حكم هدم الأبنية والمشاهد حول قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم
المفتي الدكتور أحمد إبراهيم الحسنات
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على أشرف الخلق والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين،فقد انتشر في الآونة الأخيرة وثار الخلاف حول هدم القباب والبناء حول القبور قبور الأنبياء ومشاهد الصحابة والأولياء والصالحين، وقد أثارت هذه المسألة جدلاً واسعاً بين أوساط المسلمين، ما بين مشددٍ ومغالٍ، بل إن الأمر تعدى طائفةً من الناس إلى تكفير المسلمين بناءً على مثل هذه المسألة واستحلوا دماءً بناءً على ما ذهبوا إليه من حرمة بناء هذه القبور والمشاهد، ومن ثم تعدى الأمر إلى وجوب الهدم وما رافق ذلك من انتهاكٍ للحرمات وإخلالٍ بالأمن والنظام في البلاد.
ولذا فقد رأيت أن أبحث فيه مسألة حكم البناء على القبور، ومن ثم أعرج على حكم هدم البناء الموجود على القبور، فأقول وبالله التوفيق:
المبحث الأول
حكم البناء على القبور
كرم الله تعالى الإنسان حياً وميتاً ولعل من أهم مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان ميتاً أن أوجب دفنه، حمايةً له فاشترط الإسلام للقبر شروطا منها أن يكون حفرة تمنع السباع من انتهاك حرمته وتمنع من ظهور رائحته عند تحلله، وأما بالنسبة للبناء على القبر فهذا حكمه يختلف بحسب الدافع الذي يدفع لهذا البناء: هل هو تمييز القبر والمحافظة عليه، أم هو دافع المباهاة والتفاخر كما يختلف كذلك باختلاف الأرض المدفون فيها أهي موقوفة للدفن أم مملوكة، ومن جهة أخرى هل الميت من عامة المسلمين أم من علمائهم وصالحيهم، فإذا كان البناء لتمييز القبر عن غيره من القبور وحفظه من الدوس والامتهان واندثار الأثر الذي لا يعرف معه أنه قبر، فهذا قصد مطلوب أولاً، ما لم يقل بحرمته أحد من الفقهاء بل جمهور الفقهاء وعامة العلماء على جوازه، وإنما وقع الخلاف في كراهته أم لا؟ فذهب جمهور الفقهاء إلى كراهة البناء على القبر سواءً أكان في مقبرة مسبلة أم لا وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وأما الشافعية ففرقوا في القبر بين أن يكون في مقبرة مسبلة أو موقوفة للدفن وبين أن تكون في ملك فنصوا على الكراهة في المملوكة والحرمة في المسبلة ولم أجد لغير الشافعية من فرق هذا التفريق فالكلام عند المذاهب الثلاثة لم يفرق بين المملوكة أو المسبلة فأطلقوا حكم الكراهة على كليهما، ولم أجد في كتب الفقهاء وأئمة المذاهب أي قول بحرمة البناء على القبر مطلقاً واليك نصوص الفقهاء التي تؤيد ما ذكرته.
أولا: الحنفية
جاء في بدائع الصنائع: "كره أبو حنيفة البناء على القبر وأن يعلم بعلامة.. ولأن ذلك من باب الزينة ولا حاجة بالميت إليها؛ ولأنه تضييع المال بلا فائدة فكان مكروها"[1].
وجاء في الدر المختار: "ويحرم البناء عليه للزينة" لما رويناه "ويكره" البناء عليه "للإحكام بعد الدفن" لأنه للبقاء والقبر للفناء وأما قبل الدفن فليس بقبر ولا يرفع عليه بناء. وقيل: لا بأس به، وهو المختار) كما في كراهة السراجية"[2]. ومثله في مراقي الفلاح[3].
ثانيا: المالكية
جاء في شرح مختصر خليل للخرشي: وهو يشرح قول العلامة خليل في مختصره -وهو يتحدث عن البناء على القبر- "وجاز للتمييز". قال الخرشي في شرحه لهذا النص "فإن قصد بالبناء التحويز والتمييز جاز، وظاهره سواء كانت الأرض مملوكة، أو مباحة، أو مُسَبَّلة للدفن، وهو الذي يفهم من كلام اللخمي وغيره"[4].
