الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
الأصل في المسلم المعاصر أن يكون نموذجا يحتذى في كل البلاد التي يرتحل إليها، وذلك بمحافظته على هويته وقيمه، واستفادته من ميزات المجتمع الذي انتقل إليه، ويكون بذلك عضوا فعالاً وسفيراً مشرفاً، خاصة إذا اكتسب حريته الدينية بإقامة شعائر دينه كالصلاة والصيام والزكاة، واجتناب المحرمات الكبائر كشرب الخمر وأكل الخنزير والزنا، فلا حرج عليه في البقاء في تلك البلاد، وسد حاجته للدراسة أو العمل أو الدعوة إلى الإسلام أو الهرب من اضطهاد ونحو ذلك.
أما إذا خشي على نفسه الفتنة في التزامه أو في عقيدته، ولم يتمكن من امتثال أركان دينه، فلا يحل له البقاء في تلك البلاد، سواء كانت بلادا إسلامية أم غير إسلامية، وعلى هذه الحالة الثانية حمل العلماء الحديث المذكور في السؤال، وقالوا المقصود به هو من لم يأمن على دينه.
والحديث يروى عن جرير بن عبد الله البجلي قال: (بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ القَتْلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ العَقْلِ وَقَالَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا). أخرجه أبو داود والترمذي من رواية قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله.
قال ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري" (6/ 39): "هذا محمول على من لم يأمن على دينه".
وقال الهيتمي رحمه الله في "تحفة المحتاج" (9/ 268): "إن أمكنه إظهار دينه لشرفه أو شرف قومه، وأمن فتنة في دينه، لم تجب [عليه الهجرة من بلاد غير المسلمين] لقدرته على إظهار دينه".
بل قال علماء آخرون إن الحديث لم يصح إسناده، حكم البخاري بأنه حديث مرسل، وكذا أعلّه أبوحاتم الرازي في "علل الحديث".
وعلى فرض صحته؛ فإن للحديث سبب ورود يفسر معناه، وهو أن أناسا أسلموا واستمروا في مكثهم بين المحاربين، فلما وقعت المعركة سقط بعض الضحايا من المسلمين الذين يقيمون بينهم، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من دمهم، وأنه لا يلزم المجاهدين ديتهم ولا إثم عليهم؛ لأنهم لم يتميزوا عن أولئك المحاربين. فإذا فُهم الحديث بهذا السياق، تبين أنه لا دليل فيه على حرمة الإقامة (مطلقا) في بلاد غير المسلمين كما يقول بعض الناس. والله تعالى أعلم.