الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
أمر الله سبحانه بالتعاون على البر والتقوى؛ لقوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، أي: ليُعِن بعضكم بعضاً، والبرّ والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكُرر باختلاف اللفظ توكيداً ومبالغة؛ إذ كل برّ تقوى وكل تقوى برّ.
قال الإمام الماوردي رحمه الله: "ندب الله تعالى إلى التعاون بالبر، وقرنه بالتقوى، فقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ لأن في التقوى رضى الله تعالى، وفي البر رضى الناس، ومن جمع بين رضى الله تعالى ورضى الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته" [أدب الدنيا والدين 1/ 183].
وتبرع الإنسان عند وفاته بعضو من أعضائه؛ ليدفع ضرراً يلحق بأخيه الإنسان أمر تبيحه الشريعة الإسلامية، ويندرج تحت القواعد المتفق عليها، مثل: "الضرورات تبيح المحظورات"، و"الضرورة تقدر بقدرها"، وبهذا يكون المسلمون متعاونين كاليد الواحدة؛ لأنه لا برّ أسمى وأفضل من محافظة المسلم على حياة أخيه المسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) متفق عليه.
ومن البرّ أيضاً أن يسعى الإنسان لإزالة شدة كرب أخيه، وهل هنالك كربة أشدّ من فقد البصر أو فشل كلوي أو عطل في الكبد؟ قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ؛ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ) رواه أبو داود.
وسمّى النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الكرب: فقد الإنسان لحبيبتيه (عينيه)، والمراد بالحبيبتين المحبوبتان؛ لأنهما أحبُّ أعضاء الإنسان إليه لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد رؤيته من خير فيسرّ به، أو شر فيجتنبه.
فمن أوصى بالتبرع بعد وفاته خدمة للمرضى المحتاجين؛ فقد ختم حياته بعمل جليل يستفيد منه في الآخرة؛ فله جزاء تنفيس الكربة عن مريض بتنفيس كربة من كرب الآخرة، وشتان ما بين كرب الدنيا وكرب الآخرة، وفي هذه الأيام فقد تقدّم الطب كثيراً، ونحن في الأردن نعتز ونفخر بأطبائنا الذين تمكنوا من زراعة قرنيات العيون والجلد، وغير ذلك من عمليات زرع الأعضاء فجزاهم الله خير الجزاء.
ومعلوم أن حاجة المريض إلى هذه الأعضاء أو حاجة الأعمى إلى البصر أشدُّ من حاجة الفقير إلى المال، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى أدخل الجنة رجلاً؛ لأنه سقى كلباً كان يأكل الثرى من العطش، وفي كل كبد رطبة أجر، فالإحسان إلى الإنسان أولى.
وبهذا الخصوص فقد صدر عن دائرة الإفتاء العام عدد من الفتاوى الشرعية بجواز التبرع بالأعضاء، مثل حكم التبرع بقرنية العين/ قرار رقم (2) بتاريخ: (11 /4/ 1984)، وحكم التبرع بجزء من الكبد/ قرار رقم (166) بتاريخ: (28 /7/ 2011)، وجواز التبرع بالأعضاء رقم (865) بتاريخ: (25/ 7/ 2010) يمكن الرجوع إليها.
ونقل الأعضاء من إنسان إلى آخر كنقل القرنيات من الأموات إلى الأحياء، أو نقل الكبد أو الكلية إلى إنسان مريض بنية الإحسان إليه؛ هو من التداوي المباح، ولكن حددت الشريعة الإسلامية شروطاً للنقل وهي:
أولاً: شروط نقل القرنيات من الأموات إلى الأحياء:
1- التحقق من وفاة المتبرّع.
2- أن لا يؤدي التبرع إلى تشويه في جثة المتبرع.
3- أن يغلب على ظن الأطباء نجاح عملية الزرع.
4- أن يكون الميت قد أوصى بالتبرع بقرنيته أو رضي الورثة بذلك، وهذا من باب العمل الصالح الذي يستمر أجره إلى الميت بعد وفاته، ويجب على ورثته تنفيذ وصية ميتهم دون مقابل ماديّ.
ثانياً: شروط نقل الكبد أو الكلية، أو أي عضو آخر من الأحياء إلى الأحياء:
1- أن يكون المتبرع كامل الأهلية.
2- أن لا يضر أخذ هذا الجزء من الكبد ضرراً يُخلّ بحياة المتبرع العادية، والقاعدة الشرعية تقول: "الضرر لا يزال بضرر مثله".
3- أن يكون زرع هذا الجزء من الكبد أو الكلية أو غيرهما الوسيلة الطبية الوحيدة الممكنة لمعالجة المريض.
4- أن يغلب على الظن نجاح عمليتي النـزع والزرع.
5- أن يكون التبرع دون مقابل مادي. والله تعالى أعلم.