السّور التي وردت فيها الآيات الكريمة التي أبحث فيها كلها من القرآن المكيّ، وأنّ مقاصدها تدور حول مجادلة الكفار في كفرهم وشركهم، وإثبات كذبهم في دعاواهم، وأن القرآن سعى في تثبيت الحقائق وإزالة الأباطيل بالأسئلة الناصعة الجلية، وأن السؤال الموجه للكافرين إنما كان موافقاً لغرض هذه السور المكية وأهدافها ومقاصدها.
وأما تكرار هذا السؤال في ستة مواضع من القرآن الكريم، فلا شكَّ أن له حكماً بالغة، ومع ذلك فإني لم أجد في كتب أسرار التكرار في القرآن والمتشابه اللفظي ما يشير إلى علة ذلك التكرار، على أن هذا النوع من التكرار ليس عبثاً ولا خالياً من الحكمة، فإن كلام الله تعالى منزه عن ذلك كل التنزيه، بل إنّ له حكماً تحتاج إلى التأمل.
وقد يكون من هذه الحكم التنبيه إلى الدلائل الظاهرة الموجبة للإيمان الصارفة عن الكفر، ومدى العناد والجحود الذي استقر في نفوس الكافرين، وتأنيس النبي ﷺ ومن تبعه من المؤمنين أن هؤلاء الكفار لا قبل لهم بمحاججة المؤمنين، وإظهار مدى قبح معتقد الكافرين وتهافت دعواهم وتناقض مسالكهم.
المطلب الثاني: الألفاظ المشتركة والفواصل القرآنية في الآيات
النظر في الآيات الكريمة يبين أن بعض الألفاظ في الآيات في المواضع الستة مشترك، وتلك الألفاظ هي البنية الأساسية في الآيات، وهي:
أولاً: خطاب السؤال
وهي قوله تعالى: ﴿ولئن سألتهم﴾، حيث جاءت هذه الصيغة في الموارد الستة، ومن البيّن أنّ هذه الصيغة تدلّ على سؤال مفترض لم يقع، وبناء على ذلك يكون الجواب الآتي وهي قولهم: ليقولنَّ الله، مفترضاً مثل السؤال، فالواقع أننا إن افترضنا وقوع السؤال فإنَّ جواب هؤلاء الكفار سيكون على هذه الصورة.
ثانياً: أداة الاستفهام
وقع الاستفهام في خطاب السؤال باسم الاستفهام: (من)، وللاستفهام بهذا الاسم أثر كبير في المعنى، حيث يبين ذلك أن من وجه إليهم السؤال يعرفون المسؤول عنه، وأنه حاضر في عقولهم، وإن كانت لا تصدق به قلوبهم، قال الإمام الرازيّ: "الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء، يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً والسماء بناءً، وذلك تحقيق قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان: 25، الزمر: 38]"([6]).
ثالثاً: صيغة الجواب
وهي قوله تعالى: ﴿ليقولنَّ الله﴾، حيث جاءت هذه الصيغة أيضاً في خمسة موارد، وفي واحد منها، جاء الجواب: ليقولنّ خلقهنّ العزيزُ العليمُ.
ويلاحظ أن هذا الجواب في المواضع الستة مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، بحيث يكون الجواب منهم بلا شكّ ولا مرية، وفيه مزيد من توكيد غلبة برهان الإيمان ووجود الله واستحقاقه العبادة الكاملة والخضوع التامّ.
وفي مقابل هذه المواضع المشتركة، نرى أن الآيات تعددت ألفاظها في مواضع أخرى، ويرجع مجملها إلى المسؤول عنه، وهي المظاهر التي وقع عليها السّؤال، من خلق السماوات والأرض، وتسخير الشمس والقمر، وتنزيل الماء من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وخلق المخاطبين، وذلك مفيد في تثبيت مضمون الجوابِ.
رابعاً: معنى الفاصلة القرآنية
وأمّا الفاصلةُ القرآنيةُ في الآيات الكريمة، فقد جاء في اثنتين منها بقول الله تعالى: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾، وفي آخرين منها بنفي العلم والعقل عن هؤلاء المخاطبين.
