أثر السنة النبوية في بناء الشخصية الإسلامية- دراسة تأصيلية
الدكتور يحيى شطناوي/ كلية الشريعة- جامعة اليرموك
ملخص
هدفت الدراسة إلى إبراز أثر السنة النبوية وبيان دورها الفاعل في بناء شخصية الفرد المسلم، من خلال اختيار نماذج عملية من صحيح السنة – على سبيل التمثيل- تظهر العناية الفائقة بجميع جوانب الإنسان المختلفة المادية والعقلية والروحية، باعتباره اللبنة الأولى في كيان المجتمع.
وخلصت الدراسة إلى أن السنة النبوية زاخرة بالأسس والمبادئ والدعائم التربوية الحية المتجددة، والتي سبقت فيها الأبحاث المعاصرة والنظريات الوضعية، مما يجعل الرجوع إليها أولا مطلبا أساسيا، دون أن يعني ذلك عدم الاستفادة من كل ما هو نافع ومفيد وفق الضوابط الشرعية.
الكلمات الدالة: أثر، السنة، بناء، الشخصية.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن عناية الشريعة الغراء بالإنسان قديمة من بداية خلق الله تعالى لآدم عليه السلام، حيث خلقه سبحانه بيديه وأحسن خلقه وكرمه وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير من خلقه، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، فلا غرو أن تهتم الشريعة بهذا المخلوق بشكل عام من جميع جوانبه، وبالمسلم بشكل خاص. وبما أن موضوع الشخصية من الموضوعات الخصبة والحية عند الباحثين، التي لا يمكن استهلاك جوانبها أو سبر أغوارها بما يشفي الغليل، فقد أراد الباحث أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع الحيوي من خلال السنة النبوية المطهرة، حيث إن بناء الشخصية في الإسلام يقوم على مقاييس في غاية الدقة والإتقان، بخلاف مقاييس البشر التي تحتكم في معظمها إلى الأهواء والمصالح الضيقة كالطبقة الاجتماعية والجنس واللون والقومية والوطن، وغيرها.
وتزداد أهمية هذا الموضوع في عصرنا الحاضر الذي أصبحت فيه الشخصية الإسلامية تعاني اضطرابا في المفاهيم وتبدلا في الأفكار، واختلاط الأصيل بالزائف، والثابت بالمتغير، مما نتج عنه ضياع الهوية وفقدان الشخصية لتفردها وتميزها، الأمر الذي يحتم علينا التركيز على الثوابت أملا في عودة الشخصية الإسلامية إلى سالف عهدها.
وإن الفكر قاعدة السلوك ومرتكز الشخصية، والتخريب الفكري أخطر بكثير من التخريب السلوكي، فالأخير يمكن أن يتغير بوقفة أو لفتة أو تذكير أو عظة، بينما الفكر يحتاج إلى بناء أو إعادة إعمار إن حصل فيه الانهدام.
ويأمل الباحث أن يحقق البحث الأهداف الآتية:
- التأكيد على أهمية السنة النبوية ودورها الفاعل في بناء شخصية الفرد المسلم وصقلها.
- استخراج تلك الكنوز المخبوءة، والوقوف على بعضها، لمعرفة العوامل المؤثرة في بناء الشخصية.
- بيان ما سبقت به السنة المطهرة الأبحاث المعاصرة، والجوانب التي وافقت فيها أو خالفت، لنؤيد أو نعدل أو نرفض.
- لفت الانتباه لضرورة العناية بالإنسان.
خطة البحث
اقتضت طبيعة البحث تناوله في مقدمة وتمهيد وخمسة مطالب وخاتمة:
المقدمة: وفيها هدف الدراسة وأهميتها وخطة البحث
التمهيد: تعريف الشخصية وأهميتها
المطلب الأول: الحرية في طرح السؤال
المطلب الثاني: التفاؤل والإيجابية
المطلب الثالث: الاعتداد بالنفس وعدم التبعية
المطلب الرابع: الاعتدال في العبادة
المطلب الخامس: مراعاة الآداب مع الآخرين
الخاتمة: أهم النتائج والتوصيات
والله سبحانه وحده المسؤول بأن يسدد الخطى ويوفق المسعى، وهو ولي التوفيق.
التمهيد
كلمة الشخصية من المصطلحات الحديثة التي ظهرت في الغرب خلال القرن العشرين الميلادي، وعلى الرغم من حداثته إلا أن تعريفاته تعددت وتنوعت، بحيث كان عدد منظري الشخصية في سنة 1962 مائة واثنين وأربعين (142) منظرا، ولكل منظر تعريفه الخاص به[1].
وهذا الأمر يجعل وجود تعريف متفق عليه أمرا صعبا، غير أنه لا يمنع من النظر في المدلول اللغوي للكلمة، وذكر بعض التعريفات الاصطلاحية التي يرى الباحث أنها مناسبة.
ففي اللغة: قال ابن فارس:" الشين والخاء والصاد أصل واحد يدل على ارتفاع في شئ من ذلك الشخص، وهو سواد الإنسان إذا سما لك من بعد، ثم يحمل على ذلك، فيقال: شخص من بلد إلى بلد"[2].
