علو همّة النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر والمثابرة
د. أيمن محمد علي حتمل/ دائرة الإفتاء العام
المقدمة
إن الإسلام دين عظيم ثابت ابدي صالحٌ للمكان والزمان، فهو كالطود العظيم والجبال الراسخة جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربه وجاهد في الأمة حق جهاده لإعلاء كلمة التوحيد والعقيدة، وحمل السلف الصالح الأمانة على أعناقهم للأجيال القادمة، فسلفنا الصالح كانت هممهم عالية يعلنون في ذلك عن صدق تلك المقولة:-" ربّ همة أحيَت أمة" وأول أولئك الناس الذين كانت همتهم عاليه تصل إلى عنان السماء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربه، وكلّ المسلمين في صحيفته يوم القيامة، ولعلنا عند قراءتنا لكتب السيرة نجدها مليئة بأبرز الملامح الدالة على همته صلى الله عليه وسلم.
ثمّ إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجدها لا يخلو فيها موضعٌ إلاّ ويظهر صبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا واضحٌ في حياته صلى الله عليه وسلم كلها، منذ ولادته صلى الله عليه وسلم وحتى آخر لحظة في حياته.
لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة وكان تحت كنف عمه أبي طالب وفي رعايته فاشتكاه كفار قريش لعمه فقالوا:- يا أبا طالب إن أراد ابن أخيك مُلكاً ملكناه، وان أراد زوجة زوجناه، وان أراد مالاً جمعنا له المال حتى يصير أكثرنا مالاً على أن يترك هذا الأمر، فأخبره عمه أبو طالب بذلك فقال عليه الصلاة والسلام والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.
ومن يكن الإلهُ له حفيظاً فحاشا أن يضيعه الإلهُ
قال بعض الصحابة واصفا همة وإقدام النبي صلى الله عليه وسلم: (كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ) رواه مسلم.
وقال علي بن أبي طالب: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا" رواه أحمد.
ملك الشجاعة فهي طوع زمامه ولغيره جمحَت وليست تركبُ
والناظر إلى أصناف ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع العذاب والاستهزاء فقد وُصِف بالجنون والسحر والكذب وأنهُ أبتر ووضعوا الأوساخ على رأسه وجسده وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، وكان بطن النبي صلى الله عليه وسلم لونه أخضر من شدة ما أكل من ورق الشجر وسقطت شفاه الصحابة من ذلك، لكن هذا لم يثن ِالنبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته ولم تتأثر همته، وتلك الهمة في الصبر أورثت قوةً وبأساً لدى الصحابة، فارتفعت هممهم وارتقت نفوسهم لتصل إلى مراقي الفلاح، فهذا بلال بن رباح لما سئل عن العذاب الذي واجههُ على أيدي كفار قريش، فقال: "مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، فأبت إلاّ أن تطغى حلاوة الإيمان على مرارة العذاب" والنبي هو الرسول والمعلم والقائد والثابت على الحق ولذلك قال لصحابته يوم بدر هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، فكانوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال الله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) القمر/45, وفي أحد وبعد كل ما لاقاه رسول الله وصحابته قال لهم: صفوا ورائي لاثني على ربي، وقال في الحديبية لعمر بن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني".
وبلال أذن بالعباد فرددت
هذي ثمارك يا محمدُ قد أينعت
سنعيد الدنيا رسالة أحمد
فلتنحني الدنيا لذكر محمد
|
|
الله أكبر قمـــة الجوزاء
والدين أورق داخل الأحشاء
بهمـة و أمانة وإباء
ولتنطق الدنيا بالإطراء
|
فالناظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجدها من أولها إلى آخرها تدل على همته صلى الله عليه وسلم رغم ما اكتنفها من الصعاب والتصدي لهذه الدعوة فالله تعالى قد أيدهُ وثبته في دعوتهِ وهو تعالى مالك الأمر والقادر عليه.
تمهيد
إنّ المسلم الذي يُريد أن يدخل في عُباب الكلام عن السيرة النبوية الشريفة فإنهُ يدورُ في فلكين، أو كأنهُ يتردد بين مقامين، المقام الأول الشعور بالعظمة والحب والإجلال والطاعة والقشعريرة تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقام الآخر الخوف والانكفاف إلى الوراء من التقصير في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمجترئ في هذا المقام خسرانٌ لدنياه وآخرته: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ). ولقد عاداهُ صلى الله عليه وسلم الأعمامُ والقراباتُ والرحم، وصدّ عن دعوته القريب والبعيد وقاتلوه قتالاً شرساً، وحاول الكثيرون اغتيالهُ وفك شيفرة الصبر لدى النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم خابوا وخسروا؛ لأن الله معهُ، قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) الأحقاف/35.
عنايةُ الله أغنت عن مضاعفةٍ من الدروع وعن عالٍ من الأطمِ
فالله عز وجل الذي أمرهُ بالصبر هو المعينُ الواعدُ لهُ بحسن العاقبة، قال تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) المعارج/٥، وقال تعالى: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) المدَّثر/7، وقال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) الإنسان/24، وقال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) هود/49، وقال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) الروم/٦٠.
فقد جعل الله سبحانه وتعالى الصبرَ جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وجنداً لا يهزم، وحصناً لا يهدم، فهو والنصر أخوان شقيقان، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد، وقد أثنى الله سبحانهُ وتعالى على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) الأنعام/٣٤.
والحديث عن الصبر لا ينتهي، فلا إيمان لمن لا صبر له ومن يتصبر، أي يحبس نفسه ويلزمها بالصبر، يصبره الله فيعينه على الصبر، وهو على أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله، فهو طريق الفوز، طريق الجنة، طريق العزة، فبلال بن رباح رضي الله عنه توضع فوق صدره الصخرة الثقيلة، فلم تمنع الصخرة الصرخة: أَحدٌ أَحدٌ، كلّ ذلك الألم والعذاب، يقابل برباطة الجأش والصبر؛ ليكون مثالاً يُحتذى على مر العصور، ويكون سابقاً لغيره في الإسلام، ولهُ من الله الرضا.
ولمعرفة معالم صبر النبي صلى الله عليه وسلم وثباتهُ وهمته؛ جاءت هذه الكتابة المختصرة بمثابة القطرة من البحر العظيم، فلا نستطيع أن نوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حقه، لكن نسأل الله تعالى السداد فيما نكتب.
المطلب الأول
علو همة النبي صلى الله عليه وسلم
من المواقف الدالة على علو همة النبي صلى الله عليه وسلم لبسه للدرع يوم أحد، حيث إنه صلى الله عليه وسلم جمع الناس ثم وعظ الناس وأمرهم بالجد والاجتهاد واخبرهم أن النصر ما صبروا ثم أمرهم بالتهيؤ لعدوهم وكان ذلك بعدما شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته لأمر الخروج بين مؤيد ومعارض ونزولا على رأي المؤيدين للخروج أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ، ثم صلى بهم العصر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل معه أبوبكر وعمر رضي الله عنهما فعمماه ولبَّساه وصف الناس ما بين حجرته والمنبر ينتظرون خروجه، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بلباسه الكامل وعليه درعان فقالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك. فقال: (قد دعوتكم إلى هذا الحرب فأبيتم ولا ينبغي لنبي إذا لبس لامة الحرب أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم).
وفي ساحة المعركة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بالناس فقال: (يا أيها الناس أوصيكم بما وصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط فإن جهاد العدو شديد وشديد كربه، قليل من يصبر عليه إلا من عزم الله رشده فإن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد والتمسوا بذلك ما وعدكم الله وعليكم بالذي وعدكم به فإني حريص على رشدكم فإن الاختلاف والتنازع والتثبط من الأمر والعجز والضعف مما لا يحب الله، ولا يعطي علي النصر ولا الظفر... والسلام عليكم) ([1]).
وبعد انتهاء الغزوة يخرج رسول الله بجروح في وجهه وآثار الحلقات فيه، مشجوج في جبهته ورباعيته قد شظيت، وشفته قد جرحت من داخلها، يتوجع من منكبه الأيمن على أثر ضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان فيصلي ركعتين ثم دعا بفرسه على باب المسجد فتلقاه طلحه رضي الله عنه، وقد سمع المنادي فخرج ينتظر متى يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الدرع والمغفر ما يرى منه إلا عيناه فقال: (يا طلحه: سلاحك)، قال طلحه: قريبا وخرج يعدو فلبس درعه وأخذ سيفه وطرح درقته في صدره وبه تسع جراحات ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلحة فقال: (ترى القوم الآن؟) قال: هم بالسيالة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بذلك الذي ظننت، أما يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا)([2]).
أيُّ همة تلك يا رسول الله وأيُّ ثبات وأي صبر، مثخنٌ بالجراح في حرب قوية تكسرت فيها السيوف على السيوف والنصال على النصال والرماح على الرماح ومن ثم تخرج لملاقاة أعداء الله تعالى وأنت يا رسول الله على أتم الاستعداد، ونأخذ الدروس والعبر من هذه الهمة العالية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
- دين الله تعالى محفوظ يصل إلى الأجيال المتلاحقة من الخلف على دماء السلف وتضحياتهم وثباتهم وعلى رأسهم صاحب الدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما يصيب المسلم من جوائح وأحزان يجب مقابلتها بحمد الله تعالى وعدم البكاء والعويل والعيش في أجواء الهزيمة والنظر إلى الوراء؛ لأن مسيرة الإسلام المظفرة لا تتم إلا بالمضي قدماً نحو المجد وترك الجراحات ليداويها الزمن ويدمل أثرها.
- إظهار قوة المسلمين أمام قريش والقبائل العربية والتخفيف من حجم الخسارة وإظهار القوة والعزيمة في التصدي لأي هجوم على المدينة المنورة.
-إبعاد المقاتلين الذين شهدوا أحد عن أجواء البكاء في المدينة وعن شماتة اليهود والمنافقين وملامة المسلمين لبعضهم في قضية النزول عن جبل الرماة.
- معالجة الجراحات النفسية والجسدية والمرور بمراحل نقاهة بعيداً عن المدينة ليعودوا أقوياء.
قال محمد الغزالي في جدد حياتك: "إذا لم تدر في حركة سريعة من مشروعات الخير والجهاد المنظم لم تلبث أن تنهبها الأفكار الطائشة وأن تلفها دوامة من المهازل والترهات"([3]).
قال الشاعر محمد مصطفى حمام:
قال صـحبي نراك تشكو جروحا
قـلت أمـا جروح نفــسي فـقد
غير أن السكوت على جرح قومي
|
|
أين لحن الرضا رخــيماً جميلاً
عودتها بــلسم الرضـا لـتزولا
ليس إلا التــقاعس الــمرذولا
|
ومن أبرز ملامح علو همة النبي صلى الله عليه وسلم الشجاعة والصبر عند الإقدام فهو صانع الإبطال ومخرجهم، ولما جاء في وصفه صلى الله عليه وسلم: (كُنَّا وَاللهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ)([4]).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً"([5]).
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أديت في هول الردى أبطالها
ففي خمسٍ وعشرين غزوة سار الرسول بنفسه لمناهضة الكفار وإبلاغ دين الله تعالى، وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فقد كانت همته عالية وسيوفه براقة وصولته في الحق ثائرة فموجودات الكون تشهد على ذلك وها هو أنس بن مالك يقول مخبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً فقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: (لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا)([6]).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغل كل لحظة من لحظات حياته وكل فرصة لتبليغ أمر الله تعالى وإخراج الناس من جوف الباطل والضلال إلى نور الإسلام وعدله، فقد دعا في جميع الأماكن والأزمان في الحر والبرد في الشدة والرخاء في المسجد وفوق الجبل وفي السهول والوديان وفي الحضر والسفر وفي الصحة والمرض، وفي ظلال هذا المنهج وهذه الهمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج أبو بكر الصديق الذي يخير يوم القيامة بين أبواب الجنة أيها شاء أن يدخل، وعمر ابن الخطاب يرتعد الشيطان منه خوفاً ويسلك طريقا آخر غير الذي يسلكه، وعثمان بن عفان تستحي منه ملائكة الرحمن وسعد بن معاذ يهتز لموته عرش الرحمن وسعد بن أبي وقاص يسير على الماء بجيشه في القادسية فلا يبتل أحد منهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم همته وصبره كانت من أجل الدعوة، أخرج قادةً للأمم وعظماء هم مضرب المثل في شتى الأماكن والأزمان، نقلهم من عبادة الأوثان وسدنة الأصنام إلى مشاعل الإيمان وعبادة الرحمن، تربعوا على قصور كسرى وقيصر وهيمنوا على ممالكهم ولم يلتفتوا إليها بطرفة عين، يقول محمد إقبال([7]):
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك
كنا جبالاً في الجبال وربما
بمعابد الإفرنج كان أذاننا
|
|
فوق هامات النجوم منارا
سرنا على موج البحار بحارا
قبل الكتائب بفتح الأمصارَ
|
فهمة النبي صلى الله عليه وسلم لا تقتصر على بابٍ واحد بل هي تجمع في طياتها أموراً متعددة وأبواباً شتى، تجمع باب العفو، ويُستذكر مثلاً في هذا لما عفا عن كفار قريش فقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)([8]).
وتظهر همته في السخاء والجود والعطاء، عن أنس رصي الله عنه قال:"ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاء رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه، فقال يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفقر"([9]).
وتظهر همته صلى الله عليه وسلم في تحمل الجوع فقد ثبت عنه أنه: (كان يقيم الشهر والشهرين لا يعيِّشه هو وآل بيته إلا الأسودان (التمر والماء))([10]).
فهذا رسول الله هذا خير من طلعت عليه الشمس، يجوع ويبرد ويعاني ويقاسي الأيام الطوال، ويُضرَب ويُسَب ويُشتَم ويُتَّهم بأقسى أنواع التهم ويقاطع، ويحاول اغتياله وقتله بأنه يصمد وينتج جيلا مؤمناً بربه مطيعاً لرسوله يحمل على أكتافه هم تبليغ الدعوة كما سمعها من الرسول صلى الله عليه وسلم.
نشهدك يا رسول الله إننا سنمضي على طريقك في الهمة العالية والثبات فلا نخاف في الله لومة لائم، إنه تعالى مالك الأمر والقادر عليه.
المطلب الثاني
صبر النبي صلى الله عليه وسلم ومثابرته في تلقي الوحي
تحمل رسول الله صلى عليه وسلم الكثير والكثير، ومن أبرز ملامح الصبر تلقي الوحي وخاصة عند نزول الوحي بالصورة الملائكية، وكان يعبر بقوله (وهي أشدها علي)، ومنها:
ما ورد في صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) العلق/1-3، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأً قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا! ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
قال ابن شهاب: "وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنْذِرْ*وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ*وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) المدثر/1-5"([11]).
فأي معاناة تلك التي عاناها النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه صبر وتحمل المشاق من أجل أن يوصل ذلك إلى الإنسانية التي لم تعرف طعم التوحيد إلاّ بعده صلى الله عليه وسلم، فقد عاناة النبي صلى الله عليه وسلم من ثقل الوحي وثقل القول، ولما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الوحي كيف يأتيه؟ فأجاب: (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ)([12]).
وانظر أيها الأخ القارئ –يا رعاك الله- إلى تلك العبارات التي صدرت عن سلفنا الصالح عندما يذكرون حالة الوحي وأثرها على النبي صلى الله عليه وسلم: فعن عكرمة قال: "كان إذا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذ([13]) لذلك ساعة كهيئة السكران"([14]).
وتذكر السيدة عائشة رضي الله عنها حاله حيث قالت: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وأن جبينه ليتفصد عرقاً"([15]).
يقول ابن خلدون في المقدمة: "واعلم أن حالة الوحي كلها صعوبة على الجملة وشدة، قد أشار إليها القرآن، قال الله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) المزمل/5، ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط ما هو معروف وسبب ذلك أن الوحي مفارقة البشرية إلى المدارك الملكية وتلقي كلام النفس، فيحدث عند ذلك مفارقة الذات ذاتها، وانسلاخها عنها من أفقها إلى ذلك الأفق الآخر، وهذا معنى (الغط) الذي عبر عنه في بدء الوحي: (فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ)"([16]).
من يتحمل ذلك كله؟! تخيل لا سمح الله أن رسول الله لم يتحمل هذا العناء فكيف هو مصير الدعوة فأي طاقة تلك التي لا يستطيع أحد الوصول إلى حدها حتى أن راحلته صلى الله عليه وسلم لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترصّها([17]).
يقول الشيخ محمد الغزالي في (جدد حياتك): "ليس كل امرئٍ يؤتَ القدرة على تحويل قسمته المكروهة إلى حظٍّ مستحب، فإن عشاق السخط ومدمني الشكوى أفشل الناس في إشراب حياتهم معنى السعادة إذا جفت منها، أو بتعبير أصح إذا لم تجئ وفق ما يشتهون، أما اصحاب اليقين وأولو العزم فهم يلقون الحياة بما في أنفسهم من رحابة قبل أن تلقاهم بما فيها من عنت"([18]).
المطلب الثالث
صبر النبي صلى الله عليه وسلم ومثابرته في الدعوة
مثالٌ على ذلك: لم يتنازل الرسول صلى الله عليه وسلم عن دعوة الناس إلى دين الإسلام، ولم تضعف همته في تبليغها، ولم يغير منهجه إرضاء للناس؛ كما هو حال بعض المنتسبين للعلم والدعوة في هذا الزمن؛ إذ حرفوا دين الله تعالى، وأضلوا الناس؛ إرضاء للبشر، ومسايرة لأهوائهم، ولهثاً وراء الأضواء والشهرة ولو بالباطل، وفي أول الدعوة جاء الْحَارِثُ بن الْحَارِثِ الْغَامِدِيُّ مع أبيه إلى مكة ورأى الناس مجتمعين على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قلت لأَبِي: ما هذه الْجَمَاعَةُ؟ قال: هَؤُلاءِ الْقَوْمُ قَدِ اجْتَمَعُوا على صابئ لهم، قال فَنَزَلْنَا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى تَوْحِيدِ الله عز وجل وَالإِيمَانِ بِهِ وَهُمْ يَرُدُّونَ عليه وَيُؤْذُونَهُ حتى انْتَصَفَ النَّهَارُ وَانْصَدَعَ عنه الناس..." رواه الطبراني.
وذات يوم مشى كفار قريش إلى عمّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب وقالوا له: "يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، عيب ألحقنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفساً بإسلام شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه، فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إن قومي قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبقِ علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه أنه خاذله ومسلمه لهم، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمُ والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه» ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قام، فلمّا ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً"([19]).
وللفائدة: هناك أمور نستفيدها مما ذكر آنفاً:
أولاً: موقف أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم في عدم تسليم النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش، وعدم التخلي عنه، وذاك من باب العصبية القبلية، ويعبر عن ذلك بقوله: "أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها!"، وسبحان الله هذا الموقف بعكس موقف أبي لهب كما سيأتي بيانه.
ثانياً: تتضح في الموقف السابق مقدار علو همة النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر والمثابرة في مجال الدعوة والذي لم يلتفت فيه إلى التهديد والوعيد من صناديد قريش وهو يعلم أن الرحمة لن تتسلل إلى قلوبهم التي هي أقسى من الحجارة الصماء فالرسول صلى الله عليه وسلم يحوّل المحن إلى منح، قال الشاعر([20]):
دببت للمجد والساعون قد بلغوا
وكابدوا المجد حتى ملّ أكثرهم
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله
|
|
جهد النفوس والقوا دونه الأزرا
وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
|
ثالثاً: لقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم عروض أهل الكفر السخية، فقد رفض أن يكون ملكاً عليهم، أو أن يفوز بأجمل بنات مكة، أو أن يكون صاحب ثراء فريد (أي يملك جميع قنوات السلطة)، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض جميع هذه العروض ليختار أن يكون الداعية إلى الله تعالى بكلمة التوحيد، وهو الذي لو تمنى أن تقلب له بطحاء مكة ذهباً لأعطاه ربه ذلك، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى أن يكون كذلك، بل يختار حجارة مكة، لا أن تكون ذهباً بل لتربط على بطنه من شدة الجوع، صلى الله عليك يا علم الهدى.
رابعاً: يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفار قريش المثل وهو من قبيل المستحيل عليهم، وهو أن يجعلوا الشمس في يمينه والقمر في يساره لأن يترك الدعوة، وهذا يوضح فكرة معينة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقطع كل أمل لديهم أو شكاً أورثته أحقادهم في تخلية النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين دعوته.
المطلب الرابع
صبر النبي صلى الله عليه وسلم على عشيرته
أخرج البخاري([21]) ومسلم([22]) وابن مردويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس قال: "لما نزلت: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الشعراء/214، خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد على الصفا فنادى: (يا صباحاه)، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت) تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) المسد/١"([23]).
ولما نزل قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الشعراء/214، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته امتثالاً لأوامر الله تعالى وخطب فيهم وقال لهم: (إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزونّ بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، وإنها لجنة أبداً ولنار أبداً، والله يا بني عبد المطلب ما أعلم شاباً جاء قومه بأفضل ما جئتكم به إني جئتكم بأمر الدنيا والآخرة)، فتكلم القوم كلاماً ليناً غير أبي لهب، فإنه قال: "يا بني عبد المطلب هذه والله السوءَ! خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم، فإن أسلمتموه حينئذٍ ذللتم، وإن منعتموه قتلتم، فقالت له أخته صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، أي أخي: أيحسن بك خذلان ابن أخيك، فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ -أي من أصل عبد المطلب- نبيٌ فهو هو، قال: هذا والله الباطل، والأماني، وكلام النساء في الحجال إذا قامت بطون قريش وقامت العرب، فما قوتنا بهم، فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس، فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا"([24]).
وها هي زوج أبي لهب أم جميل تحمل الشوك فيما أوتيت من قوة لتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم والحقد يملأ قلبها، وعقلها العفن، حيث أنزل الله تعالى في حقها قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ*فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) المسد/٤–٥، وعندما سمعت ما أنزل فيها وفي زوجها جائت إلى جهة الكعبة ذات مرة وعرقُ الغضب والكراهية والعناد يتقاطر من وجهها المربد المبشر بنار جهنم، وهي تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت فهراً من الحجارة (ما يملأ الكف)، تريد أن تضرب به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان معه صلى الله عليه وسلم صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت:
مذمماً عصينا... وأمره أبينا... ودينه قلينا...
ثم انصرفت فقال أبو بكر: يا رسول الله: أما تراها رأتك؟! فقال: (ما رأتي لقد أخذ الله ببصرها عني)([25]).
وتروي السيدة عائشة رضي الله عنها جزءاً من معاناة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي لهب قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كنت بين شر جارين، بين أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتياني بالفروث فيطرحانها على بابي، حتى أنهم ليأتون ما يطرح من الأذى فيطرحونه على بابي، فيخرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا! ثم يلقيه في الطريق)([26]).
وهنا ملمحٌ عظيمٌ نلحظهُ من دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لعشيرته حيثُ يقدح في الأذهان موقف عمه أبي لهب من دعوته صلى الله عليه وسلم، حيثُ نقرأ في السير أنهُ كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصدر صوته بدعوة الحق: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)، وكان من ورائه رجلٌ يتبعه ويقول: لا تصدقوه، هو ذلك الجشع الطماع الكافر عدو الله أبو لهب – عليه من الله ما يستحق – والأمر لم يكن غريباً في معلومات النبي صلى الله عليه وسلم، بل عنده المعلومة السابقة من عماته عليهن رضوان الله تعالى، حيثُ قلن لهُ: يا رسول الله اجمع آل عبد المطلب وادعهم للإسلام إلاّ عبد العزى – أبو لهب-، فإنهُ لا يرضى بهذه الدعوة، ولم يألُ أبو لهب جهداً في الصد عن الإسلام، كان يرمي أقدام النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة فينزل الدم منها، ويتبعُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مكذباً لهُ فيما جاء به؛ ليستحق أبو لهبٍ وساماً محموماً أبدياً في نار جهنم: (سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) المسد/٣، وتأبى زوجهُ إلاّ أن تنال هذه المنزلة وتستحق حبلاً مشدوداً أبدياً في رقبتها إلى النار، ويستحق ولدهُ عتيبة أن يكون فريسةً سهلةً لمفترسٍ في بلاد الأردن وذلك بعدما تجرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإهانة وهو يعلم أن الله تعالى يُدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين.
وإذا العناية لاحظتك عيونها
|
|
نم فالحوادث كلهنّ أمانُ
|
ونلاحظ أيضاً أموراً منها:
1. أن عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بين ثلاثة مواقف:
أ. الموقف الأول، موقف حازم في حماية النبي صلى الله عليه وسلم، ويتجلى في أبي طالب وأولاده.
ب. الموقف الثاني: موقف المعادي، وتبناه أبو لهب وأولاده وزوجه.
ج. الموقف الثالث: موقف المحايد وهم باقي العشيرة.
2. يلاحظ من موقف أبي لهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا لهب رجل طماع عديم المروءة دنيء يتمسك بسفاسف الأمور، عنوانه الأذى، سرّاق متكبر، متجبر، صاحب فكر عقيم ملوث لا يقبل النقاش والموضوعية.
3. يظهر أن موقف أبي لهب الصلب من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخشى على مصالحه التجارية والمادية المترابطة مع مصالح قريش التجارية، وهذا يفسره قوله تعالى: (مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) المسد/٢.
4. يظهر للقارئ في كتب السير أن موقف أبي لهب إنما صدر بفعل شخصيته الضعيفة أمام زوجته أم جميل التي هي أخت أبي سفيان سيد مكة.
وهنا يتبادر ويقدح في الذهن تساؤلات منها:
5. لو صمت أبو لهب تلك اللحظات التي دعا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الجموع إلى عبادة الله تعالى فكم من شخص سيدخل دين الله تعالى.
6. أن أبا لهب كان يستطيع أن ينسف قاعدة الإسلام، لو أعلن على مسمع الجموع أنه دخل في دين الله تعالى وبالتالي يكذب صريح القرآن -وحاشى لله- ولكن شدة عناده وكفره دلفت إلى قلبه وعقله، ومن أصدق من الله قيلاً.
المطلب الخامس
صبر النبي صلى الله عليه وسلم ومثابرته في سفره وهجرته
مثالٌ على ذلك: ما رواه البخاري([27]) ومسلم([28]) أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقالت: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد فقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)([29]).
- رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فيها المعاني والعبر والدروس لكل داعية منا لمن أراد أن يكون على نهجه صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قدميه مسافة تزيد على خمسين كيلو متر مع صاحبه زيد بن حارثة رضي الله عنه من غير حرس ولا خدم ولا حشم ولا قوافل استطلاعية، ولا أهازيج شعبية، والهدف هو التضحية من أجل دين الله تعالى.
- يظهر أن أهل الطائف كانوا من أقسى القلوب التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم بل أن قلوبهم لم تعرف الرحمة، فرجل يريد أن يرفع من قدرهم ومكانتهم فيأبوا إلا أن يكونوا وراء انحطاط الصبيان والعبيد المتسلحين بالحجارة التي يرمونها على أغلى وأطهر رجل حملته البسيطة على ظهرها:
يا طريداً ملأ الدنيا اسمه
وغدت سيرته أنشودةً
|
|
وغدا لحناً على كل الشفاه
يتلقاه رواة عن رواه([30])
|
- يظهر أن يقين النبي صلى الله عليه وسلم وارتباطه مع ربه كان في المستوى الذي لا يبلغه أحد من الخلق إلا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، وفي أوج ذلك اليقين والخضوع لله تعالى تخرج الكلمات دون واسطة إلى ربها: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك سخط علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)([31]).
- كل ما ألم بالرسول صلى الله عليه وسلم من الأذى فإنه لم ينسَ الدعوة بل الإخلاص لله تعالى كان عنوانه ونبراسه فذلكم العبد الضعيف "عدّاس" في لحظة يتوقف عندها التاريخ وتتجمد عندها عقارب الساعة معلنة أن عدّاس أصبح مؤمناً برسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الأخ الصالح ليونس بن متى وباقي الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
- لم ينتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فيأمر ملك الجبال لينتقم من أهل الطائف وهو قادر على ذلك بل اختار أن يكون كل أمره لله فقال: «لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحد الله تعالى» وفعلاً خرج الكثير من أصلابهم من يوحد الله تعالى، وعلى رأسهم محمد بن القاسم الثقفي فاتح بلاد السند وغيره الكثير، وهذا بفضل بركة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه الذي سيرته تكتنفها العظمة، وهي الدستور لكل دعاة البشرية في كل تواريخهم، ولذلك استحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وساماً من ربه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم/٤ ([32]).
- يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دقة البحث عن العقبات التي تواجه الدعوة واعتماد مبدأ نقد الذات والبحث عن أسباب الضعف في الدعاة وأساليبهم وذلك من خلال المناجاة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس...إلخ)، وذلك بدلاً من إلقاء أسباب الفشل على عاتق الجيل والظروف العامة وجلد الذات([33]).
- ومثالٌ آخر: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ، لَا يَسَلْهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَرَوْهُ وَيَمْنَعُوهُ وَيَقُولُ: (لَا أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ، مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِكَ، وَمَنْ كَرِهَ لَمْ أُكْرِهْهُ، إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ تُحْرِزُونِي مِمَّا يُرَادُ بِي مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَحَتَّى يَقْضِي الله عز وجل لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ الله)، فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ إِلَّا قَالَ: قَوْمُ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِهِ، أَتَرَوْنَ أَنَّ رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ وَلَفَظُوهُ؟ فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا ذَخَرَ الله عز وجل لِلْأَنْصَارِ وَأَكْرَمَهُمْ بِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ ارْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَشَدُّ مَا كَانَ، فَعَمَدَ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ رَجَاءَ أَنْ يَأْوُوَهُ، فَوَجَدَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ سَادَةُ ثَقِيفٍ يَوْمَئِذٍ... فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، وَشَكَا إِلَيْهِمُ الْبَلَاءَ وَمَا انْتَهَكَ مِنْهُ قَوْمُهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: "نَا أَمْرُقُ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ الله بَعَثَكَ بِشَيْءٍ قَطُّ"، وَقَالَ الْآخَرُ:"أَعَجَزَ الله أَنْ يُرْسِلَ غَيْرَكَ"، وَقَالَ الْآخَرُ: "وَالله لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَ مَجْلِسِكَ هَذَا أَبَدًا، وَالله لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ الله لَأَنْتَ أَعْظَمُ شَرَفًا وَحَقًّا مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى الله لَأَنْتَ أَشَرُّ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ"، وَتَهَزَّءُوا بِهِ وَأَفْشَوْا فِي قَوْمِهِمُ الَّذِي رَاجَعُوهُ بِهِ، وَقَعَدُوا لَهُ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ صَفَّيْهِمْ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْا رِجْلَيْهِ.
فَخَلَصَ مِنْهُمْ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدِّمَاءَ، فَعَمَدَ إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِهِمْ، وَاسْتَظَلَّ فِي ظِلِّ حَبَلَةٍ مِنْهُ وَهُوَ مَكْرُوبٌ مُوجَعٌ، تَسِيلُ رِجْلَاهُ دَمًا([34]).
المطلب السادس
صبر النبي صلى الله عليه وسلم ومثابرته في جهاده
خاض رسول الله صلى الله عليه و سلم المعارك المتتالية دون أن ينفذ صبره أو يضعف عزمه وقد نال في ذلك أذى كثيراً حيث كسرت رباعيته وشج وجهه الشريف في غزوة أحد وهو صابر محتسب وقال صلى الله عليه وسلم: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله)، فأنزل الله تعالى عليه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) آل عمران/ ١٢٨، وقد ظهرت يومها أشد صور المحبة والفداء تجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
نرى همة النبي صلى الله عليه وسلم وصبره في غزوة بدر الكبرى التي خرج فيها رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه وقال لهم: (سيروا وابشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني انظر إلى مصارع القوم)، ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى ميدان القتال في بدر ويشير ويقول: (هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان) فما جاوز أحد من المشركين المكان الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متسلح بقوله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) القمر/٤٥، ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً في مقابل ألف رجل في ميدان لا يمنع أحدهما عن الآخر إلا السيوف التي بانت من أغمادها.
ويصبر رسول الله ومن معه من المؤمنين، ويُقتل صناديد الكفار وأعداء الإسلام وتعلو كلمة الحق على الباطل فيندحر الباطل ويخسر أهم جولاته أمام ثبات وصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته([35]).
وفي الخندق يشق على المسلمين ما نزل بهم من قدوم الأحزاب وخيانة وتآمر يهود بني قريظة في أشد الأيام الباردة والماطرة مع قلة المؤونة والزاد، ولما رأى المسلمون من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبر والاحتساب والثبات هانت عليهم الصعاب وعلت هممهم وارتفعت حتى صارت كالطود العظيم، قال تعالى: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) الأحزاب/١١.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن يواجهوا الظروف الطارئة والمحن والمصاعب الحانقة بروح معنوية عالية؛ لأنها تشكل الأساس الحقيقي لمواجهة العدو وتحقيق النصر عليه، وهذه الروح المعنوية فيها الانتصار على ضعاف النفوس والمنافقين في داخل الدولة الإسلامية وخارجها، فكان للمسلمين النصر على أعدائهم خارجاً وداخلاً (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام/٤٥.
وتظهر معالم صبر النبي صلى الله عليه وسلم وثباته ما حدث له أثناء غزوة حنين عندما أطبقت هوازن على جيش المسلمين في وادي حنين وينهزم جيش المسلمين ابتداءً ويصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويثبت ولا يفر؛ لأن الفرار عادة المنخذلين الذين ليس لهم قضيةٌ يدافعون عنها ويتمسكون بها، فقضيته هي الدعوة إلى التوحيد ودين الله تعالى ويثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فئةٌ.من الناس، ويقول وهو الذي لا يعرف الهزيمة لا المادية والمعنوية: (يا أيها الناس؟ هلموا إلي أنا رسول الله، محمد بن عبد الله).
ثم جعل يقاتل ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، ثم أمر العباس صاحب الصوت الجهوري بأن ينادي الناس أصحاب بيعة الرضوان، فكروا إليه وتجمعوا، واشتد النزل وتقارع الأبطال، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الآن حمى الوطيس ثم نزل على الأرض، فأخذ حفنة تراب فرمى بها وجوههم، وقال: شاهت الوجوه فما كان إلا أن ملأ التراب عيون أهل الكفر، ثم ولوا أدبارهم مهزومين)([36]).
المطلب السابع
صبر النبي صلى الله عليه وسلم ومثابرته في تحمل الأذى
أمر الله تعالى نبيهُ الكريم بالصبر على أذى المشركين، وهذا واضحٌ في عدة مواضع من القرآن الكريم ومن ذلك قوله تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) المعارج/٥، وقوله تعالى: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) المدَّثر/7، وقوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) الإنسان/24، والأمثلة على ذلك كثير منها:
- مثال على ذلك ما جاء عند البخاري أن عروة بن الزبير سأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟"([37]) .
- مثالٌ آخر في أحد الأيام كان عليه الصلاة والسلام يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابٌ له جلوس، فقال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم فجاء به، فانتظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه على ظهره بين كتفيه، فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره الأذى([38]).
إن الناظر في السيرة النبوية يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم تحمل الأذى مما لا يطيقه غيره من البشر، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستعجل أمر الدعوة ليحصد النتائج سريعاً ولم ينتصر للنفس بل كان مخلصاً لله تعالى داعياً إلى الله تعالى، خائفاً على الخلق من عذابه تعالى، فقد اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم باتهامات كثيرة وخطيرة، مما تورث الحزن لما فيها من شدة الأذى، لكنه صبر وغفر، وهو يعلم أن ذلك من عزم الأمور، وعلى ذلك أمثلة منها:
أ. اتهامه بالجنون: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قَدِمَ ضِمَادٌ الْأَزْدِيُّ مَكَّةَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغِلْمَانٌ يَتْبَعُونَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أُعَالِجُ مِنْ الْجُنُونِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، قَالَ: فَقَالَ: رُدَّ عَلَيَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ الشِّعْرَ وَالْعِيَافَةَ وَالْكَهَانَةَ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، لَقَدْ بَلَغْنَ قَامُوسَ الْبَحْرِ وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَسْلَمَ: عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ، قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ عَلَيَّ وَعَلَى قَوْمِي، قَالَ: فَمَرَّتْ سَرِيَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْمِهِ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا إِدَاوَةً أَوْ غَيْرَهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ مِنْ قَوْمِ ضِمَادٍ رُدُّوهَا، قَالَ: فَرَدُّوهَا([39]).
فكفار قريش اتهموه بالجنون والشعوذة والكهانة والشعر وذلك تصويراً لواقع حالهم الأسود المريض الذي تجمعت فيه آكام العناد ونتن الفكر الفاسد في بحر الكفر والظلم ظلمات من فوقها ظلمات، في بحر لجي، وهم يحاولون أن يكونوا حج عثرة في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، ويأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، قال الله تعالى واصفاً حالهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ*وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ*بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الصافات/٣٥–٣٧، وقال تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) الحاقة/٤١، وقال تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ*ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ*مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ*وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) التكوير/٩ –٢٢.
ب. اتهامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر: لما وقفوا عاجزين أمام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام وهم يعلمون الحق من داخلهم أبو وعاندوا ورموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهمة ساذجة مردودة عليهم ألا وهي السحر، ومحل ردّ تلك الدعوة أن قريشاً أشرف العرب نسباً وأكثرهم فصاحة تعلم علم اليقين أن هذا ليس بسحر ولا بشعوذة قال الله تعالى: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) ص/٤، وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ*وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الصافات/١٤-١٥.
ج. اتهامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تعلم القرآن من الرجال: زاد مستوى الأذى النفسي من قبل كفار قريش حيث دحضت كل مزاعمهم سواء كان اتهاماً بالسحر أو الجنون أو الكهانة، أو الكذب، فلم يبقَ لهم أن يقولوا أن هذا القرآن هو تعليم رجال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النضر بن الحارث يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى المعونة من أناس آخرين لتلقي القرآن الكريم وتعليمه، ومن هؤلاء: عداس مولى حويطب بن عبد العزى، وجبر مولى عامر، قال الله تعالى عن كفار قريش: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) الفرقان/٤، وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) النحل/١٠٣.
د. محاولة كفار قريش تحدي النبي صلى الله عليه وسلم وطلب المعجزات منه: فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبهم ويحاورهم ويقول لهم: (إن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم)، لكنهم يطلبون منه المعجزات التي لو حصلت لكفروا بها أيضاً، فيذكر رب العزة ذلك الحوار العقائدي رداً عليهم، قال الله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا*أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا*أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا*أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا*وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا*قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ) الإسراء/٩٠–٩٥، وها هو أمي أبي بن خلف يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالٍ جعله في يده فأخذه ففتته أمام نظر النبي صلى الله عليه وسلم ثم نفخه في الريح تجاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا العظم بعدما أرمَّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أقول ذلك، يبعثه الله وأياك بعدما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار، فأنزل الله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يس/٧٨–٧٩).
ه. استخدام أسلوب الأذى الجسدي المباشر: كلّ ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من أصناف العذاب إلا أنه كان صامداً صابراً محتسباً ذلك عند ربه بل كان مصدر طاقة لأصحابه لاحتمال الأذى والعذاب، فها هو سيدنا خباب يقول: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له وهو في ظل الكعبة ولقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله؟، فقعد وهو محمر الوجه، فقال: (لقد كان من قبلكم لمشط بمشاط الحديد ما دونه عظامه من لحم أو عصب ما يصرف ذلك عن دينه، ويوضع المشاط على مفرق رأسه فيشق بإثنين ما يصرف ذلك عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه)"([40]).
والنبي صلى الله عليه وسلم يصف بعضاً من حالة الشدة تلك، حيث يقول: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحدٌ ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله إلا ما يواري إبط بلال)([41]).
وذات يوم من أيام اللهيب في مكة وفي قمة الصبر في سبيل العقيدة يجتمع كفار قريش ويذكرون ما أصابهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسفيهه لأحلامهم، وآلهتهم، التي يعبدونها صاح عدو الله وفرعون قريش أبو جهل متوعداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل حول الكعبة، فأخذت الجميع حالة من عدم الصبر لقاء انتظار تلك اللحظة التي ينتهي التاريخ عندها في نظرهم، بل هذا التاريخ لم يرحمهم لأنهم لم يعتقوا أنفسهم من أنفسهم ولا أرواحهم من شياطينهم، جاء أبو جهل ووقف خلف النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يضرب رأس النبي صلى الله عليه وسلم بصخرة عظيمة، فما لبث أن سُقط في يده، وألقى الصخرة جانباً، وأخذ كفار قريش يلومونه فقال: والله لقد رأيت فوق رأسه فحلاً ما رأيت مثله، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ذاك جبريل لو دنا لأخذه)([42]).
و.ومن أشد ما عاناه النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وأصحابه ذلك الحصار الغاشم الذي تنكره جميع الأعراف الإنسانية، حصار يراد به إهلاك الدعوة قبل إهلاك النفوس، تواطئت زعامات قريش على قتل الكلمة والحرية والوحدانية، وذلك من خلال صحيفة المنابذة لآل عبد المطلب، والهدف واضح وجلي، إما المقاطعة، وإما تسليم شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فيكون، هدفاً سهلاً وصيداً وفيراً، ولكن هذه الحرب الإعلامية والاقتصادية لم تجدِ نفعاً، لأن ردة الفعل عند آل عبد المطلب كانت قوية، فالمؤمنون التفوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدونه بالأرواح والمهج، والأموال والأولاد وبكل شيء انطلاقاً من عقيدتهم السليمة المرتبطة بالله تعالى، وغير المسلمين كان موقفهم حمية للنسب والعشيرة.
فأبو طالب لم يألُ جهداً في حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قريش ويسانده في ذلك عشيرته، فكان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في فراش أبنائه خوفاً عليه من الغدر ويد الاغتيال، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد تمتع بحماية عمه وأبنائه أشدّ الحماية، وأحبهم بالمقابل أشد الحب، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران/٣١، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته يعانين معه المحنة، وكفار قريش لم تتجاوز صرخات الأطفال الجياع أسماعهم فأي قسوة تلك؟!.
كان آل عبد المطلب لا يأكلون إلا جلود الميتة وأوراق الشجر وجذور النباتات فانقلبت ألوان جلودهم من الحمرة إلى الخضرة الممزوجة بالعزيمة والثبات، وإن تلك الشفاه التي سقطت بسبب الجوع وراءها قلوب كالحديد حملت الدعوة فيما بعد وفتحت البلاد على صدى صوتها الشجي، ومن رحمة الله تعالى أنه دائماً يقف مع عباده المؤمنين الموحدين الصادقين فكانت إرادة الله تعالى أن يخرج من قريش بعض زعاماتها ينادون بتمزيق وثيقة الظلم والمنابذة تلك، وعلى رأسهم زهير بن أمية، فتم ذلك بحمد الله تعالى، ثم ما لثبت أن ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، المرأة الصالحة المحتسبة الصابرة المعينة لزوجها في أشد ظروف المحنة ويموت مزامناً لها أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوسم ذلك العام بعام الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم تتصدع همة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينثنِ صبره، فكان صلباً صلداً مستمداً تلك القوة من ربه، حيث أن الله تعالى في أوج تلك المحنة والأزمة التي مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الشعب، والذي لا يأمن الإنسان فيه على نفسه، وإذا أخرج يده لم يكد يراها، ينُزّل رب العزة آياتٍ من القرآن الكريم، قال تعالى: (الم*غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) الروم/١–٤، وهنا وقفة مع الذات:
إن المواقف في هذه السيرة العظيمة مختلفة جداً بين البشر، فشتان ما بين موقف أبي طالب الذي أخذ على عاتقه نصرة ابن أخيه وموقف أبي لهب المتخاذل الذي يظهر فيه أشد صور الكراهية والحقد، ويتجسد بعدم انضمامه لقومه في الشِّعب الذين كانوا يفترشون تراب الأرض، ويلتحفون بالسماء، فأبى إلا أن يكون مظاهراً ضد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والموقف الآخر موقف الزوجة الصالحة أم المؤمنين خديجة التي دافعت عن زوجها ونصرته ووقفت بجانبه في أحلك الظروف تاركةً الثراء والجاه والمال ورائها في سبيل الدعوة وصاحب الدعوة عليه أفضل الصلاة والسلام.
ففي الصحيح عن أبي هريرة قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"([43])، فشتان ما بين هذا الموقف، وموقف عدوة الله أم جميل التي لم تنفع نفسها ولا زوجها ولا ولدها، ولم تكن مصدر خير لنفسها ولا لعائلتها، وبالتالي لتستحق هي وزوجها الورود على النار فليبشروا بهذا المصير([44]).
* أهم الدروس والعبر المستفادة من صبر النبي صلى الله عليه وسلم:
أ. استمرار الدعوة الإسلامية التي لم تتراجع أمام الصعاب والعراقيل التي افتعلها أهل الكفر بل مضت الدعوة بقوة كقوة السهم، فالمواجهة مع كفار قريش ما زادت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوة وهمة عالية واستمراراً في الدعوة.
ب. كان أثر المواجهة القوة والاستهزاء بالدعوة وبرسول الله صلى الله عليه وسلم أن وصل الخبر إلى القبائل العربية، وخاصة في مواسم حجهم للبيت، وفي مواسم التجارة في الصيف والشتاء مما أدى إلى دخول كثير من هذه القبائل في دين الإسلام، فرب ضارة نافعة.
ج. ازدياد قوة الإسلام يوماً عن يوم، فالتطور الحضاري والبشري، والتوسع الجغرافي الذي كان منذ بداية الدعوة يفترق عنه في المراحل المتطورة من الدعوة، وبالأرقام كان عدد المهاجرين إلى المدينة مئة وخمسون رجلاً وامرأة، وعدد جيش بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، والمشركون حوالي ألف رجل، وكان عدد جيش أُحد سبعمائة رجل، والمشركون ثلاثة آلاف رجل، وفي فتح مكة عشرة آلاف مسلم، وعدد الجيش المتوجه إلى تبوك ثلاثون ألف رجل، وفي حجة الوداع كان المسلمون أكثر من مائة ألف رجل، فهذه الأرقام تفيد مدى التطور البشري والتوسع الجغرافي لدين الله تعالى، وذلك بفضل ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وصبره هو وصحابته أمام تلك العراقيل والصعوبات التي جاوزها بفضل الله وحمده.
د. من خلال هذه الدعوة تم استشهاد عدد من الصحابة وهذه الشهادة هي اصطفاء من الله عز وجل لا يوازيها فضل آخر.
هـ. دخول دين الإسلام في كل أسرة من أسر مكة، فقد اعتنق أولاد زعماء قريش الإسلام، فقد أسلم فراس بن النضر بن الحارث، وأبو سلمة أخو أبي جهل، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبد الله بن سهيل بن عمر، وفاطمة بنت صفوان بن أمية، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، رضي الله عنهم جميعاً([45]).
الخاتمة
إن المقام الذي نحن بصدده في الكتابة إنما هو الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالنبي عليه الصلاة والسلام في جميع مراحل حياته التي عانى فيها ولاقى أشد التنكيل والصد عن دين الله، لم يثنهِ ذلك أن يكون عالي الهمة.
وله كمال الدين أعلى همةٍ يعلو ويسمو أن يقاس بثان
ولقد ركز البحث على أمرين أساسيين وهما:
الأمر الأول: علو همة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لها جوانب كثرة في الدعوة وحفظ الأمانة، والإيثار، وحفظ اللسان، والتواضع، وحسن الجوار، والدعاء، وإكرام الضيف، والتعامل مع الخلق، وحسن المعاشرة، وأداء الحقوق، والرحمة، ومعاملة الزوجات، وقيام الليل...الخ.
الأمر الثاني: صبر النبي صلى الله عليه وسلم وثباته وإقدامه والذي يظهر في مظاهر كثيرة لا مثيل لها، كصبره صلى الله عليه وسلم على تحمل الأذى سواء كان جسدياً أم معنوياً، وصبره صلى الله عليه وسلم على إيصال الدعوة للآخرين، وصبره على الأذى الذي أصاب صحابته الكرام رضوان الله عليهم، وفي سفره ورحلاته وهجرته صلى الله عليه وسلم، وفي تلقيه للوحي الذي كان يثقل عليه فيتفصّدُ منهُ عرقاً وخاصة إذا أتى جبريل عليه السلام الله بصورته الملائكية، ومن معالم صبره صلى الله عليه وسلم صبره على عشيرته وخاصة المواجهة العنيفة مع عمه أبي لهب الذي كان كالصخرة الصماء التي لا تحمل الماء على ظهرها ولا في جوفها وكم كان ذلك محزناً أن يقف العم ضد ابن أخيه في دعوة الخير دعوة التوحيد، وصبره صلى الله عليه وسلم في الجهاد والمواجهة لأعداء الله تعالى وذلك لأنهم أبوا أن ينصاعوا للكلمة السواء بينهم وبين المسلمين.
أمّا علاقة الصبر والثبات عند النبي صلى الله عليه وسلم بعلو الهمة:
من خلال ما تقدم في البحث نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يتفجّر همة في أوج الفتك والشدة مع صبره فيعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم درساً في كيفية أن يرنو المسلم بنظره إلى الأمام ويترك النظر إلى الوراء ومن الأمثلة على ذلك:
1. في قمة المعاداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل كفار القريش ومحاولة قتله واغتياله ليلة الهجرة، لم ينسَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد الأمانات إلى أهلها، فهذه من الملامح العظيمة لعلو الهمة في حفظ الأمانات، فالمتبادر إلى الذهن أنه لو كان أي شخصٍ منا في ذلك الموقف هل سيرد أمانات أعدائه؟
2. أيضاً في وسط البلاء والرمي بالحجارة ودماء رسول الله تسيل منه في يومٍ لم يلقَ مثلهُ رسول الله من الشدة في غيره، كما أخبرنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى الطائف تظهر الهمة العالية مع الصبر على الشدة والأذى، لم يبالِ رسول الله بما حصل له بل دعا "عدَّاس" إلى الإسلام وأسلم، ويرفع يديه إلى السماء يدعو ربه ويطلب العون والنصر، والمهم أن لا يكون ما أصابه صلى الله عليه وسلم هو غضب من الرحمن جل جلالهُ.
3. يظهر أيضاً موقف الرسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة عناد قريش وصدهم عن دين الله حيث توعدوا رسول الله ودعوته بالشر، تنطلق همة رسول الله بصبر وثبات ويقول قولاً يُدرس ويُكتب بماء الذهب: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته).
4. بعدما أصاب المسلمين القرحُ والأذى في غزوة أحد، وأصيب رسول الله فيها ما شاء الله تعالى أن يُصاب لم يقعد رسول الله يبكي على القتلى ويندب عليهم بل صبر وثبت، وتعلو همته فينطلق في اليوم التالي وراء أهل الكفر في حمراء الأسد والتي كانت ثمارها ايجابية على المسلمين. والحمد الله رب العالمين.
الهوامش
([1]) المغازي، الواقدي ص 2/14،222، ابن سعد، الطبقات، ج 2 ص39.