عالمية الخطاب الإسلامي والحوار مع الآخر
فضيلة المفتي الدكتور أحمد الحراسيس
المقدمة:
يشكل الحوار اليوم بوصفه ظاهرة حيوية أهم عناوين وأسس الخطاب الإسلامي المعاصر، وللحوار بواعث وأسباب وعلل، على المجتمع الإسلامي أن يعرفها؛ بل وتكون هذه البواعث فكرا وسلوكا يعيشه المجتمع بكل مكوناته، ولا بد للمفكرين اليوم في ظل غياب الخطاب الإسلامي الموحد المشترك من إعادة النظر في مقومات الحوار الديني، ومفهوم التعايش مع الآخر، في ظل العولمة والنظام العالمي الجديد.
إن خطابنا الإسلامي المبعثر، والذي تولاه أصحاب الاختصاص وغيره، والتغيب المقصود أو غير المقصود؛ لأئمة العلم والهدى، واستغلال الجوانب السياسية، في تشويه الخطاب الإسلامي؛ يعد من أهم أسباب انعدام ثقة الناس بالخطاب الإسلامي. وإن من أهم الأفكار التي يجب بثها اليوم والتأسيس لها؛ بل والبناء عليها بيان أن صلتنا بغيرنا من المسلمين صلة قائمة على أخوة الإنسانية، وليست صلة قائمة على العداوة والبغضاء، إنما نبني على المشترك الإنساني، والأخلاق العامة التي لا يختلف عليها أصحاب الذوق البشري، والفطرة السليمة، ومن هذه المبادئ فإن رسالة عمان التي انطلقت في الليلة المباركة من الشهر المعظم كانت إشعاعا حضاريا راقيا يؤسس لمرحلة جديدة من التعامل مع الذات، والتعامل مع الغير على أسس ربانية نابعة من القرآن الكريم، ونبوية نابعة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اشتمل البحث على العناوين التالية:
- عالمية الخطاب الإسلامي والخطاب مع الآخر، وأسس هذا الخطاب، وأدلته، ومواقف وشواهد، من حوارات القرآن الكريم، وحوارات الرسول صلى الله عليه وسلم مع غيره، وأثر هذا الخطاب والحوار الراقي، في نشر الدعوة الإسلامية.
- رسالة عمان، ونشأتها وأهم مضامينها في مجال الخطاب الإسلامي، والحوار مع الآخر، وأثر هذه الرسالة في تعزيز النظرة الإيجابية للإسلام.
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وأصحابه أجمعين، وبعد:
يشكل الحوار اليوم بوصفه ظاهرة حيوية أهم عناوين وأسس الخطاب الإسلامي المعاصر، وللحوار بواعث وأسباب وعلل، ويتوجب على المجتمع الإسلامي معرفتها، وبل وتكون هذه البواعث فكرا وسلوكا يعيشه المجتمع بكل مكوناته، ولا بد للمفكرين اليوم في ظل غياب أو ضعف الخطاب الإسلامي الموحد المشترك من إعادة النظر في مقومات الحوار الديني، ومفهوم التعايش مع الآخر، في ظل العولمة والانفتاح الفكري والثقافي.
إن خطابنا الإسلامي المبعثر، والذي تولاه أهل الاختصاص وغيرهم، والتغييب المقصود أو غير المقصود لمنابر العلم والهدى، واستغلال الجوانب السياسية في تشويه الخطاب الديني، يعد من أهم أسباب انعدام ثقة الناس بهذا الخطاب، وإن من أهم الأفكار التي يجب بثها والتركيز عليها والتأسيس والبناء عليها بيان أن صلتنا بغيرنا من المسلمين صلة قائمة على الأخوة الإنسانية، وليست قائمة على العداوة والبغضاء، لذا نبني على المشترك الإنساني، والأخلاق العامة التي لا يختلف عليها أصحاب الذوق البشري، والفطرة السليمة، وانطلاقا من هذه المبادئ فإن رسالة عمان التي انطلقت في الليلة المباركة من الشهر المعظم كانت إشعاعا حضاريا راقيا يؤسس لمرحلة جديدة من التعامل مع الذات، والتعامل مع الغير على أسس ربانية نابعة من القرآن الكريم، ونبوية نابعة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
منهجية البحث:
أولا: المنهج الاستقرائي: وذلك من خلال الاستقصاء العلمي للمسائل المطروحة في مجال الخطاب والحوار مع الآخر.
ثانيا:- المنهج التحليلي: من خلال عرض القواعد والأصول المتعلقة بالموضوعات المطروحة.
مشكلة البحث و الأسئلة التي تجيب عنها:
- مفهوم الخطاب الإسلامي المعاصر.
- مفهوم الحوار والحوار مع الآخر وعلاقته بالخطاب الإسلامي والإعلامي المعاصر.
- مدى تأثير الحوار في وحدة الأمة وحمايتها من الفرقة.
- أسس وضوابط وآداب الحوار الإسلامي. ونماذج من القرآن والسنة.
– مدى ضرورة تجديد الخطاب الإسلامي وأهميته من خلال التمسك بالماضي - الإرث الحضاري- والنظر إلى المستقبل.
خطة البحث:
قمت بتقسيم البحث إلى تمهيد وثلاثة مباحث:
التمهيد: وعرضت فيه مشكلة الدراسة والأسئلة التي تجيب عنها وأهداف الدراسة ومبرراتها ومنهجية البحث وخطة البحث.
المبحث الأول:- عالمية الخطاب الإسلامي ويتضمن:- مفهوم عالمية الخطاب الإسلامي، أدب الخطاب الإسلامي وخصائصه، تجديد الخطاب الإسلامي وأهدافه، ركائز ومنطلقات الخطاب الإسلامي المعاصر، الخطاب الإسلامي والإعلام المعاصر.
المبحث الثاني:- ثقافة الحوار مع الآخر. ويتضمن: مفهوم الحوار، أهداف الحوار وأصوله وآدابه، ونماذج من حوار القرآن الكريم والسنة النبوية.
المبحث الثالث:- مضامين رسالة عمان ويتضمن:-فكرة رسالة عمان وانطلاقها وصداها في العالم، محاور رسالة عمان،ونظرات في مضامين رسالة عمان.
خاتمة: تشمل: النتائج و التوصيات، والمصادر والمراجع.
المبحث الأول
عالمية الخطاب الإسلام
المطلب الأول: مفهوم عالمية الخطاب الإسلامي.
المقصود بعالمية الإسلام: أن الإسلام دين الله سبحانه وتعالى أنزله لهداية البشر كافة، فهو ليس خاصا بشعب دون شعب أو جنس دون جنس، ويتجسد ذلك من خلال قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) الأعراف/158. قال الطبري: "لا إلى بعضكم دون بعض كما كان من قبلي من الرسل، مرسلا إلى بعض الناس دون بعض، فمن كان منهم أرسل كذلك فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، ولكنها إلى جميعكم"[1].
وقال الزمخشري: "وأرسلناك للناس رسولا، أي للناس جميعا لست برسول العرب وحدهم، أنت رسول العرب والعجم" [2].
وقد تعاضدت الآيات الكريمات على عالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك قول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) سبأ/28 قال البغوي معلقا على الآية: "يعني للناس عامة أحمرهم وأسودهم مبشرا ونذيرا"[3].
ومن هنا تظهر مهمة الرسول الأعظم والدعاة من بعده في الدعوة والإعلام، وهذه هي الوظيفة الحقيقية للدعاة اليوم من البيان والبلاغ وتمييز الحق من الباطل[4].