وجاء في لسان العرب:" الشخص سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد، تقول: ثلاثة أشخص، وكل شئ رأيت جسمانه، فقد رأيت شخصه، والشخص: كل جسم له ارتفاع وظهور، والمراد به: إثبات الذات، فاستعير لها لفظ الشخص، والشخيص: العظيم الشخص، والأنثى شخيصه، وقيل شخيص: إذا كان ذا شخص وخلق عظيم بين الشخاصة، والشخوص: ضد الهبوط، وشخص السهم يشخص شخوصا فهو شاخص: علا الهدف..."[3].
وأما عند علماء النفس والتربية فيختار الباحث بعض التعريفات المتقاربة في المدلول.
الشخصية هي: "النظام المتكامل من مجموعة الخصائص الجسمية والوجدانية والنزوعية والادراكية التي تحدد ذاتية الفرد وتميزه عن غيره"[4].
وهي: "ذلك النظام الكامل من النزعات الثابتة نسبيا، الجسمية والنفسية التي تميز فردا معينا، والتي تقرر الأساليب المميزة لتكيفه مع بيئته المادية والاجتماعية"[5]. وهي:" مجموعة سمات الفرد كما تبدو في عاداته الفكرية، وتعبيراته واتجاهاته وأسلوبه في العمل وفلسفته في الحياة"[6].
وأما الشخصية الإسلامية فهي كل من يفكر على أساس الإسلام ويجعل هواه تبعا للإسلام ويطبق الإسلام على نفسه[7].
وهذا يجعل من الشخصية الإسلامية شخصية متفردة في التاريخ لأنها تسير وفق منهج رباني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقدوتها خير سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم الذي حدد لها تفاصيل طريق العمل ودلها على الحلال فاتبعته، وعلى الحرام فاجتنبته، وترك أمته على المحجة البيضاء[8].
ونظرا لأهمية الشخصية، فقد حفلت المكتبة المعاصرة بكتب كثيرة تسعى إلى تطوير الشخصية والارتقاء بها.
وبالرجوع لمصادرنا الإسلامية نجد اهتماما قل نظيره بشخصية الفرد المسلم باعتباره أداة التغيير في المجتمع واللبنة الرئيسة في بناء المجتمع وصلاحه.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الباحثين يفضل في الناحية الإسلامية استخدام لفظ (الذات الإنسانية) بدلا من لفظ الشخصية[9]، ولكن الباحث لا يرى ضيرا من استخدام لفظ الشخصية مادام المدلول واحدا، ولأن التعبير باللغة نفسها يجعل الدراسات تسير في مسار واحد[10].
والحقيقة أن الجوانب التي عُنيت السنة المطهرة بها كثيرة جدا، لكن الباحث آثر ذكر بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر، رأى أنها تسهم بشكل مباشر في بناء شخصية الفرد المسلم وتعلي من شأنه، وتجعله فاعلا في مجتمعه، لا يشعر بالدونية والانهزامية، ثم مراعاة لعدم التطويل الممل الذي يذهب بالقارئ عن المراد، ولذا روعي عدم الإسهاب في التعليق على الأحاديث النبوية ليكون الاستدلال مباشرا من خلال النص النبوي، ويرجو الباحث من العلي القدير التوفيق والسداد.
اهتمت السنة المطهرة بجوانب عديدة في بناء شخصية المسلم، ومن أبرز تلك الجوانب:
المطلب الأول
الحرية في طرح السؤال
اتبعت السنة المطهرة منهجا فريدا في الإفساح للأسئلة التي تتردد في الصدور كي تخرج إلى حيز الوجود، فقد كان الصحابة الكرام يشعرون بأسئلة حول بعض القضايا لكنهم يخشون البوح بها، مخافة أن تؤثر على إيمانهم، أو أن فيها جرأة غير معهودة.
ولكن المربي الفاضل صلى الله عليه وسلم لم يقمع هذه الأسئلة، ولم يكن صدره يضيق بأي سؤال ولم يمتنع عن الإجابة عن أي استفسار، كي لا تظل تلك الأسئلة حبيسة أو تبحث في الخفاء، فسمح لهم بالبوح بما تكنه صدورهم ثم أرشدهم إلى الجواب الصحيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه، قال: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان"[11]، وقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله"[12].
قال النووي:" أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله صلى الله عليه وسلم ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك" وقال:"وقيل معناه إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد"[13].
وتجد عند كثير من الشباب أسئلة تدور في أذهانهم، تتعلق بذات الله تعالى وصفاته، وحول حقيقة البعث والقضاء والقدر، أو أسئلة عن أمور جنسية، فيتحرجون من البوح بها، لأنهم يخشون التأنيب ممن تنتظر منهم الإجابة، فيلجئون إلى طرحها فيما بينهم، أو عند أناس غير مؤهلين للإجابة، لكون هؤلاء الأخيرين قد فتحوا صدورهم لأولئك، فوثق بهم الشباب في غيبة أصحاب العلم الثقات.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتهم من سأل في دينه وإنما دله على مصدر السؤال –وهو الشيطان- فأمر بالاستعاذة منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا حتى يقول له: من خلق ربك، فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته"[14].