وقال الحطاب: "قال ابن بشير: وينهى عن بنائها – يعني القبور- على وجه يقتضي المباهاة.... وأما البناء الذي يخرج على حد المباهاة فإن كان القصد به تمييز الموضع حتى ينفرد بحيازته فجائز، وإن كان القصد به تمييز القبر عن غيره فحكي أبو الحسن عن المذهب قولين: الكراهة، وأخذها من إطلاقه في المدونة، والجواز في غير المدونة، والظاهر أنه متى قصد ذلك (أي تمييز القبر عن غيره) لم يكره، وإنما كره في المدونة البناء الذي لا يقصد به علامة، وإلا فكيف يكره ما يعرف به الإنسان قبر وليّه، ويمتاز به القبر حتى يحترم، ولا يحفر عليه إن احتيج لقبر ثان"[5].
ثالثا: من كلام المالكية أن علة الحرمة عندهم هي المباهاة والتفاخر فحيث انتفى ذلك انتفى الحكم معه لأن علة المنع والنهي عن البناء على القَبور هي إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، وحين يكون البناء للتمييز تنتفي العلة، والحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً.
ثالثا: الحنابلة:
جاء في الكافي: "ويكره البناء على القبر، وتجصيصه والكتابة عليه، لقول جابر: (نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه) رواه مسلم. زاد الترمذي: (وأن يكتب عليها) وقال: حديث صحيح، ولأنه من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه"[6].
وجاء في المغني: "ويكره البناء عليه: سواءً لاصق البناء الأرض أو لا ولو في ملكه من قبة أو غيرها للنهي عن ذلك... وهو في المسبلة أشد كراهة"[7].
وجاء في الإقناع: "ويكره البناء عليه أي: القبر سواءً لاصق البناء الأرض أو لا ولو في ملكه من قبة أو غيرها للنهي عن ذلك لحديث جابر قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه) رواه مسلم والترمذي، وزاد (وأن يكتب عليه) وقال حسن صحيح.... وهو أي: البناء في المقبرة المسبلة أشد كراهة لأنه تضييق بلا فائدة، واستعمال للمسبلة فيما لم توضع له"[8]ومثله في كشاف القناع [9] وكذا في مطالب أولي النهى[10].
فالذي نراه من تعليلات الفقهاء وفهمهم لأحاديث النهي أنهم عللوا الحديث فالنهي ليس تعبديا محضاً وإنما مغياً بغاية، فليس النهي عن مطلق البناء وإنما عن البناء بقصد التباهي أو لما فيه من تضييق على المسلمين، في المقابر المسبلة التي يمكن الاستفادة منها بالدفن مرة أخرى بعد بلى الميت والبناء يمنع من ذلك، كما رأينا من تعليلاتهم أن البناء من مظاهر الزينة ومظاهر الدنيا والميت في أول منازل الآخرة ولا يليق به البناء ونحوه فظهر من ذلك أن البناء بحد ذاته ليس حراما وإنما غاية ما يقال فيه أنه مكروه وقد يحرم إذا اعترى البناء أمر آخر محرم فتكون الحرمة لذلك الأمر وليس للبناء نفسه، فان قيل هذا الفهم معارض للأحاديث التي جاء فيها النهي عن البناء قلنا أن هذا هو ما فهمه جمهور العلماء من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم وهم أعدل الناس وأكثرهم فهما لمعاني النصوص، ولا يشكك أحد في علمهم وتقواهم، وهم غالبية علماء المسلمين، ولا يجوز اتهامهم ولا اتهام فهمهم خاصة إذا ما علمنا أنه بلغتهم أحاديث النهي ومع ذلك عللوها وفهموا منها الكراهة، وقد استحسن هذا الأمر عندهم وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.
رابعا: وأما الشافعية الذين فرقوا في البناء بين الأرض المملوكة والأرض المسبلة فذهبوا إلى كراهة البناء في الأرض المملوكة وإلى حرمته في الأراضي المسبلة أو الموقوفة للدفن، وعللوا ذلك بان البناء في الأراضي المسبلة فيه تضييق على المسلمين جاء في البيان للعمراني: "وأما البناء على القبر: فإن بني عليه بيت أو قبة، فإن كان ذلك في مقبرة مسبلة... لم يجز؛ لأنه يضيق على غيره، وعليه يحمل الخبر....وإن كان في ملكه... جاز له أن يبني ما شاء؛ لأنه لا يضيق على غيره، بخلاف المسبلة"[11].
