استئجار الأرحام وأحكامه في الفقه الإسلامي (*)
الدكتور أحمد عيد الحسيني الشواف/ مدرس الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بطنطا، أستاذ الفقه المقارن المشارك بجامعة منيسوتا
ملخص البحث
من الأمور المعهودة منذ القدم لدى البشر حب الولد، والسعي في تحصيله، والعقم مرض يمكن علاجه أو التغلب عليه ما أمكن، إلا أن هناك حالات لا يمكن وجود الحمل معها، كفقدان الرحم، أو استئصال المبايض، أو مرضهما، أو أي ضرورة أخرى، فظهر ما يسمى بالأم البديلة، أو استئجار الرحم، فتأتي من لا تنجب وتستأجر رحم امرأة، تحمل مكانها الولد مقابل مبلغ مالي، أو تبرعاً منها، ثم تأخذ من لا تنجب الولدَ من صاحبة الرحم المستأجرة بعد ذلك، والشريعة الإسلامية بما لها من مرونة وشمول، ترحب بكل ما هو جديد في البحث العلمي بشرط عدم الإضرار بالأسرة والمجتمع.
وقد أثارت مسألة تأجير الأرحام خلافاً خُلُقياً وفقهياً، سواء في المجتمعات المسلمة أو غير المسلمة، من أجل ذلك أعددت هذه الدراسة؛ لمعرفة الحكم الشرعي لهذه النازلة، بدأتها بمقدمة اشتملت على أهمية البحث، وأهدافه، وسبب اختياره، ثم قسمت الخطة إلى ثلاثة مبحث، تكلمت في المبحث الأول عن المقصود بتأجير الأرحام والأسباب الدافعة له وصوره، وفي المبحث الثاني تكلمت عن الحكم الشرعي لصور استئجار الأرحام، وفي المبحث الثالث تكلمت عن أثر إجارة الرحم على نسب الطفل المولود، ثم أنهيته بخاتمة اشتملت على أبرز النتائج.
وتوصلت إلى أنه تتعدد صور استئجار الأرحام ويختلف الحكم حسب كل قسم:
القسم الأول: أن تكون اللقيحة من الزوجين، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال، وقد رجحنا القول بالتحريم.
القسم الثاني: أن تكون اللقيحة من أحد الزوجين والآخر أجنبي، وقد اتفق المعاصرون على القول بحرمة هذا القسم.
القسم الثالث: أن تكون اللقيحة من غير الزوجين، وقد اتفق المعاصرون على القول بحرمة هذا القسم.
الكلمات المفتاحية: تأجير الأرحام، الأم البديلة، الرحم البديل، الحمل البديل، التبرع بالرحم.
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى فطر الإنسان على حب الولد، وجعلها من أعظم النعم التي يرغب بها الإنسان، وهي أيضا زينة الحياة الدنيا، قال الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف:46]؛ لذا فإن نفوس البشر غالباً تتطلع إلى تحصيل الولد.
والعقم مرض يمكن علاجه أو التغلب عليه ما أمكن، إلا أن هناك حالات لا يمكن وجود الحمل معها، كفقدان الرحم، أو استئصال المبايض، أو مرضهما، أو أي ضرورة أخرى، فظهر ما يسمى بالأم البديلة، أو استئجار الرحم، فتأتي من لا تنجب وتستأجر رحم امرأة، تحمل مكانها الولد مقابل مبلغ مالي، أو تبرعاً منها، ثم تأخذ مَن لا تنجب الولدَ من صاحبة الرحم المستأجرة بعد ذلك.
والشريعة الإسلامية بما لها من مرونة وشمول، ترحب بكل ما هو جديد في البحث العلمي بشرط عدم التعارض مع نصوصها القطعية أو الإجماع، وعدم الإضرار بالأسرة والمجتمع.
وقد أثارت مسألة تأجير الأرحام خلافاً خُلُقياً وفقهياً، سواء في المجتمعات المسلمة أو غير المسلمة.
ولما كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوره؛ فلا بد أولًا من بيان حقيقة المسألة، وتوضيح التصور الطبي لها، ثم معرفة وبيان الأسباب الدافعة لهذه العملية، ثم توضيح صورها، ثم تبيين الحكم الشرعي لكل صورة، موضحاً آراء المعاصرين وما ورد عليها من مناقشات، متوصلاً بذلك إلى الرأي الراجح من وجهة نظري، وأسأل الله العون والسداد والتوفيق.
أهمية الموضوع:
1-إن مسألة استئجار الأرحام، لها مساس بحياة الفرد والمجتمع، وتحتاج إلى معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بها.
2-لجوء العديد من الأفراد إلى الأطباء؛ لإجراء عملية استئجار الأرحام؛ لذا كانت هناك ضرورة ملحة للوقوف على حقيقة المسألة وطرقها، ثم بيان الحكم الشرعي لها.
3-ارتباط الموضوع بمقصد مهم من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو حفظ النسل، وحفظ النسب.
4-حاجة الطبيب الذي تجرى على يديه مثل هذه العمليات الطبية إلى معرفة الحكم الشرعي للمسألة.
مشكلة البحث:
كثيراً ما تسيطر الرغبة في الحصول على الولد على الزوجين، وبعد محاولات عديدة أو لظروف طبية -تتعلق برحم الزوجة غالباً- يصعب تحصيله، فيلجئون لعملية استئجار الأرحام، ولما كانت عملية استئجار الأرحام من المسائل المستحدثة، وكانت فكرتها تقوم على وجود طرفين في عملية حمل الجنين، فهذه العملية تثير العديد من التساؤلات عن مدى شرعيتها، وموقف الفقه الإسلامي منها؛ لذا جاء هذا البحث للإجابة عن الأسئلة التالية:
- ما الأسباب الدافعة لعملية استئجار الأرحام؟
- ما صور استئجار الأرحام؟
- ما الحكم الشرعي لهذه الصور؟
- ما أثر إجارة الرحم على النسب؟
- هل يمكن الاستفادة من البصمة الوراثية (DNA) في إثبات النسب؟
أسباب اختيار الموضوع:
1. الإجابة عن التساؤلات السابقة.
2. إثراء المكتبة الفقهية بدراسة المستجدات المعاصرة.
3. إظهار سعة ومرونة الشريعة الإسلامية في تعاطيها مع كل المستجدات المعاصرة.
4. التعرف على صور استئجار الأرحام، ومعرفة حكمها الشرعي.
5. تصور الموضوع من الجانب الطبي، ومعالجته من الجانب الشرعي.
أهداف البحث:
أهداف علمية: تتمثل في تحديد مفهوم مصطلح استئجار الأرحام، وأسباب اللجوء إليه، وبيان حكم الشريعة الإسلامية في هذه النازلة.
أهداف عملية: تتمثل في حاجة المراكز الطبية للعقم والإخصاب لمعرفة الحكم الشرعي المعتمد على الأدلة الشرعية لهذه النازلة، وتوضيح الآثار المترتبة عليها.
الدراسات السابقة:
هناك العديد من الدراسات في هذا الموضوع منها:
1. محمد على الهواري، مدى مشروعية استئجار الأرحام في الشريعة الإسلامية، بحث منشور بمجلة علوم الشريعة والقانون بالجامعة الأردنية.
2. هند الخولي، تأجير الأرحام في الفقه الإسلامي، بحث منشور بمجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية.
3. ماهر حامد الحولي، الإخصاب خارج الجسم مع استئجار الرحم، الجامعة الإسلامية، غزة، 2009م.
4. إسلام نايل المجالي، استئجار الأرحام بين الإباحة والتحريم، رسالة ماجستير مقدمة لكلية الدراسات العليا – الجامعة الأردنية، 2015م.
5. تأجير الأرحام وأثره في نظر الشريعة والطب والقانون، ساجدة طه محمود، بحث ألقي في مؤتمر كلية العلوم الإسلامية، جامعة كربلاء، 2010م.
6. رشدي شحاته أبو زيد، تأجير الأرحام في الفقه الإسلامي، بحث منشور بمجلة حقوق حلوان للدراسات القانونية والاقتصادية.
7. تأجير الأرحام، حقيقته، وصوره، وحكمه، محمد بن عبد الله اللحيدان، بحث منشور بمجلة البحوث القانونية والاقتصادية بكلية الحقوق بالمنوفية، مجلد12، العدد 31، عام2010م.
* أوجه الاتفاق بين الدراسات السابقة والدراسة الحالية:
تتفق الدراسات السابقة مع دراستي بشكل عام في تناولهما لموضوع استئجار الأرحام، وقد استفدت منها ومن بعض مصادرها التي ترتبط بالموضوع.
*أوجه الاختلاف بين الدراسات السابقة والدراسة الحالية:
1. التوسط في عرض المسائل من الناحية الطبية، والناحية الفقهية، ذلك أن أغلب الأبحاث السابقة منها ما يتوسع في الجانب الطبي فيصعب على الدارسين في الجانب الشرعي فهمه، ومنهم من يتوسع في الجانب الفقهي الشرعي فيصعب على الدارسين في الجانب الطبي فهمه، فقمت بالتوسط في المجالين حتى ألبي رغبة الدارسين من الجانبين.
2. استقصاء أغلب ما كتب في هذا الموضوع بالاطلاع على العديد من الأبحاث، والرسائل العلمية، والمجلات العلمية، والندوات المتخصصة في هذا الموضوع، والرجوع إلى فتاوى دور الإفتاء في القضية.
3. هناك العديد من الأبحاث التي تطرقت لمسائل قد تخرج البحث عن موضوعه، فمنها من أسهب في أحكام الإجارة وشروطها وأركانها، ومنها من أسهب في تفصيل مراحل نمو الجنين داخل الرحم وأطواره، ومنها من استطرد في النشأة التاريخية لمسألة تأجير الأرحام، بينما قمت في دراستي بالتركيز على لب المسألة والبعد عن الاستطرادات التي لا تفيد.
4. أغلب الأبحاث لم تتكلم عن أثر إجارة الرحم على نسب الطفل المولود، بينما ركزت في دراستي على هذه الإشكالية وحلولها.
منهج البحث:
اتبعت في البحث المناهج الآتية:
أولاً: المنهج الاستقرائي: وذلك بتتبع ما جاء في المجامع الفقهية، والندوات الطبية، والرسائل العلمية، والأبحاث المتعلقة بهذا الموضوع.
ثانياً: المنهج الاستنباطي: وذلك في استنباط وجه الدلالة من الأدلة التي وردت في المسائل محل البحث.
ثالثاً: المنهج المقارن: وسيتحقق هذا المنهج من خلال الخطوات التالية:
1. عرض المسألة طبياً وتصورها.
2. تتبع أقوال المعاصرين في المسألة، ومعرفة آرائهم.
3. سرد الأدلة لكل قول مع:
أ. عزو الآيات القرآنية إلى موضعها في كل سورة.
ب. عزو الأحاديث النبوية إلى مصادرها الأصلية مع بيان الآتي:
- إن كان الحديث في الصحيحين فأكتفي بذكر موضعه فيهما.
- إن كان الحديث في غير الصحيحين فأقوم بتخريجه من دواوين السنة المشهورة مع الحكم عليه.
4. ذكر ما ورد على الأدلة من ردود ومناقشات، وأخيراً الترجيح.
خطة البحث:
المبحث الأول: المقصود بتأجير الأرحام والأسباب الدافعة له وصوره.
المبحث الثاني: الحكم الشرعي لصور استئجار الأرحام.
المبحث الثالث: أثر إجارة الرحم على نسب الطفل المولود.
المبحث الأول
المقصود بتأجير الأرحام، والأسباب الدافعة له، وصوره
وفى هذا المبحث سأقوم بتعريف تأجير الأرحام، ثم معرفة الأسباب الداعية لهذه العملية، ثم بيان صورها، وذلك في مطلبين:
المطلب الأول: تعريف تأجير الأرحام.
المطلب الثاني: أسباب تأجير الأرحام، وصوره.
المطلب الأول: تعريف تأجير الأرحام
وسوف أقوم هنا بتعريف تأجير الأرحام باعتبار التركيب ثم باعتبار الإفراد.
أولاً: تعريف تأجير الأرحام باعتبار التركيب (مركب إضافي):
1. تعريف الإجارة:
الإجارة في اللغة:
الإجارة في اللغة: تأتي على معان:
المعنى الأول: الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ أَجَر يَأْجِرُ، وَهُوَ مَا أَعطيت مِنْ أَجْر فِي عَمَلٍ. والأَجْر: الثَّوَابُ؛ وَقَدْ أَجَرَه اللَّهُ يأْجُرُه ويأْجِرُه أَجْراً وآجَرَه اللَّهُ إِيجاراً([1]).
المعنى الثاني: جَبْرُ الْعَظْمِ الْكَسِيرِ.
ويمكن الجمع بين المعنيين أَنَّ أُجْرَةَ الْعَامِلِ كَأَنَّهَا شَيْءٌ يُجْبَرُ بِهِ حَالُهُ فِيمَا لَحِقَهُ مِنْ كَدٍّ فِيمَا عَمِلَهُ([2]).
الإجارة في الاصطلاح:
أفضل التعريفات للإجارة هو تعريف الشافعية أنها: عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ مَعْلُومَةٍ قَابِلَةٍ لِلْبَذْلِ وَالْإِبَاحَةِ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ([3]).
عقد على منفعة: خرج بذلك العقد على العين.
- مقصودة: خرج بذلك الاستئجار على المنافع التافهة.
- معلومة: خرج بذلك القراض والجعالة على عمل مجهول.
- قابلة للبذل والإباحة: يخرج بذلك منفعة البضع في الزواج، لأنه لا يملك المنفعة فيها.
- بعوض: يخرج بذلك هبة المنافع، والوصية بها.
- معلوم: يخرج بها العوض المجهول([4]).
والإجارة جائزة شرعاً بالإجماع([5]).
2. تعريف الرحم:
الرَّحِمُ لُغةً:
مَوضِعُ تَكوينِ الوَلَدِ([6])، وقيل هو: بَيْتُ مَنْبِت الوَلَدِ وَوِعاؤُه فِي الْبَطن([7]).
وهذا هو المعنى المراد في بحثنا، وهو المعنى الاصطلاحي أيضاً عند الأطباء، لكن بتعبير مختلف.
ومِنَ المجازِ: الرَّحِمُ: القَرابةُ تَجمَعُ بني أبٍ، وبينهما رَحِمٌ أي: قَرابةٌ قَريبةٌ، فذَوُو الرَّحِمِ هم الأقارِبُ([8]).
الرَّحم اصطلاحاً:
عبارة عن حويصلة صغيرة الحجم أسفل التجويف البطني للمرأة، تتسع وتكبر تبعاً لنمو الجنين بداخله إلى أن يصل إلى قمة تمدده في نهاية فترة الحمل، ثم يعود إلى حالته الأولى تدريجياً بعد خروج الجنين طفلا([9])، وقيل: هو عضو عضليّ على شكل كمثرى مقلوب من الجهاز التناسلي للأنثى، ويقع بين المثانة والمستقيم، وهو يعمل على تغذية وإيواء البيض المخصب والجنين الذي لم يولد بعد([10]).
ثانياً: تعريف تأجير الأرحام باعتبار الإفراد:
- قيل هو: استخدام رحم امرأة أخرى تحمل لقيحة مكونة من نطفة رجل، وبويضة امرأة، وغالباً ما يكونان زوجين وتحمل الجنين وتضعه، وبعد ذلك يتولى الزوجان رعاية المولود، ويكون ولداً قانونياً لهما([11]).
وهذا التعريف به زيادات لا حاجة لها في توضيح الماهية، منها قوله: (غالباً ما يكونان زوجين)، وقوله: (وبعد ذلك يتولى الزوجان رعاية المولود).
- وقيل هو: عقد معاوضة على الانتفاع برحم امرأة أجنبية لغرس اللقيحة فيه، على ألا ينسب المولود إليها([12]).
- وقيل هو: هو تلقيح ماء رجل (النطفة) بماء امرأة (البويضة) تلقيحاً خارجياً في وعاء اختبار، ثم زرع هذه البويضة الملقحة (اللقيحة) في رحم امرأة أخرى تتطوع بحملها حتى ولادة الجنين أو مقابل، أجر معين([13]).
تصور العملية:
هو عبارة عن حلّ طبي يتم اللجوء إليه لمساعدة النساء غير القادرات على الحمل والإنجاب، بسبب مشاكل صحية، حيث تتم عملية الإخصاب خارج الجسم، بتلقيح بويضة المرأة بماء زوجها -غالبا- في المختبر قبل أن تتم زراعة واحدة أو أكثر من تلك البويضات المخصبة في رحم امرأة متطوعة أو مستأجرة؛ لتنمو وتستكمل فترة الحمل، وفي هذه الحالة يطلق على المرأة المتطوعة أو المستأجرة اسم الأم البديلة، بينما تكون صاحبة البويضة هي الأم البيولوجية.
وتسمية العملية بالإجارة هنا خرجت مخرج الغالب، إذ قد يتم الأمر بدون أجر، على سبيل التبرع، وهنا تسقط صفة الإجارة؛ لذلك يفضل تسميتها بالرحم البديل:
معنى البديل: حلول شخص مكان آخر في عمل من الأعمال، والمراد هنا حلول امرأة مكان أخرى لتنوب عنها في حمل بيضتها الملقحة طوال مدة الحمل([14]).
وعلى ذلك يعرف الرحم البديل بأنه: عقد (أو وعد) تتعهد بمقتضاه امرأة بشغل رحمها بأجر أو بدونه بحمل ناشئ عن أمشاج مخصبة صناعياً لزوجين استحال عليهما الإنجاب لفساد رحم الزوجة([15]).
ويشار إلى أن هنالك العديد من المصطلحات التي أطلقها العلماء على عملية استئجار الأرحام، نذكر منها: الرحم الظئر –المضيفة– الحاضنة -الأم البديلة أو المستعارة أو الأم بالوكالة- الرحم المستأجر([16]).
المطلب الثاني: أسباب تأجير الأرحام، وصوره
أولاً: الأسباب الدافعة إلى تأجير الأرحام.
هناك العديد من الأسباب الدافعة إلى تأجير الأرحام منها على سبيل المثال:
1. الفشل المتكرر للإنجاب مع كون المبيض سليماً([17]).
2. الحفاظ على مكانتها في المجتمع، كأن تكون صاحبة منصب في المجتمع وغير ذلك من الأسباب([18]).
3. الأمراض التي قد تصيب الأم، كتسمم الحمل.
4. استئصال الرحم لأحد الأسباب الطبية.
5. الأمراض الوراثية التي قد تؤدي إلى وفاة الجنين.
6. ضعف الرحم، وعدم القدرة على تحمل الجنين فترة الحمل.
7. حفاظ المرأة على رشاقتها وصحتها([19]).
ثانياً: صور استئجار الأرحام:
ناقش مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة لعام١٤٠٤ه المنعقدة بمكة المكرمة عند حديثه عن أطفال الانابيب عدداً من الحالات، منها غرس اللقيحة في رحم امرأة أخرى غير الزوجة التي يعاني رحمها من اضطرابات وأمراض تحول بينها وبين أن يتم الحمل بصورته الطبيعية، وقد قمت بتقسيم هذه الحالات إلى أقسام:
القسم الأول: أن تكون اللقيحة من الزوجين.
القسم الثاني: أن تكون اللقيحة من أحد الزوجين والآخر أجنبي.
القسم الثالث: أن تكون اللقيحة من غير الزوجين.
وسوف أبين الصور التي تندرج تحت كل قسم من هذه الأقسام كما يلي:
القسم الأول: أن تكون اللقيحة من الزوجين.
ويندرج تحت هذا القسم صورتان:
الصورة الأولى: أن تؤخذ اللقيحة (البويضة، النطفة) من الزوجين، وتزرع في رحم امرأة أجنبية([20]).
الصورة الثانية: أن تؤخذ اللقيحة من الزوجين، وتزرع في رحم زوجة ثانية للزوج([21]).
القسم الثاني: أن تكون اللقيحة من أحد الزوجين والآخر أجنبي.
ويندرج تحت هذا القسم صورتان:
الصورة الأولى: أن تؤخذ بويضة الزوجة، وتلقح بنطفة رجل أجنبي (متبرع بالنطفة)، ثم توضع اللقيحة في رحم أجنبية (متبرعة بالحمل)، ثم يسلم الجنين لصاحبة البويضة.
وهذا يكون في حالة كون الزوج عقيماً، ورحم الزوجة غير موجود أو به علة، لكن مبايضها سليمة([22]).
الصورة الثانية: أن تؤخذ نطفة الزوج، مع بويضة امرأة أجنبية (متبرعة بالبويضة)، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة.
وهذا يكون عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلاً، أو به خلل لا يفرز بويضات، لكن الرحم سليم([23]).
القسم الثالث: أن تكون اللقيحة من غير الزوجين.
ويندرج تحت هذا القسم صورتان:
الصورة الأولى: أن تؤخذ نطفة رجل أجنبي (متبرع بالنطفة)، مع بويضة امرأة أجنبية (متبرعة بالبويضة)، ثمّ تزرع اللقيحة في رحم امرأة ثالثة.
وذلك عندما يكون رحم المرأة الثالثة سليماً، لكنها لا تفرز البويضات، وزوجها عقيم([24]).
الصورة الثانية: أن تؤخذ نطفة رجل أجنبي (متبرع بالنطفة)، مع بويضة امرأة أجنبية (متبرعة بالبويضة)، ثمّ تزرع اللقيحة في رحم امرأة ثالثة (متبرعة بالحمل) لصالح امرأة رابعة([25]).
المبحث الثاني
الحكم الشرعي لصور استئجار الأرحام
بعد معرفة صور تأجير الأرحام، لا بدّ من معرفة حكم هذه الصور، وبالنظر إلى الأحكام التي ذكرها المعاصرون وجدنا أن هناك صوراً متفقاً على حكمها، وصوراً مختلفاً في حكمها؛ لذا سأقوم بتقسم هذا المبحث إلى مطلبين:
المطلب الأول: الصور المتفق على حكمها.
المطلب الثاني: الصور المختلف في حكمها.
المطلب الأول: الصور المتفق على حكمها
اتفق المعاصرون على أن الصور المذكورة في القسم الثاني، والقسم الثالث صور محرمة.
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي، بعمان: إن الطرق (التي تكون اللقيحة فيها من غير الزوجين) كلها محرمة شرعاً، وممنوعة منعاً باتاً لذاتها، أو لما يترتب عليها من اختلاط الأنساب وضياع الأمومة وغير ذلك من المحاذير الشرعية([26]).
وجاء في قرار مجمع البحوث (يحرم استخدام طرف ثالث في عملية الحمل سواء كان الموضوع سائلاً منوياً أم بويضة أم جنيناً، والطرف الثالث سواء عن طريق التأجير أو التبرع أو التفضل)، وقد أكدت ذلك دار الإفتاء المصرية([27]).
أدلتهم على حرمة هذه الصور التي فيها تدخل من طرف غير الزوجين.
1. في هذه الصور شبهة الزنا.
يقول الشيخ محمود شلتوت: "إذا كان التلقيح بماء رجل أجنبي عن المرأة فإنه يزج بالإنسان دون شك في دائرتي الحيوان والنبات، ويخرجه عن المستوى الإنساني، وهو في نظر الشريعة جريمة منكرة وإثم عظيم، يلتقي مع الزنا في إطار واحد جوهرهما واحد ونتيجتهما واحدة"([28]).
ويقول الشيخ مصطفى الزرقا: "لا يمكن القول باستحقاق عقوبة حدّ الزنا التي لم يوجبها الشرع إلا في حالة الزنا بمعناه الحقيقي، وإنما تستوجب هذه العملية المحظورة من التلقيح الصناعي عقوبة تعزيرية بما يكفي الزجر"([29]).
2. سدّ الذرائع: لأن في هذه العملية فتح باب المتاجرة بالنطف والأرحام، وشراء الأرحام الآدمية، فكان من نتائج هذه العملية وجود شركات لتأجير الأرحام، وبنوك للمني، وسماسرة لذلك، والاستغلال المادي لأصحاب الحاجات، اصطباغ الأمومة بالصبغة التجارية إلى غير ذلك([30]).
3. اختلاط الأنساب: من جهة صاحبة الرحم المستأجرة: لاحتمال أن تفشل عملية التلقيح بعد وضع اللقيحة في الرحم المؤجر، ويحدث الحمل عن طريق مباشرة الزوج لزوجته، فيُظَنُّ أن الحمل والوليد للمستأجر، مع أنه في الواقع ليس له([31]).
ومن جهة أصحاب اللقيحة: ما في بعض هذه الصور من تجميع لقيحة ليست لزوجين، أو وضعها في رحم أجنبية.
المطلب الثاني: الصور المختلف فيها
اختلف المعاصرون في القسم الأول حالة كون اللقيحة من الزوجين، بصورتيها استئجار رحم أجنبية أو استئجار رحم زوجة ثانية للزوج، وكان خلافهم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: جواز الحمل عن طريق الرحم المستأجرة مطلقاً، سواء كانت أجنبية، أو زوجة أخرى، وهذا ما ذهب إليه عبد المعطى بيومي([32])، محمد الأعظمي([33])، عبد الصبور شاهين([34])، وأخذ بهذا الرأي من الأطباء محمد سعد الدين حافظ، إسماعيل براده([35]).
وقد اشترط بعض أصحاب هذا القول شروطاً منها:
1. ألا تكون صاحبة الرحم المستأجرة بكراً.
2. استبراء صاحبة الرحم المستأجرة بحيضتين قبل نقل اللقيحة إلى الرحم.
3. امتناع الزوج عن جماع زوجته صاحبة الرحم المستأجرة في الفترة الأولى من الحمل.
4. أن يكون ذلك عند الضرورة ولا تتخذها المرأة مهنة تزاولها وتتكسب منها.
5. أن يجري هذه العملية طبيب ثقة عدل، تحت رقابة الدولة([36]).
أدلتهم:
1. القياس على الإرضاع بجامع أن كلاً من الرحم المستأجرة والإرضاع يقومان بتغذية الجنين والطفل، فكما جاز تمليك منفعة الثدي فيما يفرزه من لبن ينبت اللحم وينشز العظم في الإرضاع، فيجوز تمليك منفعة الرحم فيما يفرزه من أمشاج([37]).
يجاب عن ذلك:
أ. أن الرضاع ثبت جوازه بنصّ شرعي، قال الله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)]الطلاق:6]، أما تأجير الرحم فالأصل فيه الحرمة، وهي تابعة لحرمة الفروج، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) ]المؤمنون:5]، ففرق بين الرضاع واستئجار الأرحام([38]).
ب. لا يترتب على الرضاع مفسدة اختلاط الأنساب؛ لأن نسب الطفل ثابت لأبويه ابتداء من دون شك، أما في تأجير الأرحام فالشبهة في اختلاط النسب قائمة محتملة فلا تساوي في المسألتين([39]).
2. اختلاف تأجير الرحم عن الزنا:
في تأجير الأرحام يكون التخصيب خارج الرحم، أما الزنا يكون القذف داخل الرحم، كما أنه في تأجير الأرحام صاحب الحمل معروف فلا تختلط الأنساب، أما الزنا قد يحدث بعده جماع من الزوج أو من آخر فلا يعرف صاحب الحمل وهو مظنة اختلاف الأنساب([40]).
أجيب عن ذلك: بأنه ولو لم يكن زنا حقيقة، إلا أن فيه شبهة الزنا، كما أن احتمال اختلاط الأنساب أيضاً قائم في مسألة تأجير الأرحام، في حالة ما لو قام الزوج بجماع زوجته صاحبة الرحم المستأجرة، وحدث حمل جديد، أو أن اللقيحة سقطت وحدث حمل طبيعي من زوجها الأصلي.
3. قاعدة الضرورات تبيح المحظورات:
حيث إن الضرورة موجودة للمرأة التي برحمها علة، فلم تقدر على الإنجاب، وبالتالي فلا مانع من اللجوء إلى تأجير الأرحام لوجود الضرورة الداعية إلى ذلك.
ووجه الضرورة إذا علمنا أن الأمومة غريزة إنسانية إذا حرمت منها أورث ذلك عندها عذاباً نفسياً يوقعها في حرج وضيق شديدين أمام نفسها والآخرين([41]).
يجاب عن ذلك:
أ. لو سلمنا بهذه الحاجة بالنسبة إلى المرأة صاحبة البويضة؛ فإننا لا نسلّم بها في حقّ صاحبة الرحم البديل؛ لأنها ليست الزوجة التي بحاجة إلى الأمومة. ([42])
ب. إن الأمومة بالرغم من شرفها إلا أنها لا تصل إلى حالة الضرورة، بحيث إذا لم تتحقق أشرف الإنسان على الهلاك، كما أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وهناك العديد من المفاسد المترتبة على استئجار الأرحام([43]).
٣. انعدام أي احتمال لاختلاط الأنساب؛ لأن البويضة الملقحة بالحيوان المنوي لا يمكن تلقيحها مرة أخرى([44]).
يجاب عن ذلك: بأن هذه حقيقة معروفة لا إشكال فيها، لكن المشكلة في إمكانية حدوث حمل آخر من زوج صاحبة الرحم المستأجرة([45]).
القول الثاني: التفرقة فقالوا:
لو كانت الرحم المستأجرة لأجنبية فيحرم ذلك، أما لو كانت الرحم المستأجرة لزوجته الثانية فيجوز ذلك بشروط، أهمها أن يجتنب الزوج وطء زوجته الثانية في الفترة الأولى من الحمل، وذلك لتفادي اختلاط الأنساب.
قال بذلك مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة (وقد رجع عنه في دورته الثامنة)([46])، والشيخ التسخيري، عمر الأشقر([47])، الشيخ عبد الله البسام في قوله الأول([48]).
أدلتهم على الحرمة إن كانت الرحم المستأجرة لأجنبية هي أدلة القول الثالث، وستأتي.
أدلتهم على القول بالجواز لو كانت الرحم المستأجرة لزوجته الثانية:
نفس أدلة القول الأول ويضاف إليها:
1. أنه لا وجود لاختلاط الأنساب بالنسبة للزوج ولا للزوجة، وذلك لوحدة الأبوة([49])، كما أن من أجازوا ذلك اشترطوا أن يجتنب الزوج وطء زوجته الثانية في الفترة الأولى من الحمل، وذلك لتفادي اختلاط الأنساب.
يجاب عن ذلك:
- إن وحدة الأبوة لا تغني عن وحدة الأمومة، واحتمال اختلاط الأنساب قائم، فهل المولود لصاحبة البويضة أم لصاحبة الرحم؟ وسوف يرث الولد من أيهما؟
- كما أن عقد الزواج لكل واحدة منهما مستقلّ عن الآخر فلا يملك الزوج التلاعب بنسب أطفاله من أمهاتهم، فينسب من يشاء لمن يشاء([50]).
- كما أن مسألة الاعتزال في الفترة الأولى من الحمل فيها تحريم لما أحله الله.
- كما أنه لو سقطت اللقيحة وحدث حمل طبيعي، فيحدث نزاع على المولود.
2. إن زراعة البويضة الملقحة بماء الزوج داخل رحم الزوجة الثانية لهذا الزوج لا تنطوي تحت معنى الزنا؛ لأنّ صاحبة الرحم البديل هي أيضاً زوجة لصاحب النطفة، وهو صاحب حقّ في تلقيح هذه الزوجة الأخرى التي تم زرع البويضة في رحمها([51]).
القول الثالث: حرمة استئجار الرحم مطلقا سواء كانت أجنبية، أو زوجة ثانية.
قال بذلك مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة بعمان 1986م([52])، المجمع الفقهي الإسلامي بمكة في دورته الثامنة 1985([53])، والمجمع الفقهي التابع للمنظمة الاسلامية للعلوم الطبية([54])، مجمع البحوث الإسلامية الذي أصدر في جلسته المنعقدة يوم الخميس بتاريخ 29/ 3/ 2001م فتواه بحرمة تأجير الأرحام، واعتباره خروجاً على الشريعة الإسلامية، وقد صدرت هذه الفتوى بإجماع أعضاء المجمع([55])، دار الإفتاء المصرية د. على جمعة([56])، والشيخ جاد الحق مفتي مصر الأسبق([57])، الشيخ عبد الله البسام في قوله الثاني([58])، بكر أبو زيد([59])، أحمد الحداد مفتي دبي([60])، د. محمد الهواري([61])، د. هند الخولي([62])، د. ماهر الحوالي([63])، د. كريمة جبر([64])، د. رشدي أبو زيد([65])، وغيرهم.
أدلتهم:
1. قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) ]المؤمنون:5، 6].
فالرحم في الشرع ذو حرمة كبيرة، وليس موضع امتهان، أو ابتذال حتى يستأجر، فلا يباح بالإباحة، وإنما ينتفع به على الوجه الذي رسمه الشرع([66]).
فمن ابتغى الإنجاب من رحم لا يمتلك حق الانتفاع به فهو من العادين؛ لأن نقل البويضة الملقحة إلى رحم امرأة أخرى من متعلقات الجماع، فكأنه تم اتصال رجل بغير زوجته([67]).
2. قال تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)] النور:30، 31[.
وتأجير الأرحام على أي صورة كانت يخرج عن حفظ الفروج، فإدخال مني غير الزوج، أو بويضة غير الزوجة في فرج امرأة حتى ولو كانت زوجة ثانية لا يعد من حفظ الفروج.
3. إن تأجير الأرحام فيه شبه من نكاح الاستبضاع.
عن عَائِشَةَ –رضي الله عنها– قالت: "النِّكَاحَ فِي الجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ...... وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلاَنٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلاَ يَمَسُّهَا أَبَدًا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الوَلَدِ"([68]).
4. عَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ"([69]).
قال المناوي: "لَأن الْجَنِين يَنْمُو بمائه فَيصير كَأَنَّهُ ابْن لَهما"([70])، ولهذا يحرم استئجار الأرحام، لأن زوج صاحبة الرحم المستأجرة قد يجامعها فيقع في المنهي عنه.
5. الرحم البديل فيه مفسدة لمعنى الأمومة؛ لأن الأمومة البديلة تقودنا إلى تصوير الأم صاحبة الرحم البديل على أنها مجرد وعاء لا قيمة له، وهذا امتهان لكرامة الأمومة والأم، وفي المقابل تجعل صاحبة البويضة أماً وهي لم تبذل مشقة في إنتاج البويضة وإفرازها([71]).
6. شبهة اختلاط الأنساب:
إذ يمكن بعد زرع اللقيحة في رحم الزوجة الثانية، والمرأة المستأجرة أن يحصل اتصال بين الزوج والضرة الظئر التي تبرعت بالحمل في مرحلة بعد مرحلة الزرع في الرحم، وعندئذٍ لا يدري إذا علق الطفل وكبر وولد هل هو من بويضة الزوجة الأولى، أو هو من بويضة الزوجة الثانية التي تبرعت بالحمل نتيجة اتصال زوجها بها.
ففي خلال مناقشات المجمع الفقهي الإسلامي في الدورة الثامنة جاء فيه:
إنّ الزوجة الأخرى التي زرعت فيها لقيحة بويضة الزوجة الأولى قد تحمل ثانية قبل انسداد رحمها على حمل اللقيحة من معاشرة الزوج لها في فترة متقاربة من زرع اللقيحة ثم تلد توأمين، ولا يعلم ولد اللقيحة من ولد معاشرة الزوج، كما قد تموت علقة، أو مضغة أحد الحملين، ولا تسقط إلا مع ولادة الحمل الآخر الذي لا يعلم أيضاً أهو ولد اللقيحة، أم حمل معاشرة الزوج، ويوجب ذلك من اختلاط الأنساب لجهة الأم الحقيقية، لكل من الحملين والتباس ما يترتب على ذلك من أحكام، وإن ذلك كله يوجب توقف المجمع عن الحكم في الحالة المذكورة، وبعد مناقشة الموضوع وتبادل الآراء فيه قرر المجمع سحب حالة الجواز الثالثة المذكورة في الأسلوب المشار إليه في قرارات المجمع الصادر في هذا الشأن في الدورة السابعة.
وقد حصل هذا فعلاً: ففي ألمانيا تبين بالفحص أن اللقيحة التي زرعت في رحم مستعار لم تعلق، وإنما حملت تلك المرأة حملاً طبيعياً من زوجها، واضطرت إلى التنازل عن المولود بسبب استلامها مبلغ 8 آلاف دولار([72]).
6. لو قيل بجوازه للمتزوجة، فلا نستطيع أن نمنعه على العذراء، وفيه فتح لباب العبث والفساد، فما بالنا لو رأينا عذراء حامل؟
7. الأصل في الأبضاع التحريم، ولا يباح إلا ما نصّ عليه الشارع، والرحم تابع لبضع المرأة، فكما أن البضع لا يحل إلا بعقد شرعي صحيح، فكذلك الرحم لا يجوز شغله بغير حمل الزوج فيبقى على أصل التحريم([73]).
9. رفض الفكرة في العديد من المؤتمرات:
ففي عام 1991م عقد في القاهرة المؤتمر الدولي الأول عن ضوابط وأخلاقيات بحوث التكاثر البشري في العالم الإسلامي، وقد حضرت إليه (54) دولة إسلامية، حيث نوقشت فيه جميع وسائل الإنجاب المساعد في حين رفضت الدول المشاركة قانون إجارة الأرحام.
كما عقد في القاهرة المؤتمر الدولي الثاني عن الأخلاقيات وطرق الإخصاب المساعد في العالم الإسلامي عام 1997م، وقد تم رفض الفكرة، كما أن المؤتمر الدولي الذي عقد تحت إشراف المركز الدولي للدراسات والبحوث السكانية عام 2000م رفض هذا القانون بحضور مجموعة من رجال الدين([74]).
10. قاعدة درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
وقد تعددت المفاسد (وسنذكرها لاحقاً)، فمنها ما يعود على الولد، ومنها ما يعود على الزوج، ومنها ما يعود على صاحبة الرحم، ومنها ما يعود على الأسرة، ومنها ما يعود على المجتمع، فدرء كل هذا مقدم على مصلحة الزوجة في إشباع رغبة الأمومة.
القول الراجح: هو القول الثالث بحرمة استئجار الأرحام مطلقاً، وذلك لقوة أدلتهم، وللعديد من المفاسد المترتبة على هذه العملية.
*المفاسد المترتبة على هذه العملية ومنها:
1. اصطباغ الأمومة بالصبغة التجارية، ولقد عانى المجتمع الغربي عملياً من ذلك؛ فقد انتشرت المراكز التجارية المختصة لتأجير الأرحام، حيث أصبحت المرأة فعلياً آلة تستأجر، وتحولت الأرحام إلى سوق تجاري للربح المادي([75]).
2. الأضرار النفسية للمولود وتشتت مشاعره حينما يعلم أن له أمَّين، أماً بالحمل، وأماً صاحبة البويضة([76]).
3. الاعتداء على المجتمع، لأن الجنين الناتج بهذه الطريقة سيولد ومعه مشاكل شرعية، وقانونية([77]).
ومن أهداف الشريعة الإسلامية، سد الأبواب التي تؤدي إلى حدوث النزاع والخلاف بين أفراد المجتمع، وكل ما يؤدي إلى حدوث نزاع بين الأفراد يكون غير جائز شرعاً، وتأجير الأرحام سيؤدي في الغالب إلى حدوث هذا النزاع بين المرأتين، أيهما الأم؟ هل هي صاحبة البويضة الملقحة، أم هي التي حملت وولدت([78]).
وأحكام المحاكم في مختلف الدول تضاربت عند حدوث نزاع قانوني، فمن الدول من حكم بالمولود لصاحبة البويضة، ومنهم من حكم به لصالح صاحبة الرحم المستأجرة، ثم لو ذهبت صاحبة الرحم المستأجرة بعد الولادة وقيدت المولود باسمها فما الحل؟ بالطبع سيحدث نزاعات بينها وبين صاحبة البويضة، وأيضاً لو قررت صاحبة الرحم المستأجرة إجهاض نفسها، فهل يحق لها ذلك؟ أم أن لصاحبة البويضة منعها؟، ثم إذا حدث إجهاض بالفعل، هل ينتهي التزام صاحبة الرحم المستأجرة أم أن عليها تعويضاً، أم أن لصاحبة البويضة إجراء الأمر مرة ثانية استكمالاً للالتزام الأول؟ وهل يحق لصاحبة الرحم المستأجرة السفر لأماكن بعيدة، أم لصاحبة البويضة منعها؟([79])
وهناك أم بديلة طالبت بستة أضعاف القيمة المتفق عليها بسبب انقسام الزيجوت الذي وضع فيها 6 توائم، فلم يستطع الزوج السداد، فلجأت للإجهاض، فرفع الزوج قضية تعويض، ورفعت هي دعوى مضادة لما مثله ما حدث من خطر على حياتها، وهناك زوج طالب بتعويض ربع مليون دولار من الأم البديلة لأن الولد ولد معوقاً بسبب إدمان الأم البديلة([80]).
المبحث الثالث
أثر إجارة الرحم على نسب الطفل المولود
سبق أن قد ذكرنا حكم تأجير الأرحام، وقلنا: إن هناك صوراً متفقاً على تحريمها، وصوراً مختلفاً في حكمها، وهذه الأخيرة رجحنا القول بحرمتها.
ولكن لو حدثت هذه العملية ونتج عنها ولد، فمن أهم الآثار المترتبة على الإنجاب طبيعياً كان أو صناعياً، مسألة نسب هذا الولد، فإلى أي المرأتين ينسب؟ هل لصاحبة البويضة، أم لصاحبة الرحم المستأجرة؟ وإلى أي الأبوين ينسب؟ هل لصاحب النطفة، أم لزوج صاحبة الرحم المستأجرة؟
سوف نتكلم هنا عن مسألة النسب من الجهتين (الأبوة، والأمومة) بغض النظر عن مشروعية الوسيلة، ثم عن دور البصمة الوراثية في إثبات النسب، وذلك في مطالب:
المطلب الأول: النسب من جهة الأمومة.
المطلب الثاني: النسب من جهة الأبوة.
المطلب الثالث: حكم الاستفادة من البصمة الوراثية (DNA) في إثبات النسب.
المطلب الأول: النسب من جهة الأمومة
اختلف العلماء المعاصرون في ثبوت النسب للطفل الناشئ من عملية تأجير الأرحام على قولين:
القول الأول: إن الأم الحقيقية هي صاحبة البويضة، وهو رأي أغلبية أعضاء مجمع الفقه الإسلامي([81])، وأغلب المعاصرين، د. مصطفي الزرقا([82])، د. محمد البار([83])، د. هاشم جميل، عبد المحسن صالح([84])، د. كريمة جبر([85])، د. ساجده طه([86])، د. عبد السلام السكري([87])، وغيرهم كثير.
وهذا ما قرره قديماً الإمام الشبراملسي في "حاشيته" حين قال: "أَفْهَمَ أَنَّهُ لَوْ أَلْقَتْ امْرَأَةٌ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً فَاسْتَدْخَلَتْهَا امْرَأَةٌ أُخْرَى حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ فَحَلَّتْهَا الْحَيَاةُ وَاسْتَمَرَّتْ حَتَّى وَضَعَتْهَا الْمَرْأَةُ وَلَدًا لَا يَكُونُ ابْنًا لِلثَّانِيَةِ"([88]).
أدلتهم:
1. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ)([89]).
وجه الدلالة: لا معنى للفراش إلا الزوجية الصحيحة القائمة بين الرجل والمرأة بناء على عقد زواج صحيح، بين ماء الرجل وبويضة المرأة([90]).
2. قال تعالى: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) ]الطارق:5-7].
فأصل خلق الإنسان من ماء الرجل وبويضة زوجته.
3. أثبت العلم أن الجنين بعد زراعته في رحم الأم المستعارة، فإنه أشبه ما يكون بطفل تغذى من غير أمه([91])، فالجنين بعد زرعه لن يستفيد من المستأجرة غير الغذاء، والرحم لا ينقل أي صفة وراثية، ولا يعمل إلا كحضانة للجنين تحميه، يقول د/هاشم جمي: "إنّ التحريم لم يدخل في أصل تكوين الجنين، وإنما جاء من طريق تغذيته التي نتج عنها نماؤه وتكامله، فالجنين بعد زرعه لم يستفد من المتبرعة غير الغذاء"([92]).
4. معلوم أن الثمرة بنت البذرة، لا بنت الأرض، فمن يزرع برتقالاً يجنى برتقالاً مهما كانت الأرض، فالأرض تجهز البذرة بكل ما تحتاج إليه، لكن لا دخل لها بنوع أو جنس النبات الذي ينمو فيها([93]).
القول الثاني: إن الأم الحقيقية هي صاحبة الرحم التي ولدت، ذهب إلى هذا القول، د. محمد المرسي زهرة([94])، د. زياد سلامة([95])، د. عبد العزيز الخياط([96])، الشيخ بدر المتولي عبد الباسط، الشيخ علي طنطاوي، والشيخ الصديق الضرير([97])، وغيرهم([98]).
أدلتهم:
1. قال تعالى: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ) ]المجادلة:2[.
فالأم هي التي ولدت، والتي ولدت هنا هي صاحبة الرحم، وفي الآية نفي الأمومة عن التي لم تلد([99]).
يجاب عن ذلك: أن الآية السابقة وردت في سياق الظهار، بوجود أم حقيقية، وزوجة، والمظاهر يريد أن يجعل زوجته كالأم فحرم الشارع ذلك، ونبه أن الأم هي التي ولدت، ويستحيل أن تكون الزوجة أماً له، لذلك قال: {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً}، فالآية ليست على الإطلاق، ولا يراد بها حصر الأمومة في الولادة، ولو أريد بها الحصر لتعارضت مع قوله تعالى: (وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ) ]النساء: 23[([100]).
2. قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ]لقمان:14[، وقال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) ]الأحقاف:15].
فالأم الحقيقية هي التي حملت.
يجاب عن ذلك: أن كل مولود له بأمه صلتان: صلة تكوين ووراثة (أصلها البويضة)، صلة حمل وولادة، وحضانة (أصلها الرحم)، فإطلاق الأم على التي حملت ووضعت فقط من غير أن تكون البويضة منها إطلاق على غير الهيئة الكاملة لها وقت التنزيل([101])، كما أن خروج البويضة من المبايض يعد استيلاداً.
الراجح: أرى أن الأصل أن الولد ينسب لصاحبة البويضة، إلا إن أثبت الطب غير ذلك لاحتمال سقوط اللقيحة، أو لاحتمال علوق نطفة من الزوج وحدوث حمل قبل زرع اللقيحة من غير الزوج.
مع اعتبار أنّ صاحبة الرحم المستأجرة في التحريم كالأم من الرضاعة.
فتكون صاحبة البويضة الأم الحقيقية، وتكون صاحبة الرحم أماً حكمية كالأم من الرضاعة.
المطلب الثاني: النسب من جهة الأبوة
لا خلاف في أنه لو كان الرجل صاحب النطفة زوجاً لصاحبة البويضة وصاحبة الرحم معاً أن الولد ينسب إليه، بغض النظر عن مشروعية الوسيلة، وذلك لأنه صاحب النطفة وصاحب الفراش أيضاً، كما أنه إن كانت صاحبة الرحم المستأجرة غير متزوجة، أو متزوجة وزوجها غائب، أو لم يجامعها لحين الولادة فإن الولد ينسب إلى زوج صاحبة البيضة المخصبة([102]).
لكنهم اختلفوا فيما لو كانت صاحبة الرحم غير الزوجة، ولها زوج جامعها فترة حملها على قولين:
القول الأول: أن المولود ينسب إلى صاحب النطفة الذي قام بتلقيح البويضة، وذهب إلى هذا القول د. عارف علي عارف([103])، د. ساجده طه([104])، د. كريمة جبر([105]).
أدلتهم:
1. لأنه الأصل الذي تكوّن منه الجنين. قال تعالى: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) ]الطارق:5-7]، قال تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ* مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) ]عبس:17-19].
فأصل خلق الإنسان من ماء الرجل وبويضة زوجته.
2. إن الزوج لا يربطه بصاحبة الرحم المستأجرة أي رابط شرعي لإثبات النسب([106]).
القول الثاني: إن الولد ينسب لزوج صاحبة الرحم البديل([107]).
أدلتهم:
1.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ"([108])، وصاحب الفراش هنا هو زوج صاحبة الرحم المستأجرة([109]).
قال ابن قدامة: "وأَجْمعوا على أَنَّه إذا وُلد على فراش رجل، فادَّعاه آخرُ أَنَّه لا يلْحقه"([110]).
أجيب عن ذلك: بأن الحديث يحكم على كل حالة يكون فيها مصدر الجنين غير مقطوع به بيقين، كحالة الزنا أو الوطء بشبهة، ففي هذه الحال ينسب الحمل لصاحب الفراش، أما إذا قطعنا بيقين أن الولد ليس لصاحب الفراش فإن الولد لا ينسب إليه([111]).
الراجح:
أرى أن الأصل أن الولد ينسب لصاحب النطفة، إلا إن أثبت الطب غير ذلك لاحتمال سقوط اللقيحة، وحدوث حمل من الثاني.
* خلاصة القول في النسب.
الولد ينسب إلى الوالدين الحقيقيين صاحب النطفة، وصاحبة البويضة.
1. لأنهما أصل خلق الولد وتكوينه.
2. إن حديث الولد للفراش يكون في حالة التنازع وعدم معرفة الأب الحقيقي، أما عند التأكد فلا يعمل هنا بحديث الولد للفراش.
3. إن أصل خصائص الإنسان وصفاته الوراثية تتقرر في البويضة والحيوان المنوي فقط، وصاحبة الرحم مجرد حاضن للتغذية والنمو.
4. لو أن هذه اللقيحة أتمت مراحل نموها في رحم صناعي، فهل الرحم الصناعي سيكون هو الأم؟
المطلب الثالث: حكم الاستفادة من البصمة الوراثية (DNA) في إثبات النسب
في مسألة النسب من جهة الأمومة، قلنا: الراجح أن الأصل أن الولد ينسب لصاحبة البويضة، إلا إن أثبت الطب غير ذلك لاحتمال سقوط اللقيحة، أو لاحتمال علوق نطفة من الزوج وحدوث حمل قبل زرع اللقيحة من غير الزوج.
وفي مسألة النسب من جهة الأبوة، قلنا: الراجح أن الأصل أن الولد ينسب لصاحب النطفة، إلا إن أثبت الطب غير ذلك لاحتمال سقوط اللقيحة، وحدوث حمل من الثاني.
فهل يمكن الاستفادة من البصمة الوراثية (DNA) في إثبات النسب، اختلف الفقهاء المعاصرون في المسألة على قولين:
القول الأول: يجوز الاستفادة من البصمة الوراثية في إثبات النسب، وهو ما ذهب إليه المجمع الفقهي الإسلامي([112])، والندوة الفقهية بالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية([113])، وذلك تفريعاً على قول جمهور الفقهاء القائلين بجواز القيافة عند التنازع على النسب.
القول الثاني: عدم جواز الاستفادة من البصمة الوراثية في إثبات النسب، وهو قول خليفة الكعبي([114])، وزيدان حمد عباس([115])، وذلك تفريعاً على قول الحنفية القائلين بعدم جواز إثبات النسب بالقيافة عند التنازع على النسب.
ولا مجال هنا لذكر أدلة كل قول ومناقشاته، فالمسألة فيها رسائل وأبحاث عديدة، وما يهمنا هنا هو القول الراجح، ومدى إمكانية الاستفادة من البصمة الوراثية (DNA) في إثبات النسب.
الراجح: أنه يجوز الاستفادة من البصمة الوراثية في إثبات النسب، بشروط وضوابط معينة ذكرها المجمع الفقهي الإسلامي في قراره، فقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، بشأن البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها:
أولاً: ... ثانياً: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية...، خامساً: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية:
أ. حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أو كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه.
ب. حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات، ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.
وتندرج مسألة إجارة الرحم تحت الاشتراك في وطء الشبهة، وتحت الاشتباه في أطفال الأنابيب([116]).
وبناء عليه؛ فالأصل أن الولد ينسب إلى الوالدين الحقيقيين صاحب النطفة، وصاحبة البويضة؛ إلا إن حدث تنازع وأثبت الطب عن طريق (DNA) غير ذلك، فيؤخذ بقول أهل الطب؛ لاحتمال سقوط اللقيحة، أو لاحتمال علوق نطفة من الزوج وحدوث حمل قبل زرع اللقيحة من غير الزوج.
الخاتمة
وفيها أبرز النتائج والتوصيات.
أولاً: النتائج
1. استئجار الأرحام هو: تلقيح ماء رجل (النطفة) بماء امرأة (البويضة) تلقيحاً خارجياً في وعاء اختبار ثم زرع هذه البويضة الملقحة (اللقيحة) في رحم امرأة أخرى تتطوع بحملها حتى ولادة الجنين أو مقابل، أجر معين.
2. تتعدد صور استئجار الأرحام ويختلف الحكم حسب كل قسم، وقد قمت بتقسيم هذه الحالات إلى أقسام ويندرج تحت كل قسم عدة صور:
القسم الأول: أن تكون اللقيحة من الزوجين، ويندرج تحت هذا القسم صورتان:
الصورة الأولى: أن تؤخذ اللقيحة (البويضة، النطفة) من الزوجين، وتزرع في رحم امرأة أجنبية.
الصورة الثانية: أن تؤخذ اللقيحة من الزوجين، وتزرع في رحم زوجة ثانية للزوج.
وكان الخلاف في هذا القسم على ثلاثة أقوال، وقد رجحنا القول بالتحريم.
القسم الثاني: أن تكون اللقيحة من أحد الزوجين والآخر أجنبي، ويندرج تحت هذا القسم صورتان:
الصورة الأولى: أن تؤخذ بويضة الزوجة، وتلقح بنطفة رجل أجنبي (متبرع بالنطفة)، ثم توضع اللقيحة في رحم أجنبية (متبرعة بالحمل)، ثم يسلم الجنين لصاحبة البويضة.
الصورة الثانية: أن تؤخذ نطفة الزوج، مع بويضة امرأة أجنبية (متبرعة بالبويضة)، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة، وقد اتفق المعاصرون على القول بحرمة هذا القسم.
القسم الثالث: أن تكون اللقيحة من غير الزوجين. ويندرج تحت هذا القسم صورتان:
الصورة الأولى: أن تؤخذ نطفة رجل أجنبي (متبرع بالنطفة)، مع بويضة امرأة أجنبية (متبرعة بالبويضة)، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة ثالثة.
الصورة الثانية: أن تؤخذ نطفة رجل أجنبي (متبرع بالنطفة)، مع بويضة امرأة أجنبية (متبرعة بالبويضة)، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة ثالثة (متبرعة بالحمل) لصالح امرأة رابعة.
وقد اتفق المعاصرون على القول بحرمة هذا القسم.
3. بالرغم من القول بالحرمة في جميع الصور، إلا أنه لو حدثت هذه العملية ونتج عنها ولد فقد اختلفت الأقوال في نسبه من جهة الأمومة، ومن جهة الأبوة.
وقد رجحنا أن الولد ينسب إلى الوالدين الحقيقيين صاحب النطفة (جهة الأبوة)، وصاحبة البويضة (جهة الأمومة).
ثانياً: التوصيات
1. أوصي الباحثين في متابعة المستجدات العلمية للوصول للحكم الشرعي فيها؛ ليكون الناس على بصيرة من أمور دينهم.
2. أوصي الجهات المنوطة بضرورة نشر التوعية فيما يتعلق بهذه المسألة، سيما وأنها حديثة النشأة بعقد مؤتمرات ودورات توعوية من شأنها أن توضح الآثار المترتبة على هذه العملية.
3. أوصي الدول بوضع قوانين صارمة لتجريم عمليات تأجير الأرحام، وتحديد عقوبات صارمة لهذا الفعل.
4. أوصي بإغلاق باب الاجتهاد أمام الأفراد في مثل هذه القضايا، وألا يتكلم فيها إلا المتخصصون من أهل العلم، في أماكن الفتوى الرسمية المعتمدة، ولا يسير الناس خلف الإعلام، أو خلف الغرب، في مثل هذه القضايا الخطيرة.
5. أوصي وزارة الصحة بتشكيل لجان علمية وأخلاقية، مدعمة بفتاوى رسمية معتمدة في مراكز العقم لمتابعة ومراقبة هذه المراكز.
(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الخامس، 1443هـ/ 2021م.
الهوامش
([1]) ابن منظور، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين (ت711هـ)، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1414ه، مادة (أج ر)، 4/10.