وهكذا كان ديدنه صلى الله عليه وسلم في معالجة كل سؤال على حدة بحكمته وتوجيهه، دون أن يتهرب أو يتوارى، يجيب على ما يدور في نفوسهم حتى قبل أن يتكلموا به، ما دام لم يظهر على ذلك سمة المراء والجدل. وقد جاءه ضمام بن ثعلبة يوما قبل أن يسلم وقال له:" إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليّ في نفسك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل ما بدا لك..."[15] وبعد أن أجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن جميع أسئلته أسلم الرجل، ثم رجع يبلغ قومه.
وعن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله" فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني"[16].
وتكون السنة المطهرة بهذا قد وفرت البيئة المناسبة لنمو القدرات العقلية نموا سليما، إذ إن القدرات العقلية كالنبات تنمو وتزدهر في أجواء الحرية، وهي تموت أو تتشوه في أجواء الكبت الفكري والقهر الإرادي[17]. وفضلا عن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم السائل على سؤاله كان أحيانا يزيده في الجواب ليغطي كل جوانب الموضوع، فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله ما يلبس المحرم، فقال: لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس، ولا ثوبا مسه الورس أو الزعفران، فإن لم يجد فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين"[18].
قال ابن حجر:" وفي الحديث أيضا العدول عما لا ينحصر إلى ما ينحصر طلبا للإيجاز، لأن السائل سأل عما يلبس فأجيب بما لا يلبس، إذ الأصل الإباحة، ولو عدد له ما يلبس لطال به، بل كان لا يؤمن أن يتمسك بعض السامعين بمفهومه فيظن اختصاصه بالمحرم، وأيضا فالمقصود ما يحرم لبسه لا ما يحل له لبسه، لأنه لا يحب له لباس مخصوص بل عليه أن يجتنب شيئا مخصوصا"[19].
ولما سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هو الطهور ماؤه الحل ميتته"[20].
قال شارح سنن أبي داود:" إن المفتي إذا سئل عن شيء وعلم أن للسائل حاجة إلى ذكر ما يتصل بمسألته استحب تعليمه إياه، لأن الزيادة في الجواب بقوله: الحل ميتته، لتتميم الفائدة، وهي زيادة تنفع لأهل الصيد، وكأن السائل منهم، وهذا من محاسن الفتوى"[21].
وفي الأمور الجنسية وهي موضوعات حساسة وشائكة لا زالت تطرق على استحياء وخوف، والناس في هذه المسألة على ثلاثة اتجاهات، اتجاه يرى وجوب حجب القضية عن النقاش العام، واتجاه يرى ضرورة طرحها بحرية وبدون قيود، واتجاه يطرح القضية ويجيب عن التساؤلات ولكن بقيود وحسب الحاجة.
والتجربة الغربية أثبتت فشلها في فتح الباب على مصراعيه، وانتجت انحرافات سلوكية، كما أن التغييب التام أنتج مشكلات خطيرة استفحلت في الخفاء إلى كوارث معلنة، ولذا كان من الأهمية بمكان أن يعمل العقلاء إلى إيجاد معادلة للنظر إلى الموضوع بواقعية وصدق، حيث إن الأمر من السنن الكونية العامة التي إن لم يلجأ الشخص للتساؤل عنها علنا ومن أناس ثقات، فسيلجأ ولا شك للبحث عنها بالخفية عبر وسائل أخرى قد تحمل خطرا ومغالطات كبيرة.
وهنا لابد من التأكيد على ضرورة مد جسور الثقة بين الآباء والأبناء، والمعلمين والتلاميذ، لإفساح المجال لأسئلتهم، بشكل يتلاءم مع كل مرحلة عمرية، ومن دون التوسع الشديد الذي قد يشتت تركيزهم ويربكهم بسبب قصور نضجهم وادراكهم.
وقد سأل الصحابة الكرام -رجالا ونساء- عن أمور قد يظنها البعض معيبة، وأجابهم عنها المربي الكريم صلى الله عليه وسلم بكل رحابة صدر.
ومن ذلك ما روته أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء"[22]، وعن عبد الله بن عمر أنه قال: ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ واغسل ذكرك ثم نم"[23]، وعن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة، كيف تصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بماء ثم لتصلي فيه"[24].
فهذا يدل على جواز سؤال المرأة عما يستحيى من ذكره، والإفصاح بذكر ما يستقذر للضرورة[25]، ولا يخفى أن مثل هذه الأسئلة الخاصة لا تتعارض مع الأمر بالحياء، بل إن عدم السؤال الذي يفضي لترك أمر شرعي يعد ضعفا ومهانة، وهو ما قصده مجاهد بقوله: لا يتعلم العلم مستحي[26].
وبهذا يتبين أن إفساح المجال للفرد بالسؤال عما يجول في خاطره أمر يعزز شخصيته ويجعله واثقا بنفسه ويكسبه الشجاعة في الحق، بدل أن يتوارى ويطرح تلك الأسئلة في الخفاء، وكثيرا ما يأخذ الإجابة غير الصحيحة.
ولم يقتصر الأمر على الإجابة على التساؤلات، بل تعدى ذلك إلى الحث على التساؤل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطرح أسئلة على صحابته من باب توفير البيئة المناسبة لنمو القدرات العقلية نموا سليما، وتشجيعهم على ممارسة التفكير الحر[27].
ومن ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة"[28].
