نشرة الإفتاء - العدد 45 أضيف بتاريخ: 22-06-2023

التقرير الإحصائي السنوي 2022 أضيف بتاريخ: 29-05-2023

المذهب الشافعي في الأردن أضيف بتاريخ: 23-05-2023

عقيدة المسلم - الطبعة الثالثة أضيف بتاريخ: 09-04-2023

مختصر أحكام الصيام أضيف بتاريخ: 16-03-2023

أثر جودة الخدمات الإلكترونية أضيف بتاريخ: 29-12-2022

مختصر أحكام زكاة الزيتون أضيف بتاريخ: 14-11-2022

نشرة الإفتاء - العدد 44 أضيف بتاريخ: 06-10-2022




جميع منشورات الإفتاء

الترويج للشذوذ الجنسي أضيف بتاريخ: 31-01-2024

أهمية الأمن الفكري أضيف بتاريخ: 09-01-2024

دور الذكاء الاصطناعي أضيف بتاريخ: 06-12-2023

التربية العقلية أضيف بتاريخ: 26-10-2023

سلسة قيم الحضارة في ... أضيف بتاريخ: 10-10-2023

المولد النبوي الشريف نور أشرق ... أضيف بتاريخ: 26-09-2023

النبي الأمي أضيف بتاريخ: 26-09-2023

اقتصاد حلال: موسوعة صناعة حلال أضيف بتاريخ: 05-09-2023




جميع المقالات

دراسات وبحوث


أضيف بتاريخ : 06-07-2021

هذا البحث يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي دائرة الإفتاء العام


النقود الرقمية من منظور اقتصادي إسلامي

البتكوين أنموذجاً (*)

د. حمزة عدنان مشوقة، باحث في دائرة الإفتاء، دكتوراه في الاقتصاد الإسلامي

ملخص

أثارت النقود الرقمية "البتكوين" (Bitcoin) ضجة كبيرة مؤخراً في الأوساط الشرعية والقانونية والسياسية، وقد هدفت هذه الدراسة إلى بحث المسألة من المنظور الاقتصادي والشرعي بطريقة علمية دقيقة، وتوصلت الدراسة إلى أن الإسلام لم يشترط شكلاً معيناً للنقود، وإنما أكد على ضرورة تحقيق وظائفها بشكل كامل، وبالرجوع إلى المعايير الاقتصادية الضابطة لكفاءة النقد تبين أن البتكوين لم تُحصِّل شروط الكفاءة النقدية، وتوصلت الدراسة أيضاً إلى أن الموقف الفقهي من البتكوين إذ يمنع تعدينها والتعامل بها، فإنه لا يمنع من وجود نقود رقمية تحقق شروط الكفاءة النقدية، وأوصت الدراسة بضرورة وجود عملات رقمية تصدر من سلطات مركزية.

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فإن الثورة الرقمية التي نعيشها اليوم تعتبر من أبرز مظاهر التطور العلمي الذي مرّ على تاريخ البشرية؛ فقد سهلت التكنولوجيا الرقمية انتقال المعلومات بين العالم بشكل سريع وآمن، حتى جعل العالم كقرية صغيرة.

ويعدّ التطور في وسائل الدفع الرقمية أو ما يسمى بالنقود الرقمية أبرز تطور شهدته الثورة الرقمية، مما ساعد على اختصار كثير من العمليات التقليدية التي تطلبها البنوك من حضور للمودع وإيداع مبالغ نقدية في الحساب، إضافة إلى توفير بعض التكاليف التي تتطلبها عمليات الإيداع والحوالة والصرف.

ومن أبرز النقود الرقمية التي ظهرت "البتكوين" (Bitcoin)، والتي أثارت ضجة كبيرة مؤخراً، واختلفت آراء أهل الفقه والقانون والاقتصاد حولها، مما سبّب تناقضاً في الفتاوى واضطراباً في التشريعات الدولية.

ويهدف الباحث إلى دراسة "البتكوين" في المنظور الاقتصادي والشرعي بطريقة علمية دقيقة.

وتتمثل مشكلة البحث في الإجابة عن السؤال الآتي: كيف يمكن دراسة قضية مستجدة كلية مثل البتكوين؟ ويتفرع عن هذا السؤال الأسئلة الآتية:

ما هي المعايير الاقتصادية للنقد؟ وهل حدد الإسلام شكلاً معيناً للنقد؟

وما حقيقة البتكوين في الواقع الاقتصادي المعاصر؟

وهل يمكن اعتبار البتكوين نقداً من الناحية الاقتصادية؟

وكيف نفهم موقف الفقه الإسلامي من البتكوين؟

وقد قام الباحث بتقسيم البحث كما يأتي:

مبحث تمهيدي: التعريف بالنقود الرقمية (البتكوين)

المطلب الأول: مفهوم النقود الرقمية

المطلب الثاني: مفهوم البتكوين

المبحث الأول: النقود في المنظور الفقهي والاقتصادي

المطلب الأول: النقود في المفهوم الاقتصادي

المطلب الثاني: الموقف الفقهي من حقيقة النقود وتطوره

المطلب الثالث: كفاءة النظام النقدي من منظور إسلامي

المبحث الثاني: البتكوين في الواقع الاقتصادي

المطلب الأول: حجم التعاملات والمضاربات المالية بالبتكوين

المطلب الثاني: مخاطر البتكوين الاقتصادية

المبحث الثالث: تقدير اقتصادي إسلامي للبتكوين

المطلب الأول: الاتجاهات المعاصرة في حكم البتكوين

المطلب الثاني: تقدير اقتصادي شرعي للبتكوين

المبحث تمهيدي

التعريف بالنقود الرقمية (البتكوين)

المطلب الأول: مفهوم النقود الرقمية:

أولاً: تعريف النقود الرقمية:

شاع عند المتخصصين استخدام أكثر من مصطلح للتعبير عن النقود الرقمية، مثل العملة الإلكترونية، والنقود الإلكترونية، والعملة الرقمية، والتعبير بالنقود الرقمية أو الإلكترونية أدقّ من مصطلح العملة، فالعملة هي نقد يكتسب قيمته من الاعتراف القانوني به، والنقود هي "كل شيء يلاقي قبولاً عاماً بين الناس وسيطاً للتبادل أو لإبراء الديون"([1])، فتكون النقود بذلك أعمّ من العملات.

وأما مصطلح النقود الرقمية كلقب فيمكن تعريفه بأنه "قيمة نقدية مخزنة على وسيلة إلكترونية مدفوعة مقدماً وغير مرتبطة بحساب بنكي، وتحظى بقبول واسع من غير من قام بإصدارها، وتستعمل كأداة للدفع لتحقيق أغراض مختلفة"، ويمتاز هذا التعريف بكونه جامعاً لأفراد النقود الرقمية ومانعاً من دخول غيرها[2].

ثانياً: خصائص النقود الرقمية:

يمكن ملاحظة مجموعة من الأسس التي يقوم عليها مفهوم النقود الرقمية، وهي[3]:

1. قيمتها النقدية، فهي تشملُ وحداتٍ نقدية لها قيمة مالية قادرة على شراء السّْلع والخدماتِ، وهذا يميزها عن الوحدات التي تحمل قيمة عينية لنوع معين من السلع والخدمات، فهذه الوحدات النقدية التي تحمل قيمة عينية لا يمكن اعتبارها عملات رقمية؛ لأنها غير قادرة على شراء سوى نوع معين من السلع والخدمات، مثل بطاقات الاتصال الهاتفي أو البطاقات التموينية.

2. مخزنة على وسيلة إلكترونية، حيث يتمّ شحن القيمة النقدية بطريقة إلكترونية على بطاقة بلاستيكية أو على القرص الصلب، وهذا يميزها عن النقود القانونية والائتمانية التي تعدّ وحدات نقدية مصكوكة أو مطبوعة.

3. غير مرتبطة بحساب بنكيّ، فالنقود الرقمية شأنها شأن النقود القانونية لا تحتاج لوساطة البنوك للتعامل فيها، وهذا يميزها عن وسائل الدفع الإلكتروني الأخرى التي تتيح شراء السلع والخدمات عن طريق البنك.

4. تحظى بقبول واسع، حيث يعتبر القبول العام من أهم خصائص النقود، ويجعل من النقود الرقمية نوعاً من أنواع النقود.