وقد لاحظت أن هذه الفاصلة القرآنية تكررت في مواضع متعددة من القرآن الكريم، وهذا ما يشير إلى نوع من التوافق بين الفواصلِ القرآنية والسياق الذي جاءت فيه الآيات، حيث جاءت الفاصلة القرآنية في أربعةِ مواضعَ في القرآن الكريم في مثل هذه الموضوعات: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾، وفي موضعين: ﴿فأنّى تسحرون﴾، وفي موضع: ﴿فأنّى تصرفون﴾، وكلّ هذه الفواصل في سياقات متشابهة نوعاً ما، أعني في سياق سؤال الكافرين عن الإله وصفاته، والاستدلال عليهم بقدرته على الإنشاء والإبداع والخلق والاختراع.
والإفك في اللُّغة هو الصّرف، قال ابن فارس: "(أفك) الهمزة والفاء والكاف أصل واحد، يدل على قلب الشيء وصرفه عن جهته. يقال: أفك الشيء. وأفك الرجل: إذا كذب. والإفك الكذب. وأفكت الرجل عن الشيء: إذا صرفته عنه. قال الله تعالى: ﴿قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا﴾"([7]).
ولذلك جاء في فاصلة هذه الآيات أيضاً قوله تعالى: ﴿فأنى تصرفون﴾، وأما قوله تعالى: ﴿فأنى تسحرون﴾، تعجيب من تناقضهم حيث يفعلون خلاف ما يقولون، وكأن حالهم في هذا التناقض حال المسحور الذي لا يدري ما يصدر عنه لوجوده في محل الغفلة البالغة، وقد بين القاسمي حالهم في هذا التناقض وما يوجبه من شكر الله تعالى، قال: "والمعنى: احمدِ الله عند جوابهم المذكور على إلزامهم وظهور نعم لا تحصى، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾: أي فلذلك يتناقضون حيث ينسبون النعمة إليه، ويعبدون غيره"([8]).
وهذا أيضاً ما ذكره المفسِّرون في تفسير هذه الآيات، قال الزمخشريّ في تفسير هذه الفاصلَـةِ القرآنية: "﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾، فكيف يصرفون عن توحيد الله وأنْ لا يشركوا به"([9])، وقال سيد طنطاوي: "وقوله سبحانه: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ تعجيب من تناقضهم في أفعالهم، ومن انحراف في تفكيرهم، ومن تركهم العمل بموجب ما تقتضيه أقوالهم"([10]).
وهذه الفواصل لها أكبر الأثر في توضيح المقصود بإقرار الكافرين، وأنه لا حقيقة له إلا أنهم مضطرون إلى الاعتراف الذي لا محيص عنه.
المبحث الثاني
صيغة السؤال والجواب في الآيات الكريمة وأثرها التفسيري
المطلب الأول: حقيقة السؤال المفترض في الآيات وتفسيره
لقد صرح القرآن الكريم بكفر هؤلاء المخاطبين في هذه الآية من كفار مكة ومن بعدهم ممن ينكر وجود الله تعالى، ومع ذلك ساق جوابهم بالإقرار بوجود الله، فكيف يستقيم ذلك؟ أي كيف يستقيم أن يعترفوا بوجود الله ويقروا به ومع ذلك يكونون كفاراً؟
ومن المهم أن يدرك المفسر واقع السؤال ووضعه قبل الشروع في النظر في تفسير الآيات الكريمة في مواضعها الستة.
أما واقع السؤال؛ فهو في مقام الاستدلال على وجود الله تعالى، أو الامتنان على عباده بما جعل لهم من النعم العظيمة والآلاء الجزيلة، أو الإرشاد إلى حقيقة الإيمان، حيث إنه في حكم الأمور القريبة من الضروريات، بحيث يكتفى فيه بالتنبيه والتذكير، وهذا ما ذكره الإمام الرازي رحمه الله تعالى، حيث قال: "... حكم البديهية في قوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله"([11]).
وأما وضع السؤال، فهو إنما على سبيل الفرض، فإنّ السؤال بنصّ الآية ليس ضرورياً أن يكون قد حصل، بل إنّ غاية ما يفيده النصّ الكريم أنّ السؤال مفترض بدليل حرف الشرط، فانظر الشرط في قوله تعالى: ولئن سألتهم، فيكون الجواب مشروطاً بوجود السؤال، فينبغي العلم أولاً بأن الكفار ما قالوا: الله، جواباً على السؤال المذكور، بل غاية ما هنالك أنهم إن سئلوا فإن جوابهم سيكون بالاعتراف والإقرار الذي لا يجدون عنه محيصاً.
