الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
المسجد هو المكان الموقوف للصلاة، ووجود قبر فيه لا يخرجه عن مسمى المسجد، ولا يخلو ذلك من حالتين:
الأولى: أن يكون القبر بجوار المسجد، وهذه لا حرج فيها شرعاً، ولو كان القبر جهة القبلة، ما دام جدار المسجد يفصل المسجد عن الضريح، قال الإمام المناوي رحمه الله: "أما من اتخذ مسجداً بجوار صالح، أو صلى في مقبرته... فلا حرج عليه" [فيض القدير 4/ 612]، وكذلك الأمر إذا كان القبر في ساحات المسجد غير المعدة للصلاة.
وقال الإمام المباركفوري رحمه الله: "تنبيه قال في مجمع البحار: وحديث لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد كانوا يجعلونها قبلة يسجدون إليها في الصلاة كالوثن، وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح أو صلى في مقبرة قاصداً به الاستظهار بروحه، أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا التوجه نحوه والتعظيم له، فلا حرج فيه ألا يرى أن مرقد إسماعيل في الحجر في المسجد الحرام والصلاة فيه أفضل" [تحفة الأحوذي 2/ 226].
والذي نراه في مقامات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأضرحة الصحابة رضوان الله عنهم، أن القبور غالباً مستقلة عن مكان الصلاة، بل تفصل القبور في غرف وتوضع ضمن جدر، فالمساجد على ذلك ليست على المقابر ولا فيها، بل بجوارها، وأما قول الله تعالى: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} في سورة الكهف، فقال الخطيب الشربيني رحمه الله في تفسيره: "{قال الذين غلبوا على أمرهم}، أي: أمر الفتية، وهم المؤمنون: {لنتخذن عليهم}، أي: حولهم {مسجداً} يصلى فيه، وفعل ذلك على باب الكهف" [السراج المنير 2/ 363]، وليس في الآية دلالة على شيء من حلّ أو حرمة؛ لأن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا.
والحالة الثانية: أن يتم بناء المسجد على القبر نفسه بحيث يكون القبر ضمن بناء المسجد، أو ساحاته التي أعدت للصلاة، فحكمه دائر بين الكراهة والتحريم، خاصة إذا كان القبر في اتجاه القبلة.
قال الإمام النووي رحمه الله: "واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهوراً بالصلاح، أو غيره". [المجموع 5/ 316]، وجاء في [الفتاوى الهندية 1/ 166]: "ويكره أن يبنى على القبر مسجد أو غيره".
وفي النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: "وكره مالك هذه المساجد المتخذة على القبور"، وقال الإمام البهوتي الحنبلي رحمه الله: "ويحرم اتخاذ المسجد عليها، أي: القبور، وبينها". [كشاف القناع 2/ 141].
والمحرم هو التوجه للقبر وجعله معظماً كالقبلة، أو تعظيمه كتعظيم الله تعالى -بل إن تعظيم القبر كتعظيم الله تعالى مخرج من الملة- وعلى هذا يُحمل نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، ونحن نحسن الظنّ بالمسلمين، فلا نعتقد أن مسلماً يعظم القبر كتعظيم الله تعالى أو تعظيم القبلة.
أما تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)، فالنهي هنا من اتخاذ القبر معبوداً ومعظماً، جاء في [شرح صحيح البخاري لابن بطال 3/ 311] في قول عائشة رضي الله عنها عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم: "ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أنى أخشى أن يتخذ مسجداً، قال المهلب: هذا النهى من باب قطع الذريعة، لئلا يعبد قبره الجهال كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائها".
ومما يؤيد ذلك الحديث الذي يرويه الإمام مالك رحمه الله في [الموطأ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَناً يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ).
وقد أجاز الفقهاء بناء المسجد على أرض المقبرة المندرسة، قال الإمام ابن رشد (الجد) رحمه الله من المالكية: "وأما بناء المسجد للصلاة فيه على المقبرة العافية [أي: المندرسة التي لا يدفن بها]، فلا كراهة فيه -كما قال؛ لأن المقبرة والمسجد حبسان على المسلمين لصلاتهم، ودفن موتاهم؛ فإذا عفت المقبرة - ولم يمكن التدافن فيها، أو استغنوا عن التدافن فيها، واحتيج إلى أن تتخذ مسجداً يصلى فيه، فلا بأس بذلك؛ لأن ما كان لله، فلا بأس أن يستعان ببعض ذلك في بعض على ما النفع فيه أكثر" [البيان والتحصيل 2/ 220].
وبناء على ذلك، فلا مانع من الصلاة في المساجد التي يوجد بها أضرحة، خاصة أن القبور موجودة خارج مكان الصلاة، ولا كراهة في ذلك. والله تعالى أعلم.