قال ابن حجر: وفي هذا الحديث من الفوائد: امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه، وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة"[29].
إن بداية الانطلاق لأي شخص تكمن في إفساح المجال له ليسأل عما يجول في خاطره في جو يشعره بالتقدير والاحترام.
المطلب الثاني
التفاؤل والإيجابية
تغرس السنة في شخصية الإنسان التفاؤل والإيجابية، وتنأى به عن السلبية والتقاعس والكسل، حتى على مستوى الكلمة التي يقولها الشخص في حق نفسه، فعنه صلى الله عليه وسلم قال:" لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي"[30]، ومعنى لقست غثت، وهو يرجع إلى معنى خبيث، ولكنه لم يستخدم اللفظة الصريحة بذلك[31].
وقال صلى الله عليه وسلم:" على كل مسلم صدقة، قالوا: يا نبي الله! فمن لم يجد؟ قال:" يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة"[32].
ومن الإيجابية أن لا ينزوي ويعتزل، بل يشارك الناس ويصلح بين المتنازعين، فينصر المظلوم ويردع الظالم، وينمي روح المشاركة الوجدانية في نفسه ولا يكبحها، ويشبع حاجته الطبيعية إلى الانتماء الاجتماعي، فإن المجتمع مثل الجسد الواحد، قال صلى الله عليه وسلم:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[33].
وفي هذا المجال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ فوق يديه[34]. ومعنى تأخذ فوق يديه: كنى به عن كفه عن الظلم بالفعل إن لم يكف بالقول، وعبر بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة[35].
ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم:" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وشبك بين أصابعه[36].
وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"[37].
وتبرز إيجابية المسلم في خدمته لإخوانه، فجعلت السنة أجر من يخدم الناس أثناء المسير للجهاد أعظم من أجر الصائم، فعن أنس رضي الله عنه قال:" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلا الذي من يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب، وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" ذهب المفطرون اليوم بالأجر"[38].
كما تبرز الإيجابية في الحث على زراعة الأرض بما يعود بالنفع على الإنسان والحيوان، وللزارع الأجر العظيم عند الله تعالى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"[39]. بل إن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان"[40].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شئ فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان"[41].
فهذه إيجابية لا استسلام فيها تجعل الطاقة متقدة، حتى لا تمتد العطالة إلى المستقبل، ويركن المرء للعجز والبكاء على الأطلال.
وفي مجال التفاؤل نهت السنة المطهرة عن التشاؤم والتطير[42] والاستقسام بالأزلام[43]، والذهاب للكهان والعرافين، ففي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل، قالوا وما الفأل؟ قال: كلمة طيبة"[44]. وقال صلى الله عليه وسلم:" من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"[45].
وبدلا من أن يتعلق الشخص بطائر لا يعقل ويعلق خروجه من بيته عليه، أو يذهب لعّراف لا يملك من أمره شيئا، أرشدت السنة المطهرة إلى الاستخارة الشرعية، فعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال في عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به، ويسمي حاجته"[46].
وأي عظمة وأي نعمة جاءت بها السنة المطهرة في إرشاد أتباعها بأن يستخيروا ربهم سبحانه وتعالى الحي القيوم، القادر على كل شيء وبيده مقاليد الأمور، فيطلبوا منه خير الأمرين، وفي هذا كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم[47].
وبلغت الإيجابية أوجها حين أرشدت السنة صاحب الرؤيا المزعجة في المنام بعدم الاستسلام لها لأن مصدرها الشيطان، فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره"[48].
إنه البناء الحقيقي للشخصية المسلمة، كي لا تبقي مستسلمة لأضغاث أحلام وهواجس تحول دون التفاعل الإيجابي في الحياة، وهو ما بدأنا نشاهده في أيامنا هذه من بعض ضعاف الشخصية الذين يهرعون لأصحاب الهوى الذين يزعمون أنهم يفسرون الأحلام، ثم يأخذون كلامهم دون نقاش.
ولكي يبقى المسلم متفائلا حررت السنة شخصيته من كل ضغط نفسي يمكن أن يؤثر عليه، مثل الخوف من انكسار النفس وازدراء النعمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه"[49]. زاد مسلم: فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله"[50].
ونقل ابن حجر عن بعض العلماء قوله: "في هذا الحديث دواء الداء لأن الشخص إذا نظر إلى من هو فوقه لم يأمن أن يؤثر ذلك فيه حسدا، ودواؤه أن ينظر إلى من هو أسفل منه ليكون ذلك داعيا إلى الشكر"[51].
وكذلك حررت السنة الشخص من الخوف من الموت فلا يتمناه ابتداء إلا في حالات خاصة، فعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنيا للموت فليقل: اللهم أحييني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي" [52]، وحررته من الخوف من انقطاع الرزق فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، اتقوا الله، وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم"[53].
إن مثل هذه الروح الإيجابية التي تغرس في شخصية الفرد المسلم من شأنها أن تدخل الطمأنينة والسعادة إلى نفسه، ثم تنتقل إلى المجتمع ليصبح هذا الفرد عنصرا فاعلا منتجا.
ولا ننسى في هذا المقام أن نشير إلى أن من الإيجابية التي حثت عليها السنة المطهرة التوكل مع اتخاذ الأسباب، فقد أرشدت الفرد المسلم إلى ذلك نظريا وعمليا، وحذرت من التواكل والكسل، فعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال"[54].
واتخاذ الأسباب لا ينافي التوكل، بل من التوكل أن يأخذ الإنسان بالأسباب، فعن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها"[55]. وقد طبق الخليفة عمر رضي الله عنه ذلك عمليا حين خرج إلى الشام فسمع أن الوباء قد حل بها، فرجع ولم يدخل، ولما قيل له: أفرارا من قدر الله، قال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله"[56].
وقد ثبت في العلاج النفسي أن التفاؤل والابتسام والتصدي لمشكلات الحياة بروح الاسترضاء والإيمان بما هو مقدر، من أنجع الأساليب للتغلب على كل ما يكدر على الإنسان صفو معيشته[57]. وبذلك أسهمت السنة في رفد المجتمع بأفراد عاملين منتجين بعيدين كل البعد عن الأنانية، فكانوا مصدر خير وعنصر إنتاج وإفادة للبشر وغيرهم من الكائنات الحية.
المطلب الثالث
الاعتداد بالنفس وعدم التبعية
حثت السنة المطهرة الفرد المسلم على الاعتداد بنفسه، وعدم الركون للذلة والمسكنة، قال صلى الله عليه وسلم:" لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"[58].
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال:" يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى"[59].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر أموره بنفسه على الرغم من وجود من يكفيه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:" اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما نسيئة، ورهنه درعه[60].
قال ابن حجر:" وفي هذه الأحاديث مباشرة الكبير والشريف شراء الحوائج وإن كان له من يكفيه إذا فعل ذلك على سبيل التواضع، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشك أحد أنه كان له من يكفيه ما يريد من ذلك، ولكنه كان يفعله تعليما وتشريعا"[61].
وقد طبق الصحابة ذلك عمليا فكان يسقط سوط أحدهم وهو راكب على راحلته ولا يطلب من أحد أن يناوله إياه[62]. "إن الفرد المسلم هو الإنسان العامل الذي يقوم بالعمل الصالح، لأن العمل الصالح المتقن هو علة الخلق والإيجاد، وهو مادة الابتلاء والاختبار في قاعة الحياة الدنيا وهو مقياس النجاح في الآخرة... ولا يتصور هناك مسلم أو إنسان صالح بدون عمل، فصورة المؤمن المستسلم العاجز صورة غير إسلامية وهي بعض رواسب تراث الكهانة التي سبقت الإسلام، ولذلك أيضا لم يكن الزهد والورع والتقوى انقطاعا عن العمل، وإنما هي بعض مواصفات العمل الصالح تكسبه طابعه وتميزه عن العمل السوء"[63].
كما تربي السنة المطهرة الشخصية الإسلامية على الوضوح والاعتدال في طرح الأمور والبعد عن المداهنة والتملق، وحذرت من ازدواجية السلوك الذي يمارسه بعض الأفراد بأن يأتي لمجموعة من الناس بوجه ويأتي لآخرين بوجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه"[64]، وهذا التملق من خصال النفاق ومن المداهنة المحرمة[65]. كما أرشدت إلى عدم المغالاة في المدح، فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال:" أثنى رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك (مرارا) ثم قال:" من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه"[66].
إن الشخصية المسلمة تتربى على الصراحة والوضوح في التعامل، وتبعد كل البعد عن المداهنة والتملق، ولذا تجد الفرد المسلم يبدي رأيه في أي مسالة ويتخذ الموقف المناسب الذي يمليه عليه دينه دون خوف أو وجل، أو انتظار من أحد أن يملي عليه موقفا معينا.
إن الذي يشعر بالدونية يتنازل عن عقيدته، ثم يبدأ بحب أعداء الإسلام، أو يتحاشى قول كلمة الحق خشية الناس، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبا، فكان فيما قال: ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه"[67]، وفي الحث على عدم التبعية وضرورة أن يكون الشخص صاحب موقف يتبع الحق أيّا كان عدد أتباعه يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"[68]. قال الزمخشري:" الإمعة الذي يتبع كل ناعق، ويقول لكل أحد: أنا معك، لأنه لا رأي له يرجع إليه"[69]. وقال القاري تعليقا على كلام الزمخشري:" وفيه اشعار بالنهي عن التقليد المجرد حتى في الأخلاق فضلا عن الاعتقادات والعبادات"[70].
ومن الأمور التي حثت عليها السنة في عدم التبعية وأن تكون للشخص المسلم شخصيته المستقلة المتميزة، عدم تشبهه بغير المسلمين، فقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من تشبه بقوم فهو منهم"[71]، وهذا النهي يشمل سلوك المسلم الظاهري والباطني، فهو يلبس الملابس الحسنة دون أن يتشبه بغير المسلمين، ولا ضير عليه أن يهتم بمظهره الخارجي بغية الحصول على القبول الاجتماعي، مما يفرض عليه أن يكون جوهره كمظهره في غالب الأحيان، وهو نوع من إظهار نعمة الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"[72]، وكل ذلك بمعزل عن الغرور والكبرياء والإسراف، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس"[73]، ومعنى بطر الحق: دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا، وغمط الناس: احتقارهم[74].
ومن هنا فإن السنة تريد بناء جسم الإنسان في جميع جوانبه، ولم تكتف بجانب على حساب جانب، غير أن هذه القوة " ليست قوة الجسم وحده ولكنها قوة الكيان الإنساني كله، الجسم والنفس والطاقة والخلق، إنها القوة المتكاملة التي ترتبط بالحق والعدل، التي لا تترك جانبا من جوانب الإنسان يدب إليه الوهن والحزن"[75].
ومن صور الاعتداد بالنفس التي عملت السنة على إذكائها تنمية روح التنافس في الخيرات بين الأفراد، فكثيرا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع من شأن الفرد ويعلي من معنوياته بأسلوب يدفعه لإتقان العمل والمواظبة على الاتيان بالمزيد، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أنه قال: قيل يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه"[76].
وكذا حديث أبي بكر رضي الله عنه حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن أبواب الجنة فقال أبو بكر رضي الله عنه:" بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها، قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم"[77]، وحديث ابنيّ عفراء في غزوة بدر، حينما تسابقا لقتل أبي جهل، وبعد أن ضرباه جاءا مسرعين يخبران رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فنظر في سيفيهما وقال:" كلاكما قتله"[78]، وحديث أبي دجانة في غزوة أحد حين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم سيفا، وقال:"من يأخذ مني هذا بحقه"[79].وغيرها الكثير.
وأذكت السنة روح التنافس حين سمحت للطاقات العقلية الإبداعية بالتحرر ولم تحجر عليها، فقد كان الصحابة يقفون عند نصوص الوحي ويأخذونها بالتسليم المطلق، وفيما عدا ذلك أدلوا بآرائهم فتفتقت أذهانهم عن أمور إبداعية، فهذا الحباب بن المنذر يشير على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر الكبرى بأن المنزل الذي نزل به الجيش ليس بمنزل، وأن المكان الأنسب هو ماء بدر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي[80]، وكذا إشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه يوم غزوة الأحزاب بحفر الخندق[81].
ولهذا شجع النبي على الاجتهاد فقال:" إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"[82].
وقد راعى النبي الكريم صلى الله على وسلم ميول الشخص وما يتقنه في الحياة، فكلفه بالشيء الذي يبدع فيه، ولم يطالب بأن يكون الناس جميعا نسخة واحدة، بل كان التنوع في أعمالهم مطلبا لأنه أساس تكامل الحياة البشرية وتمازجها.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"[83].
وحين أشار لخالد بن الوليد أثنى على براعته العسكرية، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحه للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحه فأصيب، وعيناه تذرفان، حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم"[84].
وفي معرض إشارته لفضل عبد الله بن عباس في تأويل القرآن، قال صلى الله عليه وسلم:" اللهم علمه الحكمة، وقال: اللهم علمه الكتاب[85].
وهذا ينسجم مع فطرة الله التي خلق الناس عليها، بأن زودهم بميول متنوعة، وهذا التنوع هو أساس تكامل الحياة البشرية وتمازجها.
إن استشعار الميول لدى الشخص يجعل النجاح حليفه، ويجعله واثقا بنفسه معتدا بها من غير غرور، يؤدي واجباته على أتم وجه، وهو ما نعبر عنه اليوم: وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وكان صلى الله عليه وسلم يقول دائما لصحابته الكرام:" اعملوا فكل ميسر لما خلق له"[86].
إن الفرد بحاجة للتشجيع والتقدير وإشعاره بأنه مفيد في الحياة ويؤدي دورا فيها، وإذا لم تشبع هذه الحاجة فإنه يلجأ إلى السلوك التدميري والنشاطات المشوشة غير الناضجة[87].
المطلب الرابع
الاعتدال في العبادة
عملت السنة المطهرة في بنائها للشخصية المسلمة على مراعاة الاختلاف الجسدي والعقلي والاستعداد الروحي، فأمرت بالتيسير وعدم المبالغة في العبادة التي تفضي في نهاية المطاف إلى ترك العمل. عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه"[88]، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا"[89].
ويذكر في هذا المجال حديث سلمان حين قال لأبي الدرداء:" إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه" فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان"[90].
وعن أنس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، تصلي فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صل الله عليه وسلم: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد"[91].
وراعت السنة الفوارق بين الذكور والإناث، إذ لكلٍ مجاله وإسهامه فيما يبدع فيه حسب تكوينه الجسدي وقدراته، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال"[92] وعنه رضي الله عنه قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم"[93].
وأكدت السنة على الفروق الفردية وشبهته بتشبيه رائع، إذ شبهت الناس بالمعادن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه، وتجدون من شرار الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه"[94]، وعن عائشة رضي الله عنه قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"[95].
فهذا الحديث يدل على أن الناس يختلفون في تراكيبهم وطبائعهم، كحال المعادن تختلف في نفاستها وقيمتها، ولا يستهان بأي معدن منها وإن قلت قيمته عن غيره، لأنه يسد حاجة ماسة قد تظهر إليه، ويصلح لغرض معين لا يصلح له سواه[96].