ويتضح أن القانون العالمي الوحيد الذي يصلح لحكم الحياة الإنسانية وإصلاحها، ويسع الناس على اختلاف الزمان والمكان هي الشريعة الإسلامية، فقد أراد الحق سبحانه أن يكون الإسلام دينا لجميع البشر، والشريعة للناس كافة[5].
وقد شهد المخالفون-من خلال خصيصة العالمية– بعظم الدعوة الإسلامية، يقول القس البريطاني "اسحق تيلور": "لما كان الإسلام داعيا إلى نفسه انتشر في قسم كبير من الدنيا، وفاق غيره في النجاح، ليس تفوق الإسلام منحصرا في أن الداخلين إليه أكثر عددا، بل أنه يكسب أقاليم يتقهقر فيها غيره، فقد امتد دين الإسلام من المغرب إلى جاوا، ومن زنجبار إلى الصين، ثم ينتشر في أفريقيا بخطوات العباقرة"[6].
ومن بداية الدعوة كانت نظرة الإسلام أن تصل إلى العالم كله، والدليل على ذلك أن الرسول الأعظم لم يكن رجلا إقليميا أو زعيما وطنيا، ولم يسر في قومه سيرة القادة السياسيين ولم يسع لإقامة إمارة عربية قوية موحدة يرأسها، وإنما أرسل صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ولم يكن خطابه لأمة أو وطن، ولكن خطابا للنفس البشرية والضمير الإنساني[7].
وقد جاءت الأحاديث النبوية شاهدة على عالمية الدعوة، عن أبي ذر –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوتيت خمسا لم يؤتهن نبي قبلي: وذكر فيها- وبعثت إلى الأحمر والأسود"[8].
وجاء في خبر البخاري: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: وذكر منها _ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة"[9].
قال صاحب عمدة القاري: "إن عموم رسالة نبينا في أصل البعثة، وصار للكل من غير أن يزاحمه أحد"[10].
ونقصد بالخطاب الإسلامي: "طريقة التعبير التي توضح حقائق الإسلام وشرائعه في شتى مجالات الحياة العامة والخاصة".
وهذا الخطاب بمختلف أشكاله وصوره يمثل رسالة سامية، يحول الحياة العامة إلى نموذج إسلامي نقي، مستمد من نصوص الكتاب والسنة وحياة الصحابة، ومقتبس من الصور الزاهية للنجاحات الإسلامية عبر العصور وله دور جوهري في بقاء الإسلام حيا في النفوس، وفي تنمية النزعة نحو سمو القيم والأخلاق لدى المسلمين في أصقاع الأرض كلها[11].
وبالمجمل فإن مفهوم عالمية الخطاب الإسلامي يعني: "أن رسالة الإسلام تخضع لواجب التبليغ للناس كافة عبر أسلوب تتوافر فيه خصائص الخطاب النبوي".
المطلب الثاني: أدب الخطاب الإسلامي وخصائصه.
لا بد أن يكون خطابنا الإسلامي المعاصر مشتملا على أدب الخطاب المستمد من الكتاب والسنة، وأن مراعاة هذه الآداب لها أثر كبير في تحقيق هدف المخاطب، واستثارة كمائن الخير في نفسه، والمتأمل في الخطاب القرآني يجد أن القرآن الكريم خاطبنا بكل أنواع الخطاب تفقيها وتعليما، وخاطب العموم والخصوص، وخاطب الجنس والنوع والعين، وتنوعت أساليبه بين المدح والترغيب والترهيب وغير ذلك من أنواع الخطاب وأساليبه.
وأن الخطاب القرآني له المزايا والخصائص الفريدة من جمال اللفظ ودقة العبارة، كما أن عبارة القرآن تجمع بين القصد في اللفظ والوفاء في المعنى مع عمق التأثير في السامع وإثارة عواطفه وانفعالاته يزين ذلك براعة الاستهلال وجودة العرض، وروعة الخاتمة، كما نجد في القرآن مراعاة لمقتضيات الأحوال التي هي عين البلاغة، فمن كتاب الله نستسقي أدب الخطاب بكافة صوره وأشكاله[12].
وإن الخطاب الإسلامي المعاصر الفعال يمتاز بخصائص ومقومات ليحقق هذا الخطاب الثمرة المرجوة منه وهو توحيد الثقافة عند حدودها الدنيا بين أفراد الأمة، وهو الوسيلة الأساسية لتذكير الناس بالمبادئ والأصول والأدبيات الإسلامية.
ومن أهم خصائص الخطاب الإسلامي:
أولا: الاعتدال والوسطية.
يتحمل الخطاب الإسلامي المعاصر مسؤولية المحافظة على الفطرة وإنضاجها، وأن المنهج القرآني قد قرر منهج الوسطية والاعتدال وأنها نابعة من اليسر، قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/١٨٥ وقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) النساء/٢٨ وقال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) المائدة/ ٦.
ومن هذه الآيات نستدل على وسطية الإسلام، وأنه حارب التشديد ونبذه، فيشترط في الخطاب أن يكون معتدلا متوازنا، يراعي ظروف الناس وأحوالهم لذا جاءت الآيات شاهدة علو وسطية الأمة وخيريتها. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) البقرة/١٤٣، قال صاحب "فتح القدير": (وكذلك جعلناكم) أي مثل ذلك الجعل فكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، الوسط: الخيار أو العدل، والآية محتملة الأمرين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الوسط بالعدل ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في عيسى عليه السلام، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم"[13].
ومن هنا وجب أن يكون الخطاب الإسلامي المعاصر منسجما مع الوسطية التي دعا إليها القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ثانيا: التأثير والإقناع.
وهما المقصد الرئيسي للخطاب الإسلامي، لذا يلتزم الخطاب بين الحماسة والعاطفة وهذا يملي على الذين يتصدون للمنابر الإعلامية والخطابة والوعظ أن يوازنوا موازنة دقيقة بين البقاء أوفياء للحقائق التي يدعون إليها، وبين القلوب التي يحاولون التأثير فيها[14].
وحتى يكون الخطاب مؤثرا ومقنعا فلا بد أن يكون هادئا ليكون مفتاحا للقلوب، وطريقا للنفوس، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل/١٢٥، وأن يتمثل الخطاب بالكلمة الطيبة والقول الحسن كما جاء في التوجيه الإلهي للدعاة[15].
ثالثا: الواقعية.
الإسلام لا يغفل طبيعة الناس، وتفاوتهم في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع الذي يرسمه لهم، في ضوء هذه النظرة فقد جعل حدا أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه؛ لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولكن بجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه، فقد وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع منه، وحببت لهم بلوغ هذا المستوى العالي[16].
انطلاقا من التمهيد السابق يستلزم أن يكون خطابنا اليوم مراعيا للواقعية وأن يبتعد عن المثالية والإفراط.
رابعا: الاهتمام بقضايا الناس وهمومهم.
إن من أهم الواجبات الجوهرية للخطاب الإسلامي الاهتمام بتوحيد الناس وإرشادهم إلى ما يجب عليهم عمله للارتقاء بأنفسهم، وتحسين قدراتهم ومهاراتهم، وتقوية صلتهم بخالقهم وعلاقاتهم ببعضهم[17]، وليكون الخطاب ناجحا فلا بد أن نحدد المعنى أو المفهوم الذي يريد بيانه ولفت الأنظار إليه، وأن يكون الموضوع مما له علاقة بأحوال الناس، كأن يكون المفهوم الذي نريد أن نبنيه ونحدد أبعاده العصبية القبلية مثلا فهذا يستلزم الحديث عن آثارها السلبية على المجتمع فيكون التوجيه حول أضرارها وحكم الإسلام فيها، وأن النصرة لا تكون إلا بالحق، ويركز على مفهوم الأخوة والمحبة[18].
المطلب الثالث: تجديد الخطاب الإسلامي وأهدافه.
يتوجب على أعلام الخطاب الإسلامي تبني تجديد الخطاب الإسلامي سواء في بنيته وأولوياته، وإعادة صياغة أطروحاته، أو في تجديد تقنياته ووسائله وتطوير قدرات حامليه؛ بهدف تلبية احتياجات المسلمين في ظل الظروف التي تعيشها الأمة اليوم، واستجابة للتحديات التي تواجهها في سياق التفاعل مع ما يجري حولها في العالم من أحداث، وإننا نحتاج اليوم إلى خطاب بنائي وليس خطابا إنشائيا يدفع حركة المجتمع عبر الفرز بين قيم التحلي وقيم التخلي وإدراك سنن التغيير الحضاري بحيث يعيد للإنسان دوره وفاعليته وحضوره في حركة المجتمع[19].
ويمكننا تلخيص أهداف الخطاب الإسلامي بالنقاط الآتية:
أولا: الهدف الدعوي وتقديم صورة دعوية عن الإسلام إلى العالم.
ما تزال قصة انتشار الإسلام بهذه الصورة القوية البارعة موضع التساؤل والتعجب من كتاب الغرب، الذين يدهشون لقدرة الإسلام على النفاذ إلى القلوب على هذا النحو الواسع.
ويرجع انتشار الإسلام في تلك المساحات الواسعة إلى أسباب كثيرة اجتماعية وسياسية ودينية، وأهم العوامل التي أحدثت هذه النتيجة الجهود المتتابعة للدعاة والعلماء، هؤلاء الذين اقتدوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في مجال الدعوة في سبيل الله تعالى؛ لإدخال الناس في الدين، ولم يكن واجب الدعوة إلى الإسلام فكرة متأخرة بل كان أمرا محتوما على المؤمنين منذ فجر الدعوة.[20].
وأن الدعوة إلى الله هي وظيفة الرسل جميعا، ومن أجلها بعثهم الله إلى الناس، فقد خاطب الله رسوله بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) الأحزاب/٤٥-٤٦، وتأسيسا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الداعية الأول وقد جاء الخطاب آمرا إياه بالدعوة، فإن عموم المسلمين يدخلون في هذا الأمر؛ لأن الأصل في خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم دخول أمته ا فيه إلا ما استثنى، ومعنى هذا أن الله أكرم هذه الأمة وشرفها حيث أشركها مع رسوله في وظيفة الدعوة إليه، [21] وقد جاء هذا التشريف مسطورا في القرآن، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) آل عمران/١١٠، يقول صاحب الظلال: "وهذا الدرس حلقة من سلسلة التربية المنهجية التي تولتها يد الرعاية الإلهية لإخراج الأمة، وهي حلقة من المنهج الثابت المطرد، المرسوم الأهداف لمعالجة النفس البشرية بالدواء الذي صنعه صانع هذه النفس سبحانه الخبير بدروبها ومنحنياتها، البصير بطبيعتها وحقيقتها، العليم بضروراتها وأشواقها وبمقدراتها وطاقاتها، ويبدأ الدرس بنداء الجماعة المؤمنة إلى النهوض بتكاليف دورها في إقامة العدل بين الناس، العدل الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة متخلصة من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة متجردة من كل اعتبار غير تقوى الله "[22].
ثانيا: الهدف التوحيدي (توحيد الأمة).
ويتمثل هذا الهدف بالسعي لتوحيد الأمة، ونبذ أسباب الخلاف والفرقة، وهذا من الأهداف التي يجب ألا يغفلها الخطاب الإسلامي، فالخطاب الديني يجمع ولا يفرق، قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال/٤٦، قال القرطبي: "وهذا استمرار على الوصية لهم، والأخذ على أيديهم، فتفشلوا وهذا جواب النهي وتذهب قوتكم ونصركم"[23].
وقد ذكر ابن عاشور في تفسيره بعض اللطائف في الآية السابقة حيث يقول: "وافتتحت الوصايا بالنداء اهتماما بها، ولما كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء وهو أمر مرتكز في الفطرة بسط القرآن القول فيه ببيان سيء آثاره فحذرهم أمرين معلوما سوء مغبتهما وهما: الفشل وذهاب الريح، وإنما كان التنازع مفضيا إلى الفشل؛ لأنه يثير التغاضب ويزيل التعاون بين القوم، ويحدث فيهم أن يتربص بعضهم ببعض الدوائر، فيحدث في نفوسهم الاشتغال باتقاء بعضهم بعضا" [24].
ثالثا: إيجاد الوعي في الأمة.
إن فقدان الوعي في الأمة الإسلامية يعرضها لكل خطر ويجعلها فريسة للآخرين، والافتتان لكل دعوة واندفاعها إلى كل موجة وخضوعها لكل متسلط، وسكوتها عن كل فظيعة، وتحملها لكل ضيم[25].
إن الخطاب الإسلامي اليوم يتحمل مسؤولية عظيمة لإنعاش الوعي عند الأمة بكافة وسائل الخطاب الإعلامية، من خطابة وتدريس ومحاضرات وندوات وتربية وتعليم ومواقع تواصل اجتماعي؛ لذا فإن من أعظم ما تخدم به هذه الأمة إيجاد الوعي في طبقاتها، وتربية الجماهير من خلال الخطاب المتزن الواعي الدقيق "التربية العقلية والمدنية والسياسية"[26].
المطلب الرابع: ركائز ومنطلقات الخطاب الإسلامي المعاصر
الخطاب الإسلامي الذي نريد لا بد له أن ينطلق من ركائز جامعة، تحيط بالمطلوب وتستوفي المنشود، وأهم هذه الركائز تتمثل فيما يلي:
أولا: وسطية المنهج وتوازنه.
حيث يراعي الخطاب الإسلامي التوازن بين العقل والوحي، والمادة والروح، والحقوق والواجبات، والنص والاجتهاد، والواقع والمثال، والثابت والمتغير،ونعني بالتوازن بين الأمور المذكورة، ونعني بالتوازن: التعادل بين طرفين متقابلين بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، وأن يعطى كل طرف حقه بالقسط بلا شطط ولا غلو ولا تقصير، حيث إن الخطاب الإسلامي يستمد وسطيته من عقيدته قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) البقرة/١٤٣، وينتج عن الوسطية والتوازن والاعتدال في الخطاب عدم الغلو، وتبرز مظاهر التوازن في جميع مجالات الحياة الإنسانية فمنها: التوازن بين الجسد والروح، والحياة والآخرة، والعبادة والعمل، وعالم الغيب والشهادة، والخوف والرجاء، والوسطية تكون في الأمر الواحد الذي لا يكون حاله متطرفا إلى واحد من الطرفين البعيدين المتقابلين [27].
ثانيا:- إيجابية البناء (الإيجابية).
الإيجابية ضد السلبية وتعني: " تفاعل الخطاب الإسلامي مع الناس لنقلهم من السلبية المقيتة إلى التفاعل الإيجابي مع الكون وتذكيره بواجبه الشرعي، وهو عمارة الكون وواجب الاستخلاف". وأن إثارة العديد من الموضوعات وإخراجها من مكامن النظريات إلى واقع التطبيق، فالإيجابية تكون في علاقة المسلم بربه و بالكون و الحياة، حيث تشعره بأنه لم يخلق عبثا، وأنه أكرم المخلوقات قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) الإسراء/٧٠، والإيجابية في علاقة المسلم مع أخيه الإنسان من خلال علاقته الطيبة بأهله وأسرته،حيث ينبني عليها القيام بواجباته الشرعية نحوها[28].
ثالثا: شمولية الفكرة بلا اجتزاء (الشمولية).
رسالة الإسلام هي الرسالة التي امتدت طولا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقا حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة، والإسلام لا ينحصر في العقيدة والعبادة فقط، بل يمتد ليشمل الحياة كلها، وينبغي أن يواكب خطابنا هذا الشمول[29].
ومن مظاهر هذا الشمول الذي يجب على الخطاب الإسلامي مراعاته حقائق العقيدة الإسلامية، فهو أول ركائز ومظاهر الشمول، وذلك لحقائق الألوهيه، فالله هو الخالق لكل موجود قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر/٤٩، وحقيقة أن هذا الكون مسخر لخدمة الإنسان، وحقيقة ثالثة وهي أن الحياة الدنيا دار عمل وامتحان، تنتهي لتبدأ مرحلة الجزاء[30].
وقد شهد المنصفون من الغرب بهذه الخصيصة، حيث عدوها من أبرز سمات الخطاب الإسلامي، ومظهرا من مظاهر قوته، حيث يقول "ليو بولد فابس": "إن أهم معطيات الإسلام تلك التي تميزه عن سائر النظم، هي التوفيق العام بين الناحية الخلقية والمادية من الناحية الإنسانية، وهذا سبب من الأسباب التي عملت على ظفر الإسلام في إبان قوته أينما حل، لقد أتى الإسلام برسالة جديدة لا تجعل احتقار الدنيا شرطا للنجاة في الآخرة، هذه هي الخاصية الظاهرة في الإسلام، تجلو الحقيقة الدالة على أن نبي الله محمد كان شديد الاهتمام بالحياة الإنسانية في كلا اتجاهيها في المظهر الروحي والمادي، ونحن نعد (الإسلام) أسمى من سائر النظم المدنية، لأنه يشمل الحياة بأسرها.....".[31]
رابعا: الواقعية في الطرح: (الواقعية).
ونقصد بالواقعية: "مراعاة الخطاب لواقع الإنسان من حيث ظروف حياته ورغباته ومشاعره وفطرته وتكوينه". فالإسلام لم يكلف الإنسان فوق طاقته وقدرته، فغاية التشريع الإسلامي ومقصده رفع الحرج والمشقة عن الناس.[32] قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج/٧٨.
والواقعية أيضا نقيض المثالية الخيالية التي لا تتحقق في عالم الواقع، والخطاب الإسلامي خطاب واقعي؛ لأن مصدره هو الله سبحانه، فهو خطاب عملي يراعي اختلاف الظرف والمكان، ويعمل على حشد طاقات الأمة وتعبئتها لا على إضعافها وتبديدها، لا يغتر لنجاح ولا ييأس لفشل، قال تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) آل عمران/١٤٠. ولا يثنيه واقع الاستضعاف عن العمل للتمكين، ولا طارئ الغربة عن السعي للظهور، ولا فقه الأزمة عن مستلزمات العافية، ولا الممكن الموجود عن الأمثل المنشود[33].
المطلب الخامس:الخطاب الإسلامي والإعلام المعاصر.
يمكننا القول بأننا نعيش اليوم مرحلة الدولة الإعلامية الواحدة التي ألغت الحدود وأزالت السدود، واختزلت المسافات والأزمنة حتى بات الإنسان يرى العالم ويسمعه من مقعده، ولم يقتصر ذلك على اختراق الحدود السياسية والسدود الأمنية، وإنما بدأ يتجاوز إلى إلغاء الحدود الثقافية، ويتدخل في الخصائص النفسية، وتشكيل القناعات العقدية فيعيد بناءها وفق الخطط المرسومة لصاحب الخطاب الأكثر تأثيرا، والبيان الأكثر سحرا، والتحكم الأكثر تقنية[34].
وللنهوض بهذا الخطاب عن طريق الإعلام وغيره فلا بد أن ينهض العالم الإسلامي برسالته، والإيمان بها والاستماتة في سبيلها، وهي رسالة قوية واضحة مشرقة، لم يعرف العالم رسالة أعدل منها ولا أفضل ولا أيمن للبشرية منها[35].
والمهم لقادة الخطاب الإسلامي والإعلام بجميع هيئاته الدينية غرس الإيمان في قلوب المسلمين، وإشعال العاطفة الدينية، ونشر الدعوة لا تدخر في ذلك وسعا، وتستخدم لذلك جميع الوسائل القديمة والحديثة وطرق النشر والتعليم، والدروس والخطب والكتب والمقالات، وتستخدم لذلك جميع الوسائل الإعلامية المتاحة من الإذاعة والصحافة وجميع القوى والوسائل المعاصرة[36].
ونستطيع القول بأننا حتى هذه اللحظة وعلى الرغم من التحكم الإعلامي، فإننا ما زلنا نمتلك من وسائل الإعلام في تعددها وتنوعها وقدرتها على التأثير ما لا يمتلكه أحد، ويبقى السؤال مطروحا، كيف يمكن لنا أن نعيد لها الحياة والتأثير والقدرة على التغيير؟
لو أحصينا عدد منابر الجمعة في العالم الإسلامي لأدركنا أهمية المواقع والوسائل الإعلامية التي نمتلكها، وما يمكن أن تفعله في العالم لو كان على مستوى المسؤولية المنوطة بنا، واستشعرنا التحدي الذي يواجهنا، إذا أضفنا لذلك المحراب وعطاؤه خمس مرات يوميا يتلو المعجزة البيانية على عقول وقلوب الأمة، ولذا فشعيرة الأذان التي تعلن بالمرتكزات الأساسية للعقيدة والرسالة الخاتمة لأدركنا التخاذل الذي نعيش، ولعل بعض وسائل وأساليب الخطاب المعاصر تؤثر سلبا على مسار الدعوة ومواقف الناس منها، وذلك عندما يكون الطرح سيئا أو جاهلا أو غبيا أو ساذجا، فيسيء للإسلام وعظمته[37].
والموقف الأمثل من وسائل الإعلام وهو الأصعب في كيفية تحويلها وتسخيرها لتكون في خدمة الحق والخير، وهو الموقف الراشد واللائق بأمة تمتلك الرسالة المعيارية التي تمكنها من التعامل مع الأشياء والحكم عليها.
والخلاصة: إن الإعلام الإسلامي قضية أشمل من صفحات دينية معزولة ومحكومة في جرائد ودوريات، أو أحاديث وخطب في إذاعة أو فضائيات أو أفلام تاريخية، إن القيم والمنطلقات التي تكمن وراء تخطيط وتطهير وتنقية كل ما يذاع ويشاع بمختلف أشكاله وأوعية فقراته الإعلامية ليكون ذا منبت حسن، إنه إعلام الكلمة الطيبة والوعاء النظيف الذي يسهم ببناء الإنسان، وتخليصه من العبودية لغير الله ابتداء من فقرات الترفيه والترويج، وانتهاء بإعلام الأزمات والشدائد والملمات.
ولا بد ونحن نشهد هذه الصحوة المباركة أن ننادي بتحويل الإحساس بالحاجة إلى شمول الإصلاح وتكامل التطبيق للمنهج، إلى برنامج عمل واضح المعالم، مفصل الجوانب، يقدم البدائل الإسلامية في مختلف مجالات الحياة.[38] لذلك فإن صياغة منهج للإعلام الإسلامي يعمل على سد الفراغ الهائل في منظومات المنهج الإسلامي ليعتبر ضرورة ملحة، حتى يمكن بلورة أنموذج جديد للإصلاح يقوم على الشمول والتكامل والواقعية[39].
وإن من الضرورة بمكان ونحن نتحدث عن المنهج والرؤية، الاستمساك بالمنهج الصحيح في الوسائل والأساليب وهو المستسقى من المصادر الأصلية، وإن من نتائج التمسك بهذا النهج أن يقرب من الغاية ويوصل إلى المراد، وإن الخروج عن النهج الصحيح يؤدي إلى الفشل وعدم بلوغ الغاية وإن ظن أنه قارب أن يصلها كما يؤدي إلى لحوق الأذى بالعاملين وضياع الجهود بلا طائل كالذي يقيم البناء على غير أسس سليمة أو بمواد غير صالحة، فإن بناءه إلى الزوال مع احتمال انهدامه على ساكنيه وهذا قد يتحصل مع النية الحسنة، لأن النتائج في الدنيا تترتب على أسبابها ومقدماتها بغض النظر عن نيات أصحابها[40].
ولا بد للمتصدين للإعلام الإحاطة بالمستجدات الإعلام وأساليب التواصل مع الآخر وأشير هنا إلى علم الاتصال المعاصر وهو: "معلومات أو أوامر نبثها إلى البيئة بهدف التأثير فيها والسيطرة عليها" وعرف أيضا بأنه: "العملية التي يتفاعل بها المرسل والمستقبل للرسائل في سياقات اجتماعية معينة "[41]. وأهم عناصر بيئة الإنسان هو الإنسان نفسه فكرا وسلوكا، لذا حظي هذا العلم بالاهتمام بشكل متزايد وهكذا اتسع هذا العلم ليضم إلى جانب الاتصال الجماهيري والجمعي والفردي- عمليات الاتصال داخل الكائن ذاته، ثم تطور الاهتمام بفرع آخر من فروع هذا العلم وهو الاتصال غير اللفظي سواء كان مصاحبا ومكملا للنمط الأول أو مستقلا عنه.
وقد قسم "دنكان" أنماط هذا الاتصال إلى:
حركة الجسم، ما وراء اللغة، البعد والقرب، الإفرازات، حساسية الجسم للمس الأدوات.
وقد اهتم هذا الفرع بخصائص الصوت من حيث النغمة، والسيطرة على المخارج وطبقات الصوت[42].
ومن المهم أن يتنبه القائمون على الخطاب الإسلامي والدعوة والعاملون في مجال الإعلام أن لعملية الاتصال خمسة عناصر وهي: الأول المرسل: وهو منبع عملية الاتصال وهو الذي يقدم الرسالة أو يبدأ الحوار عن طريق الكلام أو الرموز أو تعبيرات الوجه أو الإشارات غير اللفظية، وثانيها الرسالة وثالثها القناة ورابعها المستقبل وخامسها التغذية الراجعة[43].
ولا بد من الإشارة إلى دور بعض أشكال الخطاب الإعلامي الإسلامي اليوم ومن ذلك الصحافة بشتى أنواعها سواء الورقية أو الإلكترونية، فإن الصحافة رسالة يرتبط فيها منهج العمل والكفاح بفلسفة محددة مدروسة ومكتوبة، فتناجز غيرها الرأي بالرأي والفكر بالفكر، والفلسفة المادية للتاريخ برسالة الإسلام الحية الخالدة، فالدعوة الصحيحة لا تجد سبيلها إلى القلوب إلا بالأسلوب القادر على حمل رسالتها إلى الأعماق، ولقد كانت الأمة رائدة عصرها يوم كان التراث يشكل صحافتها وإذاعتها ومحور حركتها، به تخاطب وعلى أساس من هديه تسالم وتحارب وتقطع وتتصل.
وإن الصحافة التي نتصور هي الصحافة الشاملة أولا والتي تبرز على العقل الإنساني في كل صباح وبكل لغة، صحافة وإعلام تنسق جهودها، وتتعاون في إبراز رسالتها في وقت أصبح الاتصال بين الشعوب أمر يعتمد على الإعلام بشتى صوره، وثانية كونية ترسم آيات الله في الآفاق، وثالثة نسائية تشرح العطاء القرآني للمرأة والتكريم الإسلامي لها، ورابعة تاريخية تتحدث عن أمجاد المسلمين وسيرة سلفهم الصالح، وتحسن الانتفاع بثمرات السابقين، وخامسة أدبية تحرس لغة القرآن وتزكي العاطفية الإنسانية نحو دينها وكتابها وتربطها بربها وعباداته[44].
وقد أشار الكاتب محمود حنفي كساب في مقال له بعنوان: "السينما الإسلامية سلاح فعال للداعية المسلم" إلى أهمية السينما في واقع الدعوة، وهو شكل آخر من أشكال الإعلام الإسلامي المعاصر. وأن السينما فن جماهيري خطير، وتعد من أخطر وسائل التعبير، وتظهر الخطورة في الأفلام الغربية من خلال الإغراق في دوامة الجنس والعنف، ومن هنا ينبغي علينا أن نلتفت إلى أهمية الفيلم والمسلسل الإسلامي فهو لغة عالمية مقبولة من الشعوب، والاهتمام بها سيضيف إلى إمكاناتنا إمكانية جبارة تسهل عمل الدعاة، ونحتاج اليوم إلى جانب الفيلم التاريخي الفيلم الإسلامي الذي يقدم الشخصية المسلمة التي صورها القرآن والسنة، وقدمها السلف الصالح، نريد الفيلم المعاصر الذي يقوم حياة المسلم في بيته وعائلته وتصديه لمشكلات الحياة حسبما رسم الإسلام[45].
المبحث الثاني
ثقافة الحوار مع الآخر
تمهيد:
إن سر خلود الإسلام مع حفظ الله تعالى له هو الاختلاف المحمود، وإن الداء الأكبر الذي استشرى في زماننا، وأدى إلى ظهور كل هذه التناقضات هو غياب فريضة الحوار والتي هي من أولى الأولويات وأهم المهمات، فقواعد الحوار والاختلاف وضوابطه هو الحافظ للمتحاورين من الغلو وشتم الآخرين، إن كان الحق هو الرائد والمطلوب.
المطلب الأول: مفهوم الحوار والخلاف والاختلاف.
أولا: الحوار لغة: من حاور حوارا أي رجع، وحاوره راجعه وجادله[46].
ثانيا: الحوار اصطلاحا: الكلام وتبادل الرأي من أجل الوصول إلى معرفة الحقيقة". قال تعالى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ) الكهف/٣٧وهو أحد ثمرات الفكر المتفتح، الذي يوضح الأفكار والمفاهيم، ويحقق مقاصد الحديث، ويستوعب معطيات العقول، ومنجزات الحضارة، ويستشرف آفاق المستقبل، وحوار الآباء والثقافات، ويقرب وجهات النظر، ويوجد قدرا مشتركا إيجابيا بين الأداء، ويعطي صورة حقيقية عن كل منهم[47].
كما يمكن تعريف الحوار بأنه: " تراجع الكلام مخاطبة وإجابة، فهناك كلام وجواب، بمعنى أنه قد يكون سؤالا وجوابا، أو رأي واعتراض، فأخذ ورد، ويكون بين الأطراف المتعددة "[48].
ثالثا:- الاختلاف والخلاف: إن أصل مادة الاختلاف والخلاف واحد وهو: خَلَفَ ويتفرع عنها العديد من الاشتقاقات، والخلاف نقيض الاتفاق. وكلمتا خالف واختلف قد تستعمل إحداهما في محل الأخرى. إلا أن المتأمل يرشد إلى أن الاختلاف هو الذهاب إلى خلاف ما عليه الآخر مستندا إلى دليل من الكتاب والسنة وما يرتبط بهما من أدلة. بينما الخلاف هو الذهاب إلى خلاف ما عليه الآخر دون الاستناد إلى دليل. فالخلاف يحمل في مضمونه النزاع والشقاق والتباين الحقيقي، وهو مذموم. بينما الاختلاف يعمل في مضمونه التغاير في الفهم الوقع من تفاوت وجهات النظر، لذا يجري على لسان أهل العلم أثناء تقرير المسائل الخلافية: "هذا خلاف لا اختلاف"[49].
المطلب الثاني: أهداف الحوار ومقاصده.
يهدف الحوار إلى العديد من الأمور أهمها:
أ- إقامة الحجة: فالغاية من الحوار إقامة الحجة، ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي، والسير بطرق الاستدلال الصحيح لوصول إلى الحق.
ب- الدعوة: الحوار الهادئ مفتاح القلوب، وطريق إلى النفوس، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل/١٢٥.
ج- تقريب وجهات النظر: من ثمرات الحوار تضيق هوة الخلاف، وتقريب وجهات النظر وإيجاد حل وسط يرضي الأطراف في زمن كثر فيه التباغض والتناحر.
د- كشف الشبهات والرد على الأباطيل لإظهار الحق.[50] قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) الأنعام/55.
هـ- يعمل على سيادة روح المحبة ونشر الوعي في الأمور المتحاور فيها: مفاهيم العدل والخير وتحقيق المنهج المتوازن عند الناس في الفكر والأخلاق والمواقف، وتحقيق التفاهم العلمي والتقارب بين الشعوب أفرادا وجماعات، وعلماء ومفكرين، قادة وساسة، ويحل بالتالي الاعتدال والعدل[51].
المطلب الثالث:- أسس الحوار وأصوله وآدابه:
يقوم الحوار المثمر على أصول وأسس أهمها:
أ – النية الخالصة والمقصد الحسن: الأصل في الحوار أن يقوم على النية الخالصة، وألا يكون بهدف الانتصار للنفس أو حصول الغلبة أو قهر الخصم أو ارتفاع شأن المحاور، فإن كان المقصد الأول كان الأجر والثواب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى...الحديث".
والإخلاص له دلائل وشواهد وهو التجرد لطلب الحق حيث يفرح المحاور إذا ظهر الصواب على لسان مخالفه. قال الشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحدا إلا تمنيت لو أن الله أظهر الحق على لسانه" ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكا لواحد أو طائفة، والصواب ليس مكرا على واحد بعينه[52].
ب – تحديد الهدف والقضية التي يدور حولها الحوار: وهذا أصل مهم؛ لأن كثيرا من الحوادث تتحول إلى جدل عقيم ليس له نقطة محددة ينتهي إليها. [53]
ج- الاتفاق على أصل يرجع إليه: وذلك كأن يعتمد الكتاب والسنة والأصول بين المسلمين، وأصول المنطق بين المختلفين في الاتجاهات. وقد جاء الأمر بالرد إلى القرآن والسنة، قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) النساء/٥٩. وهذا الاتفاق عل منهج النظر والاستدلال قبل البدء بأي نقاش علمي لضبط مسار الحوار، ويوجهه نحو النجاح، إذ أن الاختلاف في المنهج سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة لا حصر لها ولا ضابط.[54].
د – الإيمان بقيم مشتركة والثقة والاحترام:
ويتمثل ذلك من خلال إيمان الطرفين بالقيم الإنسانية والخلقية كالصدق والأمانة والصراحة والجرأة في الحق، ويشترط في المتحاورين أخلاقيات الحوار من الثقة والتقدير والاحترام، ولا بد من سعة الصدر والحلم والأناة، وعدم التسرع في النقاش، والهدوء في العرض فذلك أدعى إلى إقناع الطرف الآخر وأسرع في الاستجابة لرأيه[55].
كما يلزم المحاور التواضع وتجنب الغرور والتزام الأسلوب المهذب الخالي من كل ما يليق: ومن الأمثلة القرآنية على ذلك قصة سيدنا سليمان عليه السلام، الذي أعطاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعد، وهو يتفقد جنوده فلا يرى الهدهد من بينهم فبتوعده، ويأتي الهدهد بعدها فيقول لنبي الله بكل شجاعة أحطت بما لم تحط به، ويقبل حجة الهدهد بكل تواضع ويكلفه بحمل رسالة إلى تلك الملكة [56].
ه - سلامة كلام المحاور ودليله من التناقض:
لأن المتناقض ساقط بداهة، ومن أمثلة ذلك ما ذكر بعض أهل التفسير من وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله (سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) الذاريات/39. وهو وصف قاله الكفار لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان؛ لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء، أما المجنون فلا عقل معه البتة، وهذا منهم تهافت ظاهر، وتناقض بين[57].
و- بدء الحوار بمواطن الاتفاق:
والسبب في ذلك أنه طريق لكسب الثقة، وفشوا لروح التفاهم، ويصير به الحوار هادئا وهادفا، كما أن الحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقا من التلاقي والقبول والإقبال، مما يقلل الجفوة، ويردم الهوة، ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد[58].
المطلب الرابع: نماذج من حوارات القرآن والسنة
أولا: أنموذج من صور الحوار القرآن الكريم.
لقد ساق القرآن الكريم صورا متعددة لمحاورات ومجادلات ومعارضات، تجلى فيها إفساح المجال في المقام، حتى لمن جاهر بالمعصية لله تعالى وهو إبليس الذي فسق عن أمر ربه، وحسد آدم على ما آتاه من فضله، وتفوه بما يدل على جحوده وعناده وغروره[59].
وتمثل هذه الصورة أوسع الصور بين الله سبحانه وبين إبليس، وسنة الله في الحوار، وهنا نرى السلبية عند إبليس وعناده وكفره، وقد بقيت قاعدة الحوار مستندة إلى المنطق في وقائع كثيرة من القرآن الكريم، والله سبحانه يورد حوار الأنبياء مع أقوامهم، ويحاور المؤمن والفاسق والكافر والمنافق، فحواره سبحانه مع أهل الكتاب وما أكثره، ولا سيما مع اليهود في تحويل القبلة, وحواره مع المنافقين في عدة سور وأكثرها في سورة البقرة والتوبة والمنافقين، وموته وبعثه، وحواره مع عيسى عليه السلام، وحوار صاحبي الجنة، وحوار موسى مع فرعون وغيرها من الحوارات القرآنية التي تحتاج إلى مؤلفات وأبحاث خاصة لسردها وإيضاح مضامينها.
ومن أمثلة الحوار القرآني ما كان بين الحق سبحانه وتعالى وبين الملائكة في خلق آدم عليه السلام ومطلع ذلك الحوار: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة/30.
وقد كان بالأمر للملائكة أن يخضعوا لأمره ويلزمهم بالسكوت عن موضوع آدم، وهو يعلم الحكمة من خلقه، لكنه سبحانه أراد أن يعلمنا الحوار، وأن يعلمنا حكمة الخلق، وأنه كان في الأرض قبل آدم مخلوقات أساءوا وأفسدوا فأهلكهم الله تعالى[60].
ومن الحوارات أيضا ما دار بين الخالق سبحانه وبين إبليس قال تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) الحجر/30-32 فقال سبحانه ما سبب حملك على مخالفة أمري وجعلك تمتنع عن السجود لمن أمرتك بالسجود له؟ فكان رد إبليس أنه لا يليق بشأني ومنزلتي أن أسجد لهذا البشر الذي خلقته من تلك المادة وهنا صدر الحكم العادل (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) الحجر/34 أيقال الله تعالى لإبليس بعد أن جاهر بالمعصية وبالإصرار عليها. ولكن هل تقبل إبليس هذا الحكم بالسكوت، وهل منعه الله تعالى من الكلام بعد أن أصدر الله عقوبته العادلة عليه؟ إن المتدبر في القرآن الكريم في آيات متعددة يرى أن إبليس لم يسكت، وأن الله تعالى قد أفسح المجال لكي يتكلم، وفي ذلك إشارة إلى واسع حلمه وإلى أن من شأن العقلاء أن يفسحوا صدورهم لخصومهم لإبداء وجهة نظرهم، ثم بعد ذلك يكون الرد عليهم. وبعد ذلك قال إبليس على سبيل التذلل طالبا أن يؤخره إلى يوم الحساب ولم يسكت بل ظل بحاجة ومكابرته ومع ذلك لم يمنعه الله تعالى من الكلام، فبدأ إبليس بالوعيد والتهديد لذرية آدم عليه السلام[61].
ثانيا: الحوار في السنة
نموذج حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران.
جاء وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحاجونه ويحاورونه في عيسى ابن مريم عليه السلام، فجاؤوا المدينة ودخلوا المسجد، فعرض عليهم الرسول صلى لله عليه وسلم الإسلام، فقال راهبان من نجران: إنا قد أسلمنا قبلك فقال: كذبتما، إنه يمنعكما من الإسلام ثلاث: عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وقولكما لله ولد، فقال أحدهما من أبو عيسى؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يعجل حتى يكون ربه هو يأمره، فأنزل الله عليه: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) آل عمران/95 حتى بلغ (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) آل عمران/60 ثم قال الله تعالى فيما قالاه: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) إلى قوله: (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) آل عمران/61 قال: فدعاهما الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، وأخذ بيد فاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، فقال أحدهما للآخر، قد أنصفك الرجل فقالا لا نباهلك، وأقرا الجزية وكرها الإسلام[62].
فهذا حوار سادت فيه حرية العبادة، وصلى النصارى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثم جرى الحوار في جو من المودة وحرية القول، وانتهوا إلى موادعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يمنعهم عدم إتباعهم لمحمد صلى الله عليه وسلم أن طلبوا منه يرسل من يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وأن يمض معهم إلى الاهتداء بالحق في سماحة القيم، ووداعة الخلق, ثم كتب لهم كتابا، حيث ورد في صحيح البخاري في نهاية القصة أن وفدا من نجران طلبوا منه رجلا أمينا يرجع معهم فقال عليه الصلاة والسلام "لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين" فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة".[63].
المبحث الثالث
مضامين رسالة عمان
المطلب الأول: فكرة رسالة عمان وانطلاقها وصداها في العالم
في ليلة القدر المباركة من شهر رمضان عام 1425ه. الموافق 9 تشرين الثاني 2004م وفي مسجد الهاشميين. صدع جلالة الملك عبد الله الثاني برسالة عمان، وصدرها بقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/13، وبين جلالته خلالها رسالة الإسلام عموما، وبيان حقيقة الإسلام الناصعة، وصفحته البيضاء المشرقة.
لقد تضمنت الرسالة فيضا كريما من التوجيهات، ثم تجسدت في المؤتمر الدولي الإسلامي، الذي انعقد في عمان عام 2005م. وضم كوكبة من علماء المسلمين، ولقد لقيت رسالة عمان الصدى الطيب، والقبول الحسن محليا وعالميا، لمضمونها الإنساني، الذي يرتكز على مبادئ احترام الآخر، والحرية والأمن والاستقرار، والدعوة إلى إقامة العدل واحترام كرامة الإنسان وقدسية حياته، والدعوة إلى التعايش مع غير المسلمين، ودرء ما يوجه من تهم للإسلام والمسلمين[64].
ويمكننا القول بأن لب هذه الرسالة هو: الالتزام بالمذاهب والتأكيد على الحوار والالتقاء بينهما هو الذي يضمن الاعتدال والوسطية، والتسامح والرحمة، ومحاورة الآخرين[65].
المطلب الثاني: محاور رسالة عمان
قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء/1.
تقوم رسالة عمان على ثلاثة محاور رئيسية وهي:
المحور الأول: إن كل من يتبع أحد المذاهب الأربعة، والمذهب الجعفري والزيدي والإباضي والظاهري، فهو مسلم ولا يجوز تكفيره، ويحرم دمه وماله وعرضه. وأيضا ووفقا لما جاء في فتوى شيخ الأزهر أنه لا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية، ومن يمارس التصوف الحقيقي، وكذلك لا يجوز تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح، كما لا يجوز تكفير أي فئة أخرى من المسلمين تؤمن بالله ورسوله، وأركان الإيمان، وتحترم أركان الإسلام، ولا تنكر معلوما من الدين بالضرورة[66].
المحور الثاني: إن ما يجمع بين المذاهب أكثر بكثير مما بينها من الاختلاف، فأصحاب المذاهب الثمانية متفقون على المبادئ الأساسية للإسلام، فكلهم يؤمن بالله سبحانه وتعالى، وبأن القرآن الكريم كلام الله المنزل، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا للبشرية كافة، وكلهم متفق على أركان الإسلام الخمسة، وعلى أركان الإيمان، واختلاف العلماء من أتباع المذاهب هو اختلاف في الفروع وليس الأصول، وهو رحمة.
المحور الثالث: إن الاعتراف بالمذاهب في الإسلام يعني الالتزام بمنهجية معينة في الفتوى، فلا يجوز لأحد أن يتصدى للإفتاء دون مؤهلات شخصية معينة يحددها كل مذهب، ولا يجوز الإفتاء دون التقيد بمنهجية المذاهب، ولا يجوز لأحد أن يدعي الاجتهاد، ويستحدث مذهبا جديدا، أو يقدم فتاوى مرفوضة تخرج المسلمين عن قواعد الشريعة وثوابتها وما استقر من مذاهبها.
وقد تبنت القيادات في العالم الإسلامي هذه المحاور الثلاثة بالإجماع في قمة منظمة المؤتمر الإسلامي، والذي عقد في مكة المكرمة في كانون أول سنة 2005م.
وإن المتتبع لهذه المحاور الثلاثة يجد أنها تجيب عن ثلاثة أسئلة وجهها جلالة الملك ﻷربعة وعشرين من كبار علماء الأمة ومرجعياتها من جميع أنحاء العالم، وجميع المذاهب والمدارس الفكرية وهي: من هو المسلم؟ ومن له الحق في أن يتصدى للإفتاء؟ وهل يجوز التكفير في أية ظروف؟[67].
المطلب الثالث: الصدى الدولي لرسالة عمان والمؤتمرات المتعلقة بالرسالة.
كان لرسالة عمان صدى عظيما في العالم، وإجماعا وقبولا، وقد أقيمت العديد من اللقاءات والتشاورات والمؤتمرات للإطلاع على رسالة عمان، والوقوف على مضامينها، ومباركة هذا الجهد العظيم، لجمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفهم، ومن تلك المؤتمرات:
المؤتمر الإسلامي الدولي: والذي عقد في عمان برعاية ملكية سامية بتاريخ تموز 2005م وقد شارك فيه مائتان من العلماء المسلمين البارزين من خمسين بلدا.
المؤتمر الدولي الأول للمذاهب الإسلامية: وعقد في جامعة آل البيت- الأردن 15-17 تشرين ثاني 2005م.
الدورة التاسعة لمجلس وزارة الأوقاف:الذي عقد في الكويت خلال الفترة من 22-23 تشرين الثاني 2005م
الدورة الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي: والذي عقد في مكة المكرمة في الفترة 7-8 كانون الأول 2005م.
الدورة السابعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي: ومقره في جده والذي عقد في عمان بين 24-26 نيسان 2006م.
مؤتمر مسلمي أوروبا: والذي عقد في اسطنبول بتركيا خلال الفترة 1-2 تموز 2006م.
المطلب الرابع: نظرات في مضامين رسالة عمان
إن الناظر في نص رسالة عمان يجد أنها تركز على كثير من المفاهيم الإسلامية، والأصول والقواعد المرتبطة بالإنسانية العامة. وأبين في هذا المطلب أهم المفاهيم والأصول الإسلامية المستنبطة من رسالة عمان:
- سماحة رسالة الإسلام, وأنها رسالة إنسانية تدعو إلى الإخاء والتسامح والرحمة، وأنه دين يستوعب النشاط الإنساني كله ويصدع بالحق وبأخر المعروف وينهى عن المنكر ويكرم الإنسان وقبل الأخر.
- إبراز الصورة الحقيقة المشرقة للإسلام ووفق التجني عليه ورد الهجمات عنه بحكم المسؤولية الروحية والتاريخية الموروثة والدفاع عن صورة المسلمين وهم يشكلون خمس المجتمع البشري وتسعى لدرء تهميش العالم الإسلامي أو عزلهم عن حركة المجتمع الإنساني وتؤكد الرسالة أيضا على الدور الحضاري والإنساني والمشاركة في التقدم والتطوير.
- التأكيد على أهم المبادئ الإسلامية كالمساواة في الحقوق والواجبات والسلام والعدل، وتحقيق الأمن الشامل والتكافل الاجتماعي، وحسن الجوار، والحفاظ على الأموال والممتلكات، والوفاء بالعهود وهذا المبادئ بمجموعها تمثل قواسم مشتركة بين أتباع الديانات وفئات البشر.
- التركيز على أن منهج الدعوة إلى الله يقوم على الرفق واللين قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) النحل/125 ويرفض العنف والغلظة في التوجيه والتعبير: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) آل عمران/159.
- إن هدف رسالة الإسلام تحقيق الرحمة والخير للناس وقد شهد لذلك العديد من الشواهد والنصوص القرآنية والنبوية الشريفة من ذلك قول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء/107، وجاء في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" [68].قال صاحب تحفة الأحوذي: قوله الراحمون لمن في الأرض من ادمي وحيوان محترم بنحو شفقة وإحسان ومواساة، ويرحمهم الراحمون أي يحسن إليهم ويتفضل عليهم والرحمة مقيدة بإتباع الكتاب والسنة أما قوله "ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ" قال الطيبي: أتى بصيغة العموم ليشمل جميع أصناف الخلق فيرحموا البر والفاجر والناطق والبهم والوحوش والطير[69].
وركزت رسالة عمان على التسامح والعفو اللذان يعبران عن سمو النفس، قال الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الشورى/40، وقال: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت/34.
- كما وركزت رسالة عمان على مبدأ العدالة في معاملة الآخرين وصيانة حقوقهم وعدم بخس الناس أشياءهم. من ذلك قوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) المائدة/8، قال المفسرون: "أمر الله تعالى أن نكون قائمين بالعدل قوالين بالصدق وأمرهم بالعدل والصدق في أفعالهم وأقولهم، ونهاهم بقوله ولا يحملنكم بعض قوم على عدم العدل فأمرهم بالعدل في الأولياء والأعداء فذلك أقرب للتقوى"[70].
- كما تعرضت رسالة عمان لوجوب احترام المواثيق والعهود، والالتزام بما نصت عليه، وحرم الغدر والخيانة، قال الله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) النحل/91، فهذه الآيات الكريمة أوجبت العدل وهو كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات وترك الظلم ووجوب الإنصاف[71].
- كما أكدت الرسالة على التوازن والاعتدال والوسطية والتيسير، وقد شهدت مجموع النصوص لهذه القواعد ومن ذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) البقرة/143. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا..." [72]. قال النووي: "وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه وسعة رحمته والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محصن من غير ضمها إلى التبشير، ومنه تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليهم، وكذلك من تاب من المعاصي كلهم يتلطف بهم"[73].
هذه نبذة عامة حول مضامين رسالة عمان، والقارئ المتمعن يلاحظ أن هذه الرسالة المباركة قد اشتملت على ركائز الإسلام وأصوله وقواعده، ودعت إلى الوسطية والاعتدال ونبذ العنف والتطرف، وبث الدور الحضاري والإنساني للمسلمين عبر أدواره التاريخية.
الخاتمة
النتائج والتوصيات
توصل الباحث في نهاية هذا البحث إلى النتائج والتوصيات الآتية:
أولا: النتائج
- بيان مفهوم عالمية الخطاب الإسلامي والحوار مع الآخر.
- إن الحوار المنتج يقوم على أسس وقواعد وأصول.
-حاجة الأمة اليوم لتجديد الخطاب الإسلامي، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
-الوسطية والاعتدال في منهجية الخطاب والحوار أساس مستند إلى مجموع الأدلة والشواهد من القرآن والسنة.
- ضرورة الاهتمام بالإعلام الإسلامي سواء من النواحي المادية أو المعنوية، وزيادة المؤتمرات والندوات الموضحة لدوره.
- إن رسالة عمان تمثل أنموذجا حضاريا دالا على منهجية الإسلام وإسهاماته الحضارية قي البناء الإنساني.
ثانيا: التوصيات
-الضرورة الملحة اليوم في خضم العولمة الفكرية والثقافية من إيجاد خطاب إسلامي عميق، قائم على العالمية والواقعية والوسطية ليكون خطابا بناء مثمرا يؤتي أكله.
- رفد الإعلام الإسلامي بالكفاءات الشرعية وربط الإعلام بالشرع لتتحصل التكاملية في الطرح، وبالتالي الوصول إلى الإسهام الحضاري.
والحمد لله رب العالمين.
[1]الطبري، تفسير الطبري. ج10/498.