الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
حبّ الوطن والانتماء إليه أمر فطري جُبلتْ عليه النفوس، فالإنسان حين يولد في أرض، ويدرج عليها، وينشأ في جنباتها، ويعاشر أهلها ويحيا بينهم، فلا غرو أن فطرته ستربطه بها فيحبها وينتمي إليها، ولا تعارض بين الوطنية -بمفهومها المعتدل- وبين أحكام الإسلام، وادعاء وجود تعارض بينهما إنما هو وليد عدم الفهم لأحكام الإسلام ومبادئه.
وكذلك لا تعارض بين حبّ الأوطان وبين معاني الأمة، فإن الأمة تقوى وتعتضد بقوة الأوطان وأمانها.
هذا؛ وكلمة الوطن هي كلمة عربية أصيلة استخدمها الفقهاء والعلماء من سالف العصور، والوطن في اللغة: هو محل الإنسان، كما ذكره ابن فارس رحمه الله في [مجمل اللغة/ ص930]، وقال صاحب [مقاييس اللغة 6/ 120]: "لفظة "وطن" كلمة صحيحة، فالوطن: محل الإنسان، وأوطان الغنم: مرابضها، وأوطنت الأرض: اتخذتها وطناً".
وقد وردت كلمة الوطن في كتب الحديث، والفقه، ففي الحديث عن عبد الرحمن بن شبل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَنْهَى عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ، وَعَنْ افْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَأَنْ يُوطِنَ الرَّجُلُ الْمَقَامَ كَمَا يُوطِنُ الْبَعِيرُ) رواه أحمد والنسائي.
ومن كتب الفقه: قال الإمام الشربيني رحمه الله عند حديثه عن أحكام الجمع والقصر: "فإن كان وطنه صار مقيماً بابتداء رجوعه أو نيته؛ فلا يترخص في إقامته ولا رجوعه إلى أن يفارق وطنه تغليبًا للوطن" [مغني المحتاج 1/ 519]، ويقول عند حديثه عن عقوبة الزنا: "ويغرب غريب من بلد الزنا إلى غير بلده، فإن عاد إلى بلده منع في الأصح.. لأن المقصود إيحاشه بالبعد عن الوطن" [مغني المحتاج 5/ 449].
وكذلك فإن الله تبارك تعالى خصّ المهاجرين بمزيد فضل؛ لأنهم تركوا أوطانهم في سبيل الله تعالى، فترْك الوطن قاسٍ وشديد على النفس، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة: 100]، وفي الحديث عن عبد الله بن عدي بن حراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحزورة فقال: (إنكِ لخيرُ أرض الله وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منكِ ما خَرجتُ) رواه الترمذي، قال الإمام العيني رحمه الله: "ابتلى الله نبيه بفراق الوطن" [عمدة القاري 10/ 251].
وجاء في صحيح البخاري: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ، أَوْضَعَ نَاقَتَهُ-أي أسرع بها-)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه" [فتح الباري 3/ 621].
وقد قرن الله تعالى حبّ الأرض بحب النفس في القرآن الكريم، قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ} [النساء: 66].
وعليه؛ فكلمة "الوطن" كلمة عربية استخدمها الفقهاء والعلماء منذ صدر الإسلام الأول، وليست بلفظة مستحدثة، ولا بعلمانية، بل إن حب الوطن والذود عنه من الواجبات الشرعية، وقد جمعت وثيقة المدينة المنورة كل ساكنيها في المسائل المتعلقة بالمدينة وأرضها -كوطن- في بوتقة واحدة. والله تعالى أعلم.