ومن هنا ينبغي التمييز في المعاملة على أساس الفروق الفردية حتى يلقى كل فرد العناية والاهتمام اللازم على قدر حاجته إليه، وبما يتناسب مع مستواه العقلي والتحصيلي، مما يساعد على تنمية شخصية الفرد، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:" أنزلوا الناس منازلهم"[97]، وفي ذات السياق عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط"[98].
ومن باب الاعتدال: عدم المداومة على الموعظة مخافة السآمة والملل، فعن ابن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا"[99].
وعن أبي وائل قال: كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا"[100].
قال ابن حجر:" يستفاد من الحديث: استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين: إما كل يوم مع عدم التكلف، وإما يوما بعد يوم، فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط، وإما يوما في الجمعة، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط"[101].
وقد لخص الأمر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال:" حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم، وأقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم، قيل: وما علامة ذلك؟ قال: إذا التفت بعضهم إلى بعض، ورأيتهم يتثاءبون، فلا تحدثهم"[102]، والمعنى: حدثهم ما داموا يشتهون حديثك فإذا أعرضوا عنك فاسكت، وهذه قاعدة عظيمة نتمنى أن يضعها الوعاظ نصب أعينهم، ويراعوا الزمان والمكان والمناسبة التي يتكلمون فيها، فتجد وللأسف من إذا تسلم زمام الحديث ينسى نفسه ويبدأ بشرح موضوع والدخول في آخر وكأنه يريد شرح أحكام الإسلام كلها في هذه العجالة، ولا يراعي تململ الناس مما يجعلهم في النهاية لا ينصتون إلى حديثه، فمجالس الوعظ يراعى فيها أحوال الناس واستعدادهم، بخلاف مجالس العلم التي تعطى للمختصين والراغبين، فهذه لا بأس من التطويل فيها. ويدخل في هذا التيسير وعدم التشديد، ما رواه أبو مسعود الأنصاري قال: قال رجل يا رسول الله: لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا من يومئذ، فقال: يا أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة"[103].
وفي ذات السياق نذكر قصة معاذ رضي الله التي يرويها جابر رضي الله عنه قال: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة، فانصرف الرجل، فكأن معاذا تناول منه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فتان فتان فتان (ثلاث مرار) وأمره بسورتين من أوسط المفصل[104].
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتبع منهج التيسير على أصحابه في ترتيب مناسك الحج بما يدفع عنهم المشقة، عن عبد الله بن عمرو: قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة وهو يسأل، فقال رجل: يا رسول الله: نحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال آخر: يا رسول الله: حلقت قبل أن أنحر، قال: انحر ولا حرج، فما سئل عن شئ قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج"[105].
ومن الاعتدال ما دعت السنة إليه في الترويح البرئ عن النفس مخافة الملل والسآمة، إذ لابد لأي فرد من التمتع بقسط وافر من الراحة بعد الأعمال المضنية، كي لا يصاب بالإرهاق المتواصل الذي يقعده عن العمل، فالترويح البرئ يجدد النشاط والطاقة، ولم تمانع السنة من المزاح والتفكه والملاطفة والتبسم، وحديث "نافق حنظلة" معروف لدى الجميع، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم:" ولكن ساعة وساعة"[106].
"فالإسلام لا يريد للمؤمنين أن يقهروا بشريتهم المادية، ويروضهم على التجرد الروحي والزهد فيما تتعلق به فطرة الناس من متع الحياة الدنيا والطيبات من الرزق، ولهذا أبطل الإسلام الرهبانية التي عزلت الدين عن الحياة" "وليس صحيحا ما يغلب على الظن من أن العناية بالمظهر لباسا وزينة، يجافي شخصية المسلم، وما يجافيها إلا الترف والسرف، والتبرج والخيلاء، فإذا اتقاها المؤمن فلا حرج عليه في أن يعنى بمظهره ويأخذ زينته تجملا وتهذيبا لا عن شهرة وخيلاء"[107].
ومن الاعتدال المحمود التي أخذتها السنة بعين الاعتبار مراعاة الظروف المحيطة، وأخذها بالحسبان، فلم تأمر بمصلحة ينتج عنها مفسدة أعظم، وهذا واضح جلي في نصوص كثيرة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر، لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس، وباب يخرجون"[108].
قال ابن حجر:" يستفاد ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه صلاحهم ولو كان مفضولا ما لم يكن محرما"[109]. ومن ذلك عدم قتل زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول مخافة أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه[110].
ويدخل في مراعاة الظروف: تحديث الناس على قدر عقولهم، وتخصيص قوم بالعلم دون قوم كراهية أن لا يفهموه، فقد روى البخاري: عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، قال:" يا معاذ بن جبل، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثا) قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا" وأخبر بها معاذ عند موته تأثما"[111]، أي خشي الوقوع في الإثم المرتب على كتمان العلم[112].
إن الاعتدال ينشئ الشخص العامل الملتزم المثابر المداوم على عمله، ومن خالف منهج السنة المطهرة فإنه سرعان ما يفتر ثم يترك العمل، وربما انقلب رأسا على عقب، والعياذ بالله.
المطلب الخامس
مراعاة الآداب مع الآخرين
عملت السنة الشريفة على رعاية مصالح الآخرين مهما كانت منزلتهم، مثلما راعت مصلحة الشخص نفسه، وهذا نابع من نظرة السنة للمجتمع ككل متكامل ووحدة واحدة.
والسنة النبوية مليئة بالأحاديث الشريفة التي تحث على مراعاة الآداب مع الآخرين - كل الآخرين-، والأمثلة التي يذكرها الباحث مجرد عينة قليلة مختارة من خلال كم هائل.
وينبغي التأدب مع الاخرين وعدم إزعاجهم بأي وسيلة مهما بدت يسيرة، حتى لو كان ذلك برائحة كريهة تنبعث من فم الشخص، قال صلى الله عليه وسلم:" من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا"[113].
وهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يستأذن غلاما صغيرا لأنه صاحب الحق، ولم يتغاض عنه لصغر سنه، على الرغم من وجود من هو أكبر منه سنا، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال:" أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال:" يا غلام أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحدا يا رسول الله، فأعطاه إياه"[114].
وراعت السنة الآداب مع الخدم الذين لا يعير لهم أحد باله في كثير من الأحيان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه"[115].
وبلغت الآداب مع الآخرين مبلغا قل نظيره في الثقافات الأخرى، فهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم يُقدّر النفس الإنسانية حتى لو كانت على غير دين الإسلام، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا؟[116].
ومن الآداب التي ينبغي مراعاتها عدم الخروج على أعراف الناس أو لفت انتباههم بما يستنكرونه، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يمشي أحدكم في نعل واحدة ليحفهما أو لينعلهما جميعا"[117].
ومن الآداب مع الآخرين: عدم تناجي اثنين دون ثالث، وحفظ السر، والنهي عن الشماتة، وعدم جلوس الرجل مكان أخيه، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم:" لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه"[118].
ومن الآداب تعويد النفس البشرية على سماع النقد البناء والنصح الهادف، ولكي يتحصل ذلك لابد من محاسبة الإنسان لنفسه حسابا جادا، ولومها واتهامها بالتقصير، حتى لا يحمّل الآخرين سبب مشكلاته وتقصيره، فعن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: أملك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك"[119].
كما يدخل في السياق ذاته الاهتمام بشؤون الآخرين وسؤالهم عن أحوالهم، فإن ذلك يشعر الفرد بنوع من الطمأنينة، ويبدأ ينظر للحياة نظرة ملؤها المحبة والرحمة للآخرين، بعيدا عن النظرة السلبية والأنانية البغيضة، "إن الشخصية المتكاملة في أدائها لوظائفها مثل فريق لاعبي كرة القدم يكمل بعضهم بعضا، ويتعاونون جميعا لتحقيق هدف واحد، وإذا حدث ووجد بينهم الخلاف والتناحر مصيرهم الهزيمة"[120].
والآداب مع الآخرين كثيرة جدا، ويكفي الشخص أن ينظر إلى أي كتاب من كتب السنة المطهرة، ويطالع فهرسه ليرى أبواب الآداب وحجم الأحاديث الكثيرة.
وهكذا رأينا من خلال تلك النماذج القليلة المنتقاة أثر السنة النبوية في بناء الشخصية الإسلامية، وإعلاء شأنها وجعلها شخصية قوية واضحة ثابتة، بعيدة عن الاهتزاز والتلون، الأمر الذي يضمن لها السعادة في الدارين بإذن الله تعالى.
الخاتمة
أهم النتائج والتوصيات:
- لا يمكن صلاح الشخصية البشرية بمعزل عن الوحي الإلهي.
- بناء شخصية المسلم مقدمة لإخراج الأمة المسلمة التي يكون أعضاؤها كالجسد الواحد
- بناء الفرد أولى بكثير من بناء المنازل والعمارات.
- السنة النبوية من أهم مصادر التربية، وهي زاخرة بالمبادئ التربوية الحية والمتجددة.
- اهتمام السنة بجميع جوانب شخصية الإنسان المادية والروحية والعقلية
- كثير من النظريات التي تدرس في التربية وعلم النفس، وتنسب إلى مفكرين في الغرب، لها جذور وأصول في السنة المطهرة.
- لا ضير من الإفادة من الأبحاث الجديدة النافعة الموجودة عند الآخرين ما لم تكن هناك مخالفة شرعية.
- السنة النبوية خط الدفاع الأول بعد كتاب الله أمام كل من يريد محو مقومات الشخصية الإسلامية.
التوصيات
- ضرورة استغلال السبق الذي جاءت به السنة المطهرة، وأن نكون البادئين في إبراز تلك المعالم، وأن لا يقتصر دورنا على ردود الأفعال.
- وجوب التنسيق والتخطيط بين العاملين في جميع ميادين التربية لمواجهة التحديات التي تهدد الشخصية الإسلامية.
- على كل إنسان أن لا يستهين بنفسه ولا يقلل من جهده وطاقاته، ويمكنه الإسهام في بناء شخصيته المتكاملة المطلوبة منه إذا علم طرق وأساليب بناء الذات، وبالتالي يمكنه الإسهام في بناء حضارته الإسلامية.
والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
[1]) النجار: مسعد أحمد، نحو نظرية إسلامية في الشخصية الإسلامية، ص26