ثالثاً: أنواع النقود الرقمية:

يرى البعض وجود نوع مستقل من النقود الرقمية تسمى بالنقود المشفرة، حيث يفترقان عن بعضهما بأن النقود المشفرة لامركزية، أي غير خاضعة لأي سلطة مركزية، ولا يتم الاعتماد على الوسطاء من أجل إدارتها، وأما النقود الرقمية غير المشفرة فهي عملات مركزية يتم تداولها رقميا وعلى الإنترنت، ونظامها مركزي خاضع للوسطاء، فتكون النقود المشفرة جزءاً من مفهوم النقود الرقمية عموما[4].

وأما بخصوص النقود الرقمية المنتشرة، فقد تجاوز عددها (ألف) عملة رقمية، وبحسب موقع "coinmarketcap" يبلغ عدد العملات الرقمية التي تنشر تحليلاً يومياً عنها 1599 عملة رقمية[5].

المطلب الثاني: مفهوم البتكوين

أولاً: تعريف البتكوين

لم يتفق الباحثون على تعريف محدّد للبتكوين، ولكن جوهرها متشابه، فمن أبرز هذه التعريفات:

1. البتكوين "وحدات رقمية مشفرة، ليس لها طبيعة مادية، أو حسية، وليس لها قيمة أو منفعة ذاتية، ولكن بما ثبت لها في الواقع من منفعة تبادلية ورواج نسبيّ في العديد من البلدان تعدُّ مالاً متقوماً"[6].

2. البتكوين هي "عملة معماة ونظام دفع عالمي يمكن مقارنتها بالعملات الأخرى، مثل الدولار أو اليورو، لكن مع عدة فوارق أساسية، من أبرزها أن هذه العملة هي عملة إلكترونية بشكل كامل تتداول عبر الإنترنت فقط من دون وجود فيزيائي لها"[7].

3. البتكوين هو "شبكة جامعة توفر نظاماً جديداً للدفع ونقوداً إلكترونية بشكل كامل"[8].

فالاختلاف بين هذه التعريفات يرجع إلى أن عبارة البتكوين عند إطلاقها تنصرف إلى ثلاثة أمور، وهي: وحدة العملة ويرمز لها بـ"BTC"، والشبكة الإنترنتية "البروتوكول" التي تعتمدها هذه العملة في الإنتاج والتعامل، والبرامج المساعدة في التعامل بها[9].

والذي يظهر للباحث أن البتكوين هي وحدات رقمية مشفرة غير خاضعة لسلطة مركزية، وتوفر نظام دفع عالمي تعتمد قيمتها على خصائص البرمجة والرياضيات، ويتحدد سعرها بالقيمة التبادلية، وسيأتي شرح مفردات هذا التعريف عند الحديث عن خصائص البتكوين.

وتعتبر البتكوين أول عملة رقمية طرحها شخص أطلق على نفسه الاسم الرمزي "ساتوشي ناكاموتو" للمرة الأولى في ورقة بحثية في عام 2008، ووصفها بأنها نظام نقدي إلكتروني يعتمد في التعاملات المالية على مبدأ الندّ للندّ (Peer-to-Peer)، وهو مصطلح تقنيّ يعني التعامل المباشر بين مستخدم وآخر دون وجود وسيط، ثمّ قام بترك المشروع دون توضيح الأسباب[10].

ثانياً: خصائص البتكوين

تتمتع البتكوين بمجموعة من الخصائص التي تميزها عن غيرها من العملات، سواء أكانت عملات حقيقية أم عملات افتراضية، ومن هذه الخصائص[11]:

1. نقد افتراضي يتداول عن طريق الإنترنت، وليس له وجود فيزيائي على أرض الواقع.

2. نقد معمى يعتمد على التشفير من جميع جوانبها، فهي تتمتع بدرجة عالية من الأمان.

3. نقد لا مركزي غير خاضع لأي سلطة مركزية، ولا يمكن تخصيص قواعد ولا مزايا ضمن قواعد شبكة البتكوين الحالية، كما لا يتم الاعتماد على الوسطاء من أجل إدارتها.

4. لا يوجد من يتحكم فيها أو يغير من بروتوكلاته، بل يتم التحكم بها من قبل جميع مستخدمي البتكوين من جميع أنحاء العالم، بينما يقوم المطورون بتحسين البرنامج، ولا يمكنهم فرض تغيير في بروتوكول البتكوين، لأن جميع المستخدمين لديهم مطلق الحرية لاختيار أي برنامج أو إصدار يمكنهم استخدامه[12]، ولا يمكن تعديل بروتوكول البتكوين نفسه بدون مشاركة جميع مستخدمي البتكوين تقريباً.

5. كميتها محدودة، فكلّ بتكوين جديد يتم إصداره وفق جدول زمني منتظم يمكن التنبؤ به، وبمجرد أنْ يصل العدد الإجمالي للبتكوين إلى 21 مليون عملة سوف يتوقف إصداره إلى الأبد.

6. السرّية، فلا يمكن لأحد أن يراقب تعاملات مستخدمي البتكوين.

7. العالمية، فهي تتيح لأيّ أحد في العالم التعامل بها، ولا تتركز بمنطقة جغرافية معينة.

8. تعتمد قيمتها المالية البتكوين على خصائص البرمجة والرياضيات، أي أنّ البتكوين لها خصائص الأموال (الصمود، القابلية للحمل، التبادلية، الندرة، القابلية للقسمة وسهولة التعامل به)، وهذه الخصائص توفرها برامج تعتمد على معادلات رياضية، فهي تختلف عن الذهب والفضة في اعتمادهما على خصائصهما المادية، وتختلف أيضاً عن العملات الورقية في اعتمادها على الوثوق بالسلطات المصدرة، ويتحدّد سعر البتكوين بالطلب والعرض في الأسواق العالمية.

المبحث الأول

النقود في المنظور الفقهي والاقتصادي

المطلب الأول: معيار النقود في المفهوم الاقتصادي

اشتهر بين المتخصّصين تعريف النقود في الاقتصاد بأنها كلّ شيء يلاقي قبولاً عاماً بين الناس وسيطاً للتبادل أو لإبراء الديون[13].

وعرف القانونيون النقود بأنها أيّ شيء له القدرة قانونياً على إبراء الذمة من الديون، فالاقتصاديون لم يشترطوا أن تتمتع النقود بخاصية إبراء الذمم من الديون، وقد ظهر هذا الخلاف في العصر الحديث مع ظهور نقود الودائع أو النقود الكتابية التي تتمتع بوظائف النقد، وتلقى القبول العام، ومع ذلك فلم تكن ملزمة قانونياً في إبراء الذمم من الديون، ولذلك فالتعريف القانوني ليس مقبولاً عند الاقتصاديين؛ لأنّ الناس قد يتوافقون على نقد ولم يعترف به القانون كالودائع المصرفية، وقد يرفضون التعامل بنقد أقرّه القانون[14].

ولذلك فقد ظهر مفهوم النقد ومفهوم العملة، فالأول أكثر شمولاً من الثاني، وأما الثاني فهو ما يعتبره القانون نقداً، ويستمد دعمه من إلزام القانون.

والذي يظهر للباحث أن النقود هي كل ما يتمتع بالقبول العام في سداد المدفوعات، والمدفوعات تشمل قيم السلع والخدمات الحاضرة والمؤجلة، وبذلك يدخل مفهوم النقود الورقية والودائع تحت الطلب والذهب في مفهوم النقود، وأما القبول العام فيشمل ما يتعارف عليه الناس أو يحدده القانون أو القيمة الذاتية.

وقد اصطلح الاقتصاديون على مجموعة وظائف أساسية ينبغي أن تتوافر في النقد، وهي :[15]

1. وسيط للتبادل: فوظيفة النقود تتحقق بواسطة أي شيء يلقى قبولاً عاماً في المبادلة مقابل السلع والخدمات، والمطلوب من الشيء الذي يسمى نقداً هو الاستعداد التامّ للأفراد لقبول هذا الشيء في المبادلة.

2. مقياس للقيم: فالوحدة النقدية تستخدم كوحدة يمكن بواسطتها قياس قيم السلع والخدمات، وتتضح أهمية النقود كمقياس للقيمة من خلال الصعوبات التي واجهت التعامل بأسلوب المقايضة، إذ لم يكن يتوافر وحدة مشتركة يعتمد عليها معيار لقياس قيم السلع والخدمات المختلفة، وبعد استخدام النقود في التداول تمكن الناس من اعتمادها أساساً يتم بموجبه تحديد الأثمان والقيم، بالإضافة إلى أنها تسهل عملية المحاسبة.

3. مخزن للقيم: فحامل النقود يعتبر حاملاً لقوة شرائية عامة يستطيع أن ينفقها عبر الزمن، وذلك للحصول على السلع التي يرغب في شرائها في الوقت المناسب، وهو يعلم أنها ستكون مقبولة في أي وقت، وعلى ذلك فالنقود مخزن جيد للقيمة، مما يجعل منها أداة مهمة للادّخار، ولا تقتصر هذه الوظيفة على النقود، فيمكن أن تشمل أي أصل ذا قيمة كالأسهم والسندات.

4. وسيلة للمدفوعات الآجلة: فعندما تصبح النقود مقياساً للقيمة ووسيطاً للتبادل، فإن لا يمكن تجنب أن تصبح وسيلة للمدفوعات الآجلة أو الدفع في المستقبل.

فالوظيفة الأولى والثانية تعتبران وظائف رئيسية للنقد؛ من حيث إنها ارتبطت بنشأة النقود، وتم التغلب بواسطتها على صعوبات المقايضة، وتعمل على تسيير الحياة الاقتصادية، وأما الوظيفة الثالثة والرابعة فتعتبران وظائف ثانوية، من حيث إنها تؤثر على مستوى النشاط الاقتصادي ومستويات نموه[16].

المطلب الثاني: الموقف الفقهي من حقيقة النقود وتطوره

جاء الإسلام بالأحكام الشرعية التي تنظم حياة المجتمعات وترشدهم إلى طريق الهدى والرشاد، وكانت النقود التي يتعامل فيها الناس آنذاك الذهب والفضة، ولذلك جاءت النصوص الشرعية لتضبط التعامل بهذه النقود بما يضمن تحقيق العدل ومنع الظلم، فأوجب الإسلام الزكاة على الذهب والفضة إذا بلغا نصاباً معيناً؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]، وحرم الربا في مبادلة الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالفِضَّةَ بِالفِضَّةِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالفِضَّةِ، وَالفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ)[17].

وفي العصر الإسلامي الذي تلا عصر الوحي والتشريع ظهر نوع جديد من النقد وهي الفلوس، ولم يكن الناس يتعاملون بها كالذهب والفضة، وإنما كانت وسيلة لتبادل السلع المحقرة، وقد اختلف الفقهاء في حكمها، فكان كثير منهم –ومنهم المالكية والشافعية– يرى قصر النقدية على الذهب والفضة، وسموهما بجوهر الأثمان، وسموا علة النقدية فيهما بالعلة القاصرة[18]، ورأوا أن الفلوس عروض وليست أثماناً، وذهب بعضهم –وهو قول مقابل المشهور عند المالكية– إلى اعتبارها نقداً؛ جاء في المدونة على مذهب الإمام مالك: (قلت: أرأيت إن اشتريت فلوساً بدراهم فافترقنا قبل أن نتقابض قال: لا يصلح هذا في قول مالك وهذا فاسد، قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة)[19]، وبالجملة فالفلوس لم تكن عملة تضاهي النقود الذهبية والفضية في ذلك الوقت، ولا مجال للحديث عن قياس الأوراق النقدية على الفلوس.

وقد ظهر في العصور الحديثة ما يسمى بالأوراق النقدية، ففي البدايات كانت صكوك تمثل نقوداً معدنية (الذهب والفضة) مودعة عند الصاغة والصيارفة، ولما ازدادت ثقة الناس بهذه الصكوك أصبح المودعون يتداولون صكوك الصيارفة بدلاً من المعادن النفيسة لما في حملها من مشقة وخطر، ثمّ لما كثر تداول هذه الصكوك في السوق تطورت هذه الأوراق إلى صورة البنكنوت، فكانت البنوك تصدرها بغطاء كامل من الذهب، وتتعهد بدفع قيمتها من الذهب، ثم تطور الأمر عما كان عليه حتى تم الإعلان أخيراً عن انفصال الأوراق النقدية عن الغطاء الذهبي في سنة 1971م، وأصبحت الأوراق النقدية نقداً مستقلاً يمثل قوة شرائية إلزامية، وقد استقر عند الفقهاء اليوم -ومنهم  مجمع الفقه الإسلامي الدولي[20] والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي[21] - أن الأوراق النقدية تعتبر نقداً مستقلاً تجري عليه أحكام النقود المعدنية من الربا والزكاة وغيرها؛ لأن الناس اليوم قد تعارفوا على اعتبار الأوراق النقدية نقوداً حقيقية، ولا مجال للحديث عن قياس الأوراق النقدية على الفلوس؛ لأنّ الفلوس لم تكن تضاهي الذهب والفضة، وأما الأوراق النقدية اليوم فقد راجت على الذهب والفضة، وأصبح استخدامهما محصورا في الوقت الحاضر، فالفتوى بعدم ربوية الأوراق النقدية يفتح باب مفاسد الربا ويعطل أحكام الزكاة، فتكون الأوراق النقدية على القول بأن علة الربا جوهرية الأثمان أثمانا ملحقة بالذهب والفضة، وتكون على القول بعلة مطلق الثمنية أثماناً مستقلة بحدّ ذاتها، والذي يميل إليه الباحث القول الثاني.

وقد ظهر في العصر الحديث نوع من النقود يسمى بنقود الودائع أو النقود الكتابية، وهي مكونة من الودائع الجارية والودائع تحت الطلب في البنوك، وهي تمثل تعهداً بالدفع نقداً في صورة قيد كتابي أو دفتري في سجلات البنك، يتضمن التزام البنك بدفع مبلغ معين من النقود الورقية يقوم المستفيد بإيداع قيمتها على شكل رصيد في الحساب الجاري[22]، ومن ثمّ يتم تداول هذه النقود عن طريق الشيكات المصرفية والتحويلات الإلكترونية –على عرف كثير من الدول التي لم تعتبر الشيك نقداً-، ومع أنّ القوانين لم تعتبرها نقداً فإن أهل الاقتصاد يعتبرون هذه الودائع نقداً حقيقياً، وقد ذهب عدد كبير من الباحثين في الاقتصاد الإسلامي ومنهم مجلس الفكر الإسلامي بباكستان إلى أن نقود الودائع لا تتعارض مع الإسلام[23].

وبذلك يتبين أن الإسلام لم يأت بنظام نقدي جديد، ولم يشترط شكلاً معيناً، بل ترك ذلك لعرف الناس، وإنما ضبط دور النقود في أحكام خاصة لتؤدي دورها الاقتصادي بكفاءة.

المطلب الثالث: كفاءة النقود في النظام الإسلامي

تعتبر النقود أداة لتحقيق وظائف معينة –تقدم ذكرها-، ولذلك فكفاءة النقود في النظام الإسلامي لا تتطلب شكلاً معيناً، وإنما ترد كفاءة النقود إلى أداء وظائفها بشكل كامل[24]، ويؤكد هذا المعنى كلّ من الغزالي وابن تيمية، فيقول حجة الإسلام الغزالي: "خلقهما– أي الذهب والفضة– اللهُ تعالى لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى وهي التوسل بهما إلى سائر الأشياء"[25]، ويقول الإمام ابن تيمية: "وأما الدرهم والدينار فما لا يعرف له حدّ طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح؛ وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به"[26].

ولكي تؤدي النقود وظائفها بشكل كامل يجب أن تكون مستقرة القيمة، فمقصد المحافظة على قيمة النقد كما يقول الدكتور عبد الجبار السبهاني هو مطلب شرعي أكيد من الناحية الحقوقية والاقتصادية، فالله سبحانه وتعالى أمر بالعدل، وما من شكّ أنّ استقرارية قيمة الوحدة النقدية، شرط للعدل في المعاملات، وهذا -وإن لم يرد به نصّ توقيفيّ- فهو أمر مدرك عقلاً، وما لا يتمّ الواجب (العدل) إلا به فهو واجب[27].

يقول الإمام ابن القيم: " فإنّ الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوّم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة"[28].

ولم يكتفَ الإسلام بوجوب المحافظة على استقرار النقد، بل أوكل مهمة إصدار النقد والرقابة عليه إلى الدولة؛ يقول الدكتور عبد الجبار السبهاني: "والحقّ أن مسؤولية الدولة عن إصدار النقد وإدارته، حتى وإن لم يسنده نصّ توقيفي، فهو من باب المصالح المرسلة التي لا يُستغنى فيها عن الدولة أبدًا"[29].

ولذلك فقد اتجه جماهير الفقهاء إلى حصر الإصدار النقدي بالحاكم، جاء في كتاب "كشاف القناع" على المذهب الحنبلي: "ينبغي للسلطان أن يضرب للرعايا فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم لهم تسهيلاً عليهم، وتيسيراً لمعاشهم... وقال أحمد في رواية جعفر بن محمد: لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان؛ لأن الناس إن رخص لهم ركبوا العظائم، قال القاضي في الأحكام السلطانية: فقد منع من الضرب بغير إذن السلطان؛ لما فيه من الافتيات عليه"[30].

وقد اعتبر العلامة ابن خلدون وظيفة السكة –وهي النّظر في النّقود المتعامل بها بين النّاس وحفظها ممّا يداخلها من الغشّ– وظيفة ضروريّة للملوك والدول؛ إذ بها يتميّز النقد الخالص من المغشوش بين النّاس في النّقود عند المعاملات ويتّقون في سلامتها الغشّ بختم السّلطان عليها بتلك النّقوش المعروفة[31].

وقد اختلف الباحثون المعاصرون في مسألة إذن الدولة للمصارف الإسلامية بإصدار نقود الودائع، وكان رأي كثير منهم جوازه في إطار السياسة النقدية ورقابة الدولة؛ واستندوا في ذلك إلى أنّ حقّ الدولة في إصدار النقد عند جمهور الفقهاء بيد الدولة أو من تأذن له الدولة ولو كانت مؤسسات خاصة، فحقّ الدولة المقرّر عند الفقهاء لا يتعارض مع قيام المصارف بإصدار نقود الودائع، بينما ذهب البعض إلى حصر إصدار النقد بالدولة أو مؤسسات الدولة كالبنك المركزي؛ لأنّ تمليك حقّ الإصدار لغير الدولة يعني تطفيف قيمة النقود المتاحة في محيط التداول، بمعنى زيادة حجم النقود مقابل حجم الناتج، وهذا يتعارض مع مقصد استقرار قيمة النقد[32].

والذي يظهر للباحث أنّ طبيعة النظام الاقتصادي الإسلامي تقلّل من مخاطر توليد النقود الائتمانية، فالنشاط الإقراضي محدود النطاق لعدم وجود فوائد ربوية، وأما الأنشطة التمويلية والاستثمارية فهي توازن بين التدفقات السلعية والنقدية، وبالتالي فإنّ التحفظات التي قيلت عن السماح للمصارف الإسلامية بتوليد نقود الودائع تنبع من مشاهدة الآثار التي خلفها النظام الاقتصادي الربوي[33].

وبذلك يتبين للباحث أنّ كفاءة النظام النقدي في الإسلام يتطلب المحافظة على استقرار النقد وحصر حقّ إصدار النقد بيد الدولة أو من تأذن له في إطار الرقابة والسياسات النقدية.

المبحث الثاني

البتكوين من منظور اقتصادي

المطلب الأول: حجم التعاملات والمضاربات المالية بالبتكوين

أولا: طرق الحصول على البتكوين

يمكن لكل فرد الحصول على البتكوين عن طريق الوسائل الآتية[34]:

1. شراء البتكوين من منصات التداول.

2. مبادلة البتكوين مع شخص آخر يملكها.

3. قبول البتكوين ثمناً للمنتجات والخدمات.

4. التنقيب عن البتكوين "Mining".

فالوسائل الثلاثة الأولى هي وسائل متاحة معروفة لمستخدمي الشبكة العنكبوتية منذ زمن، والذي يعنينا في هذا المقام الكلام عن مصطلح التنقيب.

فالتنقيب أو ما يسمى بالتعدين يمكن تعريفه باختصار أنه عملية استخدام قدرة الكمبيوتر لإنشاء عملات بتكوين جديدة، فهو يتطلب برنامج تشغيل يتم تنزيله مجاناً على أجهزة متخصصة ذات مواصفات عالية، ويقوم البرنامج بالتنقيب عن البتكوين عن طريق برمجة معينة تعتمد على قوة الحاسوب المعالج، وتتطلب حلّ الكثير من الألغاز والمعادلات لكشف سلسلة طويلة من الأرقام والحروف لإصدار البتكوين، وكلما زادت عمليات التنقيب كلما أصبحت الألغاز أصعب.

ويتم تسجيل كل عملية في سجل عامّ يسمى "Block Chain"، والذي يضم معلومات عن الحسابات التي تم استخدامها في التنقيب والتبادل وعدد وحدات البتكوين التي تم تبادلها، وذلك لتحليل المعلومات والتأكد من أنّ المتعاملين لا يتعاملون بالوحدات نفسها بشكل مستمر.

ويتم تخزين البتكوين التي تم إنتاجها في المحفظة الخاصة لكل مستخدم، كما يتم إضافة توقيع إلكتروني إلى عملية التحويل، وبعد دقائق قليلة يتم التحقق من العملية من قبل النظام الخاص بها، ثم يتم تخزينها بشكل مشفر مجهول في شبكة البتكوين[35].

تحصل عملية تنقيب كل عشر دقائق تقريباً، وما زالت العملية مستمرة حتى نفاذ الكمية القصوى المحددة للبتكوين وهي 21 مليون وحدة بتكوين، ويمكن لأي شخص أن يقوم بالتنقيب، ولا تحتاج إلى أي جهة خاصة لتقوم بعمل الوسيط، كما لا يوجد جهة حكومية أو دولية تقوم بإصدار البتكوين، وتتطلب عملية التنقيب تكاليف مرتفعة متمثلة في قيمة الأجهزة والطاقة المبذولة وحجم الجهد الذي يحتاج إلى إصدار وحدة البتكوين[36].

ثانيا: حجم التعاملات التجارية بالبتكوين:

لم يتم استعمال البتكوين على أرض الواقع مع بدء إنتاجها عام ٢009م، بل تأخر العمل بها إلى عام 2010م، حيث كانت أول عملية حقيقية للشراء هي شراء "بيتزا" بقيمة 10 آلاف بتكوين، ثم توالت التعاملات بشكل مكثف في الآونة الأخيرة[37].

وقد قامت شركات كبيرة باعتماد البتكوين كوسيلة دفع، مثل ديل (Dell) وبايبال (PayPal) ووردبرس (WordPress) وشوبيفاي (Shopify) وسلسلة المطاعم الشهية صب وي وغير ذلك[38]، وذكرت بعض المواقع أنّ أكثر من مائة ألف متجر حول العالم تقبل الدفع بالنقود الرقمية[39]، ويقدم موقع (usebitcoins) خريطة للشركات التي تقبل بالدفع بالنقود الرقمية حول العالم[40].

فيمكن أن نستنتج من ذلك كله أنّ البتكوين قد أصبحت وسيلة مقبولة للدفع عند كثير من الشركات العالمية؛ نظراً لسهولة استخدامها وتحويلها على السوق الإلكتروني، وبما أن السوق الإلكتروني قد كبر حجمه بشكل كبير في الآونة الأخيرة، فقد كان لذلك أثر كبير على اعتماد البتكوين كوسيلة دفع.

ثالثاً: المضاربات المالية بالبتكوين:

من أبرز استخدامات البتكوين الأكثر شعبية اليوم هو استخدامها لأغراض التداول والمضاربة، ويحصي موقع " coinmarketcap.com" 400 منصة لتداول البتكوين، ويبين الشكل المجاور حجم التداول على البتكوين[41]:

والمتابع لأسعار البتكوين وحجمها السوقي يرى تذبذباً كبيراً جداً، ويبين الجدول المجاور أبرز موجات الهبوط الحادة التي تعرضت لها البتكوين[42]:

 

معدل الهبوط

الفترة الزمنية

السبب

% 94

يونيو 2011م

بداية تعرض منصة  MtGox – وهي المنصة العالمية الرئيسية للتداول البتكوين –  للاختراق.

% 36

يناير 2012م

تعرض منصة " Linode" للاختراق

توقف "Paxum" شركة الوساطة المالية عن دعم بتكوين.

% 25

مارس 2013م

انقسام بتكوين  Fork، بشكل غير متوقع.

% 79

أبريل2013م

توقف منصة "MtGox" عن العمل بشكل غير متوقع.

% 49

فبراير 2014م

تعرض منصة "MtGox" للاختراق بموجة أكبر من الأولى.

% 36

يونيو 2017م

انتشار أخبار انقسام بتكوين  Fork، تمهيداً لظهور بتكوين كاش Bitcoin Cash .

% 40

سبتمبر2017م

الإعلان عن حزمة من التشريعات الصينية التي تحد من تداول بتكوين والعملات الرقمية.

% 48

يناير 2018م

قامت كوريا الجنوبية بحظر تداول العملات الرقمية، وأصدرت الصين المزيد من التشريعات.

 

 

فهذه الصورة العامة لأسعار وحدة البتكوين السوقية وحجمها في التداول، فهي شديدة التذبذب وتثير الريبة والقلق اتجاهها، ولهذا منعت أغلب الدول من التعامل بها، كما سيأتي في الفصل القادم، وبهذا يمكن القول بأن البتكوين ليست مخزناً أميناً للقيم.

المطلب الثاني: مخاطر البتكوين الاقتصادية

يترتب على التعامل بالبتكوين كثير من المخاطر؛ وذلك لعدم وجود جهة تضمن مخاطرها أو تتحكم فيها على الأقل، ويمكن استعراض أهم المخاطر فيما يأتي:

أولاً: عدم استقرار قيمة البتكوين

يتحدّد سعر البتكوين بالعرض والطلب، فلا يوجد قيمة ذاتية للبتكوين، وتشكل التقلبات الكبيرة في سعر البتكوين في قيمتها عائقاً كبيراً أمام انتشارها ورواجها، ففي 22 ديسمبر 2017 خسرت البتكوين ما يقارب ثلث قيمتها في خمسة أيام فقط[43].

ويرى "كامبل هارفي"، أستاذ الماليات بجامعة "ديوك" بالولايات المتحدة، أن البتكوين مسار مضاربات بحت، ينبغي أن تكون مستعداً لتفقد كل شيء، مشيراً إلى أن التقلب مثلاً يحدث في سوق الأسهم أيضاً، ولكن البتكوين أكثر تقلباً من أي نوع آخر من الأصول[44].

وشبه وزير المالية اليوناني السابق ينيس فاروفاكيس "البتكوين" بفقاعة "التوليب" التي حدثت في القرن الـ17 وتسببت في خسائر كبيرة، وأزمة التوليب كانت قد حدثت في هولندا في القرن السابع عشر وارتفعت فيها أسعار الزهور 20 ضعفاً، ثم انخفضت في العام نفسه بنسبة 99%[45].

ثانياً: ارتباطها بأعمال غير مشروعة

تعتبر البتكوين ملاذا للإرهابيين والعصابات وأصحاب الأعمال المشبوهة للقيام بأعمال تحويل الأموال في ظل عدم وجود رقابة عليها، وزادت التهديدات بشأن إمكانية ارتفاع حجم عمليات غسيل الأموال عالمياً، ويحذر الخبراء من إمكانية أن يتسبب انتشار البتكوين دون رقابة البنوك المركزية إلى زيادة عمليات غسيل الأموال والتسبب في عمليات احتيالية ضخمة[46].

كما حققت سوق تجارة المخدرات عبر الإنترنت عن طريق الموقع المعروف باسم "طريق الحرير" إيرادات قدرها 1,2 مليار دولار، وجذبت نحو 200 ألف مستخدم مسجل؛ وذلك من خلال استخدامها البتكوين على مدار عامين من التشغيل، حتى جاء قرار مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي بإغلاقه في أكتوبر 2014 بتهمة الإتجار بالمخدرات غير المشروعة، فيما أكدت الدائرة الفيدرالية الروسية لمكافحة المخدرات أن عصابات تجارة المخدرات أصبحت تعتمد على نطاق واسع على النقود الافتراضية الإلكترونية (بتكوين) في حساباتها المتعلقة بتجارة المخدرات[47].

وأما بخصوص تمويل الإرهاب؛ فقد صدر عن تنظيم داعش بيان "بتكوين وصدقة الجهاد" الذي شدد فيه على ضرورة استعمال البتكوين لتمويل الأنشطة الجهادية، وجاء في الوثيقة أن البتكوين تمثل حلاً عملياً للتغلب على الأنظمة المالية للحكومات، وشرحت كيفية استخدامها وإنشاء الحسابات المالية على الإنترنت، ونقل الأموال دون لفت انتباه أي أحد[48].

ثالثاً: التعرض للقرصنة الإلكترونية

تمثل القرصنة الإلكترونية أحد أكبر مخاطر البتكوين، بحيث لا يستطيع المجني عليه استرداد الأموال المسروقة، أو السعي بإجراءات قانونية جراء ذلك، وقد أظهرت دراسة صادرة عن جامعة "كارينجي ميلتون" أنه منذ نشأة البتكوين عام 2009 وحتى شهر مارس عام 2015 فإن 33% من جميع تبادلات البتكوين التشغيلية في تلك الفترة تعرضت للاختراق والسرقة الإلكترونيين[49].

رابعاً: خطر البتكوين على الاقتصاد العالمي

تزيد مخاطر البتكوين على الاقتصاد العالمي بسبب انفصالها عن أية سياسة نقدية رشيدة، مما يضرّ بقدرة الدول على تحقيق مصالح المجتمع، ويرسخ فلسفة سوء توزيع الثروات في العالم، ولذلك يرى وزير المالية اليوناني السابق فاروفاكيس أن الفلسفة الأساسية التي يقوم عليها البتكوين، وهي تحديد كمية المعروض من المال مسبقًا دون النظر إلى دورة الأعمال أو حالة الاقتصاد أو العملية السياسية، يرى أنها ترسّخ وتؤكّد على عدم المساواة في الثروة[50].

كما تعمل زيادة المضاربات الوهمية عليها بشكل كبير مقارنة بحجم التبادلات الإلكترونية الحقيقية انفصالاً عميقاً بين الاقتصاد الحقيقي والوهمي، ويفسر فاروفاكيس ذلك قائلًا: كل ما عليك فعله هو أن تُلقي نظرة على رسمين بيانيَّين: الأول يعبِّر عن قيمة البتكوين بالدولار بمرور الوقت والتي تشهد تزايدًا أُسيًّا، والثاني يوضِّح عدد المعاملات التي تتمّ والخدمات والسلع التي يتم شراؤها باستخدام بتكوين، مشيرًا إلى تضخّم سعر البتكوين مقارنةً باستخدامه الفعلي، ولذلك فالبتكوين ما هي إلا فقاعة بدون شك[51].

خامساً: عدم اعتراف أغلب دول العالم بها

تباينت مواقف البنوك المركزية العالمية ما بين أكثرية معارضة وأقلية مؤيدة، وقد حذر البنك الأوروبي المركزي والفرنسي والياباني والهولندي والروسي والنيوزلندي والاسترالي ومؤسسة النقد السعودي، وصدر عن البنك المركزي الأردني تعميم عام 2014 بمنع التعامل بالبتكوين[52].

فوجود التشريعات والقوانين الناظمة للعملة تزيد من كفاءتها وتجعل رواجها منتشراً بشكل أكبر في التبادلات الحاضرة والآجلة، كما تجعلها مخزناً أميناً للقيم، من خلال حمايتها من محاولات السرقة والاختلاس وفضّ النزاعات الواقعة بين أطراف المتعاملين بها والتحكم في استقرارها.

وقد صدر تقرير حول العملات الرقمية عن بنك التسويات الدولي BIS في سويسرا، والذي يعتبر البنك المركزي العالمي للبنوك المركزية الوطنية، وقد وصف التقرير العملات الرقمية الافتراضية مثل بتكوين وإيثريوم ولايتكوين وغيرها بأنها خطرة وضارة وعديمة القيمة ووسيلة لانهيار قيمة الأصول، وأشار التقرير إلى أن العملات الرقمية تصبح بلا قيمة من خلال عمليات الغش أو الاختراق الرقمي، وغالباً ما يتم التداول فيها عبر صناديق وهمية تودي بثروة المواطنين بعيداً عن قواعد التعامل الرسمية، ولأنّ تلك العملات وتداولها لا يخضع لأي قواعد، فلا يوجد أي سند لها في حال خسارة المتعامل لثروته وهو خطر حقيقي مع وجود آخرين لديهم مهارات اختراق أوسع تمكنهم من خطف ثروة غيرهم، وخلص التقرير إلى أنّ مشكلة العملات الرقمية الافتراضية ليست في التكنولوجيا من ناحية الأمان أو سهولة الاختراق، ولكنها مشكلة بنيوية بالأساس يصعب حلها بإخضاعها للقواعد أو التنظيم[53].

المبحث الثالث

البتكوين تقدير اقتصادي إسلامي

المطلب الأول: عرض الاتجاهات المعاصرة في حكم البتكوين

تقتضي الأمانة العلمية في دراسة المسائل المستحدثة عرض الآراء العلمية المتعلقة بالمسألة، ولأن الآراء قد تكثر وبعضها قد يكون اجتهادات فردية، فسيكتفي الباحث بعرض الفتاوى الجماعية لأهميتها ورواجها، وفيما يأتي بيان لأهم الفتاوى التي صدرت بخصوص البتكوين:

أولاً: فتوى رئاسة الشؤون الدينية التركية

تعتبر رئاسة الشؤون الدينية التركية أول مؤسسة شرعية تصدر فتوى في موضوع البتكوين، وقد ورد في مقدمة الفتوى "من المعروف أن هذه العملات المشفرة ليست تحت سلطة مركزية، وبالتالي فإنها لا تقع تحت ضمانة الدولة, وفي هذا السياق فإنه يمكن استعمالها في عمليات المضاربة وغسيل الأموال, مما يجعل من غير المناسب التعامل بها"، وعللت الفتوى حكم التحريم بكونها لم تصدر عن جهة حكومية وارتباطها بأعمال غير مشروعة والمضاربات التي تجري عليها[54].

ثانياً: فتوى دار الإفتاء الفلسطينية

وأما دار الإفتاء الفلسطينية فكانت فتواها أكثر تفصيلاً من الفتوى التركية؛ حيث جاء في مقدمة الفتوى تعريف البتكوين وشرح عن عملية التعدين وخصائص البتكوين، ورأت الفتوى أن البتكوين لم يتوافر فيها شروط النقد الشرعي؛ بسبب وجود فروق بين البتكوين والنقد الشرعي، فيجب أن يكون النقد الشرعي قد صدر عن سلطة معلومة لا مجهولة، كما يجب أن يكون النقد الشرعي مقياساً عاماً للسلع والخدمات، والبتكوين لم تعترف به أكثر المؤسسات.

ثم عرضت الفتوى للحكم الشرعي بناء على ما سبق؛ حيث جاء في نهاية الفتوى ما نصه: "يرى مجلس الإفتاء الأعلى تحريم تعدين البتكوين... لاحتوائه على الغرر الفاحش، وتضمنه معنى المقامرة، كما لا يجوز بيعه ولا شراؤه، لأنه ما زال عملة مجهولة المصدر، ولا ضامن لها، ولأنها شديدة التقلب، والمخاطرة، والتأثر بالسطو على مفاتيحها، ولأنها تتيح مجالاً كبيراً للنصب والاحتيال والمخادعات... فلا يجوز التعامل بها لا تعديناً ولا بيعاً ولا شراءً"[55].

ثالثاً: فتوى دار الإفتاء المصرية

جاءت فتوى دار الإفتاء المصرية مطولة أكثر من سابقتيها، كما تميزت بالاستعانة بآراء أهل الخبرة والاقتصاد، وكان التخريج الفقهي فيها غنياً، وقد جاء في نصّ الفتوى بعد استعراض أهم السلبيات الاقتصادية للبتكوين ما نصه: "وعلى هذا لم تتوفر في عملة "البتكوين" الشروطُ والضوابطُ اللازمةُ في اعتبار العملة وتداولها...، هذا بالإضافة إلى أن التعامُلَ بهذه العملة يترتَّبُ عليه أضرارٌ شديدةٌ ومخاطرُ عاليةٌ؛ لاشتماله على الغرر والضَّرر في أشدِّ صورهما"[56].

وورد في نهاية الفتوى: "وبناءً على ذلك: فلا يجوز شرعًا تداول عملة "البتكوين" والتعامل من خلالها بالبيعِ والشراءِ والإجارةِ وغيرها، بل يُمنع من الاشتراكِ فيها؛ لعدمِ اعتبارِها كوسيطٍ مقبولٍ للتبادلِ من الجهاتِ المخُتصَّةِ، ولِمَا تشتمل عليه من الضررِ الناشئ عن الغررِ والجهالةِ والغشِّ في مَصْرِفها ومِعْيارها وقِيمتها، فضلًا عما تؤدي إليه ممارستُها من مخاطرَ عاليةٍ على الأفراد والدول".

رابعاً: بيان البتكوين الصادر عن مجموعة الاقتصاد الإسلامي على الواتس

تعتبر مجموعة الاقتصاد الإسلامي على الواتس مجموعة حوارية تتناقش في كثير من مسائل الاقتصاد الإسلامي، وتضم مجموعة من المتخصصين في الاقتصاد الإسلامي من مختلف أطراف العالم، ولم يستهدف بيان البتكوين إصدار فتوى، وإنما كان القصد تحرير محل النزاع في الموضوع، وقد انتقى الباحث هذا البيان وضمه إلى الفتاوى الجماعية السابقة لأهميته وشهرته.

جاء البيان في ثلاثين صفحة تقريباً، مستعرضاً في البداية الأوصاف الفنية للبتكوين بصورة دقيقة وموضوعية، كما استعرض البيان الفتاوى الرسمية الصادرة في الموضوع، ثم انتهى بخلاصة الأوصاف الشرعية المؤثرة في حكم البتكوين، حيث حصر القائمون على البيان أهم الأوصاف المؤثرة في حكم البتكوين في الآتي: جهالة المصدر، وجهالة مستقبل العملة، وغياب جهة الإصدار أو الجهة الضامنة، وجهات التنظيم والرقابة من قبل الحكومة، وكثرة المضاربات وعدم الاستقرار النسبي في القيمة، وكثرة الاستعمالات غير القانونية، وعدم تحقق الماليَّة والنَّقدية والثَّمنيَّة في البتكوين في الواقع[57].

وانتهى القائمون على البيان إلى رأيين:

القول الأول: يرى أن الأوصاف المؤثرة السابقة هي مناط الحكم الكلي للتحريم.

القول الثاني: يرى أن البتكوين قد حققت مناط النقدية باعتبار ما آلت إليه في الواقع من القدرة على تملك العملات، وتحقيق وظائف النقود في الجملة رغم عدم إصدارها من جهة حكومية، ولا يوجد حدّ شرعي أو اقتصادي يمنع ذلك، وأنّ الأوصاف المؤثرة السابقة خارجة عن ماهية البتكوين ولكلّ واحد منها حكم جزئيّ، والذي يظهر من متابعة البيان المذكور أنه كان أميل إلى القول بالجواز.

وبعد العرض السابق لأهم الفتاوى الجماعية في موضوع البتكوين، سيقوم الباحث بإبداء رأيه بخصوص موقف الفقه الإسلامي من البتكوين.

المطلب الثاني: تقدير اقتصادي شرعي للبتكوين

أولاً: تقدير اقتصادي للبتكوين

من خلال استعراض المعايير الاقتصادية يظهر للباحث أنّ البتكوين ليس بعملة؛ لعدم وجود اعتماد قانوني يلزم بالتعامل به، وأمّا بخصوص كونه نقداً فهذا يتوقف على أدائه لوظائف النقود.

فالبتكوين قد تستخدم كوسيلة للتبادل الحاضر عند من يعترف بها، فينقل البائع السلعة للمشتري، وينقل المشتري القيمة النقدية للبائع، وقد سبق الكلام عن أكثر من مائة ألف شركة تتعامل بها، وبالتالي فيمكن الكلام عن كونها حققت قبولاً عاماً.

والمراد بالقبول العامّ اتساع التعامل بها، فلا يقدح في ذلك عدم قبولها في كثير من أنحاء العالم، فإنّ النقود الورقية الخاصة بكل دولة لا تقبل خارج إطار بلدها، وتحتاج إلى الصرافة من قبل الصرافين، ومن المعلوم أن تطور الأسواق يختلف باختلاف الزمان والمكان[58].

وأمّا بخصوص كونها مقياساً للقيم ومخزناً لها، فهذا يتبع وظيفتها كأداة للتبادل، فما دام التعامل بها في إطار القبول -ولو كان محدوداً- فهي تحدد أثمان السلع والخدمات كما يمكن أن تكتنز قيمتها فيها لفترة من الزمن، والملاحظ أن هذه الوظيفة يشوبها الاعتراض، فتسارع ارتفاع أسعارها وانخفاضها يهلهل دورها كمخزن أمين للقيم.

وأمّا كونها وسيلة لتسوية المدفوعات المؤجلة، فهذه الوظيفة ما زالت ضيقة في إطار الدول التي اعترفت بها، وقبلتها كوسيلة لتسوية الالتزامات الحكومية.

والذي يظهر للباحث أن البتكوين –على الرغم من جريان التعامل بها كوسيلة للتبادلات الحاضرة– لم تحقّق وظائف النقد بكفاءة، وبالتالي فلا يوجد مسوغ اقتصادي للدفاع عن البتكوين، وأما النقود الرقمية الأخرى فينبغي أن تدرس كل واحدة منها على حدة، وعلى ذلك فلو وُجد نقد رقمي يحقق وظائفه الاقتصادية بكفاءة فيمكن اعتباره نقداً.

وأمّا بالنسبة لمكانة البتكوين في الأسواق المالية العالمية؛ فإنّ كثيراً من المتعاملين يعاملون البتكوين كأصل مالي، بالرغم من وجود تحذيرات عديدة من مآل البتكوين وتحولها إلى فقاعة في نهاية الأمر، حيث يرى ريتشارد ثالر وبول كروغمان الحائزان على جائزة نوبل للاقتصاد أن البتكوين ما هي إلا فقاعة من المرجح أن تنهار عاجلاً أم آجلاً[59]، في حين يرى وزير المالية اليوناني فاروفاكيس أنه في حال انهيار فقاعة البتكوين لن تتسبب في أزمة مالية كُبرى بالنظر إلى حجم سوقها والذي ما زال ضئيلاً مقارنة بالأسواق الأخرى[60]، وبالتالي فلا يمكن اعتبار البتكوين أصلاً مالياً مستقراً.

ثانياً: تقدير شرعيّ للبتكوين

يظهر للباحث الفهم الدقيق للموقف الفقهي من البتكوين يتأتى من التمييز بين ثلاثة مفاهيم، وهي:

الأول: نقدية البتكوين: فالإسلام أقرّ النقود التي يتعامل بها الناس، وبالتالي فإنّ مردّ نقدية البتكوين إلى العرف، وقد ضبط علم الاقتصاد المعاصر هذا العرف بمجموعة معايير، وهي توافر القبول والقيام بوظائف النقد، والقبول العام قد يكون مستنده القيمة الذاتية كالذهب، وقد يكون مستنده إلزام القانون كالأوراق النقدية، وقد يكون مستنده تعارف الناس بالتعامل به ثمناً للسلع والخدمات، وما زالت البتكوين لم تحقق وظائف النقد.

فالموقف الفقهي إذ يرفض التعامل بالبتكوين، فإنه لا يمانع وجود عملة رقمية في المستقبل القريب تحقق شرائط الكفاءة النقدية؛ لأن معيار النقدية العرف، والإسلام يعترف بأي نقد حقق شرائطه الاقتصادية.

الثاني: تعدين البتكوين والسماح بالتعامل به وهذه المسألة تعتبر من وظائف الدولة، وهي متعلقة بالسياسة الشرعية، ولا يجوز للدولة أن تتهاون في هذا الموضوع؛ لأن الاستقرار النقدي هو مفتاح الاستقرار الاقتصادي.

وقد سبق عرض أبرز المفاسد المترتبة على البتكوين –في الفصل السابق– من المخاطر الاقتصادية العالية مع عدم وجود رقابة وتشريعات ضابطة لتلك المخاطر، وضعف الحلول التقنية لشبكة البتكوين التي تتيح وجود تدخل حكومي لضبط البتكوين[61]، فلا يجوز للدول منح الإذن للتعامل بالبتكوين في الوضع الحالي؛ لأن المفاسد المترتبة على التعامل بها أكبر من المصالح المرجوة منها.

الثالث: المضاربات على البتكوين: ويتفرع الحكم على مضاربات البتكوين عن الحكم بجواز تعدين البتكوين، والموقف الفقهي يقضي بتحريم تعدين البتكوين وتحريم الإذن بالتعامل بها، وبناء على ذلك يحرم المضاربة بالبتكوين.

وبهذا التمييز الدقيق بين نقدية البتكوين، وهي مسألة اقتصادية، وترتب عليها ثبوت الأحكام المتعلقة بالنقد، وبين تعدين البتكوين وموقف الدول والتشريعات في الإذن بالتعامل به، وهي مسألة مرتبطة بالسياسة الشرعية (المصالح والمفاسد)، وبين المضاربة بالبتكوين، وهي مسألة متفرعة عن حكم تعدين البتكوين، يظهر أن كثيراً من الفتاوى التي صدرت في البتكوين –من وجهة نظر الباحث– قد تسرعت بإصدار التحريم المطلق أو الجواز المطلق، والله تعالى أعلم.

النتائج والتوصيات

بعد العرض البحثي لموضوع النقود الرقمية من منظور اقتصادي إسلامي البتكوين أنموذجاً، تبين للباحث النتائج الآتية:

أولاً: يعتبر علم الاقتصاد أربع شرائط لتحقق معيار النقدية: وهي كونها وسيلة للتبادل، ومعياراً للقيم، ومقياساً للقيم، ووسيلة للمدفوعات الآجلة، ولم تحقق البتكوين هذه الشرائط الأربعة، ومع ذلك فلا يمكن إنكار تعامل الناس بها كوسيلة للتبادلات الحاضرة.

ثانياً: لم يشترط الإسلام شكلاً معيناً للنقود، وإنما أكد على ضرورة تحقيق وظائفها بشكل كامل، وعلى ذلك فالموقف الفقهي إذ يرفض التعامل بالبتكوين؛ لكونها لم تحقق كفاءتها النقدية، فهو لا يمنع من وجود عملة رقمية في المستقبل القريب تحقق كفاءتها النقدية.

ثالثاً: توصل الباحث إلى أنه لا بد من التمييز بين ثلاثة مفاهيم متعلقة بالبتكوين وهي:

الأول: يتعلق بنقدية البتكوين، وهي مسألة اقتصادية، وقد ثبت بعد الدراسة أنّ البتكوين لم تحقّق وظائف النقد الاقتصادية بكفاءة.

الثاني: يتعلق بإصدار البتكوين كنقد وجواز التعامل به في المستوى القطري، وهي مسألة تتبع للسياسة الشرعية، ولا يجوز للدول السماح بها في ظل الوضع الراهن؛ لعظم حجم مخاطرها الاقتصادية، وصعوبة الرقابة عليها وضبطها في تشريعات وقوانين.

الثالث: يتعلق بالمضاربات على البتكوين، وهي مسألة فقهية تتفرع عن حكم تعدين البتكوين والتعامل بها، ولا يجوز اتخاذ البتكوين أصلاً مالياً للمضاربة عليها.

رابعاً: لا يصحّ إطلاق حكم مطلق على النقود الرقمية بشكل عام، بل يدرس كل نوع على حدة، ليتبين مصالح التعامل والمخاطر الاقتصادية المحتفة بها.

خامساً: يوصي الباحث بضرورة إيجاد نقود رقمية تصدر من سلطة مركزية، ووجود دراسات اقتصادية وقانونية في إطار هذا الموضوع.

 

(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الأول، 1440هـ/ 2019م.

 

الهوامش


[1] انظر: الشمري، ناظم محمد، النقود والمصارف، جامعة الموصل، الموصل، 1988م، ص33.

 [2]انظر: الشافعي، محمد إبراهيم، النقود الالكترونية، مجلة الأمن والقانون، دبي، السنة الثانية عشر، العدد الأول، يناير 2004، ص3.

[3] انظر: القحطاني، سارة ملتع، النقود الالكترونية حكمها الشرعي وآثارها الاقتصادية، رسالة دكتوراة، جامعة الكويت، 2008م، ص52، والشافعي، النقود الالكترونية، ص4.

[4] انظر: موقع cryptoarabe، https://goo.gl/zvdW8x.

