التطبيقات العملية لأحكام الرجعة بين الفقه والقضاء الشرعي الأردني (*)
الدكتور محمد يونس الزعبي- مفتي محافظة العاصمة
ملخص
من المسائل التي يكثر السؤال عنها مسألة الرجعة، وبمَ تتم في عدة الطلاق الرجعي؟ وهل تقتصر على القول؟ أم تشمل الفعل أيضا؟ وهل الفعل يقتصر على الجماع؟ أم يشمل مقدماته؟ وما هي التطبيقات العملية في القضاء الشرعي الأردني.
ولذا سيركز البحث هنا على الناحية القانونية العملية أكثر من الناحية الفقهية؛ لأن المفتي في المحصلة مطالب بما استقر عليه العمل في المحاكم الشرعية. وسيتم بحث هذا الموضوع ضمن مقدمة وثلاثة مباحث، ثم خاتمة البحث التي تمّ فيها عرض النتائج والتوصيات التي توصل إليها الباحث.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد شرع الإسلام الزواج وجعله آية من آياته، فقال تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ]الروم:21[، وأحاطه بجملة من الأحكام والتشريعات؛ لضمان بقائه واستمراره، ومن ذلك أنه شرع الرجعة بعد الطلاق؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى إنهاء العلاقة الزوجية بين الزوجين، بمجرّد صدور الطلاق من الزوج نتيجة موقف معين، أو ردّة فعل معينة، لم تدرس نتائجها، فجاءت الرّجعة لتحفظ كيان الأسرة من الهدم والانهيار، فجاء هذا البحث لتسليط الضوء على أحكام الرجعة، وخاصة التطبيقات العملية المتعلقة بها، ومعرفة المواد القانونية والاجتهادات القضائية الناظمة لها.
أهمية البحث:
تأتي أهمية البحث في معرفة الوسائل التي يتمّ بها إرجاع الزوج لزوجته في عدة الطلاق الرجعي، ومعرفة التطبيقات العملية لأحكام الرجعة، وذلك من خلال معرفة المواد القانونية الناظمة لها، ومعرفة ما استقرّ عليه العمل في اجتهادات محاكم الاستئناف الشرعية.
أهداف البحث:
يهدف هذا البحث إلى تسليط الضوء على التطبيقات العملية لأحكام الرجعة والمعمول بها لدى المحاكم الشرعية الأردنية حتى نتعرف على ما تصح به الرجعة من أقوال وأفعال وما لا تصح به وفق اجتهادات المحاكم الشرعية الأردنية.
إشكالية البحث:
تكمن إشكالية البحث في قدرته على الإجابة على ما يلي:
1. هل يشترط لصحة الرجعة اللفظ الصريح، أم تصح الرجعة باللّفظ الكنائي إذا توفرت النية؟
2. هل تصحّ الرجعة بالفعل فقط أم تصحّ بالقول؟
3. ما التطبيقات العملية المتعلّقة بالرجعة، وما هو المعمول به في القضاء الشرعي الأردني.
الدراسات السابقة:
هناك دراساتٌ سابقة تناولت أحكام الرجعة، إلا أن تلك الدراسات أغلبها فقهية ولم تتعرض للأحكام القضائية وما استقر عليه العمل في المحاكم الشرعية؛ ومنها:
1. الرجعة في الطلاق (أركانها وأحكامها) دراسة في الفقه المقارن د. النعمان منذر الشاوي.
شملت هذه الدراسة بيان أحكام الرجعة من الناحية الفقهية فحسب، بينما جاء هذا البحث مركزا على الأحكام العملية التطبيقية في القضاء الشرعي الأردني.
2. آثار حلّ عصمة الزوجية، نور الدين أبو لحية، وهي دراسة كسابقتها، تناولت الأحكام الفقهية للرجعة، ولم تتطرق إلى الناحية القانونية.
هذا وقد استفدت من الدراسات الفقهية السابقة في التأصيل الفقهي وتقسيمات الدراسة إلى مباحث ومطالب، بينما تميزت هذه الدراسة عمن سبقها بالتركيز على التطبيقات العملية لأحكام الرجعة في القضاء الشرعي الأردني.
خطة البحث:
تشتمل خطة البحث على مقدمة وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الرجعة مفهومها ومشروعيتها والمواد القضائية الناظمة لها ويشمل:
المطلب الأول: مفهوم الرجعة.
المطلب الثاني: مشروعية الرجعة.
المطلب الثالث: المواد القضائية الناظمة للرجعة في القضاء الشرعي الأردني:
المبحث الثاني: طرق حصول الرجعة ويشمل:
المطلب الأول: الرجعة بالقول وتشمل:
أولا: الرجعة بالألفاظ الصريحة.
ثانيا: الرجعة بالألفاظ الكنائية.
المطلب الثاني: الرجعة بالفعل وتشمل:
أولا: الرجعة بالجماع والمعاشرة الزوجية.
ثانيا: الرجعة بمقدمات الجماع.
المبحث الثالث: الأحكام الفقهية العملية المتعلقة بالرجعة وتشمل:
المطلب الأول: صحة الرجعة هل تتوقف على رضا الزوجة؟
المطلب الثاني: إسقاط حق الرجعة.
المطلب الثالث: الرجعة أثناء فترة العدة هل يلزم بها مهر وعقد جديدان؟
المطلب الرابع: تبين المطلقة بانقضاء عدتها.
المطلب الخامس: النزاع في صحة الرجعة.
المطلب السادس: تسجيل الرجعة رسميا شرط لصحة سماع دعوى الرجعة عند الإنكار.
المطلب السابع: الرجعة يتعلق بها حق الله تعالى وتقبل فيها دعوى الحسبة.
المطلب الثامن: البينة على نفي الرجعة.
المطلب التاسع: يشترط لصحة الرجعة أن تكون منجزة.
المطلب العاشر: الإشهاد في الرجعة.
ثمّ جاءت خاتمة البحث التي تمّ عرض النتائج وقائمة المراجع والمصادر.
والله أسأل أن يكون هذا العمل في ميزان حسناتي، فإن أحسنت فذلك الفضل من الله جل وعلا، وإلا فمن نفسي والشيطان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المبحث الأول
الرجعة مفهومها ومشروعيتها والمواد القضائية الناظمة لها ويشمل:
المطلب الأول: مفهوم الرجعة
أولا: الرجعة لغة: هي المرة من الرجوع[1]، يقال ارتجع المرأة وراجعها مراجعة وإرجاعا: أي رجعها إلى نفسه، والاسم الرَّجْعة والرِّجْعةَ يقال: فلان طلق فلانة طلاقا يملك فيه الرَّجْعة والرِّجْعةَ، والفتح أفصح[2].
وجاء في القاموس الفقهي:" وأرتجع المرأة وراجعها مراجعة أي رجعها إلى نفسه بعد الطلاق أو ردها بعد الطلاق[3].
فالرجعة إذن هي: عودة المرأة إلى ما كانت عليه عند زوجها قبل الطلاق.
ثانيا: الرجعة في الاصطلاح:
وردت للرجعة عند الفقهاء تعريفاتٌ عدة، لكنها ذات دلالة واحدة نذكر منها:
تعريف الحنفيّة لها: رد الزوجة إلى زوجها وإعادتها إلى الحالة التي كانت عليها[4].
وعرفوها أيضا بـ: "استدامة الملك القائم ومنعه من الزوال، وفسخ السبب المنعقد لزوال الملك"[5].
وعُرِّفت عند المالكية: "عود الزوجة المطلقة للعصمة في غير تجديد عقد"[6].
وعرفها الشافعية: "رد المرأة إلى النكاح من طلاق غير بائن في العدة على وجه مخصوص[7].
وعُرِّفت عند الحنابلة: "إعادة مطلقة –غير بائن– إلى ما كانت عليه بغير عقد"[8].
ومما سبق يتضح لي أن الرجعة هي إعادة المطلقة طلاقا غير بائن، إلى ذمة زوجها أثناء العدة من غير إحداث عقدٍ أو مهرٍ جديدين، ولا يشترط رضاها.
المطلب الثاني: مشروعية الرجعة
ثبتت مشروعية الرجعة بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول:
أولا: من الكتاب:
قال تعالى: }وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا] {البقرة:228[ أي أنّ أزواجهنّ أحق برجعتهن، وهذا مخصوص في الطلاق الرجعي دون البائن.
وهذا صريحٌ في مشروعية الرجعة في الطلاق.
ولقوله تعالى: }الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان{ ]البقرة :229[، فالرجل يملك في الاثنين الرجعة ولا يملكها في الثالثة، والرد والإمساك مفسران بالرجعة[9].
والآية تشير إلى مشروعية الرجعة.
ثانيا: من السنة:
هناك نصوص من السنة كثيرة تدل على مشروعية الرجعة ونذكر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فقال: راجع حفصة فإنها صواّمة قوّامة، وإنها زوجتك في الجنة)[10]، وقوله صلّى الله عليه وسلم لعمر: (مره فليراجعها)[11].
ثالثا: من الإجماع:
لقد أجمع الفقهاء على مشروعية الرجعة أثناء العدة، عند استيفاء شروطها، ولم يخالف في ذلك أحد، فقد جاء في الروض المربع ما نصه: "أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق دون الثلاث أن له الرجعة في العدة"[12].
رابعا: من المعقول:
من أهمّ مقاصد الشرع في عقد الزواج، الديمومة والاستمرار، والحرص على بقاء كيان الأسرة، ولذلك أعطي الرجل فرصة مراجعة زوجته في عدة الطلاق الرجعي، تحقيقاً لهذا المقصد، في حين لو لم تكن هناك فرصة للرجعة لانهدمت كثيرا من الأسر، ولذا فإن ارتجاع الزوج لزوجته هو باب من أبوب الإصلاح بين الزوجين، وقد أشار الكاساني رحمه الله إلى حكمة الرجعة بقوله: "إن الحاجة ماسة إلى الرجعة؛ لأن الإنسان قد يطلق امرأته ثم يندم على ذلك وهــــذا مــــــــا أشار إليه الرب سبحانه وتعالى بقوله: }لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا{ ]الطلاق:1 [فيحتاج إلى التدارك فلو لم تثبت الرجعة لا يمكنه التدارك لما عسى أن لا توافقه المرأة في تجديد النكاح ولا يمكنه الصبر عنها فيقع في الزنا"[13].
المطلب الثالث: المواد القضائية الناظمة للرجعة في القضاء الشرعي الأردني
لأهمية الأحكام العملية والتطبيقية فيما يخص الرجعة فقد أفرد لها المشرع -في القضاء الشرعي الأردني أحكاما خاصة وفق قانون الأحوال الشخصية رقم (36) لسنة 2010م والمعمول به في المحاكم الشرعية الأردنية- في الباب الرابع انحلال عقد النكاح في الفصل الثاني أحكاما خاصة بالرجعة ابتداء من المادة 89 وحتى المادة 101 والتي سنأتي عليها تباعا حال ورودها في البحث[14].
المبحث الثاني
طرق حصول الرجعة
بالرجوع إلى قانون الأحوال الشخصية الأردني يتبين لنا أنه عالج طرق حصول الرجعة في المادة (98) فنصت على (أن للزوج حق إرجاع مطلقته رجعيا أثناء العدة قولا وفعلا وهذا الحق لا يسقط بالإسقاط ولا تتوقف الرجعة على رضا الزوجة ولا يلزم بها مهر جديد). فهذه المادة وفي فقرتها الأولى أعطت الزوج حق مراجعة زوجته في عدة الطلاق الرجعي بأحد أمرين: أولاً: قولاً، ثانياً: فعلاً، وهذا الذي نحن بصدد بيانه وتوضيحه في هذا المبحث:
المطلب الأول: الرجعة بالقول وتشمل:
الفرع الأول: الرجعة بالقول في الفقه
قسم الفقهاء الرجعة بالألفاظ القولية إلى قسمين:
القسم الأول: الرجعة بالألفاظ الصريحة.
وقد اتفق الفقهاء على صحة الرجعة باللفظ الصريح دون الحاجة إلى نية؛ وذلك لعدم حملها على معنى آخر غير إرادة الرجعة[15]، مثل قوله راجعتك، وارتجعتك، وأرجعتك، وبكل ما اشتق منها، وهذا ما دلت عليه السنة النبوية عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها)[16]، وقد اشتهر هذا اللفظ فيها، ولذا قال ابن قدامه:" ويتخرج أن يكون لفظها هو الصريح وحده لاشتهاره دون غيره"[17].
وقد اعتبر فريق من العلماء ومنهم الحنفية والحنابلة[18] أن لفظ رددتك، وأمسكتك، لفظ صريح لا يحتاج إلى نية، وحجتهم في ذلك آيات القرآن الكريم التي وردت فيها أحكام الرجعة والتي دلت عليها بلفظي الرد والإمساك قال تعالى: }وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا{ ]البقرة:228[، وقال تعالى: }فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ{ ]البقرة :231[.
في حين اعتبر المالكية والشافعية[19] لفظ (رددتك وأمسكتك) من ألفاظ الكنايات التي تحتاج إلى نية لتحصل الرجعة، فكلمة الرد محتملة؛ فقد تحتمل إرادة الإرجاع، وقد تحتمل غيره كأن يقصد رددتك إلى أولادك، وكذلك الإمساك فربما أراد إمساكها عن الخروج من البيت.
والقول الراجح لدى الباحث أن لفظ (رددتك وأمسكتك) ألفاظ صريحة في صحة الرجعة لا تحتاج إلى نية لوجود النص، ولأن المحافظة على بقاء الأسرة يقتضي توسيع دائرة ما تحصل به الرجعة.
القسم الثاني: الرجعة بالألفاظ الكنائية
وهي تلك الألفاظ التي تحتمل أكثر من معنى، فقد تدل على الرجعة وقد تدل على غيرها، مثل قول الزوج أنت عندي كما كنت.
وهذه الألفاظ اختلف فيها الفقهاء على قولين:
القول الأول: جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية[20] ذهبوا إلى صحة الرجعة بالألفاظ الكنائية ولكنها تحتاج إلى نية فيسأل عن مراده من هذه الألفاظ، فإن قصد الرجعة فهي رجعة، وإلا فلا.
القول الثاني: ذهب الحنابلة[21] إلى عدم صحة الرجعة باللفظ الكنائي؛ لأن الرجعة استباحة بضع مقصود فلا تحل بالكناية كالنكاح، ولا بدّ من اللفظ الصريح الذي لا يحتمل غير معنى الرجعة.
والقول الراجح الذي يراه الباحث هو عدم تقييد الرجعة بلفظٍ أو ألفاظ معينة، فقد تختلف الألفاظ باختلاف الزمان والمكان والأشخاص ولذلك نرى عدم قصْر وتحديد ألفاظ الرجعة بألفاظٍ محددة لا تتعداها إلى غيرها بل تكون الرجعة بما يدل عليها عرفاً مفهوماً للزوجة مقصوداً للزوج[22]، فمقصود الشارع المحافظة على ديمومة الأسر، والحفاظ على بقائها ما كان إلى ذلك سبيلا، فأي لفظٍ حقق المقصود فقد تمت الرجعة.
الفرع الثاني: الرجعة بالقول في القضاء الشرعي الأردني
بالرجوع إلى المادة (98) السالفة الذكر تبين لنا أن المادة أعطت الحق للزوج في إرجاع مطلقته رجعياً أثناء العدة قولاً وهي كلمة عامة تشمل الألفاظ الصريحة، والألفاظ الكنائية، وبما أن هذه المادة لم تصرح بذلك فبقيت الكلمة عامة فلا بد أذن لتحديد المقصود منها بإتباع أحد أمرين:
1- الرجوع إلى الراجح في مذهب أبي حنيفة حسب المادة (325) من قانون الأحوال الشخصية والتي تنص: "على أن ما لا ذكر له في هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة".
أو بالرجوع إلى المادة (324) من القانون نفسه والتي تنص على أنه: "تطبق نصوص هذا القانون على جميع المسائل التي تناولتها في لفظها أو في فحواها ويرجع في تفسيرها واستكمال أحكامها إلى المذهب الذي استمدت منه".
وعليه وعملا بما سبق فإن الرجعة تصح بالألفاظ الصريحة بلا نية وتحتاج إلى النية في ألفاظ الكناية وفقا للتفصيل الفقهي السابق وعملا بالمادتين (325،324) السابقتين.
2– الرجوع إلى اجتهادات المحاكم الشرعية وما جرى عليه العمل فيها:
جاء في المادة (232) من كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد قدري والمأخوذ من المذهب الحنفي والمعمول به في المحاكم الشرعية الأردنية: "تصح الرجعة قولاً براجعتك ونحوه خطاباً للمرآة أو راجعت زوجتي إن كانت غير مخاطبة وفعلاً بالوقاع ودواعيه التي توجب حرمة المصاهرة ولو اختلاساً منه أو منها"[23].
وجاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (11247): "وتبين أنهما تصادقا على أن الزوج ارجع زوجته أثناء العدة قولا وفعلا لذلك فقد كان على المحكمة أن تؤيد الحكم بالطلاق وتحكم بصحة الرجعة"[24]. وهذا القرار يدل على صحة الرجعة بالقول بصورة عامة.
كما جاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (15668): "أن الرجعة القولية التي يدعي بها مشروط لقبولها أن تشتمل على لفظ يعتبرها كأرجعت، ورددت، وأمسكت، أما مجرد الاعتراف بالزوجية بعد أي طلاق رجعي فلا يفيد رجعة لأن مثل هذا الطلاق لا يزيل الزوجية".
وعليه فإن التطبيق العملي للمحاكم الشرعية اعتبر أن لفظ أرجعت ورددت وأمسكت من الألفاظ الصريحة التي لا تحتاج إلى نية.
وجاء أيضاً في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (37215): "في أن الدعوى غير صحيحة حيث لم يذكر فيها صيغة المراجعة القولية سواء في اللائحة أو التوضيح في المحضر وهو ما لا بد منه لصحة الدعوى" انظر قرار محكمة الاستئناف رقم (30643).
كما جاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (40975 تاريخ 27/7/1996م)" "فإن لفظ أنت امرأتي من ألفاظ الكنايات فلو نوى بها الرجعة حصلت الرجعة وإلا لا"[25]، وهذا يدل على لفظ أنت زوجتي أو امراتي إن قصد بهما الرجعة صحت الرجعة وإلا فلا؛ لأن الطلاق الرجعي أصلا لا يزيل الزوجية فلا بد إذن من نية الرجعة في هذه الألفاظ.
ومن هنا يتضح أن التطبيق العملي في المحاكم الشرعية اعتبر الألفاظ الصريحة كأرجعت ورددت وأمسكت ألفاظ صريحة لا تحتاج إلى نية، بينما الألفاظ الكنائية تحتاج إلى نية، وفي كلا الأمرين لا بد أن تكون صيغة المراجعة القولية واضحة ومذكورة، وذلك كشرط لصحة الدعوى.
المطلب الثاني: الرجعة بالفعل وتشمل:
أولا: الرجعة بالجماع والمعاشرة الزوجية.
ثانيا: الرجعة بمقدمات الجماع.
اختلف الفقهاء في صحة الرجعة بالفعل وهو الجماع أو مقدماته على قولين:
القول الأول: عدم صحة الرجعة بالجماع أو مقدماته، وهو قول الشافعي[26]، وابن حزم[27]، وهذا ما أشار إليه الشافعيّ في الأم بقوله: "بعدما تبين أن الرجعة حق للأزواج وأن الرد ثابت لهم دون رضا المرأة والرد يكون بالكلام دون الفعل من جماع وغيره؛ لأنه رد بلا كلام، فلا تثبت رجعة لرجل على امرأته حتى يتكلم بالرجعة، كما لا يكون نكاح ولا طلاق حتى يتكلم بهما، فإذا تكلم بهما في العدة ثبتت له الرجعة".
ولكن ابن حزم اختلف مع الشافعي في المعاشرة أثناء العدة، حيث اعتبر أنّ من حق الزوج النظر لزوجته أثناء العدة، بل ويحق له مجامعتها فهو ما زال بعلاً لها بدليل قوله تعالى:}وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا{ ]البقرة:228[ . ولا يعني مجامعتها أنّه ردّها إلى عصمته، فإذا أراد ردّها إلى عصمته فلا بدّ من شروط ثلاثة:
- أن تكون بلفظ الرجعة.
- وأن يُشهد على ذلك.
- وأن يُعلمها بالرجعة أيضاً.
فما عدا هذه الشروط فلا يعتبر مراجعاً لزوجته[28].
القول الثاني: صحة الرجعة بالجماع ومقدماته، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة[29]، وقد تباينت آراؤهم إلى ثلاثة آراء:
أولا: تصح الرجعة بالجماع ومقدماته دون الحاجة إلى نية، وهذا قول الحنفية، وقد اعتبروا أنّ النظر إلى غير الفرج ليس رجعة، كما قيدوا اللمس والتقبيل والنظر إلى الفرج بالشهوة، وبذلك يخرج نظر غير الزوج، ويدلّ على ذلك[30]:
1-أن الزوجية مستمرة بين الزوجين في عدة الطلاق الرجعي، وتترتب عليها جميع آثار النكاح، ومنها الوطء ومقدماته.
2- أن الزوجية مستمرة بينهم، وتستمر كذلك إلى انقضاء العدة.
3- أن الفعل الصريح يترجم نية الفاعل، فوطء الزوج لزوجته، أو لمسها او تقبيلها بشهوة، يدلّ على إرادة الزوج إعادة زوجته إلى عصمته.
ثانيا: تصح الرجعة بالجماع ومقدماته إذا اقترن ذلك بالنية، وهو قول المالكية[31]، فاقتران الجماع ومقدمته بنية الزوج إرجاع زوجته إلى عصمته أقوى من لفظ الإرجاع، فالجماع أو النظر أو التقبيل أو اللمس بنية رجعة، في حين أن فعل ذلك ولو بشهوة مع عدم توفر النية للرجعة فلا يعتبر رجعة.
ثالثا: فرّق أصحاب هذا القول بين الجماع ومقدماته؛
فإذا حصل الجماع حصلت الرجعة ولو بدون نية، في حين أنّ مقدمات الجماع من لمس ونظرٍ وتقبيل وغير ذلك لا يعتبر رجعة، وهذا قول الحنابلة[32]، وذلك قياساً على الإبلاء، فكما أنّ الوطء للزوجة في الإيلاء يعتبر رفعا للحكم، فكذلك الوطء في الرجعة.
وأمّا عن مقدمات الجماع فللحنابلة روايتان[33]:
الأولى: الرجعة لا تصحّ بمقدمات الجماع، وذلك لأنّ فعل هذه الأشياء لا يترتب عليه مهر ولا عدة ولا نسب، فكذلك لا يترتب عليه رجعة.
كما أنّ هذا النظر أو اللمس أو غيره مثلما يقع من الزوج فقد يقع من غيره أيضاً.
الثانية: الرجعة تصح بفعل مقدمات الجماع؛ لأنّ فعل هذه الأشياء من الزواج لا تخلو من الاستمتاع، وما دام حصل الاستمتاع، فتصح الرجعة بها كما صحت بالجماع، فكلاهما فيه استمتاع، ولو بنسب ٍ مختلفة.
الراجح: بعد استعراض آراء الفقهاء وأدلتهم ووجهات نظرهم، نرى أن الأقرب للصواب وتحقيق المقصود من الرجعة هو اعتبار الجماع رجعة، فالفعل -الجماع- أقوى دلالة على إرادة الرجعة من القول، فهل يعقل أن يجامع الزوج زوجته دونما إرادة منه بإرجاعها؟
وأمّا مقدمات الجماع فهي كاللفظ الكنائي، إذ لا بدّ فيه من نية الرجل في إرجاع امرأته إلى عصمته، إذا دلّ العرف على أنّ هذا الفعل يراد به الرجعة، وهذا ما أيده ابن تيمية في ترجيحه لرأي المالكية[34].
الفرع الثاني: الرجعة بالفعل في القضاء الشرعي الأردني:
لقد نص قانون الأحوال الشخصية الأردني -كما أسلفت- في المادة (98) على صحة الرجعة بالفعل فجاء فيها: "أن للزوج حق إرجاع مطلقته رجعيا أثناء العدة قولا وفعلا، وهذا الحق لا يسقط بالإسقاط، ولا تتوقف الرجعة على رضا الزوجة، ولا يلزم بها مهر جديد".
وجاء في المادة (232) من كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد قدري والمأخوذ من المذهب الحنفي والمعمول به في المحاكم الشرعية الأردنية ليفسر لنا معنى الفعل فقال: "تصح الرجعة قولا براجعتك ونحوه خطاباً للمرأة أو راجعت زوجتي إن كانت غير مخاطبة، وفعلا بالوقاع ودواعيه التي توجب حرمة المصاهرة"[35].
وجاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (11247): "وتبين أنهما تصادقا على أن الزوج ارجع زوجته أثناء العدة قولا وفعلا لذلك فقد كان على المحكمة أن تؤيد الحكم بالطلاق وتحكم بصحة الرجعة"[36].
ولمزيد من الإيضاح نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض القرارات الصادرة عن محكمة الاستئناف الشرعية والتي تحدد ما هي الأفعال التي تصح الرجعة بها وما لا تصح على النحو التالي:
القسم الأول: الأفعال التي تصح بها الرجعة: لقد جرى اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية على أن مقدمات الجماع كالتقبيل واللمس بشهوة أثناء فترة العدة يعتبر رجعة ومن ذلك ما يلي[37]:
1- "الحكم بثبوت الرجعة بين الزوج وزوجته من الطلاق الرجعي الذي أوقعه عليها بتصادق الطرفين على حصول التقبيل واللمس بشهوة أثناء العدة صحيح وصدق قرار رقم (42235)".
2- "صرح الفقهاء بأن الرجعة بالفعل تكون بفعل ما يوجب حرمة المصاهرة قرار رقم ( 10313)".
3- "رجوع الزوجة إلى بيت زوجها بعد الطلاق الرجعي خلال العدة لا يعتبر كافيا في إثبات الرجعة الشرعية ما لم يتصادقا على أنه عاشرها خلال فترة العدة قرار رقم (14330)".
4- "فإذا تمت المعاشرة خلال فترة العدة تكون رجعة بالفعل وعند ذلك فلا وجه للحكم بالعدة بعد الرجعة قرار رقم (37507)".
5- "الحكم بثبوت الرجعة بين الزوج وزوجته من الطلاق الرجعي الذي أوقعه عليه لتصادق الطرفين على حصول التقبيل واللمس بشهوة أثناء العدة الشرعية صحيح وصدق قرار رقم (42235)".
وعليه فإن هذه القرارات بمجملها تدل دلالة واضحة على أن الرجعة تحصل بالجماع بدون نية، وبدواعيه كالتقبيل واللمس بشهوة أثناء فترة العدة من الطلاق الرجعي.
القسم الثاني: الأفعال التي لا تصح بها الرجعة:
لقد جرى اجتهاد محكمة الاستئناف الشرعية على أن مجرد التسليم، أو المساكنة، أو إرسال جاهه، أو الاعتراف بالزوجية، أو الرغبة في الإرجاع..... وغيرها لا يعتبر رجعة، ومن ذلك ما جاء في قراراتها الشرعية[38]:
1-"اعتراف الزوجة بإرسال الزوج رسولاً إليها للرجوع إلى بيته، ومساكنته لا يعتبر اعترافاً بالرجعة، كما أن رجوعها إلى البيت وسكناها فيه لا يدل على الرجعة، لأن سكناها في بيت الزوجية أثناء العدة مطلوب منها شرعاً؛ لقوله تعالى: }لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ{ [الطلاق: 1]، والمساكنة ليست دليلا على الرجعة كما هو منصوص عليه في المتون. انظر متن القدوري وشرحه الجوهرة النيرة قرار رقم (11247)".
2- جاء في الجوهرة النيرة[39] في باب الرجعة: " أن المسافرة بالمطلقة رجعيا لا تكون أعظم من السكنى معها في منزل واحد، وذلك لا يكون رجعة فكذلك المسافرة بها قرار رقم (11333)".
3- "رجوع الزوجة إلى بيت زوجها بعد الطلاق الرجعي خلال فترة العدة لا يعتبر كافيا في إثبات الرجعة الشرعية، ما لم يتصادقا على أنه عاشرها خلال العدة قرار رقم (14330 )".
4- "قول الزوج أريد إرجاعها إلى عصمتي لأنها ما زالت في العدة لا يثبت بذلك رجعة؛ لأن إرادة الرجعة لا تثبت الرجعة بالفعل ما لم يصدر عن المطلق ما يتحقق به هذه الرجعة قولا أو فعلا قرار رقم (19652)".
5- "مجرد إرسال الزوج الجاهة لإرجاع الزوجة لا يكفي لصحة دعوى الرجعة، ما لم يدع أنه أرجعها خلال عدتها الشرعية، ويبين ألفاظ المراجعة قرار رقم (22090 )".
6- "صرح الفقهاء بأن الرجعة بالفعل تكون بفعل ما يوجب حرمة المصاهرة، ومجرد التسليم لا يغني عن ذلك، ولا بد لصحة الرجعة بعد التطليق من حصول الرجعة بالقول أو الفعل خلال العدة، قرار رقم (10313)".
7- "أما مجرد الاعتراف بالزوجية بعد أي طلاق رجعي فلا يفيد الرجعة؛ لأن مثل هذا الطلاق لا يزيل الزوجية، انظر المادة (232) من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد قدري وشرحها للأبياني قرار رقم (15668)".
من خلال ما سبق ذكره من قرارات لمحكمة الاستئناف الشرعية يتضح لنا أن مجرد التسليم، أو المساكنة، أو إرسال جاهه، أو الاعتراف بالزوجية، أو الرغبة في الإرجاع، أو السفر..... وغيرها لا يعتبر رجعة.
المبحث الثالث
الأحكام الفقهية العملية المتعلقة بالرجعة[40]
المطلب الأول: صحة الرجعة هل تتوقف على رضا الزوجة؟
يجوز للرجل أن يرجع زوجته التي طلقها طلاقاً رجعياً خلال فترة العدة إلى عصمته لقوله تعالى: }وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا{ ]البقرة:228[، ولا تتوقف صحة الرجعة على رضاها فقد جاء في حاشية ابن عابدين ما نصه: "فله الرجعة؛ لأنه حكم أثبته الشارع غير مقيد برضاها..." ومع أن صحة الرجعة لا تتوقف على رضا الزوجة إلا أنه يستحب إعلامها بها، فقد جاء في حاشية ابن عابدين ما نصه: "وندب إعلامها بها (أي الرجعة) لئلا تنكح زوجا غيره بعد العدة"[41].
هذا وقد نصت المادة رقم (231) من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد قدري وشرحها للأبياني: "كل من طلق زوجته المدخول بها حقيقة تطليقة واحدة رجعية أو تطليقتين فله أن يراجعها... ما دامت في العدة سواء علمت بالرجعة أو لم تعلم وسواء رضيت بها أو أبت..."[42].
كما نصت المادة (98) من قانون الأحوال الشخصية الأردني: "للزوج حق إرجاع مطلقته رجعيا أثناء العدة قولا وفعلا ... ولا تتوقف صحة الرجعة على رضا الزوجة...".
المطلب الثاني: إسقاط حق الرجعة
فقد نص الفقهاء على أن الرجعة: "لا تسقط بالإسقاط ولا تقبل تعليقا ولا تأقيتا"[43]، وهو حق أثبته الشارع فلا يسقط بالإسقاط، فقد جاء في حاشية ابن عابدين ما نصه: "فله الرجعة؛ لأنه حكم أثبته الشارع غير مقيد برضاها ولا يسقط بالإسقاط كالميراث"[44]، وذلك لأن هذا الحق ثابت له يملك إنشاؤه خلال فترة العدة متى ما أراد[45].
هذا وقد نصت المادة رقم (231) من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد قدري وشرحها للأبياني: "كل من طلق زوجته المدخول بها حقيقة تطليقة واحدة رجعية أو تطليقتين فله أن يراجعها ولو قال لا رجعة لي...."[46].
كما نصت المادة (98) من قانون الأحوال الشخصية الأردني: "للزوج حق إرجاع مطلقته رجعيا أثناء العدة قولا وفعلا، وهذا الحق لا يسقط بالإسقاط".
المطلب الثالث: الرجعة أثناء فترة العدة لا يلزم بها مهر وعقد جديدان
فمن المقرر فقهاً أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً رجعياً وأراد إرجاعها خلال فترة العدة فإنه لا يلزمه عقد ومهر جديدان؛ لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية ولذا فقد جاء في حاشية ابن عابدين ما نصه: "فله الرجع بلا عوض؛ لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك، والعوض لا يجب على الإنسان في مقابلة ملكه"[47].
وذلك لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية وهذا ما نصت عليه المادة (92) من قانون الأحوال الشخصية الأردني: "مع مراعاة ما نصت عليه المادة (81) من هذا القانون فإن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية في الحال، وللزوج حق مراجعة زوجته أثناء العدة قولا أو فعلا ". أي أن المادة أعطت الحق في إرجاع زوجته إلى عصمته خلال فترة العدة بأي طريق من طرق الإرجاع المعتبرة قولا أو فعلا دون أن توجب عليه إجراء عقد زواج جديد أو مهر جديد.
وهذا ما نصت عليه المادة رقم (231) من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد قدري وشرحها للأبياني: "كل من طلق زوجته المدخول بها حقيقة تطليقة واحدة رجعية أو تطليقتين فله أن يراجعها ولو قال لا رجعة لي بدون حاجة إلى تجديد العقد الأول ولا اشتراط مهر جديد ما دامت في العدة...."[48].
كما نصت المادة (98) من قانون الأحوال الشخصية الأردني: "للزوج حق إرجاع مطلقته رجعيا أثناء العدة قولا وفعلا، ...ولا يلزم بها مهر جديد".
المطلب الرابع: تبين المطلقة بانقضاء عدتها
إذا طلق الرجل زوجته طلاقا رجعيا، ولم يقم بإرجاعها إلى عصمته خلال فترة العدة فإنها تبين منه، ويصبح الطلاق بائنا بينونة صغرى، تحتاج إلى عقد ومهر جديدين، ويشترط رضاها وهذا ما جاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (37390) "إذا ثبتت البينونة من الطلاق الرجعي بانتهاء العدة..."[49].
ولذا نصت المادة(99) من قانون الأحوال الشخصية الأردني على: "تبين المطلقة رجعيا بانقضاء عدتها دون رجعة".
المطلب الخامس: النزاع في صحة الرجعة
تصدق المرأة بيمينها؛ وذلك لأن النساء مؤتمنات على أرحامهن[50]، وفي المسألة تفصيل:
الحالة الأولى: إذا ادعى الزوج خلال فترة العدة أنه أرجعها وتنكر الزوجة الرجعة فالقول قوله؛ لأنه أخبر عما يملك إنشاؤه في الحال فقد جاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (10306) أنه: "إذا ادعى الزوج خلال فترة عدة مطلقته أنه أرجعها فهو مصدق بقوله دون اليمين؛ لأنه أخبر عما يملك إنشاؤه في الحال وقرار رقم (16674)"[51].
الحالة الثانية: أن تدعي الزوجة أنه أرجعها وينكر الزوج الرجعة:
إذا عجزت الزوجة عن إثبات إرجاع زوجها لها خلال فترة العدة يحلف الزوج اليمين الشرعية والتحليف هو مذهب الصاحبين وهو المفتى به قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (11333)[52].
الحالة الثالثة: أن يدعي الزوج بعد انتهاء فترة العدة إرجاع زوجته خلال فترة العدة فعليه البينة وإلا فإنها تصدق بيمينها؛ لأنه لا يملك الرجعة بعد انتهاء العدة.
فقد جاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (16674): "وإن قال بعد انقضاء العدة فالقول لها وعلى الزوج إثبات البينة فإن أقامها ثبت بها الرجعة"[53].
أما إن صدقت الزوجة زوجها في حصول الرجعة فقد صحت الرجعة سواء قال ذلك في العدة أو بعد انقضاء العدة قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (28362) ورقم (16674)[54].
المطلب السادس: تسجيل الرجعة رسميا شرط لصحة سماع دعوى الرجعة عند الإنكار إذا تزوجت من غيره وانقضت عدتها بمضي تسعين يوما على طلاقها
وهذا من باب السياسة الشرعية لكي تستقر المعاملات، ولتعلق حق الغير بزواجها من غيره، حتى لا يكون الدافع إلى ادعاء الرجعة كيدي هدفه الإضرار بمطلقته وإفساد زوجها، وهذا ما نصت عليه المادة (101) من قانون الأحوال الشخصية الأردني: "لا تسمع عند الإنكار دعوى المطلق إثبات مراجعته مطلقته بعد انقضاء عدتها وزواجها من غيره بمضي تسعين يوما على الطلاق ما لم تكن الرجعة مسجلة رسمياً".
المطلب السابع: الرجعة يتعلق بها حق الله تعال وتقبل فيها دعوى الحسبة
فقد جاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (36865 ): "غير أن المدعى عليه قد ادعى الرجعة، وتغيب فقامت المحكمة الابتدائية بإسقاط دفعه الرجعة، بناء على طلب وكيل المدعية، علما أن في ادعاء الرجعة يتعلق حق الله تعالى، ودعوى إثبات الرجعة تقبل من مدعي الحسبة، لذلك كان على المحكمة الابتدائية عندما تغيب المدعى عليه أن تبلغه الحضور للمتابعة، أو تعين مدعيا باسم الحق العام الشرعي لتنظر في الدعوى، وتصدر حكمها فيها بالنسبة للرجعة؛ رعاية لحق الله تعالى (انظر القرارين الاستئنافين 22117 و35150 وغيرهما) وحيث أنها لم تفعل، فقد كان حكمها بأن الطلقة المذكورة آلت إلى بائنة بانتهاء العدة غير صحيح، ومخالف للوجه الشرعي فتقرر فسخه من هذه الجهة، وإعادة القضية لمصدرها لإجراء الإيجاب".
وجاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (38352): "إن الحكم برد الاعتراض المقدم من المعترض عليها بخصوص دعوى إثبات الطلاق، نظرا لتغيب الطرفين غير صحيح، وكان على المحكمة متابعة السير في الدعوى الاعتراضية لتعلق ادعاء الرجعة فيها من المعترض بالحق العام الشرعي"[55].
المطلب الثامن: البينة على نفي الرجعة
لا تقبل؛ لأنها بينة نفي، كما أنها غير مقبولة عقلا؛ وذلك لاحتمال المراجعة، فالزوج يستقل بالرجعة وهذا مما لا يعلمه الشاهد فقد جاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (14720): "إن تضمين الشهادات أن الزوج لم يرجع زوجته من تاريخ الطلاق لا يقبل شرعا لسببين:
الأول: أنه شهادة على نفي لا تقبل عملا بالمادة (1699) من المجلة.
والثاني: أنه لا يحيط به علم الشاهد" انظر أيضا قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم (12212)[56].
كما أن اليمين المطلوب تحليفه للزوجة عند عجز الزوج عن إثبات الرجعة بالبينة يجب أن يكون على نفي علم الزوجة بالرجعة فقد جاء في قرار محكمة الاستئناف الشرعية رقم(10233) قرارات ما نصه: "عند عجز المدعي عن إثبات الرجعة يفهم أن له حق تحليف المدعى عليها اليمين، واليمين تجب هنا على عدم العلم عملا بالمادة (1748) من المجلة"[57].
المطلب التاسع: يشترط لصحة الرجعة أن تكون منجزة
فلا تصح الرجعة إن كانت معلقة على شرط أو مضافة إلى مستقبل:
والرجعة لا تصح إلا إذا كانت منجزة كقول الزوج: راجعت زوجتي إن لم تكن مخاطبة أو راجعتك إن كانت مخاطبة، فلو أضافها إلى زمن مستقبل بأن قال راجعت زوجتي بعد عشرة أيام مثلا أو علقها على شرط بأن قال إن حصل كذا فقد أرجعتك فلا تصح الرجعة[58].
ولذ جاء في كتاب المبسوط: "تعليق الرجعة بالشرط باطل وكذلك الإضافة إلى وقت حتى إذا قال راجعتك غدا أو إذا جاء غد فهو باطل لأنه استدامة الملك فلا يحتمل التعليق بالشرط كأصل النكاح"[59]، وجاء في الإقناع: "ويشترط فيها (أي الرجعة) تنجيز وعدم تأقيت فلو قال: راجعتك إن شئت، فقالت: شئت أو راجعتك شهرا لم تحصل الرجعة"[60].
وفي كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد قدري وشرحها للأبياني في المادة (233): "يلزم أن تكون الرجعة منجزة في الحال، فلا يصح إضافتها إلى وقت مستقبل ولا تعليقها بشرط"[61].
المطلب العاشر: الإشهاد في الرجعة
فقد ذهب جمهور الفقهاء على استحبابها، جاء في مغني المحتاج: "أن الإشهاد على الرجعة ليس شرطا ولا واجبا في الأظهر؛ وذلك للأمن من الجحود وقطع النزاع وسد باب الخلاف بين الزوجين"[62]، فقد جاء في حاشية ابن عابدين ما نصه": وندب الإشهاد عليها (أي الرجعة) احترازا عن التجاحد وعن الوقوع في التهم؛ لأن الناس عرفوه مطلقا فيتهم بالقعود معها"[63]، وقد استدلوا على ذلك بما يلي:
أولا: الرجعة مثل النكاح من حيث كونها امتدادا له ومن المتفق ل عليه أن استدامة النكاح لا تلزمها شهادة فكذا الرجعة لا تجب فيها شهادة لأنها في حكم استدامة النكاح السابق، وإنما وجب الإشهاد على النكاح لإثبات الفراش وهو ثابت هنا.
ثانيا: الرجعة حق من حقوق الزوج وهي لا تحتاج لقبول المرأة، لذلك لا تشترط الشهادة لصحتها؛ لأن الزوج قد استعمل خالص حقه، والحق إذا لم يحتج إلى قبول أو ولي فلا تكون الشهادة شرطا في صحته.
ثالثا: أما من قال بوجوب الإشهاد كشرط لصحة الصلاة مستدلين على ذلك بقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) ]الطلاق:2[، فإنه وإن كان أمرا بالإشهاد فإنه محمول على الندب لا على الوجوب مثل قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) ]البقرة:282[.
هذا وقد نصت المادة رقم (234) من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لمحمد قدري وشرحها للأبياني: "الرجعة صحيحة بلا شهود وبلا علم المرأة إلا أنه يندب للمراجع أن يعلم المرأة بها إذا راجعها قولا وأن يشهد شاهدين عدلين عليها ولو بعد حصولها فعلا"[64].
هذا والله أسأل التوفيق والسداد، فإن وفقت لذلك فلله الحمد والمنة، وإن كان غير ذلك فمنّ نفسي والشيطان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخـاتمة
بفضلٍ من الله ونعمة، فقد حاولت في هذا البحث، تسليط الضوء على أحكام الرجعة والتركيز على التطبيقات العملية لها، وما استقر عليه العمل في القضاء الشرعي الأردني، وقد توصلت إلى جملة من النتائج:
النتائج
1. تحصل الرجعة بكل لفظ صريح من غير نية كأرجعتك أو رددتك أو أمسكتك، وبكل لفظ كنائي إذا اقترن بنية الرجعة.
2. الرجعة بفعل المعاشرة الزوجية (الجماع) تصح من غير نيّة.
3. تعدّ مقدمات الجماع كاللمس والتقبيل رجعة إذا اقترنت بالنية.
4. صحة الرجعة لا تتوقف على رضا الزوجة أثناء فترة العدة.
5. حق الرجعة لا يسقط بالإسقاط.
6. الرجعة أثناء فترة العدة لا يلزم بها مهر وعقد جديدان.
7. عند النزاع في صحة الرجعة تصدق المرأة بيمينها.
8. الرجعة يتعلق بها حق الله تعالى وتسمع فيها دعوى الحسبة.
9. البينة على نفي الرجعة لا تصح.
10. يشترط لصحة الرجعة أن تكون منجزة وليست معلقة على شرط أو مضافة إلى مستقبل.
11. لا يشترط لصحة الرجعة الإشهاد ولكن يندب لها.
(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الأول، 1440هـ/ 2019م.
الهوامش
[1] محمد بن منظور الأنصاري، (توفي711ه)، لسان العرب، بيروت، دار صادر، 1414ه، (ط3)، ج8، ص114.
- محمد بن عبد الرزاق الحسيني (توفي1205ه)، تاج العروس، تحقيق مجموعة من المحققين دار الهداية، ج21، ص77.