فتاوى بحثية

الموضوع : جهاد الطلب مفهومه وضوابطه
رقم الفتوى: 4017
التاريخ : 30-10-2025
التصنيف: الجهاد
نوع الفتوى: بحثية
المفتي : لجنة الإفتاء



السؤال:

ما المقصود بجهاد الطلب الذي هو فرض كفاية، وما هي ضوابطه؟


الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 

الجهاد في سبيل الله شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، لها أجر عظيم عند الله عز وجل، ومن حِكمتها أنها موطن عز وكرامة للمسلمين، تحفظ على الناس دينهم وأوطانهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ومفهوم الجهاد لا يقتصر على قتال الأعداء فقط، بل يشمل الدعوة إلى الله، وكذلك مجاهدة النفس وحملها على محاسن الأخلاق، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، قال قاضي القضاة الإمام الماوردي الشافعي رحمه الله: "قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا} فيه أربعة أوجه: أحدها: قاتلوا المشركين طائعين لنا. الثاني: جاهدوا أنفسهم في هواها خوفاً منا. الثالث: اجتهدوا في العمل بالطاعة والكف عن المعصية رغبة في ثوابنا وحذراً من عقابنا. الرابع: جاهدوا أنفسهم في التوبة من ذنوبهم" [تفسير الماوردي 4/ 294].

ومعلوم أنّ المسلمين يعيشون في دول ينتمون إليها، ويقيمون شعائرهم فيها، وهي ما تعرف الآن بالدول الإسلامية، وهي الدول التي تحتضن المجتمعات المسلمة، ولها نظام يحكمها، وجيش يدافع عن حريتها وكرامتها وحدودها، مثل كلّ دول العالم، فالدفاع عن الدولة والأرض والعرض والدّين بنية خالصة لله تعالى هو المقصود بالجهاد في سبيل الله، وهو حق مشروع، حيث يحق لكل دولة أن تدافع عن أرضها ووجودها وسلامة أراضيها، ومثل هذا الدفاع لا يكون بجهاد الدعوة والموعظة الحسنة، وإنما يكون بردّ كيد المعتدين وصد خطرهم، وكسر شوكتهم، فالكفر يعالج بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أما الحرابة والكيد والتهديد فتعالج بالقتال دفاعاً عن النفس والدين والوطن.

وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ العلة في الجهاد هي درء الحرابة -وهي ظهور قصد العدوان-، مستدلين على ذلك بأدلة كثيرة من الكتاب العزيز والسنة المطهرة:

نحو قول الله سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، وقوله سبحانه: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13]، وقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة: 8]، ووجه الدلالة من هذه الآيات وغيرها واضح جلي حيث يشير إلى أن الحرابة هي علة الجهاد والقتال.

ومن السنة النبوية المطهرة، عن حنظلة الكاتب، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررنا على امرأة مقتولة، قد اجتمع عليها الناس، فأفرجوا له، فقال: (مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فِيمَنْ يُقَاتِلُ) ثم قال لرجل: انطلق إلى خالد بن الوليد، فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك، يقول: (لَا تَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً، وَلَا عَسِيفًا) رواه أحمد وابن ماجه، وأصله في الصحيحين من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ)، ووجه الدلالة أن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتال الذي لا يعتدون على المسلمين ولا يحاربونهم وإن كانوا غير مسلمين.

ولأهمية الجهاد في الإسلام وخطورته، جعله الله تعالى من اختصاص وليّ الأمر، أو من ينوب عنه لا من اختصاص عامة الناس؛ فوليُّ الأمر هو الذي يقدّر المصلحة العامة ويضبط الأمور بما يناسب واقع الحال، وهو الذي له حق التصرف في سياسة الدولة ورعاياها ضمن إطار الشرع، وبيده إعلان حالة الحرب أو السلم أو عقد المعاهدات، قال الإمام شهاب الدين القرافي رحمه الله: "إن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس" [الإحكام في تمييز الفتاوى عن الإحكام وتصرفات القاضي والإمام/ ص24].

وقد أباحت الشريعة الإسلامية للحاكم أن يعاهد الدول غير المسلمة، بل وحكي الإجماع على هذا، قال الخطيب الشربيني رحمه لله: "المصالحة شرعاً مصالحة أهل الحرب على ‌ترك ‌القتال مدة معينة بعوض أو غيره سواء فيهم من يقر على دينه ومن لم يقر... والأصل فيها قبل الإجماع قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]، وقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61]، ومهادنته صلى الله عليه وسلم قريشاً عام الحديبية كما رواه الشيخان" [مغني المحتاج 6/ 86]، وهذا ما عليه واقعنا المعاصر من معاهدات دولية لحفظ السلام بين المتعاهدين.

وفي حال عدم وجود معاهدة مع دولة غير مسلمة، فإن الأصل أن تكون العلاقة معها علاقة سلم، ويقرّر عندئذ الحاكم ما يراه منوطاً بالمصلحة، إما باستمرار السلم والدعوة إلى الإسلام أو إلى القتال، وهو جهاد الطلب الذي هو فرض كفاية على من يعيّنه الإمام أو الحاكم لذلك، وقد يكتفي الإمام في حالة الجهاد بالتخويف عن طريق المناورات العسكرية التي تقيمها معظم جيوش الدول، والتباهي بها أمام العدو، كنوع من التحذير وإظهار القوة والغلبة.

وعلى أية حال، فإن مثل هذه المسائل، من الضروري عند البت فيها ودخول غمارها أن يُلتفت إلى أن طبيعة النظام بين الدول المعاصرة شديد التعقيد؛ فهو أكثر تعقيداً مما كان عليه واقع الحال في السابق، حيث بنى الفقهاء أحكامهم على واقعهم الذي قسموا فيه العالم إلى دار الإسلام ودار العهد ودار الحرب، وقد تغيّر هذا الواقع، إذ أصبحت العلاقات أكثر تعقيداً ومبنية على السلم والمعاهدة، وعلى إثر هذا فإن الحكم الشرعي الدقيق في مثل هذه المسائل يحتاج إلى اجتهاد معاصر يناسب واقع الحال واعتبار المآل، وهذا لا يحسنه ولا يتقنه إلا الجهات المختصة من هيئات الإفتاء والمجامع الفقهية على مستوى العالم. والله تعالى أعلم.



للاطلاع على منهج الفتوى في دار الإفتاء يرجى زيارة (هذه الصفحة)

حسب التصنيف السابق | التالي
رقم الفتوى السابق



التعليقات


Captcha


تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا