إن المتأمل لآيات القرآن العظيم، وأحاديث النبي الطاهر الأمين، وسيرة السلف الصالحين، لا يخفى عليه ما جاء في تعظيم قدر نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم من آيات بينات فصيحات، وتصريحات نبوية كثيرات، وأفعال سلفية نيرات...
ولقد صدق القاضي عياض رحمه الله تعالى عندما قال:"لا خفاء على من مارس شيئاً من العلم، أو خُصَّ بأدنى لمحة من فَهم، بتعظيم الله تعالى قَدْرَ نبينا عليه الصلاة والسلام، وخُصوصِه إياه بفضائل ومحاسن ومناقِبَ لا تنضبط لِزِمام، وتنويهه من عظيم قدره بما تَكِلُّ عنه الألسنة والأقلام" (الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض/11).
وأي تعظيم أكبر من قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)الشرح/4).
قال قتادة:"رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهِّد ولا صاحب صلاة إلا ينادي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" (تفسير الطبري:24/494).
فَقَرَنَ الله ذِكْرَ الرسول صلى الله عليه وسلم بذكره جل وعلا في:كلمة الشهادة، والأذان، والإقامة، والتشهد، وخطبة الجمعة، وعند دخول المسجد والخروج منه، وفي مواضع كثيرة في القرآن، ولقد صدق حسان بن ثابت رضي الله عنه عندما قال:
وضَمَّ الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذِّن أشهد
وشقَّ له من اسمه لِيُـجِـلّـَه فذو العرش محمود وهذا محمد
ومن ذِكْرِ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن قرن طاعته بطاعته، واسمه باسمه، فقال الله تعالى:(قُلْ أَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) آل عمران/32.
وقال الله تعالى:(وَأَطِيعُوا الله وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)آل عمران/132.
وقال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)الأنفال/20.
وقال الله تعالى:(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)المجادلة/13.
وقال الله تعالى:(وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)الأنفال/46.
ومن تعظيم الله لنبيه صلى الله عيه وسلم في القرآن أنه خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم، فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى، ولم يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم إلا بقوله: يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا أيها المزمّل، يا أيها المدثّر.(الشفا، للقاضي عياض/ص23.
أما تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لنبينا المكرَّم صلى الله عليه وسلم، فباب من أوسع الأبواب، لمعرفة قدر الرسول عظيم الجانب، وإن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن معرفة الله لا تكون إلا من باب نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأكتفي من النصوص الكثيرة الواردة في ذلك بجزء من حديث صلح الحديبية الطويل الذي يرويه الإمام البخاري في صحيحه، عندما وجَّهت قريش عروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: "ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَالله مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ. فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَالله لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّداً" رواه البخاري.
فانظر-يا رعاك الله- إلى عظيم أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكبير معرفتهم لقدره الشريف ومقامه المنيف، وشديد محبتهم له صلى الله عليه وسلم؛ لتعرف حقيقة منهج السلف الصالح في محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره.
وأما محبة التابعين رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وعظيم توقيرهم له عند ذكره صلى الله عليه وسلم، فأكتفي بما رواه القاضي عياض عن مصعب بن عبد الله قال: "كان مالك إذا ذُكِرَ النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المُنْكَدِر -وكان سيِّد القراء- لا يكاد يسألُه أحد عن حديث ٍأبداً إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق، وكان كثير الدُّعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفرَّ، وما رأيته يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، وقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعبَّاد الذين يخشَون الله عز وجل، ولقد كان عبدالرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيُنظَرُ إلى لونه كأنه نُزِفَ منه الدم، ولقد جفَّ لسانه في فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنتُ آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيتُ الزُّهري، وكان من أهنأِ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم، وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه" (الشفا للقاضي عياض/265-266).
أمثلة حية من حياة السلف الصالح تبين لنا كمال الأدب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عجب من ذلك فلقد عرفوه فأحبوه فعظَّموه، وما الكلمات التي كتبت في هذا المقال إلا غيض من فيض، وإلا فقدر النبي صلى الله عليه وسلم لا تحويه الكلمات، ولا تحيط به عقول المخلوقات، وأنَّى للمخلوق الضعيف أن يحيط بمن وصفه الله تعالى بقوله:(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)القلم/4، ورحم الله من قال:
إن شئت أن تدري مقام محمد فارجع إلى ما قال فيه الله
فالخلق تعجز أن تقدِّر قـدره وتقول قولاً قد يفي بعـلاه
فالله أكرمه وأعلى قـــدره ما فوق قدر محمــد إلَّاه
فالواجب علينا أن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حبنا له أن نعرف كيف نتأدب معه في سيرته، وعند ذكره، وقراءة سنته، وزيارة روضه الشريف صلى الله عليه وسلم، وأن نعلم ذلك لأبنائنا وبناتنا، وأن ندعو الناس إلى محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه في قلوبهم وحسن الأدب معه كما كان حال السلف الصالح.
والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.