[5] انظر موقع "coinmarketcap" ، https://coinmarketcap.com/.

[6] انظر: بيان منتدى الاقتصاد الإسلامي على الواتس بشأن مشروعية البتكوين بتاريخ 11/ 1/ 2018، ص9.

 [7]انظر: موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة، https://goo.gl/W6oK1k.

 [8]انظر: الموقع الرسمي للبتكوين، https://bitcoin.org/ar/faq.

[9]Anotonopoulos, A.M. (2014),Mastering Bitcoins, Chapter1, Introduction,O'Reilly Media, Inc.

 [10]انظر: الباحوث، عبدالله بن سليمان، النقود الافتراضية مفهومها وأنواعها وآثارها الاقتصادية، المجلة العلمية للاقتصاد والتجارة، كلية التجارة، جامعة عين شمس، القاهرة، العدد (1)، 2017م، ص22، وموقع الجزيرة نت، https://goo.gl/ZsZeqP.

[11] انظر: الموقع الرسمي للبتكوين، https://bitcoin.org/ar/faq، وأحمد، منير ماهر وآخرون، التوجيه الشرعي للعملات الافتراضية البتكوين أنموذجا، مجلة بيت المشورة، بيت المشورة للاستشارات المالية، دولة قطر، العدد (8)، إبريل 2018م، ص240، وبيان منتدى الاقتصاد الإسلامي على الواتس بشأن مشروعية البتكوين بتاريخ 11/ 1/ 2018، ص9.

 [12]انظر: موقع ويكيبيديا، https://goo.gl/W6oK1k.

 [13]انظر: الشمري، ناظم محمد، النقود والمصارف، مرجع سابق، ص33.

 [14]انظر: عيسى، موسى آدم، آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي، مجموعة دلة البركة، 1993م، ص20، والغزالي، عبد الحميد، أساسيات الاقتصاديات النقدية، دار النشر للجامعات، القاهرة، 2009م، ص153، وخليل، سامي، النقود والبنوك، شركة كاظمة للنشر والتوزيع، الكويت، 1982م، ص45.

[15] الشمري، النقود والمصارف، مرجع سابق، ص34-40، وخليل، النقود والبنوك، مرجع سابق، ص39-42.

 [16]انظر: الشمري، النقود والمصارف، مرجع سابق، ص36.

 [17]البخاري، صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالذهب، حديث رقم (2157).

 [18]انظر: ابن حجر، أحمد الهيتمي، تحفة المحتاج بشرح المنهاج، المكتبة التجارية الكبرى، 1983م، ج4 ص279، والصاوي، لأبو العباس الخلوتي، حاشية الصاوي على الشرح الصغير، دار المعارف، ج2 ص73.

 [19]مالك، مالك بن أنس، المدونة الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994م، ج3 ص5.

[20] انظر: موقع مجمع الفقه الإسلامي الدولي، http://www.iifa-aifi.org/1679.html.

[21]قرارات المجمع الفقهي الإسلامي، المجمع الفقهي الإسلامي، رابطة العالم الإسلامي، 2004م، ص99.

 [22]انظر: الغزالي، عبد الحميد، أساسيات الاقتصاديات النقدية، مرجع سابق، ص149.

 [23]انظر: عفر، محمد عبد المنعم، عرض وتقويم للكتابات حول النقود في إطار إسلامي، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، السعودية، 194م، ص79.

[24] السبهاني، النقود الإسلامية كما ينبغي أن تكون، ص11.

 [25]الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، 1994م، ج4 ص91.

 [26]ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوى، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1995م، ج19 ص252.

 [27]السبهاني، النقود الإسلامية كما ينبغي أن تكون، ص11، وانظر: شابرا، محمد عمر، نحو نظام نقدي عادل، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1990م، ص40.

[28]ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1991م، ج2 ص105.

 [29]السبهاني، عبد الجبار حمد، النقود الإسلامية كما ينبغي أن تكون، مجلة المالك عبد العزيز: الاقتصاد الإسلامي، م10، 1998م، ص12.

 [30]البهوتي، منصور بن يونس، كشاف القناع عن متن الإقناع، دار الكتب العلمية، ج2 ص232.

 [31]انظر: ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، تاريخ ابن خلدون، دار الفكر، بيروت، 1988م، ص322.

 [32]انظر: عفر، تقويم للكتابات حول النقود، مرجع سابق، ص104، والسبهاني، النقود الإسلامية كما ينبغي أن تكون، ص27، وعيسى، موسى آدم، آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي، مجموعة دلة البركة، 1993م، ص199.

[33] انظر: عفر، تقويم للكتابات حول النقود، مرجع سابق، ص79.

 [34]انظر: الموقع الرسمي للبتكوين، https://bitcoin.org/ar/faq.

 [35]الباحوث، النقود الافتراضية مفهومها وأنواعها وآثارها الاقتصادية، مرجع سابق، ص23- 24

[36] انظر: بيان منتدى الاقتصاد الإسلامي بشأن البتكوين، منشور على موقع موسوعة الاقتصاد والتمويل الإسلامي، http://iefpedia.com/arab/?p=40129، وعبد الله بن محمد، الأحكام الفقهية المتعلقة بالعملات الالكترونية، بحث منشور على موقع موسوعة الاقتصاد والتمويل الإسلامي، http://iefpedia.com/arab/?p=40125، ص11.

[37]العقيل، الأحكام الفقهية المتعلقة بالبتكوين، مرجع سابق، ص17.

[38] انظر: موقع عرب بت، https://goo.gl/qQNX4C.

[39] انظر: موقع صحيفة النهار، https://goo.gl/6fbVBw، وموقع alvexo، https://goo.gl/bqxfGh.

[40] انظر موقع usebitcoins، https://goo.gl/8ScD86.

 [41]انظر موقع coinmarketcap، https://goo.gl/BqU6i1.

[42] انظر: الفرهود، عبدالرحمن عبدالعزيز، بتكوين والعملات الرقمية: النشأة والاستخدامات والآثار، المؤتمر الدولي للاقتصاد الإسلامي14 -15 مارس 2018، غرفة تجارة وصناعة الكويت، الكويت، ص24.

[43] انظر: موقع العربية، https://goo.gl/GRbX7d.

[44] انظر: موقع الجزيرة، https://goo.gl/qQ7o5u.

[45] انظر: موقع ساسة بوست، https://goo.gl/swEzmf.

 [46]انظر: موقع ساسة بوست، https://goo.gl/WeVSEo.

 [47]انظر: موقع ساسة بوست، https://goo.gl/WeVSEo.

[48] انظر: موقع ساسة بوست، https://goo.gl/WeVSEo.

[49] انظر: موقع الجزيرة، https://goo.gl/qQ7o5u.

 [50]انظر: موقع ساسة بوست، https://goo.gl/swEzmf.

 [51]انظر: موقع ساسة بوست، https://goo.gl/swEzmf.

[52] انظر: موقع صحيفة الرأي، https://goo.gl/VoyMRL.

[53] انظر: موقع سكاي نيوز، https://goo.gl/FYL4BR.

[54] انظر: موقع مرآة سورية الإخباري، https://goo.gl/m2PbBy، شوهد بتاريخ 24-4-2018.

[55] انظر: موقع دار الإفتاء الفلسطينية، https://goo.gl/Ms3wun، شوهد بتاريخ 24-4-2018.

[56] انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، https://goo.gl/aAx528، شوهد بتاريخ 24-4-2018.

[57] انظر: بيان منتدى الاقتصاد الإسلامي بشأن البتكوين، مرجع سابق، ص23.

[58] انظر: أحمد، التوجيه الشرعي للعملات الافتراضية البتكوين أنموذجا، مرجع سابق، ص257.

 [59]انظر: جريدة القبس الالكتروني، https://goo.gl/68nPB5K، شوهد بتاريخ 24-4-2017.

[60] انظر: موقع ساسة بوست، https://goo.gl/swEzmf، شوهد بتاريخ: 24-4-2017.

 [61]انظر: منتدى الاقتصاد الإسلامي على الواتس، حوار منضبط حول البتكوين، ملف رقم (20)، ص137، مداخلة د. سارة القحطاني.

 

 

 

رقم البحث [ السابق --- التالي ]


اقرأ للكاتب




التعليقات

 

الاسم *

البريد الإلكتروني *

الدولة

عنوان التعليق *

التعليق *

Captcha
 
 

تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا