دراسات وبحوث

أضيف بتاريخ : 15-08-2024


أهم أسباب انتشار الطلاق في المجتمع الأردني

دراسة تحليلية ميدانية(*)

المفتي محمد الحنيطي/ مفتي مكتب إفتاء جنوب عمّان

الملخص

الحمد لله الذي هدى، والصلاة والسلام على رسول الهدى، وعلى آله وأصحابه ومَن بهم اقتدى، وبعد:

فقد تناولت في هذا البحث أهم الأسباب التي تقف وراء انتشار الطلاق في المجتمع الأردني، والتي أحسب أنها هي الأسباب عينها في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية.

ولقد اشتمل هذا البحث على مبحثين:

تناولت في المبحث الأول منهما مطالب عدة، وهي:

ما يتعلق بتعريف الطلاق لغة واصطلاحاً، وحكم الطلاق، وأن الطلاق تعتريه الأحكام الشرعية، ثم الحكمة من تشريع الإسلام للطلاق، كما بيّنت في المطلب الأخير متى يكون اللجوء إلى الطلاق حتى لا يصبح الطلاق وبالاً على الأسر والمجتمعات.

أما المبحث الثاني فيتكون من مطلبين:

أما المطلب الأول فبيّنت فيه أهم أسباب انتشار الطلاق في المجتمع الأردني، وذلك من خلال ما يُعرض على السادة المفتين في دائرة الإفتاء العام، وذلك من خلال التواصل بين المفتين والمشاورات التي يجرونها، وأحيانا تشكيل لجان لدراسة بعض تلك الحالات، ومن المعلوم أن من يراجعون دائرة الإفتاء يتفاوتون في الفئات العمرية والمستويات التعليمية والاجتماعية.

وفي المطلب الثاني ذكرت الحلول والمسؤوليات، وبيّنت دور كل من الأسرة والمؤسسات التعليمية ودور الدول والحكومات في الحد من انتشار ظاهرة الطلاق في المجتمع.

ولقد خرجت بمجموعة من التوصيات والنتائج التي توصلت إليها في هذا البحث، والتي قد تشكل سبيلاً إلى الحد من انتشار ظاهرة الطلاق في المجتمع الأردني.

الكلمات المفتاحية: الطلاق، انتشار، المجتمع الأردني

المقدمــــة

الحمد لله ربّ العالمين، حمداً يليق بجلاله وعظمته على ما أنعم ويسّر، وأصلي وأسلم على النبي الأكرم سيد الثقلين، وخير خلق الله تعالى أجمع، وعلى آله وأصحابه ومَن اتبع.

وبعد:

فبعد التوكل على الله العلي القدير، والاستعانة به سبحانه، عزمتُ على البحث في أهم الأسباب التي تقف وراء انتشار الطلاق في مجتمعنا الأردني.

وإني لأظن أن المجتمع الأردني هو مثال لباقي المجتمعات العربية والإسلامية، ذلك أنّ الأسباب المؤدية إلى وقوع الطلاق في مجتمعنا هي غالباً الأسباب عينها في تلك المجتمعات.

والمفتي في دائرة الإفتاء العام في المملكة الأردنية الهاشمية يُشاهد بعينيه ذلك الانتشار الكبير للطلاق في مجتمعنا، والآثار المترتبة عليه.

ومن المعلوم أنّ عمل المفتي منحصر فيما يتعلق بأمر الطلاق في إعطاء الفتوى، وإصدار الحكم الشرعي في واقعة الطلاق المعروضة عليه، مع ما يُسديه من نُصح وإرشاد للزوجين.

ولكني وفي هذا البحث أردتُ أن أستقصي الأسباب التي تقف وراء هذا الكمّ الكبير من حالات الطلاق في مجتمعنا بحسب ما يُعرض علينا من وقائع في دائرة الإفتاء العام.

ولقد توصلت بحمد الله تعالى إلى جملة من تلك الأسباب، وسأحاول في هذا البحث تسليط الضوء عليها ومناقشتها وبيان الحلول الشرعية لها، محاولاً تقديم عرض تحليلي لتلك الأسباب مع ذكر السُبل والوسائل التي تحدّ منها.

راجياً من الله تعالى أن يكون لهذا البحث مساهمة ولو يسيرة في دفع هذا الخطر العظيم الذي تغفل عن نتائجه الكثير من العقول، ذلك أن أثره السيئ لا يقتصر على الزوجين فحسب، بل يتعداهما إلى المجتمع كله، ذلكم أن انتشار الجريمة والمعدلات الخطيرة لها وازديادها بشكل مقلق بحسب إحصائيات الجهات الأمنية، أقول: إن منبع هذه الجرائم هم أشخاص لم يجدوا نواة أسرة سليمة تقوم على توجيههم، وإعمار قلوبهم بالإيمان، وتقويم سلوكهم، وإشباع حاجاتهم، فهذه أسرٌ مفككة انفصل فيها الزوج عن زوجته فتاه الأولاد بينهما، فانقض عليهم أهل السوء، وتجار الحرام، ومروجو الجرائم، فجعلوا منهم أتباعاً لهم ينفذون أوامرهم ويتّبعون نهجهم.

أهمية البحث:

تكمن أهمية البحث في كونه يُسلط الضوء على الأسباب الحقيقية والواقعية التي تقف وراء انتشار الطلاق في مجتمعاتنا.

كثيرٌ من الذين يتحدثون ويكتبون في أسباب الطلاق تراهم يتناولون السبب الآني المباشر، بمعنى المشكلة التي حصلت بين الزوجين فنتج عنها تلفظ الزوج بكلمة الطلاق، لكنّ هذا البحث يتناول الأسباب الأساسية للطلاق والنابعة من الأسس الخاطئة في اختيار شريك الحياة.

أهداف البحث:

هدفت هذه الدراسة إلى تتبع الأسباب التي تقف وراء انتشار الطلاق في المجتمع الأردني، والذي أخال أنه مثال لباقي المجتمعات العربية والإسلامية، وبالتالي إيجاد الحلول والعلاجات الناجعة للحد من انتشار هذه الظاهرة المتزايدة والآثار الاجتماعية والاقتصادية المترتبة عليها.

إذن؛ فالدراسة سعت من خلال الوقوف الحقيقي على أسباب انتشار الطلاق بتتبع الحالات التي تعرض على السادة أصحاب الفضيلة المفتين في دائرة الإفتاء العام، ومن ثم تكون هذه الدراسة بمثابة التشخيص الحقيقي لهذا الداء العضال، ومحاولة تقديم الحلول التي تؤسس لمزيد من الدراسات والأبحاث المعمّقة والقابلة للتطبيق في الواقع الحياتي، علّها تُسهم في الحدّ من هذه الظاهرة الخطيرة.

إشكالية البحث:

تكمن إشكالية البحث في محاولة تتبع حالات الطلاق المعروضة على دائرة الإفتاء العام الأردنية والوقوف على السبب الحقيقي وراء كل حالة، ورده إلى سببٍ عام، فهذه الدراسة لم يُقصد بها ذكر السبب المباشر أو ذكر المشكلة التي وقعت بين الزوجين فنتج عنها حصول الطلاق، بل رد أسباب هذه المشاكل إلى أسباب عامة، وبيان أن بناء الزواج أساساً بين هذين الزوجين لم يكن بناءً صحيحاً، ولم يكن الاختيار اختياراً سليماً.

كما تسعى هذه الدراسة إلى إيجاد نوع من الحلول من خلال توجيه النظر إلى أسس البناء السليم للأسر.

منهج البحث:

اعتمدت في إعداد هذا البحث المنهج التالي:

أولاً: المنهج الاستقصائي: الذي يقوم على تقصّي وتتبع الكثير من حالات الطلاق المعروضة على دائرة الإفتاء العام، ومن جميع المستويات التعليمية، وكذلك جميع الفئات العمرية والوقوف على أسبابها.

ثانياً: المنهج التحليلي: ويقوم على تحليل هذه الوقائع ومحاولة حصرها في مجموعة من الأسباب، والبحث في الحلول الناجعة التي كان بالإمكان أن تحدّ من وقوع هذه الحالات لو استخدمها الزوجان كلاهما.

الدراسات السابقة:

1. الطلاق أسبابه ونتائجه من وجهة نظر المطلقات، دراسة ميدانية في محافظة نابلس، مهتاب أحمد إسماعيل أبو زنط، أطروحة ماجستير في جامعة النجاح في نابلس، 2016م.

2. ظاهرة الطلاق في دولة الإمارات العربية المتحدة والأسباب والاتجاهات والمخاطر والحلول، عبد الرزاق فريد المالكي، 2001م.

3. التدابير الشرعية للحدّ من وقوع الطلاق في المجتمع الأردني، فتح الله تفاحة، دراسة فقهية مقارنة، مقدمة لكلية الدراسات الفقهية والقانونية، جامعة آل البيت، المفرق، الأردن.

ما تتميز به هذه الدراسة عمّا سبقها:

مما تتميّز به هذه الدراسة عمّا سبقها من دراسات وأبحاث، أنها تناولت وقائع الطلاق التي جرى إصدار الفتاوى بشأنها في دائرة الإفتاء العام الأردنية، وعليه فهي دراسة تتناول تحليل تلك الوقائع، ومحاولة الوقوف على جملة الأسباب التي أدت وتؤدي إلى حدوث الطلاق في المجتمع الأردني، بخلاف ما سبقها من دراسات وأبحاث تتناول الطلاق وأسبابه من منظور نظري بحت، وحتى على فرض أن أصحابها تواصلوا مع مَن يتصدى للقضاء أو الإفتاء، فهي لن تكون غالباً بدقة مَن يكتب في أسباب الطلاق وهو بذاته مَن تصدى لسماع وقائع الحادثة من الزوجين، ووقف على أسبابها وسبر أعماقها، ثم أصدر الفتوى الشرعية بشأنها.

ثم هذا بحث خرج من رحم دائرة الإفتاء العام وعمل المفتين بها، ولا شك أن مَن رأى وسمع ليس كمن سمع فقط، ومنه قوله ﷺ: "ليس الخبر كالمعاينة"([1]).

خطة البحث:

المقدمة

أهمية البحث

أهداف البحث

إشكالية البحث

منهج البحث

الدراسات السابقة

ما تتميز به هذه الدراسة عمّا سبقها

المبحث الأول: فقه الطلاق، ويشمل:

المطلب الأول: تعريف الطلاق لغة واصطلاحاً

المطلب الثاني: حُكم الطلاق

المطلب الثالث: الحكمة من تشريع الطلاق

المطلب الرابع: متى يكون اللجوء إلى الطلاق

المبحث الثاني: الطلاق الأسباب والحلول

المطلب الأول: أسباب الطلاق في مجتمعاتنا، ويشمل:

غياب الكفاءة الدينية

تجاوز الكفاءة المالية

انعدام التوافق العلمي والفكري

عدم التوافق الاجتماعي

التفاوت في السن بين الأزواج

وسائل التواصل الحديثة

المطلب الثاني: الحلول والمسؤوليات

دور الأسرة

دور المؤسسات التعليمية

دور الدول والحكومات

التوصيات

الهوامش

قائمة المراجع والمصادر

المبحث الأول

فقه الطلاق

المطلب الأول: تعريف الطلاق لغة واصطلاحاً

أولاً: الطلاق لغة:

التخلية([2])، وفي معجم العين للفراهيدي: تخلية سبيل المرأة، وقيل الطالق من الإبل: ناقة تُرسل في الحي ترعى من جنابهم أي حواليهم حيث شاءت، لا تعقل إذا راحت ولا تنحى في المسرح([3]).

وكان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته حين يُطلقها: خليت سبيلك (اذهبي حيث شئت)([4])، وقال صاحب المفردات في غريب القرآن: أصل الطلاق التخلية من الوثاق، يُقال: أطلق البعير من عقاله، وطلقته وهو طالق وطلق بلا قيد، ومنه استعير طلقت المرأة نحو خليتها فهي طالق أيّ مخلاة عن حبالة النكاح([5]).

ثانياً: الطلاق اصطلاحاً:

- عند الحنفية: رفع القيد الثابت شرعاً بالنكاح([6])، وقال ابن عابدين: والمراد بالقيد العقد.

- عند المالكية: قال صاحب مواهب الجليل: قال ابن عرفة: الطلاق صفة حكمية ترفع حليّة متعة الزوج بزوجته([7]).

- وقيل هو حل العصمة المنعقدة بين الزوجين([8]).

- عند الشافعية: حل عَقد النكاح بلفظ الطلاق([9])، وجاء في تحفة المحتاج: هو حل قيد النكاح باللفظ الآتي، "ويقصد هنا ألفاظ الطلاق الصريح والكنائي"([10])، وقيل هو تصرف مملوك للزوج يُحدثه بلا سبب فيقطع النكاح([11]).

- عند الحنابلة: حل قيد النكاح([12]).

ويُلحظ من تعريف السادة الفقهاء للطلاق أنه حلّ قيد، والحلّ لا يكون إلا بعد عقد، فالزواج انعقاد عقد، وهذا العقد لا يُحل إلا بطلاق أو فسخ، فلا يتصور في شريعتنا أن هنالك عقداً بين الناس لا انفكاك منه.

المطلب الثاني: حُكم الطلاق

الأصل في الطلاق أنه مشروع باتفاق الفقهاء جميعاً، ويدلّ على مشروعيته أدلة من الكتاب والسنة النبوية.

أ- أدلة الكتاب الكريم:

1. قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229]، قال الإمام البيضاوي في تفسيره: الطَّلاقُ مَرَّتانِ أي التطليق الرجعي اثنان([13]) لما روي "أنه ﷺ سُئِلَ أين الثالثة؟ فقال u: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ"([14]).

2. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ [الطلاق:1].

ب- أدلة السنة النبوية:

1. أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها([15]).

2. أن ابن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته في حيضها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يطلقها في طهر إن شاء([16]).

وقد اختلف الفقهاء في أصل الطلاق أهو مباح أم محظور، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه مباح، وقال السيوطي رحمه الله أنه محظور([17]).

 والفقهاء جميعاً متفقون على أن الطلاق تعتريه الأحكام الشرعية:

1. فيكون حراماً: إن كان يهدف من ورائه الإضرار بالزوجة، ولم يكن هناك ثمة سبب لذلك، ولهذا قال صاحب الدر المختار: "فإذا كان بلا سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقاً وسفاهة رأي، ومجرد كفران النعمة، وإخلاص الإيذاء بها وبأهلها وأولادها"([18])، ولهذا قال تعالى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾[النساء: 34]، وقال تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾[الطلاق: 1]، أي في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وزمن الحيض لا يحسب من العدة، والمعنى فيه تضررها بطول العدة، فإنّ بقية الحيض لا تحسب منها، والنفاس كالحيض لشموله المعنى المحرّم له([19]).

وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: "كما لو علم أنه إن طلقها وقع في الزنا لتعلقه بها أو عدم قدرته على زواج غيرها".

2. وقد يكون مندوباً: فيندب للزوج أن يطلق زوجته إن كانت لا تلتزم بأحكام الشرع الشريف، مثل أن تأبى الصلاة مع اعترافها بفرضيتها.

3. وقد يكون مباحاً: مثل أن تكون الزوجة سيئة الخلق أو سيئة العشرة.

4. وقد يكون مكروهاً: إذا كان هناك داعٍ للطلاق، ولكن كان بالإمكان إصلاح هذه الزوجة([21]).

المطلب الثالث: الحكمة من تشريع الطلاق

شرع الإسلام الطلاق ليكون حلاً نهائياُ يلجأ إليه الزوج عندما تستحيل الحياة الزوجية بينه وبين زوجته، وعند استنفاذ السُبل والوسائل كافة التي شرعها الله تعالى، يقول الله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾[البقرة: 229]، فلا يُعقل في شرع الله تعالى الذي جاء لمصلحة العباد، وإيجاد العدل ورفع الظلم أن يبقى الانسان في ربقة عقد زواج تبيّن له استحالة الاستمرار فيه، فالإسلام دين رحمة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107]، لذلك فالحكمة من تشريع الطلاق بيّنة واضحة وهي الحفاظ على حياة وكرامة كل من الزوجين، بدل أن يعيشا في كنف حياة بغيضة فيها الشيء الكثير من المشاكل المستعصية على الحل.

وهذا ما حصل مع حبيبة ابنة سهل رضي الله عنها، وكانت زوجة لثابت بن قيس الأنصاري رضي الله عنه، فكرهته وكان رجلا دميماً، فشكت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أتردين عليه حديقته التي أصدقك"، قالت: نعم، فأرسل إليه فردت عليه حديقته وفرّق بينهما([22]).

إذن؛ فالطلاق حل للمشاكل وليس تأزيماً لها، فمن أخذه بحقه نجا، ونجا المجتمع من آثاره السلبية، ومَن تهاون به وتلاعب هلك وأهلك مجتمعه.

المطلب الرابع: متى يكون اللجوء إلى الطلاق؟

سبق أن قلنا في أثناء الحديث عن الحكمة من تشريع الطلاق، إن الإسلام شرع الطلاق حلاً نهائياً يلجأ إليه الزوج عندما تستحيل الحياة الزوجية بينه وبين زوجته.

لقد شرع الإسلام منظومة من أسس التعامل بين الزوجين عمادها حقوق وواجبات، ولكن المشاهد من واقع الحال أن الكثير من الأزواج ليس لديهم دراية كافية بهذه الحقوق وتلك الواجبات، بل هو إلمام بسيط لا يغني ولا يسمن من جوع.

ثم إن الإسلام شرع سبلاً لحل المشكلات الزوجية، فالحياة الزوجية لا بد أن يعتريها من الخلافات ما يعتريها، فتعصف بها رياح المشكلات، فلا يعقل أن تسير حياة زوجية بلا مشاكل، ولأجل ذلك فقد شرع الإسلام طرقاً لحل هذه المشكلات، قال الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾[النساء: 34].

لذا نرى أنّ حل المشاكل الزوجية له سُبل ينبغي على الزوج أن يتدرج بها، ولا يكون الوصول إلى الطلاق إلا بعد استنفاذ هذه السُبل كافة، ومنه تحكيم أهل الخبرة وأهل الصلاح، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾[النساء: 35]، ثم إذا أراد الزوج أن لا يقع في الإثم عند طلاق زوجته، ويكون الطلاق وفق ما شرع الله تعالى فلا يجوز له أن يقدم على طلاق زوجته وهي حائض أو نفساء أو في طهر جامعها فيه، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالطلاق البدعي، ولا شك أن حكمة الشرع في ذلك واضحة بيّنة، ذلكم أن الزوج الذي يغضب من زوجته، ويعزم على طلاقها وهو في قمة غضبه ثم يجدها وقد حاضت أو نفست أو أصبحت حاملاً أو في طهر جامعها فيه، ثم ينتظر زوال هذا الأمر فلا شك أن سَورة غضبه سوف تزول، فتراه يعدل عن طلاقها، ولو اتبع الأزواج هذا الأمر لرأينا أن نسبة الطلاق في مجتمعنا تنخفض بشكل كبير.

لذلك فاللجوء للطلاق أمر عظيم، لا ينبغي للزوج أن يقدم عليه رأساً، بل لا بد من التريث والتبصر، والنظر في عاقبة الأمور، وأن يكون في الطلاق دفع ضرر أعظم، أما ما نراه من هجوم على الطلاق بطريقة تعسفية، فهذا دليل جهل، وانعدام روية، وانحصار بصيرة، وضعف شخصية، وعجز عن تحمل المسؤولية.

المبحث الثاني

الطلاق الأسباب والحلول

المطلب الأول: أسباب انتشار الطلاق في مجتمعاتنا

لقد اهتم الإسلام بإيجاد وبناء الأسرة السليمة القوية المتماسكة، والتي تستطيع الصمود أمام ما يعصف بها من رياح الخلافات الزوجية، وما كان اهتمام الإسلام بالأسرة وبنائها بناء قوياً إلا لما يعّول عليها من أن تكون اللبنة الأساسية في المجتمع المسلم، والتي تعمل على إيجاد أجيال صالحة نافعة لنفسها ولأمتها.

ولذلك فإن عنوان بناء الأسرة في الإسلام هو إيجاد المودة والرحمة والألفة بين الزوجين قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الروم: 21].

إذن؛ فلا بدّ أن تسود المودة والرحمة بين الزوجين، فالعلاقة الزوجية التي تخلو من معاني المودة والرحمة ليست جديرة بالاستمرار والبقاء، فروح الرحمة والتواد بين الأزواج لا بد من ديمومتها واستمرارها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن لا يَرحم لا يُرحم"([23]).

ولقد حفلت السنة النبوية الشريفة بما حملته لنا من صور رائعة لما كان عليه البيت النبوي الكريم، وكيف كان تعامل المصطفى ﷺ مع أزواجه، فلقد نقلت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أهله، فقالت: "كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة"([24])، ومعنى "كان في مهنة أهله" أنه كان يساعد أهله بما يحتاجه البيت من أعمال.

وعليه؛ فاختيار شريك الحياة ينبغي أن يخضع لدراسة دقيقة، وأن يكون الاختيار بكل عناية ودقة، ذلكم أن مشروع الزواج ليس مشروعاً سهلاً، بل هو عظيم، وهو أعظم ما يُعقد بين البشر من شراكات، حتى إن الله تعالى سماه ميثاقاً غليظاً، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا* وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾[النساء: 20،21].

وللأسف فإن المشاهد والمتتبع للكيفية التي يتم فيها اختيار الشريك في هذه الأيام ليصاب بخيبة أمل، حيث نرى التعجل وعدم التروي، وتسمع الكثير ممن يؤمنون بفكرة أن الإنسان مهما كان منحرفاً وبعيداً عن طريق الحق، ويقترف الكثير من المعاصي والآثام، فإنه بمجرد زواجه سوف يتغيّر تغيراً جذرياً، وعلى هذا المعتقد الفاسد يُقدم أولياء أمور النساء على تزوجهن ممن لا يقيمون لله وشرعه وزناً، وهذا بالطبع خلاف ما أرشدنا إليه الشرع الحنيف، حيث أرشد النبي الكريم صلوات الله تعالى عليه وسلم الأولياء والنساء إلى اختيار صاحب الدين والخلق، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"([25]).

والحقيقة المُشاهدة أن الغالبية العظمى من الزيجات التي بُنيت على هذا المعتقد لم تدم طويلاً، حيث إن مَن نشأ على شيء وتعوّد عليه ليس من السهل وبمجرد زواجه أن يتركه، خاصة في زماننا هذا، حيث انتشرت الثقافات الفاسدة، ورفقاء السوء، وتعاطي المسكرات والمخدرات، وشيوع الجرائم بشكل كبير.

إن سوء اختيار أحد الزوجين شريكه هو عامل مهم من عوامل انتشار الطلاق في مجتمعاتنا، وسنشرع الآن في الحديث عن أهم الأسباب التي تقف وراء الانتشار الكبير للطلاق في مجتمعنا الأردني، وذلك من خلال تعاملات دائرة الإفتاء العام.

1. غياب الكفاءة الدينية:

أرشد الإسلام الرجل والمرأة إلى أن يكون اختيارهم لشريك الحياة مبني على أساس التقوى والصلاح وكمال الأخلاق والتحلي بالطباع الحسنة، فقال صلى الله عليه وسلم معلماً وموجهاً للرجال في كيفية اختيار الزوجة: "تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ"([26])، وقال ﷺ كذلك: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله"([27])، كما أرشد المرأة ووليها أن يولوا صاحب الدين والخلق الأولوية، وأن يقدموه على غيره، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"([28]).

ولكن واقع الحال وما هو مشاهد أنّ الكثير من الزيجات لم تبنَ على الأساس الديني الصحيح، فإنك لتلاحظ الشاب الذي لا يعرف من الإسلام إلا اسمه يتقدم لخطبة فتاة ما، وقد تكون هذه الفتاة على درجة من التدين والالتزام بأوامر الله تعالى، ولطالما حلمت برجل يماثلها في التزامها الديني، تطلعاً منها إلى تأليف أسرة متحابة مبينة على شرع الله تعالى، عمادها تقوى الله، أقول وعندما يتقدم هذا الشاب لمثل هذه الفتاة، مع ما يجب أن لا نغفل عنه، وهو ذلك الإحساس الذي يُطارد السواد الأعظم من الفتيات بأن سنّ الزواج إن تأخر وتقدمت البنت بالعمر، فإن فرص زواجها تقلّ، بل قد يفوتها قطار الزواج، وتحت وقع هذا الإحساس المخيف تسارع الفتاة بالقبول بهذا الشاب، وبمجرد أن يطرق بابها، حتى وإن طلب أهلها مهلة لكي يقوموا بالاستفسار والسؤال عن هذا الشاب، وعن أحواله وصفاته، فإنك تلاحظ ومن خلال الحوارات مع كثير من المراجعين لنا في دائرة الإفتاء أن عملية السؤال والاستفسار عن أحوال هذا الشاب لم تكن بالكم ولا بالكيف المناسب، بل إن البعض عندما سألناهم هل تأكدت من التزامه الديني، وما هي الطريقة التي اتبعتموها في ذلك؟ تكون الإجابة صادمة حيث إن الأسئلة كانت توجه للشاب نفسه أو لأهله.

وبالطبع ستكون الإجابة من هذا الشاب أو من أهله أن ملتزم ومتدين وأن أخلاقه عظيمة، فهل يُعقل أن يُجيب بالنفي، وهل يُتصوّر شاب يتقدم لخطبة فتاة في مجتمعنا المحافظ أن يكشف أوراقه، ويظهر خبايا وأسرار حياته، بل تراه يسارع إلى إظهار صورة مشرقة ناصعة عن نفسه، بل وإمعاناً في تضليلهم يقوم معهم لأداء الصلاة، فتجد مثل هؤلاء الأهل يفرحون ويسرون بأن الله تعالى قد يسر لابنتهم شاباً متديناً وصاحب أخلاق رفيعة، كما كانوا يتمنون ويحلمون، ثم وبعد حصول الزواج تبدأ الحقائق تنكشف، والغيوم تنقشع، ويظهر الوجه الحقيقي لهذا الشاب، بل إن البعض ممن راجعنا في دائرة الإفتاء تفاجأ أن الرجل الذي قبل به زوجاً لابنته من المطلوبين أمنياً بقضايا المخدرات، أو من أصحاب السوابق، وأرباب الإجرام، وممن يتعاطون المسكرات والمخدرات، ولا يعرف صلاة ولا صياماً، ولا يُحسن من القول إلا أقبحه، سبّابٌ لعانٌ، لا يقيم وزنا لا لخالق ولا لمخلوق، ظلومٌ غشومٌ، فتبدأ الفتاة بالانهيار والصدمة أمام هذا الواقع، ويبدأ الإيذاء الجسدي والنفسي لها ولأهلها، فلا يستغرب المرء أن بعض حالات الطلاق ممن راجعونا لم يمرّ على زواجهم أقل من شهر.

هذا جانب، وهناك جانب أخر أدهى وأمرّ، ذلكم أن بعض الأهالي والفتيات يعرفون أن هذا الشاب لا يلتزم بشرع الله تعالى، وأن له من السلوكيات المنحرفة، ولكن مما ساد في ذهن الكثير من الناس، وخاصة في القرى والبوادي، مقولة: أن الشاب بعد الزواج يتغيّر أو بلفظ آخر "يعقل" أي يصبح عاقلاً ملتزماً، وأن المرأة الجيدة هي التي تستطيع أن تغيّر الرجل.

هذا ما هو سائدٌ في كثير من أرجاء وطننا وبين أفراد مجتمعنا، وعليه فترى الفتاة وأهلها يقبلون بهذا الشاب زوجاً لابنتهم، ومعلوم أن هذه المقولة الى ذكرناها هي ليست أمراً مجمعاً عليه، فالكثير من الرجال المنحرفين في أخلاقهم وسلوكياتهم لا يُصلحهم زواج ولا غير زواج، بل ولا تصلحهم نساء الأرض ولو اجتمعن، ولذلك فإن هذه الفتاة تجد نفسها أمام سدٍ منيعٍ وحصن حصين، فتبدأ المحاولات التي تقوم بها بالضعف أمام شراسة أخلاق زوجها وعناد طبعه، فتجدها تستسلم وتُظهر العجز، ويبدأ الشعور بالندم يأخذ منها كل مأخذ، ولات حين ندم، ولا يبقى أمامها إلا قرار الانسحاب من هذه المعركة، وتبدأ عندئذٍ بطلب الطلاق.

ومن جانب آخر؛ فإن الجهل بالأحكام الشرعية، وهو شكل من أشكال عدم التكافؤ الديني بين الزوجين، حيث تجد الجهل الكبير بالأحكام الفقهية المتعلقة بالطلاق، فالسواد الأعظم من شبابنا سواء المتعلم أم غير المتعلم لا يعرف الأحكام الفقهية المتعلقة بالطلاق، وللأسف فإن المرحلة الجامعية، وهذا قد يكون في أغلب الجامعات العربية والإسلامية لا تخصص مساقاتٍ للحياة الأسرية والأحكام الشرعية المتعلقة بها، ولذلك فإن الطالب الجامعي يكون آخر عهده بالأحكام الشرعية المتعلقة بالطلاق ما كان درسه في المرحلة الثانوية، من دروس بسيطة لا تسمن ولا تغني من جوع.

وهذا وللأسف واقع مشاهد تسبب بنسبة غير قليلة في رفع حالات الطلاق.

ولبيان ذلك نقول: إن الكثير من الأزواج عندما يتلفظون بألفاظ الطلاق، لا يعرفون ما يترتب على ذلك من أحكام.

ولقد جاءنا مَن طلق زوجته بعد فترة وجيزة من الزواج ثلاث طلقات، وفي فترات زمنية مختلفة، وهو يظن أن هذا الطلاق لا يقع، إما لأنه كان في حالة عصبية فيُقنع نفسه أن مَن طلق زوجته وهو في حالة غضب لا يقع طلاقه دون معرفة بحجم هذا الغضب، وجاءنا كذلك مَن طلق زوجته ممازحاً لها ومعتقداً أن الطلاق لا يقع بهذا الشكل، مع أن الحديث الشريف يقول: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة"([29])، ومنهم مَن يعتقد أن طلاق المرأة وهي في العذر الشرعي لا يقع، والأدهى من ذلك أن البعض عندما يتلفظ بالطلاق يسأل أحد أفراد العائلة عن حكم هذا الطلاق، وقد تكون أم الزوج أو أم الزوجة، فتقول هذه المرأة: إن هذا الطلاق لا يقع، من باب خشيتها على مصلحة ابنها أو مصلحة ابنتها، وكأنها أقامت نفسها مقام المفتي، بل إن البعض وأثناء جائحة كورونا، وفرض الحظر الشامل، أقول: إن البعض مما راجعنا بعد ذلك كان يعتقد أن الطلاق لا يقع في هذه الحالة، ويقول: "الطلاق لا يقع في زمن كورونا"!! هذا ممن لم يتخصصوا في المجال الشرعي، وإليك طرفاً ممن تخصص في المجال الشرعي، سواء كان الزوج أم الزوجة، فتراه يفتي نفسه في كل واقعة، ويعتقد أن الطلاق لا يقع لوجود انفعال وغضب، وبعد تكرار هذا الأمر يخطر على باله مراجعة دائرة الإفتاء العام، وعند بحثنا معه لهذه الحالات، واحدة واحدة، يتبين لك أنّ الطلاق واقع فيها جميعاً، وبانت منه زوجته بينونة كبرى، والأخطر من ذلك أنه يكون قد عاش معها فترة من الزمن بعد حوادث الطلاق تلك.

في مثل هذه الحالات تدرك قيمة الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"([30]).

لذا ينبغي أن يكون المسلم فقيهاً في أمر دينه وخاصة في كل أمر يقبل عليه، بمعنى أن مَن أراد الزواج من الشباب، فعليه أن يتفقه في أحكام الزواج وما للزوجين من حقوق وما عليهما من واجبات تجاه بعضهم، وأن يتفقه كذلك بكيفية حل المشكلات الزوجية، وأحكام الطلاق وأنواعه، حتى يقود هذه الأسرة على بصيرة وهدى، ألا ترى أن مَن أراد أن يشتري سيارة، يُطلب منه الحصول على رخصة قيادة تخوله قيادة هذه السيارة، حتى لا يقع بالأخطاء ويتسبب بالحوادث القاتلة، وكذلك مَن يقود أسرة بلا علم ولا دراية بالأحكام الشرعية المتعلقة بها فسوف يتسبب بحوادث اسرية، أعظمها حادث الطلاق والفراق وتشتت الأسرة.

وعليه؛ فقد تبيّن لك أن انعدام الكفاءة الدينية بين الزوجين والجهل بالأحكام الشرعية المتعلقة بالأسرة، كل ذلك مما يتسبب بزيادة نسب الطلاق في مجتمعاتنا وبشكل كبير.

2. تجاوز الكفاءة المالية:

اشترط قانون الأحوال الشخصية الأردني في المادة (21) الفقرة (أ) أن يكون الزوج كفؤاً للزوجة من الناحية الدينية والمالية.

والمقصود بالكفاءة المالية هي قدرة الزوج على توفير حياة زوجية كريمة لزوجته وأسرته. ونشاهد في دائرة الإفتاء العام أن الكثير من المشاكل الزوجية المُفضية إلى الطلاق مردها التقصير في الجانب المالي، وبيان ذلك:

1. زواج المرأة من رجل فقير ليس لديه الكفاية المالية الضرورية لإقامة حياة زوجية كريمة.

2. أن يكون الزوج على مستوى مالي جيد، ولكن ولسبب ما يتردى وضعه المالي بشكل كبير، فيصح فقيراً.

3. تسلط بعض الأزواج على مال الزوجة، سواء كان هذا المال مما ورثته عن مورثها أو من عملها ووظيفتها.

ولقد ذكرت لنا بعض الزوجات أن زوجها لا يسمح لها باستلام راتبها بنفسها، بل يقوم هو بذلك من خلال حيازة بطاقة الصراف الآلي الخاصة بالزوجة، فالزوجة تعمل والزوج يقوم باستلام الراتب، وإن طلبت شيئاً من مالها أعطاها القليل.

هذا واقع معيش وموجود على أرض الواقع سمعناه كثيراً من أفواه كثير من الزوجات، وبالطبع فإن هذا من منغصات الحياة الزوجية، وسبب في جرها إلى مستنقع المشاكل المُفضية إلى الطلاق.

فالمرأة وأمام هذا الواقع الظالم، إما أن ترضى وتتعايش وتقبل بذلك، وتنتظر فرجاً من الله تعالى، وإما أن ترفض وتطلب الانفصال عن هذا الزوج.

ومعلوم من شرع الله تعالى أن المُطالب بالنفقة على البيت وعلى الأسرة هو الزوج، يقول الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾[النساء: 34]، وقال تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى* لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾[الطلاق: 6، 7].

أما كيف نشأت هذه المشكلة في مجتمعنا، فإنّ المتتبع يلحظ أن بعضاً من أولياء الأمور عندما يتقدم شاب لخطبة ابنته، ويكون هذا الشاب إما فقيراً معدماً وإما عاطلاً عن العمل، فإنّ ولي الأمر هذا يقبل متعللاً ببعض الأدلة الشرعية، مثل:

1. قوله تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[النور: 32].

2. قوله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفَافَ"([31]).

3. أنه صلى الله عليه وسلم زوّج امرأة من رجل فقير وقال له: "التمس ولو خاتماً من حديد"([32]).

4. حديث: "تزوجوا فقراء يغنيكم الله"([33]).

5. قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "التمسوا الغنى في النكاح"([34]).

أما الآية الكريمة فإنها تندب إلى الزواج من أهل الصلاح والتقوى، وأن يكون الصلاح هو المعيار الأول في اختيار الشريك، وقيل إن الغنى المذكور في الآية هو القناعة، كما قاله الإمام البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره([35]).

وهذا الحال يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فلقد كانت الحياة الأسرية في العهد النبوي وما بعده بسيطة، لا تحتاج إلى الكثر من التكاليف المادية، حتى في زماننا وفي بلادنا، فلقد كانت الحياة قبل مئة سنة أبسط بكثير من الحياة في هذه الأيام، فنفقات البيوت وتربية الأولاد لم تكن تحتاج إلى كثير من المال.

وحتى لو فرضنا أن إنساناً يريد أن يزهد في كثير من مطالب الحياة الدنيا، فهو لا يستطيع أن يفرض هذا على غيره من زوجة وأولادٍ، وما قلناه هنا ينطبق على بقية الأدلة.

أما حديث "تزوجوا فقراء يغنيكم الله"، فقد قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: فلا أصل له، ولم أره بإسنادٍ قوي ولا ضعيفٍ إلى الآن([36])، وقال صاحب كتاب أسنى المطالب: ليس بحديث([37])، وأكد على ذلك صاحب كتاب الجدّ الحثيث في بيان ما ليس بحديث([38]).

إذن فالكفاءة المالية، وقدرة الزوج على النهوض بالأعباء الأسرية أمر ضروري، تقوم به الحياة الزوجية على وجه سليم، وإنك لتلاحظ حجم الخلافات والنزعات الزوجية في حال كان الزوج ضعيفاً في قدرته المالية، فضلاً أن يكون معدماً أو عاطلاً عن العمل أو ممتنعاً عنه، ويركن إلى ما تحصل عليه الزوجة من مالٍ من عملها.