وجاء في حاشية الجمل: "ومحل كراهة البناء إذا كان في ملكه أما إذا كان في مسبلة وهي ما اعتاد أهل البلد الدفن فيها أو في موقوف قال الأذرعي أو في موات فيحرم إلى أن قال ويهدم؛ لأنه يتأبد بعد انمحاق البدن وفيه تضييق على المسلمين بما لا مصلحة فيه ولا غرض"[12] ومثله في تحفة المحتاج "[13]ونهاية المحتاج[14]".
فظهر من خلال تتبع أقوال الفقهاء أن البناء على القبر لم يقل احد بحرمته إلا في المقبرة المسبلة عند الشافعية وذا كان القصد منه المباهاة والمغالاة فعندئذ يحرم أيضا عند المذاهب الأربعة وظهر من خلال تعليلاتهم أن البناء إذا كان لحاجة فلا حرمة ولا كراهة عندئذ، بل قد يكون ذلك مطلوبا كما إذا كان البناء للحفاظ على القبر.
وأما استدلال البعض بحديث علي – رضي الله عنه – وقوله لأبي الهياج أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم(لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).
فقد أجاب على الاستدلال بهذا الحديث غير واحد من العلماء وقد جمع الإمام الحافظ أحمد بن الصديق الغماري أجوبة العلماء على من استدل بهذا الحديث على حرمة البناء في رسالته المسامة إحياء المقبور بأدلة البناء على القبور حيث ذكر وجه الرد منها:
الوجه الأول: إنه خبر متروك الظاهر بالاتفاق لأن الأئمة متفقون على كراهة تسوية القبر وعلى استحباب رفعه قدر شبر، بل عند الحنفية قول بوجوب ذلك.
الوجه الثاني: إنه مخالف للسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة بعده من رفع القبور وتسنيمها ومخالف لقبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه كما ذكره السائل نفسه في الأحاديث التي ذكرها حينئذ فلا بد من أحد أمرين: إما أن يكون غير ثابت في نفسه أو هو محمول على غير ظاهره ولا بد.
الوجه الثالث: وإذا ثبت أنه على غير ظاهره وأنه يجب رده أو تأويله ليتفق مع الأحاديث الأخرى التي هي أقوى منه سنداً ومعنى، فقد أجاب عنه الأئمة والفقهاء كما ذكره غير واحد منهم النووي فقال في شرح المهذب: أجاب عنه أصحابنا قالوا لم يرد تسويته بالأرض، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأحاديث اهـ. أي فيكون حجة للشافعية ومن وافقهم فيما ذهبوا إليه من أن تسطيح القبر أولى من تسنيمه، ولئن كان هذا المراد به فهو حجة ظاهرة قوية في تأييد مذهبهم.
الوجه الرابع: وهو الصحيح عندنا أنه أراد قبور المشركين التي كانوا يقدسونها في الجاهلية وفي بلاد الكفار التي افتتحها الصحابة – رضي الله عنهم – بدليل ذكر التماثيل معها وإلا فالسنة وعمل الصحابة على خلافه بالنسبة لقبور المسلمين، وقد مر أن قبور الشهداء كانت مرتفعة، وأن قبر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه – رضي الله عنهما – كانت مرتفعة كما ذكره السائل نفسه في الأحاديث التي احتج بها المنتقد، وممن فعل ذلك بها علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – نفسه لأنه كان وقتئذ بالمدينة وهو من أهل الحل والعقد في الأمور. لا يفعل أمر مثل هذا إلا بموافقته؛ ولو كان عنده أمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبور لما وافق على رفع قبره وقبر صاحبيه، فكيف يجوز مع هذا أن يأمر أبا الهياج بتسوية القبور، وقد سبق أيضاً أن الحكيم الترمذي روى عن فاطمة – عليها السلام – أنها كانت تأتي قبر حمزة فترمه وتصلحه، وكذلك رواه مسدد في مسنده ونقله عنه ابن عبد البر في التمهيد أنه كانت تتعاهد قبر حمزة – رضي الله عنه – كل سنة وترمه.
وهذا في حياة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنها لم تعش بعده إلا ستة أشهر، كما أنها ما كانت تخرج لذلك إلا بإذن من زوجها على بن أبي طالب وموافقته، فلو كان عنده أمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبور كما يقول أبو الهياج لما وافق زوجته على ذلك، وأيضاً لو كان عنده أمر بذلك من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما تأخر عن تنفيذه لا سيما في زمن خلافته وإفضاء الأمر إليه، وقد ثبت في الآثار السابقة وغيرها أن قبور الصحابة والشهداء كانت مرتفعة في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في زمان التابعين، فوجب أن يكون مراد علي – رضي الله عنه – قبور المشركين ولا بد أن يكون الخبر مردوداً، وغير هذا لا يكون أصلاً [15].
المبحث الثاني
حكم هدم الأبنية والقباب حول القبور
إذا ثبت أن البناء حول القبور وعليها جائز لا حرمة فيه وإنما غاية ما فيه أنه قد يكون مكروها عند بعض العلماء ظهر بذلك حرمة هدم هذه الأبنية وهذه القباب، وعلى فرض كراهة البناء أو حرمته فإن الهدم لا يجوز أيضاً وذلك لان الهدم فيه انتهاك لحرمة الميت ومعلوم أن انتهاك حرمة الميت أعظم من بقاء بناء عليه وقد رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهدم الكعبة المشرفة ليبنيها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام خشية الفتنة، فعن عائشة _رضي الله عنها_: أنَّ النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال لها: (يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ) متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر _رحمه الله_ في "فتح الباري": "ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة"[16].
وقال الإمام النووي _رحمه الله_ في "شرح صحيح مسلم": "وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام، منها: إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة، بدئ بالأهم؛ لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ أخبر أنَّ نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة من أسلم قريبًا، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيمًا"[17].
ولو كان الهدم واجباً لما اقره الصحابة الكرام والتابعين وغيرهم من جماهير العلماء سلفاً وخلفاً حيث فتح المسلمون بلاداً كثيرة كان فيها قبور ومبان على قبور ولم يرد أن أحدا من المسلمين أو العلماء بما فيهم من الصحابة و التابعين أمر بهدمها، فقد دخل المسلمون مصر وفيها من المباني حول القبور وعليها الكثير ولم يرد أن أحداً من المسلمين أمر بوجوب هدمها هذا مع كونها أبينة على قبور غير المسلمين فكيف بقبور المسلمين والأنبياء والصالحين، وهذه الأبنية و خاصة على قبور الأنبياء والصالحين موجودة في بلاد المسلمين منذ عصور طويلة ومر على هذه الأمة من العلماء الجهابذة الذين لا يخافون في الله لومة لائم ولم نر منهم إنكاراً على وجودها فضلاً عن الأمر بهدمها[18]، فيكون ذلك إجماعا منهم على بقائها والإجماع حجة معتبرة، ولو وجد بناء على مقبرة أو مشهد في مقبرة ولم يعلم أصله هل بني على مقبرة مسبلة أو مملوكة فلأصل عدم هدمه وإبقاؤه جاء في حاشية البيجيرمي ما نصه: "ولو وجد بناء في أرض مسبلة ولم يعلم أصله ترك لاحتمال أنه وضع بحق قياساً على ما حرروه في الكنائس ومن البناء الأحجار التي جرت عادة الناس بتركيبها. نعم استثنى بعضهم قبور الأنبياء والشهداء والصالحين ونحوهم، برماوي. وعبارة الرحماني: نعم قبور الصالحين يجوز بناؤها ولو بقبة الأحياء للزيارة والتبرك، قال الحلبي: ولو في مسبلة، وأفتى به، وقال: أمر به الشيخ الزيادي مع ولايته"[19]، وبمثله قال الجمل في حاشيته حيث جاء فيها ما نصه: "واعلم أنه لو وجد بناء على قبر في مقبرة جرت عادة أهل البلد بالدفن فيها وشك هل حدث بعد جريان عادتهم بذلك فالوجه الذي لا يجوز غيره أنه لا يجوز هدمه ولا التعرض له ؛ لأن الأصل احترامه ووضعه بحق ولعله حصل فيها قبل أن تصير مقبرة لأهل البلد"[20].
أضف أن القول بوجوب هدم البناء بعد اطلاع العلماء عليه وسكوتهم عليه فيه طعن لعلماء الأمة وسلفها بقبولها بحرام أو شرك أو نحو ذلك وهذا فيه مخالفة لسبيل المؤمنين ومخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة "ومخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن".
ثم إن وجود هذه الأبنية على القبور يدل على جوازها كما ذكرت سابقا لسكوت العلماء عليها ولا يجوز للعلماء السكوت على محرم فان هذا فيه طعن في الأمة ويدل سكوتهم عليها على جوازها لان الفقهاء يقررون أن القديم يبقى على قدمه فلو لم يكن له أصل مقبول لما اقره العلماء العاملون.
ولو فرضنا أن البناء على القبور محرم وهذا ما لا نسلمه نقول إن هدم هذه القبور في وقت الأمة فيها بحاجة إلى ما هو أهم منها فقد نص الفقهاء على أن الحدود وهي أمور قطعية لا يجوز التهاون فيها أنه يجوز تأخير إقامتها إذا أدت إقامتها إلى فتنة أعظم كما لو كان الزمن زمن حرب مخافة أن يلحق هذا بأهل الحرب فيكون عونا للعدو أو قد يؤدي إلى ردته فنكون قد أوقعناه في الردة بعد أن كان واقعا في محرم فقط، فلو كان هدم هذه المشاهد والأبنية يؤدي إلى منكر أعظم من بقائها،فعندئذ لا يجوز هدمها ولو فرضنا حرمة بقائها أو بنائها، لا يقال إن وجود هذه القبور وهذه المشاهد مظهر من مظاهر الشرك،لأن وجود هذه القبور هو ما أطبقت عليه الأمة وعلماؤها جيلا إثر جيل- فهل يعقل أن تكون الأمة متفقة على ضرب من ضروب الوثنية والشرك، وهل يجوز أن نحمل الآيات والأحاديث التي وردت في المشركين الذين يعبدون غير الله، في المسلمين الموحدين الذين شهد لهم الله ورسوله بالبراءة من الشرك، ولا يجوز التقول على المسلمين بأنهم يعبدون القبور أو يشركون بالله غيره، فهذا قول فيه تجنن على امة الإسلام وتاريخ المسلمين العظيم.
الخاتمة
بعد استعراضنا لمادة البحث نستخلص النتائج الآتية:
- لا يوجد أحد من علماء المسلمين ممن يعتد بكلامهم من أتباع المذاهب الأربعة قال بحرمة البناء على القبور باستثناء علماء الشافعية الذين فرقوا بين المقبرة المسبلة والمملوكة فأجازوا البناء في الثانية ومنعوه في الأولى.
- يوجد عن بعض علماء الشافعية قول باستثناء قبور العلماء والأولياء والصالحين من البناء في المقابر المسبلة فأجازوا البناء على قبورهم حتى في المقابر المسبلة والموقوفة.
- غاية ما دلت عليه نصوص الفقهاء في حكم البناء على القبور دورانه بين الإباحة والندب والكراهة ولا يوجد قول بالحرمة إلا قول عند الشافعية كما وضحته آنفا.
- إن وجود البناء على القبور موجود ومشاهد منذ مئات السنين ومع ذلك لم نجد أحداً من العلماء مع ما امتازوا به من علم وصلاح أفتى بوجوب هدم هذه الأبنية والقاعدة تقرر أن القديم يبقى على قدمه.
- إن في هدم الابنة المقامة على القبور حاليا يؤدي إلى فتن عظيمة، الأمة في غنى عنها وقد قرر الفقهاء أن المنكر _ أن سلمنا أن البناء منكراً_ لا يجوز إنكاره إن أدى إلى منكرٍ أعظم كما أنه يجوز تأخير إقامة الحدود مع أنها ثابتة قطعاً في زمن الفتن إلى زمن الاستقرار.
هذا والله أعلم والحمد لله أولاً و آخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
[1] الكاساني، علاء الدين، أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني الحنفي (المتوفى: 587هـ) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع،دار الكتب العلمية ط 2 1406 هـ - 1986م(1/320).