وقد بين الإمام الرازيّ حقيقة سياق هذا السؤال، قال: "نقول لما بين الله الأمر للمشرك مخاطباً معه ولم ينتفع به وأعرض عنه وخاطب المؤمن بقوله: ﴿يا عبادي الذين آمنوا﴾ [العنكبوت: 56]، وأتمّ الكلام معه؛ ذكر معه ما يكون إرشاداً للمشرك بحيث يسمعه، وهذا طريق في غاية الحسن، فإنّ السيد إذا كان له عبدان، أو الوالد إذا كان له ولدان، وأحدهما رشيد والآخر مفسد، ينصح أولاً المفسد، فإن لم يسمع يقول معرضاً عنه ملتفتاً إلى الرشيد: إنّ هذا لا يستحق الخطاب، فاسمع أنت ولا تكن مثل هذا المفسد، فيتضمن هذا الكلام نصيحة المصلح وزجر المفسد، فإنّ قوله: هذا لا يستحق الخطاب، يوجب نكاية في قلبه، ثم إذا ذكر مع المصلح في أثناء الكلام والمفسد يسمعه: إنّ هذا أخاك العجب منه أنه يعلم قبح فعله ويعرف الفساد من الصلاح وسبيل الرشاد والفلاح ويشتغل بضده، يكون هذا الكلام أيضاً داعياً له إلى سبيل الرشاد مانعاً له من ذلك الفساد، فكذلك الله تعالى قال مع المؤمن: العجب منهم أنهم إن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله، ثم لا يؤمنون"([12]).
وقد بين المفسرون أيضاً ما ذكره الإمام الرازي من أن السؤال إنما هو للتبكيت والتوبيخ وليس لطلب الإقرار مثلاً، وقد جاء في القرآن الكريم أسئلة أخرى موجهة للكافرين على شاكلة هذا السؤال، فمنها ما ورد في سورة الأنعام، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ ([13])، ويقول الشيخ المراغي في تفسير هذا السؤال: "كما قال تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»، والمقصود من السؤال التبكيت والتوبيخ"([14]).
المطلب الثاني: آراء المفسرين في حقيقة الجواب المفترض في الآيات الكريمة
أمّا تفسير جواب الكفار على السؤال المفترض وحقيقته، فيمكن أن يُذهب فيه مذهبين بحسب آراء المفسرين في هذا المقام:
المذهب الأول: أن الجواب على حقيقته من الاعتراف والإقرار بالله تعالى مع خلوه من التصديق المعتبر عند الشارع.
والمذهب الثاني: أن الجواب إنما كان اضْطراراً لا إقراراً، مسوقٌ تعبيراً عن لسان فطرة الإنسان التي فطره الله تعالى عليها من الاعتراف بالله والإقرار به، وأنه مما يمكن أن يتوصل إليه بأدنى نظر.
وقد بين هذين المذهبين الإمام الشربيني، حيث قال: "والجملة أخرجت مخرج المقرّر عندهم، إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى: ﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله﴾ [الزخرف: 87] ﴿ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله﴾ [الزمر: 38]، أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر"([15]).
وهذا تفصيل للمذهبين:
المذهب الأول: تفسير الإقرار على حقيقته بأنه المعرفة بالصواب من غير تصديق
أن يعتبروا الإقرار صدقاً من الكفار، ولكن مع إنزاله منزلة العدم، حيث لم يقترن بالتصديق والإذعان والقبول والتسليم المعتبر في الإيمان المطلوب شرعاً من المكلفين.
وقد نصّ القرآن الكريم على هذا الفهم، قال الله تعالى: ﴿الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون﴾([16]).
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: "فالجواب من وجهين، أحدهما: ﴿وأنتم تعلمون﴾ يريد العلم الخاص بأنّ الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد. الثاني: أن يكون المعنى: وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، والله أعلم"([17]).
المذهب الثاني: اعتبارُ الإقرار كذباً من الكفار، وأنه مسوق على لسان الفطرة
وذهب فريق من المفسّرين إلى اعتبار الإقرار كذباً من الكفار ألجأتهم إليه ضرورة العقل والبديهة واستقامة الفطرة المركوزة في طباع البشر، بحيث لا يتمكنون من الجواب بغيره لتعذّر ذلك مع وضوح الدلائل والبراهين.
وهذا ما ذهب إليه أكثر المفسرين، وهذا سوقٌ لأقوالهم في ذلك:
قال ابن عطية: "ثمّ أقام عليهم الحجّة في أمر الأصنام بأنهم يقرون بأنَّ الله تعالى خالق المخلوقات ويدعون مع ذلك إلهاً غيره، والمعنى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على ظهور الحجة عليكم، وقوله تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ إضراب عن مقدر، تقديره: ليس دعواهم بحق"([18])، فالكفار على هذا لم يقدروا على إنكار خالقية الله وتدبيره للمخلوقات لظهور الحجة التي لا تدافع، فيثبت بذلك بطلان دعواهم الشرك مع إقرارهم الذي ظهر عليهم بقوة الحجة.
وقال البيضاوي: "﴿ليقولنّ الله﴾ لما تقرّر في العقول من وجوب انتهاءِ الممكنات إلى واحد واجب الوجود، ﴿فأنى يؤفكون﴾ يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك"([19])، وهذا تسجيل لعدم تمكن المشركين من إنكار كون الله خالقاً مدبراً للعالم.
ويقول السمين الحلبي معبراً عن هذا الاتجاه أيضاً: "وقوله تعالى: ﴿فطرت الله التي فطر الناس عليها﴾ [الروم: 30] إشارة منه إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته، ففطرة الله ما ركز من القوة المدركة لمعرفته، وهو المشار إليه بقوله تعالى: ﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله﴾ [الزخرف: 87] "([20]).
وقال النيسابوري: "قال رب السموات والأرضين عن الظلمة المعاندين: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان: 25]، ثم أخبر أنهم يعتذرون عن أصنامهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، إذ لم يكن جحدهم وعنادهم عن تحقيق وصدق، وإنما كانوا مكابرين في الظاهر ابتلاءً من الله وشقاء منهم، فالحاصل أن المؤمن والمشرك والمقر والجاحد سيان في أنه تشهد فطرته بوجود صانع للعالم واجب في ذاته وصفاته، ولا أدل من ذلك على أنه ضروري الوجود"([21])، ومعنى كلام النيسابوري أن الإنسان لو تخلى عن شهواته وجحوده وعناده وانقاد لمقنضى العقل والفطرة السليمة لصدق بالله تعالى، لكن العدول عن التصديق هو لاختلال الفطرة بأسباب التكذيب والجحود، ومما يجدر التنبه له أن ما ذكره النيسابوري ليس يريد به أن المشرك والجاحد مؤمنان، بل المراد أن فطرته تشهد بالإيمان، لكنه جحد وكذب وناقض فطرته.
وقال أبو السعود: "﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والارض لَيَقُولُنَّ الله﴾ لغايةِ وضوحِ الأمرِ، بحيث اضطروا إلى الاعترافِ به ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ﴾ على أنْ جعلَ دلائلَ التَّوحيدِ بحيثُ لا يكادُ ينكرها المكابرون أيضاً"([22])، فهذا أبو السعود أيضاً يرى أن إقرار الكفار إنما كان نتيجة غلبة الحجة لا إذعاناً من أنفسهم، فإقرارهم وإن كان مطابقاً للحقّ، لكنه ليس مطابقاً لواقع نفوسهم، بدليل أنهم يجحدون بالله مشركين مع سواه.
وعلى نفس المنوال، يقول البروسوي: "﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ﴾ أي: سألت العابدين والمعبودين من أوجدهم وأخرجهم من العدم إلى الوجود ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ لتعذر الإنكار لغاية ظهوره، لأن الإنسان خلق للمعرفة وطبع عليها، وبها أكرمه الله تعالى"([23]).
وقال ابن عجيبة: "يقول الحقّ جلّ جلاله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، فيضطرون إلى الإقرار بذلك"([24]).
المطلب الثالث: دعوى إيمان الكفار بالربوبية
اشتهر في بعض الكتب أنّ الكفار آمنوا بربوبية الله تعالى، وذلك استناداً لهذه الآية الكريمة، حيث جرى حملها على ظاهرها المحضْ من غير التفاتٍ لما يوجبه السياق ومقاصد القرآن والسور المكية ومجموع الآيات في مواردها الستة، فقيل:
إنّ المظاهر التي ذكرت في الآيات الكريمة إنما هي مظاهر الربوبية، وإن الكفار كانوا مقرين بها، فلذلك هم موحدون بالربوبية أي مصدقون أن الله تعالى مستحقّ للربوبية، وأما كونهم مشركين بالألوهية فلأنهم جعلوا العبادة لغير الله تعالى، لكن هذا الفهم ليس بسديد، وقد أجاب عليه المفسرون فيما نقلته من أقوال، حيث قال سيد طنطاوي: "فإن قيل: إنهم كانوا يعترفون بأن الله تعالى قد خلقهم، بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، فما فائدة قوله سبحانه: ﴿نَحْنُ خَلَقْناكُمْ﴾؟ فالجواب أنهم لما كان اعترافهم بمنزلة العدم، حيث أشركوا مع الله تعالى آلهة أخرى في العبادة، قيل لهم على سبيل الإلزام والتبكيت: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ"([25]).
واستدلّ القائلون بأنّ الكفار كانوا مؤمنين بالربوبية بقوله تعالى: ﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾([26])، والاستدلال بهذه الآية على هذه الصورة مبني على التصديق بدعوى الكفار في أنهم يعبدون الأصنام من دون الله ليقربوهم إلى الله، وهذا مبنى باطل، لأن الله بين عقيب قولهم ذلك أنهم كاذبون كافرون، حيث قال عز وجل: عقيب قولهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾([27]).
وكذلك؛ فإنَّ آيات كثيرةً في كتاب الله تعالى تبطل ما ذهبَ إليه هذا الفريقُ، حيث صرَّح القرآنُ الكريمُ بأنَّ قسماً من الكفار يشركون بالربوبية، وأنَّ القرآن نهاهم عن ذلك، ودعاهم إلى الإيمان بالله ربّاً، كقوله تعالى: ﴿لَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾([28])، وقوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾([29])، وقوله تعالى: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([30]).
وقد نبه كثير من العلماء الأجلاء إلى قضية مهمة تدلّ عليها نصوص القرآن الكريم، وهي أن الربوبية والألوهية لا ينفكان عن صاحبهما، فالمؤمن بالربوبية مؤمن بالألوهية، والكافر بأحد هاتين كافر بالأخرى([31])، ومن النصوص الدالة على ذلك قول الحق جل شأنه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾([32]).
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين حقّ حمده، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: لقد طوّفت في ثنايا قضايا هذا البحث واستقرأت جملة مما قيل فيه، وقد خلصت في ختامه إلى النتائج الآتية:
- مقاصد السور التي وردت فيها المواضع الستة متقاربة جداً، وكلها يتناول مجادلة الكفار في كفرهم وشركهم، وإثبات كذبهم في دعاواهم، وتثبيت الحقائق وإزالة الأباطيل بالأسئلة الناصعة.
- وقع الاشتراك في المواضع الستة في خطاب السؤال وأداة الاستفهام وجواب الاستفهام، وكل ذلك يبين أنّ الكافرين كاذبون في جوابهم غير مصدقين بمضمونه، وأنه سبق لهم الجحود والعناد مع سبق معرفتهم.
- الفاصلة القرآنية في مواضع الآيات الستة تؤكد أن الكافرين كاذبون، وتبين حقيقة المراد بإقراراهم.
- السؤال المذكور في الآيات إنما هو في مقام الاستدلال على وجود الله تعالى، أو الامتنان على عباده بما جعل لهم من النعم العظيمة، أو الإرشاد إلى حقيقة الإيمان، أو التوبيخ للكافرين على كفرهم.
- للمفسرين مذهبان في تفسير جواب السؤال المسوق على ألسنة الكفار، الأول: تفسير الإقرار بأنه معرفة الكفار بالحقّ مع كفرهم به وعدم إذعانهم له، والثاني: اعتبار الكفار كاذبين في إقرارهم وأن جوابهم على لسان الفطرة، وأن نفوسهم لا تطابق ما تصرح به ألسنتهم، وهذان المذهبان لا تناقض بينهما، إنما يختلفان بالاعتبار فقط.
- أكثر المفسّرين ذهب في تفسيره إلى المذهب الثاني، لأنّ الاستفهام بـ (من) يفيد أن الكفار يعرفون وجوب وجود خالق رازق مدبر للعالم، فليس جائزاً أن يكون السؤال عن معرفتهم المعروفة للسائل، وكذلك الفاصلة القرآنية تبين أنهم ما كان يجهلون ذلك، وإنما وقع التعجب من حالهم كيف يتناقضون ويكذبون.
- لم يقع من الكفار إيمان بالربوبية، لأنّ الإيمان ليس مجرد المعرفة، بل ينبغي أن يحصل معها التصديق والإذعان والقبول والرضا والتسليم الموجبة للعبادة والانصراف عن الشرك والأنداد، فالربوبية والألوهية متلازمان لا ينفكان، لأن الأولى هي الموجبة للثانية.
(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الرابع، 1442هـ/ 2021م.
الهوامش
([1]) أبو شهبة، محمد محمد، المدخل لدراسة القرآن الكريم، ط3، دار اللواء، الرياض، 1987م: ص228-229.