هناك فرق بين التساهل في تكاليف الزواج، ومراعاة الزوج في ذلك، وبين أن يكون هذا الشاب غير مؤهل مالياً لإنشاء أسرة، فانعدام القدرة المالية للزوج أو ضعفها من شأنه أن يكون سبباً قوياً في نشوء الخلافات الزوجة، ومن رأى ليس كمن سمع، وفي الحديث الشريف: "لَيْسَ الْخَبَرُ كالْمُعَايِنِ"([39])، فلقد رأينا وسمعنا في دائرة الإفتاء العام ومن أفواه الأزواج، من أسباب المشاكل الزوجية بسبب عدم الكفاءة المالية وتسلط بعض الأزواج على مال زوجته الشيء الكثير.

3. انعدام التوافق العلمي والفكري:

رفع الله سبحانه وتعالى شأن العلم، فقال سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الزمر: 9]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[فاطر: 28]، بل جعله دعاءً للمؤمن، قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[طه: 114]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"([40])، ومن هذا المنطلق العظيم، فإنّ التوافق العلمي بين الزوجين، بمعنى أن يكون الزوج والزوجة في درجة علمية متساوية أو متقاربة، لهو سببٌ عظيم في ديمومة الحياة الزوجية، وتماسكها، وانسجام الزوجين في الرؤى والتطلعات والأفكار، فتراهم يفكرون بمنهجية متساوية، ويخططون ويتناقشون، ويتبادلون وجهات النظر، ولهم قدرة على حل المشكلات بينهما، ولهم قدرة كذلك في تسير حياة أولادهما، والعناية بهم صحياً وتربوياً وتعليمياً.

أما ما نشاهده على أرض الواقع من وجود عدد من الزيجات التي لم تبنَ على أساس من التوافق العلمي والفكري بين الزوجين، إنما هو ما ذكرناه سابقا مما عشش في نفوس كثيرٍ من الفتيات من الخوف مما يسمى بالعنوسة، وفوات قطار الزواج، وبالتالي القبول بالشاب المتقدم لخطبتها مهما كان تحصيله الدراسي.

ولقد جاءتنا حالات تكون فيها الزوجة جامعية، بل تحمل شهادة في الدراسات العليا، والزوج أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وأحياناً يكون السبب في حصول هذه الزيجات الغريبة هو العادات والتقاليد المتبعة في بعض المناطق، وهو أن هذا الفتاة ومن طفولتها هي لفلان من أبناء عمومتها أو أقاربها، ويبقى إصرار الأهل على هذا الزواج حتى لو أصبحت هذه الفتاة من أصحاب الشهادات العليا، والشاب متسربٌ من التعليم.

ومن خلال هذا الواقع المؤسف، يمكن تصور شكل الحياة بين زوجين ليس بينها انسجام تعليمي أو فكري، وهذا بالطبع أمرٌ واقعٌ ومشاهدٌ للكثير من الحالات التي راجعت دائرة الإفتاء العام.

إن كان الشاب هو المتعلم وأجبر على الارتباط بفتاةٍ غير متعلمةٍ لسببٍ ما، إما لأنها ابنة عمه أو زوجة أخيه المتوفى اضطر الشاب للزواج بها حفاظاً على أولاد أخيه، أو لغير ذلك من الظروف، فترى هذا الشاب وبعد ارتباطه بهذه الفتاة وعيشه معها وتعامله واحتكاكه بها، عندئذٍ تبدأ المشاكل تطفو على السطح، فلا تفاهم ولا انسجام، لا أحاديث تتبادل ولا وجهات نظر تتطابق، إن تحدث معها في شيءٍ لا يرى منها ردة فعل كما يرغب، النقاش والحوار حول القضايا العلمية والفكرية معدوم، حيث يجد أن تعاملها مع أولادها ورعايتهم وتربيتهم، إنما تعتمد فيه على ما تسمع من النساء المحيطات بها، ولقد ساهمت كثيرٌ من الأمهات غير المتعلمات بالتسبب بأمراض مزمنةٍ أو عاهات دائمة لأولادهنّ نتيجة جهلهنّ وقلة خبرتهنّ، واعتمادهنّ على وصفات وأفكار وآراء نساء أخريات دون الرجوع إلى أهل الاختصاص من الأطباء.

هذا الشاب وأمام هذا الواقع المؤلم يبدأ يتسلل الشعور بالندم إلى قلبه على مثل هذا الزواج، وخاصة إذا كان من الشباب الذين يعملون في مجال عملٍ مختلطٍ، فيه رجال ونساء، فيرى في زميلات العمل المتعلمات والموظفات اختلافاً كبيراً عن زوجته المسكينة غير المتعلمة، تبدأ عندئذٍ المقارنة، وتتزعزع الثقة والقناعة التي بنى عليها زواجه منها، فيرى أنه أضاع سنين عمره مع امرأة لا تناسبه، ولا يطمح بالعيش والاستمرار معها، فهي لا تفهم عليه ولا تستطيع ذلك، مع أنها قد تكون طيبة وتحبه، لكنّ ذلك لا يغني شيئاً، لذلك تراه إما أن يرتبط بامرأة أخرى مع بقاء هذه الزوجة وإما أن يقرر طلاقها، إن لم يستطع أن يجمع بينها وبين امرأة جديدة.

أما إن كان العكس، وتزوجت الفتاة المتعلمة بالشاب غير المتعلم لسبب من الأسباب التي سبق ذكرها، فترى الحياة بينهما تسير في اتجاه تسلط الزوج، ومحاولة اظهار سطوته وقوته، ونفوذ رأيه، تعويضاً للنقص الذي يشعر به، فهو لا يتخيّل أن يخضع لرأي امرأة، ويظهر أمامها بشكل العاجز والجاهل وهي المتعلمة التي تلقي عليه التعليمات والنصائح. وتجد مَن يحيط به من أقاربه وخاصة النساء مَن يحرضه على ذلك، وإن حصل نقاش بينه وبين زوجته حول قضية فكرية أو علمية، وبدأت الزوجة تذكر رأيها العلمي وقد يكون الأمر في صميم تخصصها، وتحصيلها الدراسي يبدأ نقاشه بعلو صوته، ومحاولة اسكات زوجته، واتهامها بأنها لا تفهم شيئاً، وأن الرجال هم فقط مَن يفهمون كل شيءٍ.

ومع مرور الوقت وعندما تصبح هذه الفتاة أمّاً، ومع خوفها على أولادها تبدأ بالرضوخ والسكوت، وعدم مجابهة هذا الزوج، فتصبح أقواله وأفكاره سيدة الموقف، فلا صوت ولا قول فوق صوته وقوله.

لكنّ الغصة ستبقى في أعماق هذه الزوجة، وخاصة إذا التقت بصديقة لها تكون قد ارتبطت برجل متعلم مثقف!

أمام هذا الواقع المرير وجدنا صنفين من النساء، زوجات خضعن وتنازلن عن جميع أفكارهنّ أو أي نقدٍ للزوج وأفكاره ولو كان خطأً، وذبلت زهرة فكرهنّ وتلاشت وتطايرت مع الرياح. وصنف أخذتها العزة بالنفس، ورفضت الخضوع، وتمسكت بعلمها وفكرها وشهادتها، وسنوات تعلمها مهما كان الثمن، واختارت الفراق. صحيح أن هذا الصنف قليل ولكنه موجودٌ.

إذن هكذا شكّل التباين في التحصيل العلمي والفكري بين الزوجين سبب مضاف إلى جملة أسباب الطلاق في مجتمعنا.

ولقد كان علماء المسلمين في تاريخنا المجيد، يحرصون على الارتقاء بالمستوى العلمي لزوجاتهم، ويسمعونهنّ العلم من مشايخهم، بل ويحصلن على الإجازات العلمية في ذلك، ولو وسع المقام لذكرت أمثلة كثيرةً لذلك.

4. عدم التوافق الاجتماعي:

أرشد الإسلام المسلم أن يختار شريك حياته من أصل طيب، ونسب معروف بالصلاح والتقوى. ولا شك أن الناس متفاوتون في أحسابهم وأنسابهم، وهذا أمر واقع وله وزنه منذ قديم الزمان، لذا وجب مراعاته.

وحيث إن مشروع الزواج عظيم وخطير فلا بد من مراعاة هذه الأمور، وبشكل مُحكمٍ، ووزنها بدقة متناهيةٍ، وصولاً إلى بناء زواج على أسس سليمة تضمن له الديمومة والاستمرارية بمشيئة الله تعالى.

ومن مخاطر عدم التوافق الاجتماعي على كيان الأسرة سأذكر من هذا الجانب ما يأتينا من مراجعات.

إن الله تعالى جعل التقوى أساس التفاضل بين الناس، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[الحجرات: 13]، وقال صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ  عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى"([41]).

إلا أن البعض ما زال يجعل للمال والجاه والحسب المعيار الأول، ولذلك جاءتنا حالات لبعض الشباب ممن رغب بفتاةٍ، لكن هذه الفتاة وأهلها ليسوا بمستوى أهل الشاب اجتماعياً أو أنهم من منطقة كذا وكذا، وأهل الشاب من مكان آخر كما هو الحال والموجود هذه الأيام وللأسف في قلوب البعض، فيطلب هذا الشاب من أهله الإذن بالارتباط بهذه الفتاة، لكن يجد الرفض الشديد من أهله، فهم لا يقبلون مصاهرة هؤلاء الناس، ويرون فيهم أنهم أقل منزلة.

ويقع هذا الشاب بين أمرين بين حبّه وتعلقه بهذه الفتاة، وبين تعنت أهله، وعدم قبولهم بها.

وعندما يراجعنا مثل هذا الشاب طلباً للمشورة والرأي، إن لم يكن قد ارتبط بهذه الفتاة لا ننصحه بالارتباط، ونبيّن له ما سوف يحصل بعد الزواج، فهو الآن في حالة لا يستطيع أن يستشرف المستقبل، ولكننا وبحمد الله تعالى قد اكتسبنا من الخبرات العلمية والعملية ما نستطيع ذلك، فنقول له: بعد زواجك وبعد ذهاب بهجته، سوف تجد نفسك تقف بين أمرين، أمر أصبح واقعاً وهو الارتباط بهذه الفتاة التي أصبحت زوجة لك، وبين رفض أهلك وعدم قبولهم بها، وتعايشهم معها. ولذلك تجده لا يقوى على مجابهة أهله وخسرانهم، فحياته معهم أطول عمراً من حياته معها، وحاجته لهم أكبر من حاجته لها، وخاصة إن كان بحاجتهم من الناحية المادية، علاوة على خوفه من غضب والديه عليه.

أما الفتاة فسترى نفسها أنها منبوذة مكروهة في هذه الأسرة، ترى نفسها عبئاً عليهم، ترى نظراتهم وتسمع همساتهم، إن لم يكن صريح كلامهم، فلا هي ولا أولادها يعاملون كما تعامل بقية زوجات إخوة زوجها، هنا انكشف الغطاء عن عيني الشاب والفتاة، وانزاحت الستارة عن مشهدٍ أليمٍ وواقع مريرٍ، وحياة قاسية.

ولذلك، نرى أن معظم الشباب الذين تزوجوا بهذه الطريقة ورغماً عن أهليهم، وارتبطوا بفتيات لم يرغب بهنّ الأهل، اتجهوا إلى قرار فك الارتباط مع هؤلاء الفتيات، فهم يضحون بزوجاتهم في سبيل النجاة والظفر برضى الأهل، والعودة إلى أحضانهم.

هذا هو الواقع، ولا بد من اعتباره بالرغم من خطئه في نظرنا، ومخالفته للمنهج الشرعي السليم الذي يرى أن الأفضلية للتقوى، لكن الواقع وعقليات الناس وأفهامهم تختلف، ونحن بصدد محاربة آفة انتشار الطلاق، والتقليل من أسبابه ما أمكن، ولا بد أن نراعي هذه العادات والتقاليد.

ولذلك لا ننصح أي فتاة بأن ترتبط بشابٍ يرفض أهله أن يرتبط بها؛ لأنها وفي نهاية المطاف ستكون هي الضحية، ويكون عاقبة أمرها طلاقاً، عوضاً عمّا عاشته قبل الطلاق من ألم الرفض وعدم القبول.

  1. التفاوت في السن بين الأزواج:

جاء في قانون الأحوال الشخصية الأردني في المادة (11) أنه يُمنع إجراء العقد على امرأة إذا كان خاطبها يكبرها بأكثر من عشرين سنة، إلا أن يتحقق القاضي من رضاها واختيارها.

ولا شك أن التفاوت في السن بين الأزواج تفاوتاً كبيراً يفضي إلى نوعً من اختلاف الطباع، وتباين الآراء، لكنّ الشريعة الإسلامية لم تمنع زواجاً كهذا، ولقد تزوج النبي ﷺ السيدة عائشة رضي الله عنها مع وجود فارق في السنّ تشريعاً لنا في جواز ذلك.

وما زال الناس على هذا الأمر من قديم الزمن، وفي زماننا نشاهد ونسمع عن ذلك كثيراً، لكنّ التقارب في السنّ يورث انسجاماً ومواءمة وتقارباً في الأفكار والتطلعات، وحتى التصرفات، رغم أن الكثير من الزيجات استمرت قوية متماسكة متحابة حتى مع وجود فارق العمر بين الزوجين.

لكن الملاحظ ومن خلال مراجعات المستفتين لدائرة الإفتاء العام، وجود ظاهرة زواج الشباب الذكور من نساءٍ يكبرنهم بسنواتٍ كثيرة، فإن المألوف في مجتمعاتنا أن الزوج يكون في العادة أكبر من زوجته سناً، أما العكس فممكن، لكن الذي أتحدث عنه أمر آخر وهو شباب في بداية العقد الثاني من أعمارهم ارتبطوا بنساء قد تكون الواحدة منهن على وشك الانتهاء من العقد الثالث من عمرها، والكثير منهنّ مطلقات وذوات أولاد، هذا هو ما أتحدث عنه وأقصده.

هذه الظاهرة موجودة، وإن كانت في نطاق ضيقٍ، لكنك وعند حضور هذين الزوجين لدائرة الإفتاء وجلوسهما أمامنا والحديث معهما والمشاكل التي يوجهانها، تشعر بعدم وجود انسجام وتوافق بينهما، بل إنك لتحتار في الأساس الذي بنى عليه الشاب اختيار هذه المرأة، ولكن سرعان ما تعرف أن المصالح كان لها الدور الأول في زواج كهذا.

وهذا الشكل من الزيجات قصير المدة في الغالب؛ وذلك أن كل طرف وبعد حصوله على مصلحته أو عدم قدرته على تحقيقيها وخيبة ظنه يسارع إلى الخلاص من هذا الزواج.

نعم لا نستطيع أن نمنع هذا الشكل من الزيجات؛ فهي زيجات متكاملة الأركان والشروط الشرعية والقانونية، ولكن لا بد من التثقيف والتوعية والإرشاد، ففيها من السلبيات التي قد تنشأ بعد الانفصال، خصوصا إذا لم يستطع أحد الأطراف الحصول على المصلحة التي من أجلها أقام هذا الزواج.

5. وسائل التواصل الحديثة:

مما شاع وانتشر في زماننا الذي نعيش شكلٌ من أشكال التعارف والتواصل لم يعرفه السابقون، ألا وهو التعارف والتواصل عن طريق الوسائل الحديثة (الإنترنت، الواتس آب، فيس بوك، وغيرها)، ومن خلال هذه الوسائل الحديثة بدأ الشباب ذكوراً وإناثاً يتعارفون فيما بينهم، كل يُنشئ له صفحة على هذه المواقع، ويبدأ ينصب شباكه ليصيد من خلالها، وكل يُظهر نفسه بمظهر المثقف الواعي، المطلع، المتدين، المستقيم، وذلك بحسب ما يشعر من الطرف الآخر، فإن شعر أن الطرف الآخر يميل إلى التدين، أظهر له من الورع والزهد والأخلاق ما يعجب منه المرء، وتجده يملأ صفحته بالآيات والأحاديث والأدعية بما يوهم الحاذقين العارفين.

وحصلت حالات من الزيجات من خلال التعارف عبر هذه الوسائل، والعجيب بعد أن تسمع قصة نشوء هذا الزواج، أن الفتاة لم تكن تعرف هذا الشاب أبداً، إلا من خلال ما اطلعت عليه عبر هذه الوسائل الحديثة، بل إن بعض مَن ارتبطت بهم الفتيات كانوا يقطنون بلاداً بعيدة، فهي لا تعرف له عند تعارفهما لا اسماً ولا رسماً إلا من خلال ما أعلمها وأخبرها وأطلعها عليه.

إذا كان التدليس والكذب يحصل من بعض الشباب وهو يجلس ببدنه أمام أهل الفتاة، ويُظهر لهم الصلاح والتقوى، ثم بعد الزواج يخلع هذا اللباس ويظهر بمظهره الحقيقي، فما بالك بمن لم تره ولم تحسه ولم تجالسه إلا من خلال صورة وصوت لا تعلم إن كانت له أم لغيره.

والعجيب أن بعض الفيات ممن حضرن إلى دائرة الإفتاء العام طلباً للمشورة كانت تهم بالسفر إلى هذا الشاب في بلاده التي يقطنها، وبعض الناس أخبرونا أنهم يفكرون وبشكل جديّ بإجراء عقد زواجٍ عبر هذه الوسائل الحديثة ومن خلال تحدث هذا الشاب مع ولي أمر الفتاة أو مع الفتاة مباشرة وبحضور شاهدين، ثم تسافر الفتاة إلى هذا الشاب على أنه زوج لها، وهي لم تتحقق وبشكل قطعي أن من شاهدته عبر الشاشات هو من ارتبطت به حقيقة.

كثيرٌ من الزيجات التي تمت بهذا الشكل وبغض النظر عن وضعها الشرعي والقانوني أفضت إلى وقوع نزاعات ومشاكل وطلاقات، والمصيبة إن كان هناك ثمة أولاد.

نقول لمن جاءنا يريد أن يسأل عن مثل هذا الشكل من الزواج، نقول له إن كان الانسان منا يريد أن يشتري سلعة معينة، تجده يسأل عنها ويستفسر، ويستشير، وينزل إلى الأسواق ولا يُبقي متجرا إلا ويدخله، ويعاين ويشاهد؛ حتى يكوّن نوعاً من الوعي والفهم التام؛ ليقدم على شراء هذه السلعة، أليس الزواج أجلّ وأعلى وأكرم وأهم وأخطر من ذلك؟

أليس هو الأجدر بهذا الاستفسار وهذا الكم من الاستشارات والأسئلة، ثم التوجه إلى العلي العظيم طلباً للدعاء حتى يختار له ما هو أنسب، مع صلاة الاستخارة.

فلا بد لأولياء الأمور والجهات المختصة الانتباه إلى هذا الخطر العظيم المحدق، فما عاد اقتحام البيوت بتسور الأسوار، ونقب الجدران، وخلع الأبواب، وكسر النوافذ، بل بوسائل لم يكن للعقل قدرة على تصورها قبل وجودها، فالحذر الحذر منها.

المطلب الثاني: الحلول والمسؤوليات

لا شك أن مسؤولية الحد من ظاهرة انتشار الطلاق بشكل كبير لا تتحملها جهة معينة بعينها دون بقية الجهات، فالمسؤولية مجتمعية تشاركية.

1. مسؤولية الأسرة:

الأسرة هي البيئة التعليمية الأولى التي يبدأ الفرد فيها بتلقي مبادئ الحياة، فالطبيعة الإنسانية تستوجب أن يُعلم الفرد حسن التصرف منذ نعومة أظفاره، فالسلوكيات الأساسية لها أهمية بالغة في مستقبل حياة الإنسان.

لذلك فإننا نلفت نظر الأبوين أولاً إلى ضرورة عدم مناقشة شيءٍ من مشاكلهما أمام أطفالهما؛ لأن الطفل الذي ينشأ على وجود المشاكل بين أبويه، وما يتخللها من شتائم وضرب وإهانة، لن يكون سوي السلوك في مستقبل في الغالب. والكثير من هذا النوع من الناس عكس هذا المخزون السيئ على حياته الزوجية والأسرية في قابل أيامه، بعكس مَن نشأ في بيئة هادئة مطمئنة.

كما إن هناك أمراً آخر وهو ضرورة أن يربى الطفل تربية سليمة تقوم على تعريفة أن له في هذه الحياة الدنيا حقوق وعليه واجبات، وأن حقه لن يحصل عليه إلا إن قام بالواجب الملقى على عاتقه، وغرز أهمية احترام حقوق الآخرين وعدم الاستقواء عليهم، والبعد عن الأنانية.

وهناك أمر آخر وهو يكون في مرحلة متقدمة من حياة هذا الشاب، وبالتحديد بعد زواجه، فإنك ترى أن الكثير من الأهل يقفون مع أولادهم عند حصول مشكلة ما مع زوجته، فأهل الزوج يعتبرون أن ابنهم لا يخطئ، وأن الخطأ كل الخطأ هو من زوجته، والعكس صحيح، فيقف أهل الزوجة مع ابنتهم، وإن كانت هي المخطئة. مع أن التوجيه النبوي الكريم يقول: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: "تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ"([42]).

كثير من حالات الطلاق التي عُرضت علينا في دائرة الإفتاء العام ساهم أهل الزوجين في حصولها، ولو تعقّلوا، وحكموا بالعدل، وابتعدوا عن المحاباة، وعرفوا أن الله تعالى رقيب عليهم، ما أوصلوا الأمور إلى ما وصلت إليه.

2. مسؤولية المؤسسات التعليمية:

المؤسسة التعليمية سواء المرحلة المدرسية أم المرحلة الجامعية هي الحاضنة الثانية للفرد، فالمؤسسة التعليمية تقوم على محورين رئيسيين هما المحور التعليمي والمحور التربوي.

فالمنهج المقرر والمعلم المتخصص لا يغني أحدهما عن الآخر فهما جسم واحد، يكمّل بعضه بعضاً، فمهما كان الكتاب المقرر متميزاً بغزارة وعمق المعلومة، إن صادف معلماً كَلاًّ لا يحسن التعامل مع جودة المعلومة وينجح في إيصالها إلى أعماق الدارسين، ويحوّلها إلى سلوكٍ يتعاملون به في واقع حياتهم فلن تحصل الثمرة المرجوة.

لذا لا بدّ في محاولة بناء المجتمع القوي من إيجاد مفاهيم تعليمية لها مسيسٌ بحياة الانسان، ومن أبرز مظاهر حياة الانسان تأسيس الأسرة، لذا لا بد من تكثيف الدروس والمقررات المتعلقة ببناء الفرد والأسرة، البناء السليم، مع إيلاء الأحكام الشرعية المتعلقة بها الأهمية البالغة، وإيجاد المعلمين المؤهلين الجديرين بإيصال المعلومة إلى أعماق طلبتهم.

ولكنّ الناظر إلى واقع الحال في مجتمعاتنا، وواقع المناهج الدراسية، يجدها تعاني من فقر شديدٍ في هذا الموضوع الخطير، فالدروس المدرسية المتعلقة بأحكام الأسرة وسُبل بنائها بطريقة سليمة، وكيفية اختيار الزوجين بعضهما بعضاً، وكيف تحلّ المشاكل، وما هي الأحكام الشرعية المتعلقة بالحقوق والواجبات الزوجية، وأحكام الطلاق، وأنواعه، ومتى يُلجأ إليه، أقول فالدروس المتعلقة بكل ما سبق قليلة جداً، وإن وجدت فهي لا تغطي جميع جوانب هذا الموضوع المهم.

أما المرحلة الجامعية، وهي الأخطر حيث يكون الفرد أقرب ما يكون إلى اختيار شريك حياته، وتأسيس أسرته، أقول فهذه المرحلة لا تجد فيها شيئاً يمتّ لهذه الأحكام بصلة إلا مَن تخصص بالعلوم الشرعية أو القانونية فقط، أما باقي التخصصات فلا يخطر على بال القائمين على الدراسات الجامعية أن يفرضوا مساقاتٍ تعليمية، ومتطلبات جامعية تتناول ذلك، ووالله إنك لتعجب العجب كله عندما يأتي إليك زوجان وقع بينهما طلاق، وعندما تنظر في خانة المؤهل العلمي في ورقة الاستدعاء التي قام الزوج بتعبئتها، وشرح فيها المشكلة التي حصلت طالباً بيان الحكم الشرعي في ذلك، أقول عندما تنظر في خانة المؤهل العلمي تتفاجأ أن الزوج والزوجة يحملان مؤهلاً علمياً عالياً، في تخصص غير التخصصات الشرعية أو القانونية، ولكنّ معلوماتهما حول أحكام الطلاق معلومات بدائية بسيطة، وما هو موجود منها إن هو إلا بقايا ما علق في أذهانهما أيام المرحلة المدرسية، والتي يكون قد مرّ عليها زمن بعيد.

فتجد نفسك أمام زوجين لا يعرفان من أحكام الطلاق شيئاً، وقد تكون المشكلة أبسط بكثير من أن يُتخذ فيها قرار الطلاق من قبل الزوج، ولو كان الزوج على علم أو ثقافة أكثر ما كان ليُقدم على ما أقدم عليه.

إذن لا شك أن مسؤولية المؤسسات التعليمية كبيرة في الحدّ من ظاهرة الطلاق، ولا بدّ من سنّ التشريعات، وفرض المناهج والمساقات التعليمية الإجبارية على جميع الطلبة حول أحكام الأسرة، وأسس اختيار شريك الحياة، والحقوق، والواجبات لكل من الزوجين، وسُبل حل المشكلات العارضة، وأحكام الطلاق بشكل تفصيلي.

إنّ الخطر يكمن في أنّ حادثة الطلاق تؤثر حتى على تركيز الإنسان وقيامه بعمله المناط به، فمثلاً راجعنا الكثير من الأشخاص الذين يقومون بأعمال مهمة في المجتمع، ولكنه وتحت وقع حصول الطلاق تراه يعاني من عدم قدرته على القيام بأعماله، وإفادة الآخرين، وهذا ما يبرر لك أهمية التثقيف والعلم بأحكام الأسرة والطلاق لجميع فئات المجتمع، وعلى اختلاف تخصصاتهم الدراسية.

3. دور الدول والحكومات:

يكمن دور الحكومات في قدرتها على سن التشريعات والقوانين، وإلزام الجميع بها، وفي هذا المجال ينبغي للدولة أن تولي الجانب الإعلامي التوعوي الشيء الكثير في نشر البرامج التي تتحدث عن أهمية الأسرة والأحكام المتعلقة بها.

فالبرامج الدينية والتربوية جديرة أن تزيد في مساحة الوعي المجتمعي، كما أن الدولة بمقدورها كذلك أن تفرض دورة تأهيلية لكل مُقبل على الزواج، صحيح أن هذا الأمر قد يكون فيه نوع من المشقة على بعض الناس، خاصة مَن يقطنون الأرياف والبوادي، وصعوبة وصولهم إلى مراكز المحافظات، لكن الأمر أهم من ذلك، ويمكن على سبيل المثال الاستفادة من المساجد في ذلك، خاصة أنه ما من حيّ سواء في المدن أو الأرياف أو البوادي إلا ويوجد فيه مسجد بحمد الله تعالى في مجتمعنا الأردني، وذلك من خلال إمام المسجد أن نجعل له مهمة أخرى، غير مهمة الإمامة، أن يجعل مسجده مركزاً تعليمياً، ويؤهل هذا الإمام في ذلك، من خلال إخضاعه لدورات متخصصة في أحكام الأسرة، مع إيجاد رقابة ومتابعة في تنفيذ هذا البرنامج الوطني الكبير والمهم.

أقول: إن كلّ من أراد الزواج، وعند مراجعته المحكمة الشرعية يُطلب منه حضور دورة حول أحكام الأسرة في أقرب مسجد له، ويعطى شهادة توثق ذلك.

هذا من جانب، ومن جانب آخر إيجاد مراكز إصلاح أسري، وبشكل أكبر مما هو عليه الآن، مع التعريف بها وبدورها من خلال الوسائل الإعلامية المختلفة.

إنْ كانت الدولة لا تقبل أن يقود شخص ما سيارة إلا بعد اجتيازه فحصاً وحصوله على رخصة معتمدة، من باب أولى أن من يريد قيادة أسرة أن يحمل مثل هه الرخصة، يُطمأن بها إلى مقدار قدرته على القيام بأعباء هذه الأسرة، وبشكل سليم، فالحادث المروري له أخطار وآثار لا شك وكذلك الحادث الأسري له آثاره الخطرة، فحتى يقود هذا الرجل أسرته بطريقة سليمة، ولا يعرضها لحوادث الطلاق والفراق وتشرد الأولاد، فعليه أن يكون مؤهلاً لمثل هذه القيادة، ويحسن التعامل مع منعطفات الحياة بشكل احترافي.

خاتمة

أحمد الله تعالى على ما يسر من إتمام هذه الدراسة القيّمة، والتي طالما شعرت بأهميتها من خلال عملي وتعاملي المباشر مع المراجعين لدائرة الإفتاء العام، سواء من خلال المقابلات الشخصية، والاستماع إليهم والتعرف على مشاكلهم، أو من خلال العمل في مجال فتاوى الطلاق، أو حتى من خلال العمل على الاتصالات الهاتفية لسنوات طويلة.

فلقد شعرت طوال عملي بأهمية أن أقوم برصد حالات الطلاق في مجتمعنا الأردني، وأن أرجع هذه الحالات لمجموعة من الأسباب الرئيسية، والتي تقف وراء عدم نجاح العديد من الزيجات في مجتمعنا.

كما أردت من هذه الدراسة أن تشكل شيئاً من الوعي الإيجابي لدى أفراد المجتمع علّها تكون دليلاً إرشادياً، لتأسيس الأسرة على ضوء ما استفادت من هذه الدراسة، وبالتالي يكون الزواج أقرب إلى الديمومة، والاستمرار منه إلى الانهيار.

ولقد آثرت بيان بعض النتائج التي توصلت إليها في هذه الدراسة:

1. نقص المعلومة لدى الفتاة وأهلها عن شخص مَن يتقدم لخطبتها سبب كبير في فشل الحياة الزوجية.

2. قدرة بعض الشباب على خداع الفتاة وأهلها، والظهور بالمظهر اللائق وفق ما يرغبون، ثم انكشاف شخصيته الحقيقية بعد الزواج، وهو أمر لا بدّ أن تقف الفتاة وأهلها أمامه طويلا، وأن تمعن التفكير فيه.

3. تسرع بعض الشباب بالارتباط ببعض الفتيات مع انعدام القناعة الكافية من الأمور المفضية إلى انحلال عقدة الزواج بعد ذلك.

4. التفاوت العلمي والفكري والمادي والاجتماعي بين طرفي عقد الزواج من الأمور المؤدية إلى انهيار هذا الزواج في الغالب.

5. التعارف عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ومحاولة الارتباط بناء على ذلك من أسباب انتشار الطلاق بنسبة غير بسيطة.

6. عدم قيام كل طرف بما عليه من واجبات تجاه شريك حياته سبب خطير في حدوث النزاعات المفضية إلى حدوث الطلاق.

7. التفاوت في السن بين الأزواج يؤدي في الغالب إلى نوع من غياب الانسجام النفسي والعاطفي والفكري، مما يُشكل سبباً من أسباب انفصال الحياة الزوجية.

وأخيراً؛ أسأل الله تعالى أن يجعل هذه الجهد المتواضع في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وسلام على المرسلين.

التوصيات

بعد الانتهاء من هذه الدراسة بحمد الله تعالى وتوفيقه، نرى لزاماً علينا أن نخرج بمجموعة من التوصيات، والتي نرى فيها سبيلاً من سُبل الحد من ظاهرة انتشار الطلاق في مجتمعنا الأردني.

أ- جانب الفرد والأسرة:

1. لا بد أن يعود كل من الفرد والأسرة إلى الأسس الشرعية العظيمة التي شرعها ديننا الحنيف في كيفية اختيار الزوج والزوجة.

2. لا بد أن يولي أولياء الفتيات أهمية بالغة للتعرف على الشاب الذي ينوي الارتباط ببناتهم، بحيث يعرفون حقيقة شخصيته الدينية والأخلاقية، ومستواه العلمي والمالي والاجتماعي، وحتى الصحي وعائلته، وطبعه وطباعه، فلا شك أنه كلما كانت المعرفة كبيرة بشخصية الشاب كان نجاح الزواج واستمراره أعظم.

3. لا بدّ من تدريب الزوجين على حلّ المشاكل الزوجية بعيداً عن الطلاق.

4. احترام كلا الزوجين لحقوق بعضهم بعضاً، والقيام بالواجبات الموكولة لهما.

ب- جانب المؤسسات التعليمية:

يقع على عاتق المؤسسات التعليمية مسؤولية جسيمة في وجوب طرح الدروس والمساقات التعليمية المتعلقة بشؤون الأسرة والأحكام الشرعية المتعلقة بالزواج والطلاق، وأن يكون ذلك إجبارياً على جميع الطلبة ومهما اختلفت اختصاصاتهم.

ج- جانب الدولة:

لا بدّ للدولة من سَنّ الأنظمة والقوانين التي تحدّ من ظاهرة انتشار الطلاق، لما لهذه الظاهرة من انعكاسات سلبية خطيرة على جميع جوانب المجتمع، ولما لها من إسهامٍ في انتشار الجريمة، ولذلك لا بدّ من وضع البرامج العلمية التي تحدّ من هذه الظاهرة، مثل اشتراط مرور المقبلين على الزواج ببرنامج تأهيل شرعي وقانوني وتربوي، تبيّن لكل من الرجل والمرأة الحقوق والواجبات والأحكام الشرعية والقانونية المترتبة على ذلك.

كما لا بد من نشر الوعي المجتمعي من خلال استغلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، والمؤسسات التعليمية والثقافية في ذلك.

 

(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الرابع، 1442هـ/ 2021م.

 

الهوامش  


([1]) مسند الإمام أحمد، حديث رقم (1842)، 2/341.

([2]) مقاييس اللغة، 3/420.

([3]) معجم العين للفراهيدي، 5/101.

([4]) تاج العروس، 3/479.

([5]) المفردات في غريب القرآن، 1/543.

([6]) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، 3/252، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، 1/381، وحاشية ابن عابدين، 3/226.

([7]) مواهب الجليل شرح مختصر خليل، 4/18.

([8]) حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، 2/79.

([9]) مغني المحتاج، 4/450.

([10]) تحفة المحتاج في شرح المنهاج، 8/1.

([11]) حاشية قليوبي وعميرة، 3/324.

([12]) المغني لابن قدامة، 7/363، والشرح الكبير على متن المقنع، 8/233، والإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، 2/4.

([13]) تفسير البيضاوي، 1/142.

([14]) سنن سعيد بن منصور، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع، 1/384.

([15]) أخرجه أبوداود، كتاب الطلاق، باب في المراجعة، حديث رقم (2283)، والحاكم، كتاب الطلاق، حديث رقم (2797)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

([16]) متفق عليه، البخاري، كتاب الطلاق، باب في مراجعة الحائض، حديث رقم(5333)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، حديث رقم (1471).

([17]) الدر المختار، 3/227-229.

([18]) المرجع السابق، 3/228.

([19]) مغني المحتاج، 3/307، المغني لابن قدامه، 7/296-297.

([20]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 2/361.

([21]) البناية على الهداية، 5/318، ورد المحتار، 3/227، ومغني المحتاج، 4/455، والحاوي الكبير، 10/111، والمغني لابن قدامة، 7/363، والشرح الكبير على متن المقنع، 8/234.

([22]) تفريق النبي ﷺ بين حبيبة وزوجها ثابت بن قيس، أخرجه أبو داود، كتاب الطلاق، باب الخلع.

([23]) متفق عليه، البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، برقم (5997)، 8/7، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ، 4/1808.

([24]) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج، برقم(676)، 1/136.

([25]) سنن الترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه، 3/386، برقم (1084)، وسنن ابن ماجه، كتاب النكاح، باب الأكفاء، 1/632، برقم (1967).

([26]) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، برقم (5090) ومسلم، كتاب الحج، باب تريم الجمع بين المرأة وعمتها، 2/1029.

([27]) سنن ابن ماجه، كتاب النكاح، باب أفضل النساء، 1/596.

([28]) سنن الترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه، 3/386.

([29]) سنن أبي داود، كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهازل، 2/259، برقم (2194) والترمذي، الطلاق واللعان، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، 3/482، برقم (1184).

([30]) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله فيه خيرا يفقه في الدين، 1/25، وصحيح مسلم، كتاب الكسوف، باب النهي عن المسألة، 2/718.

([31]) سنن الترمذي، كتب فضائل الجهاد، باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب، 4/184، برقم (1655)، والنسائي، كتاب النكاح، باب معونة الله الناكح الذي يريد العفاف، 6/61، برقم (3218).

([32]) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب من تعلم القرآن وعلمه، برقم (5029).

([33]) قال ابن كثير في تفسيره: "فلا أصل له، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف"، 6/52، وقال صاحب أسنى المطالب: "ليس بحديث"، 1/69، وأكد على ذلك صاحب كتاب الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث، 1/77.

([34]) تفسير الطبري، 19/166.

([35]) تفسير البغوي، 6/40.

([36]) تفسير ابن كثير، 6/52.

([37]) أسنى المطالب، 1/69.

([38]) الجد الحثيث بما ليس بحديث، 1/77.

([39]) المعجم الأوسط، 7/104وأحمد في مسنده، (4/360) بلفظ ليس الخبر كالمعاينة.

([40]) سنن ابن ماجه، المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، 1/81، رقم (224).

([41]) مسند الإمام أحمد، 38/474، برقم (23489).

([42]) صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً، برقم (2444).

رقم البحث [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب




التعليقات


Captcha


تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا