التأصيل الشرعي لمبدأ المؤاخذة عن الضرر الأدبي دراســة فقهيــة مقارنــة
الدكتور حارث محمد سلامه العيسى/ كلية الدراسات الفقهية والقانونية، جامعة آل البيت
ملخص
موضوع الضرر الأدبي والتعويض عنه موضوع مستجد، بحثه الفقهاء والعلماء والمعاصرون وذلك مجاراة للقانون المدني الذي كان له السبق في معرفة هذا الاصطلاح، ومبدأ التعويض عن الضرر الأدبي غير جائز، وليس له مستند شرعي يقوى لأن يكون جديراً بالتطبيق، والشريعة الإسلامية راعت حرمة الإنسان ولم تجعل الأمر عبثاً بل وضعت العقوبات التعزيرية الزاجرة عن هذا الفعل الضار في الضرر الأدبي وغيره كما أن السلطة التعزيرية الممنوحة للقاضي هي التي تخوله تقدير الضرر وإيقاع العقوبة المناسبة له من حبس أو ضرب أو كلمة حسب طبيعة الجناية وطبيعة الجاني وطبيعة المجني عليه وهذا كله من مبدأ الإصلاح وجعل المجتمع المسلم نقياً خالياً من أصناف الفواحش والرذيلة.
المقدمـة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم يسر لي أمري واشرح لي صدري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي إنك على كل شيء قدير.
أما بعد،
موضوع الضرر الأدبي من المواضيع التي لها أهميتها في الوقت الحاضر والتي تمس حياة الناس، وتشغل بالهم، لما فيه من مراعاة لمشاعر الإنسان وأحاسيسه واعتباره وعواطفه وكرامته، ناهيك عن حفظ حقوقه المادية. ثم إن مسمى الضرر الأدبي لم يكن معروفاً لدى الفقهاء القدامى، وإنما برز مسماه في ساحة الدراسات الفقهية المقارنة وفي القانون الوضعي، وإن كان القانون هو الذي عرف هذا المسمى مسبقاً وطوره الفقهاء ليكون له حكم شرعي. وذلك لتغير ظروف الحياة، وما استلزم ذلك من تغير أنماط الحياة، مما جعل التعدي على الحقوق الأدبية التي يجب أن يتمتع بها الإنسان في جسده وحياته وشرفه واعتباره وعواطفه أمراً وارداً.
وقد أدى ذلك إلى البحث عن بدائل شرعية تحكم ما استجد في حياة الناس، من سلوكيات تستوجب الضمان وتستلزم المستجد والوقوف على أصل يمكن معه أن تقوم عليه المسؤولية عما يحدثه المسؤول عن الضرر الأدبي. وهذا اضطر الباحثين عن شرعية الضرر الأدبي العودة إلى الأدلة العامة من الكتاب والسنة وأن يغوصوا في كتب الفقه، ليستخرجوا منها الأقوال الفقهية التي قد تفي بالغرض، من تلك المسائل الجزئية الكثيرة التي أوردوها في كتبهم، علهم يجدون ضالتهم في تأصيل الضرر الأدبي مجاراة للقانون المدني، حيث إنهم يقولون إن الشريعة الإسلامية قد جاءت تفي بكل الأحكام للمسائل المتطورة عبر الأزمان، الأمر الذي يكلفهم أن يبحثوا طويلاً عن أحكام في الفقه تُجاري ما اصطلح عليه علماء القانون.
مشكلة الدراسة:
تجيب الدراسة عن الأسئلة الآتية:
هل ما يصيب الإنسان في شرفه وعرضه من فعل أو قول يعد مهانة له في الشريعة الإسلامية؟
وهل أن ما يصيبه من ألم في جسمه، أو في عاطفته من ضرب لا يحدث أثراً، أو من تحقير في مخاطبته، أو امتهان في معاملته يعد محاسباً عليه في الشريعة الإسلامية؟
وهل تكون المؤاخذة أو المحاسبة في الشريعة الإسلامية عن الأضرار الأدبية بالتعويض المالي كما هو الحال في القانوني الوضعي؟
أهمية الدراسة:
تكمن أهمية الدراسة: في أن موضوع الضرر الأدبي من المواضيع التي لها أهميتها في الوقت الحاضر والتي تمس حياة الناس، وتشغل بالهم، لما فيه من مراعاة لمشاعر الإنسان وأحاسيسه واعتباره وعواطفه وكرامته ناهيك عن حفظ حقوقه المادية. والشريعة الإسلامية حرّمت كثيراً من التصرفات والأفعال والأقوال التي تلحق الضرر الأدبي بالإنسان، كالقذف والغيبة والسخرية والسب والشتم والتنابز بالألقاب في كتاب الله العزيز أو في سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما تحدثه هذه التصرفات من أثر بالـغ في نفس الإنسان.
الدراسات السابقة:
تناول بعض الفقهاء المعاصرين موضوع الضرر الأدبي في كتبهم وإن كانوا لم يفردوه بكتاب مستقل ومن هذه الدراسات:
1. محمد فوزي فيض الله، نظرية الضمان في الفقه الإسلامي العام، مكتبة التراث، الطبعة الأولى، الكويت.
2. علي الخفيف، الضمان في الفقه الإسلامي، معهد البحوث والدراسات العربية، بدون طبعة.
3. وهبة الزحيلي، نظرية الضمان، دار الفكر، دمشق، سورية، الطبعة الثانية، (1418ﻫ-1998م).
منهجية الدراسة:
تعالج هذه الدراسة التأصيل الشرعي لمبدأ المؤاخذة عن الضرر الأدبي، لذا فإن الباحث اعتمد على المناهج الآتية:
1. منهج الاستقراء: عنيت بتحرير واستقراء أقوال الفقهاء من كتبهم المختلفة.
2. منهج المقارنة: قمت بمقارنة بين أراء المذاهب التي تحتاج إلى تحرير؛ لأن الأمور لا تتميز إلا بأضدادها، ولما في المقارنة من بعد عن التعصب وإثراء للفكر.
هيكلية الدراسة:
وقعت الدراسة في مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة.
أما المقدمة: فبينت فيها مسوّغات اختيار الموضوع، وأدبيات الدراسة، وإشكالية الموضوع، وحدود المشكلة، والمنهجية.
عرفت في المبحث الأول الضرر الأدبي وبأساسه الشرعي في الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء.
وعرضت في المبحث الثاني آراء العلماء في التعويض عن الضرر الأدبي بالمال وأدلتهم.
وجاء المبحث الثالث في التطبيقات المعاصرة في التعويض عن الضرر الأدبي في العدول عن الخطبة والطلاق.
أما الخاتمة: فضمنتها أهم النتائج والتوصيات.
المبحث الأول
تعريف الضرر الأدبي وأساسه الشرعي
المطلب الأول: تعريف الضرر الأدبي لغة واصطلاحاً:
الضرر لغة: المضرة، خلاف المنفعة، وضره، يضره ضراً، وضر به، وأضر به وضاره مضاره، وضراراً. والضرر نقص يدخل من الأعيان، وهو ضد النفع وسوء الحال([1]).
اصطلاحاً: استعمل الفقهاء الضرر في عدة معان:
1. إلحاق مفسدة بالغير، جاء في فيض القدير: "الضرر الحاق مفسدة بالغير"([2]).
2. الضرر في مقابل النفع قال صاحب سبل السلام: "الضرر ضد النفع"([3])، ولما كان النفع تحصيل منفعة كان الضرر بمعنى إزالة المنفعة، وبعضهم فصل فقال: الضرار أن نضره من غير أن تنتفع، والضرر أن تضره وتنتفع به أنت([4])، جاء في المحصول: "الضرر في مقابلة النفع"([5]).
3. استعمال الفقهاء الضرر بمعنى أن ينقص الرجل أخاه شيئاً من حقوقه([6]).
ومن المعاصرين عرفه الزحيلي: "الضرر: فهو إلحاق مفسدة بالآخرين، أو هو كل إيذاء يلحق الشخص، سواء أكان في ماله أو جسمه أو عرضه أو عاطفته"([7]). وبهذا التعريف نلحظ أن الضرر يشمل الفعل المادي كتلف المال والضرر الأدبي، كالإهانة التي تمس كرامة الإنسان أو تلحق به سمعة سيئة، سواء كان ذلك بالقول كالقذف والشتم أو السعاية بدون حق إلى الحاكم، والرجوع عن الشهادة بعد صدور الحكم على المتهم([8]).
نلحظ أن هنالك تلازماً بين ما هو وارد في المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي.
تعريف الضرر الأدبي اصطلاحاً:
عرفه محمد فوزي فيض الله: "هو إلحاق مفسدة في شخص الآخرين لا في أموالهم وإنما يمس كرامتهم أو يؤذي شعورهم، أو يخدش شرفهم أو يتهمهم في دينهم أو يسيء إلى سمعتهم أو نحو ذلك من الأضرار التي يطلق عليها اليوم اسم الضرر الأدبي"([9]).
وعرفه علي الخفيف: "ما يصيب الإنسان في شرفه وعرضه من فعل أو قول يعد مهانة له كما في القذف والسب، وفيما يصيبه من ألم في جسمه، أو في عاطفته من ضرب لا يحدث أثراً، أو من تحقير في مخاطبته، أو امتهان في معاملته"([10]).
وبعد سرد التعريفات السابقة يتضح أن الضرر الأدبي هو كل أذى يصيب الإنسان في عِرْضه أو عاطفته أو شعوره وسمي ضرراً أدبياً أو معنوياً؛ لأنه غير مادي، فإن محله العاطفة أو الشعور، والشريعة الإسلامية تكفلت بحماية الإنسان من جميع الأضرار والآفات وخصته بالرعاية والتكريم، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[70: الإسراء].
المطلب الثاني: التأصيل الشرعي للضرر الأدبي من الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء:
وضعت الشريعة الإسلامية الحدود لردع المعتدين على أموال الناس وأعراضهم فقد وضعت حد القذف وعقوبات أخرى غير مقررة حماية للأعراض وصيانة للمجتمع المسلم من انتشار الرذيلة فيه على وجه لا يقل فيه عن الضرر المادي.
ومن هنا برزت مسألة التعويض عن الضرر الأدبي ورأي الشريعة الإسلامية فيه.
وقبل الخوض في آراء الفقهاء في التعويض عن الضرر الأدبي لا بد من ذكر أن الشريعة الإسلامية حرمت كثير من التصرفات والأفعال والأقوال التي تلحق الضرر الأدبي بالإنسان، كالقذف والغيبة والسخرية والسب والشتم والتنابز بالألقاب في كتاب الله العزيز أو في سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما تحدثه هذه التصرفات من أثر بالغ في نفس الإنسان، ولا بد من التعريف بحد القذف ورأي الشريعة فيه، كونه من أخطر فروع الضرر الأدبي، لذلك نص القرآن الكريم على حَدِّه وعقوبته.
فالقذف كما عرفه ابن قدامة: الرمي بالزنا([11]). وقد حرمت الشريعة الإسلامية التعدي على شرف الإنسان وعرضه والرمي بما يمس شرفه وعرضه.
فشرعت حد القذف فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)[4: النور]، وهو الاتهام بالزنا، شرعت له الشريعة الإسلامية عقوبة مقدرة، قال تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[4: النور].
وجعلت الشريعة الإسلامية عقوبة حد القذف مقدارها ثمانين جلدة إذا لم يثبت القذف، وذلك لأن مسألة الأعراض وحفظ الأنساب هي من أخطر ما يلحق الضرر بالإنسان لذلك حرصت الشريعة الإسلامية على حفظها ومراعاتها.
وحرمت الشريعة الإسلامية الغيبة، قال تعالى: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [12: الحجرات]، لما تحدثه الغيبة من ضرر في نفس الإنسان وشعوره.
تعريف الغيبة: ذكر المرء بما يكره، سواء كان في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه، أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به ذكر سوء سواء ذكر باللفظ أو بالرمز أو بالإشارة([12]).
وحرمت الشريعة الإسلامية السب، لما يحدثه من ضرر في نفس الإنسان وشعوره. والسب: الشتم والتكلم في أعراض الناس بما لا يعني([13]).
وكذلك حرّمت الشريعة الإسلامية السخرية، فقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[11: الحجرات].
فالسخرية والاستهزاء والتنابز بالألقاب والسب والشتم والتكلم في أعراض الناس، كلها أفعال محرمة بالنص، وكلها تدل على مراعاة الجانب النفسي عند الإنسان، فهي أضرار ليست مادية وإنما معنوية تتعلق بعرض الإنسان أو عاطفته.
ولهذا فلا بد من بحث ما يترتب على الضرر الأدبي من عقوبة وجزاء، فالعقوبة إما أن تكون بدنية كالحبس والضرب وإما أن تكون مالية كالغرامة، وإما أن تكون معنوية كالكلام والإشارة وغيرها، كما أن العقوبات منها المقدرة بحد أو المتروكة لجانب العقوبة التعزيرية.
والعقوبة المترتبة على الضرر الأدبي، لم تكن مقدرة في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك كانت العقوبة تعزيرية([14])، متروكة لحكم القاضي، غير أنّ الفقهاء المحدثين، بحثوا إمكانية أن تكون العقوبة عن الأضرار الأدبية بالتعويض المالي وبعضهم رأى منع ذلك، ومما تجدر الإشارة له أن الفقهاء تعرضوا لمسألة التعويض عن الضرر الأدبي في كتبهم، من خلال النصوص الكثيرة التي وردت عنهم وهم على قسمين:
أولاً: ذهب فريق منهم إلى جواز التعويض عن الضرر الأدبي:
نورد بعضاً من أقوال الفقهاء التي تفيد جواز الضمان عن الأضرار الأدبي:
1. ما جاء في المبسوط: "عن الإمام محمد بن الحسن رحمه الله، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي تَنْدَمِلُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ تَجِبُ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الْأَلَمِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْجَانِي بِقَدْرِ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةِ الْأَطِبَّاءِ حَتَّى انْدَمَلَتْ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمُجَرَّدِ الْأَلَمِ([15]).
وحكومة العدل تقدر برأي الخبير؛ وهذا تقدير للألم بالمال.
2. جاء في مجمع الضمانات: "ولو شج رجلاً فالتحمت ولم يبق لها أثر ونبت الشعر سقط الأرش عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف عليه أرش الألم وهو حكومة عدل، وقال محمد عليه أجرة الطبيب وثمن الدواء([16]). فأبو يوسف قد قدر التعويض المالي على الألم، والألم ضرر أدبي، وإذا كان هذا صحيح فإن التعويض ينتقل إلى كل ضرر أدبي.
3- جاء في الدر المختار: ولو ضربه ولم يبق له أثر فإنه لا شيء فيه، وقال أبو يوسف عليه أرش الألم وهي حكومة عدل. وقال محمد: قدر ما لحقه من النفقة إلى أن يبرأ من أجرة الطبيب وثمن الدواء([17]).
4- في الفقه الزيدي، البحر الزخار، جاء فيه: ففي الألم حكومة"([18]).
اعتبر الدكتور سراج والدكتور فيض الله: أن أرش الألم الذي نص عليه فقهاء الحنفية والزيدية يؤيد تقرير التعويض المالي عند الضرر الأدبي، باعتبار أن الألم شيء معنوي"([19]).
5. ما جاء المغني: "أن قطع حلمتي الثديين ديتهما، نص عليه أحمد رحمه الله وروى نحو هذا الشعبي والنخعي والشافعي، وقال مالك والثوري: إن ذهب اللبن وجبت ديتهما، وإلا وجبت بقدر شينه"([20]).
6. جاء في الأحكام السلطانية: "ولو تعلق بالتعزير حق لآدمي كالتعزير في الشتم والْمُوَاثَبَةِ ففيه حق المشتوم والمضروب وحق السلطنة للتقويم والتهذيب، فلا يجوز لولي الأمر أن يسقط بعفوه حق المشتوم والمضروب، وعليه أن يستوفي له حقه من تعزير الشاتم والضارب"([21]).
فهذه الأقوال وغيرها كثير في كتب الفقه تجـيز العقوبة على الأضرار الأدبية.
ثانياً: ذهب فريق آخر إلى عدم جواز التعويض عن الضرر الأدبي:
نورد بعضاً من أقوال الفقهاء التي تفيد عدم جواز الضمان عن الأضرار الأدبية:
1. جاء في البدائع: إذا التحمت الشجة ونبت الشعر عليها أنه لا شيء على الشاج في قول أبو حنيفة، خلافاً لأبي يوسف ومحمد ويقول: ويقول أبو حنيفة: الأرش إنما يجب بالشين الذي يلحق المشجوج بالأثر، وقد زال ذلك فسقط الأرش، ويقول: والقول بلزوم حكومة الألم غير سديد لأن مجرد الألم لا ضمان له في الشرع كمن ضرب رجلاً ضرباً وجيعاً، ويقول: كذا إيجاب أجرة الطبيب، لأن المنافع عن أصل أصحابنا رضي الله عنهم لا تتقوم مالاً بالعقد أو شبهة العقد، ولم يوجد في حق الجاني العقد ولا شبهته فلا يجب عليه أجرة الطبيب"([22]).
2. ويقول أيضاً صاحب البدائع: "ووجوب التعزير بارتكاب جناية ليس لها حد مقدر في الشرع سواء كانت الجناية على حق الله تعالى كترك الصلاة ونحو ذلك أو على حق العبد بأن آذى مسلماً بغير حق بفعل أو بقول يحتمل الصدق أو الكذب بأن قال: يا خبيث يا فاسق، يا سارق، يا فاجر، يا كافر، يا آكل الربا، يا شارب الخمر ونحو ذلك، فإن قال يا كلب يا خنزير يا ثور ونحو ذلك لا يجب عليه التعزير؛ لأن في النوع الأول إنما وجب التعزير لأنه الحق العار بالمقذوف إذ الناس بين مصدق ومكذب، فعزر دفعاً للعار عنه، وفي النوع الثاني الحق العار بنفسه بقذفه غيره بما لا يتصور فيرجع عار الكذب إليه لا إلى المقذوف([23]).
3. ثم يتابع قوله: والتعزير إن وجب... كما لو قال لغيره يا فاسق يا خبيث يا سارق ونحو ذلك فالإمام بالخيار إن شاء عزره بالضرب وإن شاء بالحبس وإن شاء بِالْكَهْرِ وبالاستخفاف بالكلام([24]).
4. جاء في تبين الحقائق: "وقوله يا أبله، ويا كلب ويا تيس ويا حمار، يا خنزير يا بقر.. وقوله يا أبله، يا موسوس، لا يعزر بهذه الألفاظ كلها([25]).
5. يقول صاحب الكافي: "وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا نفع، مثل قطع أصبع زائدة، أو قلع سن زائدة أو لحية امرأة، فاندمل الموضع من غير نقص أو زاده جمالاً وقيمة ففيه وجهان: أحدهما لا يجب شيئاً؛ لأنه لم يحصل بفعله نقص فلم يجب شيء كما لو لكمه فلم يؤثر"([26]).
6. جاء في المغني: "وإن لطمه على وجهه فلم يؤثر في وجهه، فلا ضمان عليه لأنه لم ينقص به جمال ولا منفعة، ولم يكن له حال فينقص منها فلم يضمنه كما لو شتمه([27]).
7. جاء في المبسوط: أنه لو شتمه أحد فآلمه في نفسه أو لطمه على وجهه أو جرحه ولم يترك ذلك أثر ولم يفوت منفعة ففي كل هذا لا ضمان على الجاني([28]).
8. جاء في المبسوط: "عن الإمام محمد بن الحسن رحمه الله، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي تَنْدَمِلُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ تَجِبُ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الْأَلَمِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْجَانِي بِقَدْرِ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةِ الْأَطِبَّاءِ حَتَّى انْدَمَلَتْ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمُجَرَّدِ الْأَلَمِ([29]).
والشاهد هنا في قول أبو حنيفة رحمه الله: أنه لا قيمة لمجرد الألم مم ينفي جواز التعويض عن الضرر الأدبي عنده.
9. يقول المحمصاني: والضرر الأدبي وإن لم يوجب الضمان إلا أنه لا يترك بدون عقاب بل هو يوجب التعزير على الجاني كما يقرره القاضي، وهذا العقاب متوقف على شكوى المتضرر فيه تعويض أدبي كان فيه ضرر مماثل للضرر الأدبي"([30]).
10. ويقول: وهذا يؤيد ما نراه اليوم من تردد علماء القانون، بعضهم لا يرى موجباً للتعويض عن الضرر الأدبي ولا يرى للألم ثمناً وكثير منهم متفقون على أن الضرر الأدبي لا يوجب إلا التعويض اسمياً لعدم الخسارة الحقيقية فيه([31]).
كل هذه الأقوال وغيرها في كتب الفقه تدل على أن الألفاظ التي هي من قبيل الشتم والسب، والضرب الذي ليس فيه ارش مقدر وهي جميعاً من الأضرار الأدبية، ولم يقدروا فيها التعويض حتى أن الذين أجازوا العقوبة أجازوا الحبس أو الضرب أو الاستهزاء به، ولم يوجبوا قط التعويض بدفع المال. ولكن الواجب فيها التعزير بما يراه الإمام مناسباً فيما عدا الأموال.
المبحث الثاني
مذاهب الفقهاء في التعويض عن الضرر الأدبي بالمال وأدلتهم
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء جميعاً على حرمة النفس البشرية والمال والعرض؛ واتفقوا على مشروعية معاقبة الجاني تعزيراً وان اختلفوا في جواز التغريم بالمال كما اختلفوا في جواز التعويض بالمال عن الضرر الأدبي ولكل أدلته على التفصيل الآتي:
المطلب الأول: القول بجواز التعويض عن الضرر الأدبي:
ذهب فريق من الفقهاء إلى أن الضرر الأدبي هو اعتداء على حق والاعتداء على الحقوق المصانة يوجب الضمان تماماً كما في الضرر المادي؛ (منهم محمد أحمد سراج، فتحي الدريني، محمد فوزي فيض الله)([32]).
ولقد استند هذا الفريق إلى عدد من الأدلة:
أولاً: فمن الكتاب:
1. قوله تعالى:(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ) [126: النحل].
2. قوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا)[40: الشورى].
3. قوله تعالى:(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)[194: البقرة].
ووجه الدلالة في هذه الآيات: أنها تفيد المماثلة في العقاب وهي أن يفعل بالجاني مثل ما فعل([33]). وقد تكون المماثلة في القصاص والجروح والتعويضات المالية، ولكن قد يتعذر حصول المماثلة([34])، وعندها فلا بد من تقدير كما في الأرض وحكومة العدل، وإلا فإن الزجر عن الأضرار يكون ناقصاً حيث لا يوقع العقوبة على بعض المعتدين، وهذا طبعاً ليس مقصوداً إذ المقصود إلحاق العقوبة بالجاني زجراً له ولغيره حتى تنعدم الجريمة والرذيلة في المجتمع المسلم.
ثانياً: من السنة:
1. قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"([35]).
ووجه الدلالة فيه: أن الضرر ضد النفع، يقال ضره يضره ضراً وضراراً وأضر به يضر إضراراً ومعناه: لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه، والضرار فعال من الضر أي لا يجازيه بإضراره بإدخال الضر عليه، فالضر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه.
وقيل الضر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به، والضرار أن تضره من غير أن تنتفع به، وقيل هما بمعنى وتكرارهما للتأكيد ([36]).
وقد دل الحديث على تحريم الضرر؛ لأنه إذا نفى ذاته دل على النهي عنه لأن النهي لطلب الكف عن الفعل، وهو يلزم منه عدم ذات الفعل، فاستعمل اللازم في الملزوم، وتحريم الضرر معلوم عقلاً وشرعاً إلا ما دل الشرع على إباحته رعاية للمصلحة التي تربو على المفسدة، وذلك مثل إقامة الحدود ونحوها، وذلك معلوم في تفاصيل الشريعة ويحتمل أن لا تسمى الحدود من القتل والضرب ونحوه ضرراً من فاعلها؛ لأنه إنما امتثل أمر الله بإقامة الحد على العاصي، فهو عقوبة من الله تعالى لأنه إنزال ضرر من الفاعل، ولذا لا يذم الفاعل لإقامة الحد بل يمدح على ذلك([37]).
2. قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"([38]).
يقول الشيخ الزرقا: "في هذا الحديث تقرير لاعتبار الإضرار الأدبي من المحرمات الكبيرة الإثم ويستفاد هذا من عد الشتم والقذف مثل التعدي على النفس والحقوق بسفك الدم وأكل المال، وهذا يؤكد أن الإضرار الأدبي، يوجب تدبيراً زجرياً يزيله ويمحو أثره"([39]).
ووجه الدلالة فيه: لقد حرم الله سبحانه وتعالى على المسلم عرض المسلم، والعرض هو موطن الشرف في الإنسان، أو ما به قوّام شرفه واعتباره، كما أن العرض جاء على أمرين هما الدم والمال، وهما واجب التعويض والضمان فيهما ولا يخالف ذلك أحد، فدلّ هذا الحديث على أن المعطوف وهو العرض له حكم ما عطف عليه في الضمان، فإذا كان العرض يغلب في جانب الحق الأدبي -كما يقول الزرقا- يكون الحديث دالاً على جواز الضمان في حالة التعدي.
ثالثاً: من آثار الصحابة:
1. روى ابن حزم: "أن رجلاً كان يقص شارب عمر ابن الخطاب فأفزعه عمر فضرط الرجل، فقال عمر: أما إنا لم نرد هذا ولكن سنعقلها، فأعطاه أربعين درهماً؛ قال: وأحسبه قال: شاة أو عناقاً"([40]).
2. روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنه بعث إلى امرأة مغيبة كان رجل يدخل عليها، فقالت يا ولها، مالها ولعمر، فبينما هي في الطريق إذ فزعت فضربها الطلق، فألقت ولداً فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم: أن ليس عليك شيء إنما أنت وال مؤدب وصمت علي رضي الله عنه، فأقبل عمر عليه فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته، فقال عمر رضي الله عنه: أقسمت عليك ألا تبرح حتى تقسمها على قومك"([41]).
ووجه الدلالة: أن عمر رضي الله عنه قد ضمن الخوف والفزع الذي لحق بالرجل الحلاق والمرأة، فأعطى الرجل أربعين شاة ودفع دية الجنين والخوف والفزع من الأضرار الأدبية، فلو لم يكن الضمان جائزاً ما دفع عمر وهذا يدل على جواز التعويض عن الأضرار الأدبية.
3. أخرج البيهقي: أن علياً رضي الله عنه يقول: "إنكم سألتموني عن الرجل يقول للرجل، يا كافر، يا خبيث، يا فاسق، يا حمار وليس فيه حد، وإنما فيه عقوبة من السلطان فلا تعودوا وتقولوا"([42]).
4. كان عمر وعثمان رضي الله عنهما يعاقبان على الهجاء([43]).
ووجه الدلالة: أن قول الرجل يا حمار يا فاسق هذا ضرر أدبي وفيه عقوبة، وكذلك الهجاء، هو ضرر أدبي، وفرض عمر وعثمان العقوبة، فهذا يدل على جواز وضع العقوبة عن الإضرار الأدبي.
رابعاً: من المعقول:
1. إذا أصاب المضرور ضرر معنوي أو أدبي، فإن قواعد الشريعة لا تأبى تقرير التعويض عنه.
2. الشريعة الإسلامية شرعت الحد لجريمة القذف، وهو ضرر أدبي، فلا مانع أن يعوض عن الأضرار المعنوية التي هي دون ذلك بالمال، وإزالة الضرر بقدر الإمكان([44]).
3. الشريعة الإسلامية قد أقرت التعزير عن الضرر الأدبي كما أقرت فكرة التعزير بأخذ المال، فيجوز أن يكون التعزير عن الضرر الأدبي بالمال؛ وأن للحاكم أن يلجأ إلى أساليب التعزير إلى ما يراه أقمع للفساد وأبلغ في الإصلاح، وفي زماننا هذا يكون التعزير بأخذ المال كما يعبر الفقهاء- وبغرض الغرامة كما يعبر القانونيون- عن الأضرار الأدبية والمعنوية... أمضى في العقاب، وأحسن في تحقيق النتائج التأديبية... ولعل من الحق أن يقال إن في هذه الأضرار الأدبية يجتمع حقان: حق الله... وحق العبد([45]).
4. أن الواجب في الضرر المعنوي التعزير، وقد ثبتت مشروعية التعزير بالعقوبات المالية، كما جاء في فقه المذاهب. وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ومن ذلك: أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها([46])، ومثل أمره لعبد الله بن عمرو بأن يحرق الثوبين المعصفرين([47])، ومثل إضعافه الغرم على كاتم الضالة([48])، ومثل أخذه شطر مال مانع الزكاة عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى([49])، ومثل تحريق عمر رضي الله عنه المكان الذي يباع فيه الخمر([50]).
5. ليس المقصود بالتعويض مجرد إحلال مال محل مال، بل يدخل في الغرض منه المواساة، إن لم تكن المماثلة، ومن أظهر التطبيقات على ذلك الدية والأرش، فليس أحدهما بدلاً عن مال ولا عما يقوم بمال([51]).
6. إن القول بعدم التعويض عن الضرر الأدبي يفتح الباب على مصراعيه للمعتدين على أعراض الناس وسمعتهم، وفي هذا من المفسدة الخاصة والعامة ما فيه مما يجعل من الواجب معالجته ومن أسباب العلاج تقرير التعويض([52]).
المطلب الثاني: القول بعدم جواز التعويض عن الضرر الأدبي:
جمهور الفقهاء المعاصرون من أمثال الشيخ علي الخفيف([53]). ومصطفى الزرقا([54])، والدكتور وهبة الزحيلي([55]). وغيرهم كثير من الفقهاء المعاصرين الذين لا يجيزون فكرة التعويض عن الضرر الأدبي.
ولقد استند هذا الفريق إلى عدد من الأدلة:
أولاً: من السنة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا أَلْوَانُهَا قَالَ حُمْرٌ قَالَ هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا قَالَ فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ قَالَ عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ"([56]).
وجه الدلالة: إن هذا القول من الرجل ينطوي على تعريض برمي زوجته بالزنا، والرسول الكريم لم يفرض عليه عقوبة، فدل على أن التعريض بما ينال من شرف الإنسان واعتباره لا ضمان مالي فيه([57]).
ثانياً: الأدلة من المعقول:
1. أن التعويض عن الضرر الأدبي بالمال، تعزيراً بالمال، والتعزير بأخذ المال لا يجوز في الراجح عند الأئمة([58])، لما فيه من تسليط الظلمة على أخذ مال الناس فيأكلونه بغير حق وقد نسخ التعزير بأخذ المال([59]).
2. أن التعويض عن العرض يعتبر من باب الأخذ على العرض مال، وهذا لا يجوز، جاء في مواهب الجليل، قال في المدونة: ومن صالح من قذف على شقص أو مال لم يجز ورد، ولا شفعة فيه بلغ الإمام أم لا، انظر أبا الحسن وجعله من باب الأخذ على العرض مالاً([60]).
3. أن القول بالتعويض عن الضرر الأدبي، مخالفة شرعية صارخة بإضافتها تعويضاً آخر لا حدود له فوق الدية في الجناية على النفس وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"([61]).
4. إن هذا القول يفتح الباب على مصراعيه أمام القاضي للاعتباط والتحكم في تقدير تعويض أدبي مزعوم زيادة على الدية يؤدى إلى الأقارب لتعويضهم –كما تقول المذكرة الإيضاحية الأردنية-: (عما يستشعرون من ألم بسبب موت المضرور، ولهذه العلة يجوز للقاضي أن يحكم بالتعويض لا للأقارب فحسب بل وكذلك للأزواج، مراعياً ظروف العائلة في تعيين أحظ أفرادها من الحزن والفجيعة ممن لا يقتصر أمرهم على رغبة الإفادة مالياً مما كانوا يكنون للمتوفي من عواطف الحب والولاء). إن هذا النقل غير الحكيم عن الآراء الأجنبية، وإقحامه في مشروع يقوم على أساس الفقه الإسلامي لا ندري ما سنده من نصوص الكتاب والسنة، أو فقه المذاهب أو أصول الشريعة ومقاصدها([62]). استدلوا أيضاً:
5. الضـرر المعنوي ، ليس فيه خسارة مالية وغيـر
محسوس، والتعويض في الفقه الإسلامي لا يكون إلا عن ضرر مالي متقوم واقع فعلاً([63]).
6. الشريعة الإسلامية وضعت للضرر الأدبي عقوبات تعزيرية تناسب التأديب، والأمر يعود للقاضي يقدر العقوبة المناسبة لمنع مثل هذا الضرر بما يحقق العدالة([64]).
7. إن إعطاء المال في هذا النوع من الضرر لا يرفعه ولا يزيله، فأخذ المال فيه عند جرح الشعور أو ثلم الشرف لا يعود به كلاهما إلى ما كانا عليه من سلامه"([65]).
8. إن النصوص الشرعية تتظافر على تأكيد شدة تحريم الشريعة للإضرار الأدبي، وأن حد القذف في الشريعة مثال واضح على ذلك، لكن الأسلوب الذي اتبعته الشريعة في معالجة الإضرار الأدبي إنما هو التعزير الزاجر، وليس التعويض المالي، إذ لا تعد الشريعة شرف الإنسان وسمعته مالاً متقوماً بمال آخر إذا اعتدى عليه([66]).
9. إن هذا الضرر الأدبي ليس في مال حتى ينجبر بالمال، وإلى أن المثل العليا تأبى أن يساوم الشخص على شرفه وعرضه كما يساوم على أمواله، وبأن تقويمه بالمال لا يستند إلى أساس سليم، وتقديره لا يختلف باختلاف الأشخاص، ولا يكون إلا تحكماً([67]).
10. إن التعويض بالمال يقوم على الجبر بالتعويض وذلك بإحلال مال محل مال فاقد مكافئ لرد الحال إلى ما كانت عليه، إزالة للضرر، وجبراً للنقض، وذلك لا يتحقق، إلا بإحلال مال مكافئ له، ليقوم مقامه ويسد مسده، وكأنه لم يضع على صاحب المال الفاقد شيئاً وليس ذلك بمتحقق فيهما"([68]).
11. أن الزيادة لا تجوز بالتعويض ولا النقص فيه عن قيمة المعوض عنه، من أجل ذلك لم يجز أن يعطي في الضرر الأدبي تعويضاً؛ لأنه إذا أعطى كان أخذ مال لا في مقابلة مال، وكان هذا من أكل المال بالباطل، وذلك محظور لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)[29: النساء]([69]).
المطلب الثالث: مناقشة الأدلة والردود
لم يخل أي قول من القولين من المناقشة على التفصيل الآتي:
أولاً: مناقشة أدلة الفريق الأول:
أما بخصوص الدليل الأول من الكتاب فقد نوقش بما يلي:
يقول الشيخ علي الخفيف في هذا المجال: "لقد عرفنا أن ضمان المال الذي يدفع لمن أصابه الضرر في ماله إنما يقوم في الشريعة الإسلامية على فكرة التعويض وإزالة ذلك الضرر، برد الأمر إلى ما كان عليه قبل حدوثه، وذلك لا يتحقق إلا في الضرر المالي الذي يتمثل في فقد المال ليحل محله ما يعوضه من مال برد الأمر إلى ما كان عليه قبل الفقد"([70]).
ويتابع الشيخ قوله: "ولذا لم ير فقهاء الشريعة محلاً للضمان المالي أو التعويض بالمال عن ضرر لا يرتفع بدفع المال، وهذا في كل حال لا يترتب على الاعتداء فيها فقد مال قائم، ومن ثم لم يروا التعويض في الأضرار الأدبية ولا في الضرر بفقد الأمل في مال متوقع حدوثه إذ ليس في دفع المال فيها إعادة الأمر إلى ما كان عليه وعلى ذلك فماذا يكون وضع الديات والأروش بالنظر إلى هذا الأساس وليست إلا أموالاً تدفع فيما لا يُعد مالاً، أو فيما لا يقوم بالمال، وذلك لعدم تقوم نفوس الأحرار وأبدانهم وأعضائهم عدم اعتبارها من الأموال"، وبناء على ذلك يقوم التساؤل عن الأساس الذي بني الشارع الإسلامي شريعة الديات والأروش، في تقديره الديات والأروش بخاصة إذا روعي ما يدل عليه قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [194: البقرة]، وقوله:(وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [40: الشورى] وقوله تعالى:(وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)[27: يونس].
وما توجيه هذه الآيات من التساوي بين السيئة وجزائها هو الأصل الذي بنيت عليه شريعة القصاص التي أوجبها قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى)[178: البقرة].
وقوله تعالى:(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)[45: المائدة]. وليس بين المال والقصاص أو بين المال وقطع الطرق أو بين المال والجرح تماثل وتساو([71])، ويتابع الشيخ قوله: والذي يبدو أن الشارع الحكيم قد لاحظ أن عقوبة القصاص مع قيامها على مبدأ المساواة يبن الجريمة والجزاء لا تصلح في جميع الأحوال، لأنها إن صلحت في بعض أحوال العمد لا تصلح في بعض حالات أخرى من حالاته لا تتحقق فيها المساواة بين الجريمة والجزاء لعدم إمكانها، كما لا تصلح للسبب نفسه في أحوال الخطأ إذا لم يقصد الفاعل فيها إحداث ما وقع من الضرر، وكان اعتباره ضرراً سماوياً أقرب من اعتباره ضرراً مسؤولاً عنه من أحدثه، ومن الظلم في هذه الأحوال أن يفعل به ما لم يرد أن يصيب به غيره، أو مثل ما صدر منه على غير إرادته واختياره، ومن أجل ذلك عدل في هذه الأحوال عن مبدأ المساواة والتماثل بين الجريمة والجزاء، ولم يشرع فيها القصاص غير أنه لم يكن من العدل إعفاء الجاني فيها من المسئولية، وكان من الواجب أن يصان دم الإنسان من الهدر وأن يضمن الفاعل ما به تخف آلام المجني عليه أو ضرره، ويذهب عنه بقدر الإمكان غيظ القلوب وحقد النفوس، وللمال في هذه السبيل أثره الطيب المعروف في تخفيف الآلام وشفاء ما في الصدور لما يؤدي إليه من أذى لدافعه بنقص ماله، ومنافع لمن دفع إليه، يطيب بها عيشه ويجد فيها معونته على الحياة ومطالبها، فكان ذلك أساس شرع الديات والأروش فضلاً عما قد يترتب عليها من الزجر والردع لمن تحدثه نفسه بأذى يمس غيره"([72]).
أما بخصوص الدليل الثاني من السنة فقد نوقش بما يلي:
1. مناقشة حديث "لا ضرر ولا ضرار":
يقول الزرقان في شرح هذا الحديث: إن الشطر الثاني "لا ضرار" مجاله في وجوب التعويض المالي إنما هو في الأموال والحقوق دون الأشخاص، وهو المجال الأساسي لبحثنا الحاضر، أما العدوان والإضرار بذات الأشخاص وكرامتهم فيخضع لتدابير زجرية أخرى([73]).
2. مناقشة حديث "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه":
نحن نتفق مع الزرقا وغيره، في اعتبار شتم المسلم والقذف والتعدي أمراًَ محرماً، وأنه يجب له العقوبة التأديبية الزجرية، ولكن ذلك لا يكون بالتعويض المالي وإنما بالتعزير بما يراه القاضي مناسباً، وهذا هو قصد الزرقا من هذا الكلام فقد قال في موضع آخر: "ولقد تضافرت النصوص الشرعية على تأكيد تحريم الشريعة للإضرار الأدبي، وأن حد القذف في الشريعة مثال واضح على ذلك لكن الأسلوب الذي اتبعته الشريعة الإسلامية في معالجة الإضرار الأدبي، إنما هو التعزير الزاجر، وليس التعويض المالي، إذ لا تعد الشريعة شرف الإنسان وسمعته مالاً متقوماً يعوض بمال إذا اعتدى عليه"([74]).
أما بخصوص الدليل الثالث من آثار الصحابة فقد نوقش بما يلي:
1. ففي الرجل الذي أفزعه عمر فضرط، يقول ابن حزم مناقشا ًهذا الدليل: ربعين درهما قال علي: قد سمى عمر بن الخطاب الذي أعطى في ذلك عقلا؛ والشافعيون والمالكيون والحنفيون يخالفون هذا ولا يرونه أصلا وهذا تحكم وتلاعب في الدين لا يحل، فإن كان ما روى عن الصاحب مما لا يعرف له مخالف حجة فليلتزموا كل هذا وكل ما أوردناه فإن فعلوا ذلك تركوا أكثر مذاهبهم وفارقوا من قلدوا دينهم وإن كان ما روى عن الصاحب لا يعرف له منهم مخالف ليس حجة فهذا قولنا فليتركوا التهويل على من خالف ذلك وليسقطوا الاحتجاج بما احتجوا به من ذلك"([75]).
2. أما بالنسبة للمرأة التي أَسقطت جنِينًا مَيِّتًا يضَمِنَهُ بِغُرَّةٍ؛ ويعلل ابن قدامة ذلك قائلاً: وَلَنَا، أَنَّهَا نَفْسٌ هَلَكَتْ بِإِرْسَالِهِ إلَيْهَا، فَضَمِنَهَا، كَجَنِينِهَا، أَوْ نَفْسٌ هَلَكَتْ بِسَبَبِهِ، فَغَرِمَهَا، كَمَا لَوْ ضَرَبَهَا فَمَاتَتْ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ عَادَةً. لْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِسْقَاطِ، وَالْإِسْقَاطُ سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ عَادَةً، ثُمَّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الضَّمَانِ كَوْنُهُ سَبَبًا مُعْتَادًا، فَإِنَّ الضَّرْبَةَ وَالضَّرْبَتَيْنِ بِالسَّوْطِ، لَيْسَتْ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ فِي الْعَادَةِ، وَمَتَى أَفْضَتْ إلَيْهِ وَجَبَ الضَّمَانُ.وَإِنْ اسْتَعْدَى إنْسَانٌ عَلَى امْرَأَةٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا، أَوْ مَاتَتْ فَزَعًا، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُسْتَعْدِي الضَّمَانُ، إنْ كَانَ ظَالِمًا لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الظَّالِمَةَ، فَأَحْضَرَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَهَا ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ إحْضَارِهَا بِظُلْمِهَا، فَلَا يَضْمَنُهَا غَيْرُهَا، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، كَالْقِصَاصِ، وَيَضْمَنُ جَنِينَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اقْتَصَّ مِنْهَا([76]). وعلى هذا لا يكون إسقاط الجنين بفعل الضرر الأدبي، بل بالفعل المادي عن طريق التسبب، والأفعال المادية تضمن بالمال، وليس هذا ما نقصده هنا.
3. أما بخصوص مناقشة دليل الهجاء:
يقول الزرقا: "وأول ما نستنتج من النصوص السابقة –نصوص ذكرت في الهجاء- أن الخلفاء الراشدين عاقبوا على الإضرار الأدبي، لكن بغير التعويض المالي، ولم نطلع على رأي لأحد سواهم من الصحابة الكرام يقول بالتعويض المالي عن هذا الضرر.ويقول: والنتيجة الثانية لهذه المسؤولية أن مدى المسؤولية عن الإضرار الأدبي تعود إلى الحاكم ما لم تبلغ حد القذف الشرعي الذي عينت فيه الشريعة عقوبة محددة"([77]).
أما بخصوص الدليل الرابع من أقوال الفقهاء فقد نوقش بما يلي:
مناقشة قول أبو يوسف في الأرش حكومة عدل (1، 2، 3):
فسر الطحاوي قول أبو يوسف: أرش الألم بأجرة الطبيب والمداواة، كما هو قول محمد([78])، فهذا الاحتجاج لا يسلم بقول أبو يوسف على جواز التعويض المالي عند الضرر المعنوي؛ لأنه قصد بأرش الألم أجرة الطبيب والمداواة لا الألم المعنوي".
ويمكن أن يناقش قول أبي يوسف بـ: إن الألم الناتج عن الجراح ليس ضرراً أدبياً خالصاً، بل هو ضرر ناتج عن فعل مادي، وهذا قد يجعله مسوغاً للتعويض عنه؛ لأن فيه تعطيل عن العمل كما أن فيه أجرة الطيب والدواء، فهذا ليس ضرر معنوي وإنما هو ضرر مادي.
يقول الشيخ الزرقا في مناقشة الأدلة: "والأمثلة الفقهية التي استشهدوا بها على التعويض عن الضرر الأدبي ليست من الضرر الأدبي في شيء، فالألم، والشين، وفوات الزينة الطبيعية بفقدان الشعر، كلها أضرار مادية لا نزاع في جواز التعويض المالي عنها، ولا تصلح بحال للاحتجاج شرعاً على التعويض المالي عن الضرر الأدبي على أنه يلاحظ أن بعض ما يوصف تساهلاً بأنه ضرر أدبي هو في حقيقته ضرر مادي يمكن تعويضه وفق القواعد الشرعية في تعويض الأضرار المادية ومن ذلك:
- إيقاع الألم بالضرب أو اللطم ولو لم يترك أثراً.
- نقص جمال عضو من الأعضاء([79]).
مناقشة الدليل رقم 4 من المعقول:
هذا من باب العقوبات وليس من باب التعويض المالي عن الضرر، ليس التعزير بإتلاف مال الجاني أو تضعيف الغرم ذاهباً إلى المجني عليه جبراً لما أصابه من الضرر المعنوي، لذا فلا علاقة بين التعزير بالعقوبات المالية وبين الضرر المعنوي([80]). ثم ما استدلوا عليه من أن الواجب من الضرر الأدبي التعزير يرد هذا الاستدلال بما يلي: لو سلمنا بأن التعزير بالعقوبات المالية لم ينسخ، وهو الراجح كما يرى ابن القيم([81])، وابن تيمية([82])، فإن ذلك من باب العقوبات كما في تقديم السارق فيما لا حد فيه وغيره من الأمثلة المذكورة، وليس من باب التعويض المالي عن الضرر، ولذلك فلن يستطيع من يدعي ذلك أن يأتي بمثال واحد فيه تعويض، أي أن يفرض على الجاني ويعطي المجني عليه مبلغاً من المال لما أصابه من الضرر المعنوي، وهذا هو محل الخلاف في المسألة، أما التعزير بإتلاف مال الجاني، أو تضعيف الغرم عليه فلا يدخل في هذا الموضوع([83]).
ويتابع الزرقا في سرد الحجج لمناقشة أدلة المجيزين فيقول: ولو سلمنا بالتعزير المالي (أي العقوبة المالية أدبياً لوجب أن يذهب المال إلى خزانة الدولة لا إلى جيب المتضرر، وهذا لا يقولون به، وليس هو مراد المستدلين بجواز التعزير المالي شرعاً([84]). ويقول: إن القول بعدم التعويض المالي يعني عدم زجر المتعدين على أعراض الناس وسمعتهم بينما محل الخلاف هو طريقة الزجر، والشريعة الإسلامية أخذت بمبدأ الزجر بعقوبة التعزير لا بالتعويض المالي عن الضرر الأدبي([85]). أما ما ورد من أن التعويض عن الضرر الأدبي هو للمواساة كما في الدية والجواب عنه: أن هذه الحجة لا تصح، لأن الدية عوض قدرته الشريعة عن الضرر الذي يلحق أولياء القتيل وورثته، ومن العسير التسليم بأنه ضرر أدبي، بل الأوجه أن يوصف بأنه ضرر مالي ومادي (خاصة أن الشريعة ساوت في مقدار الدية بين الأفراد المختلفين مهما تفاوتت منزلتهم الاجتماعية)([86]). أما الأرش فواضح أيضاً أنه تعويض عن ضرر مادي، ولا يعني ذلك أن الضرر المادي لا يحدث ألماً في المضرور بل يعني أنه لا يخدش سمعته واعتباره بين الناس، لكن فيه أذى جسيماً ظاهراً([87]). ويتابع قوله: ولا يمكننا التسليم بأن الألم هو ضرر أدبي، بل هو ضرر مادي محسوس وقد يكون له انعكاس مالي، إذ يعوق الإنسان أو يعطله أحياناً عن ممارسة نشاطاته ووسائل كسبه([88]).
ثانياً: مناقشة أدلة الفريق الثاني:
1- أما بالنسبة إلى أن التعزير بأخذ المال غير جائز، فإن الفقهاء قرروا التعزير بأخذ المال، كما قال ابن القيم([89])، وابن تيمية([90])، وأبو يوسف([91])، وأيضاً دلت السنة على ذلك كما في الأمثلة لو أخذنا الغرامة ممن سرق ما لا حد فيه.
والرد على الجواب هذا قد سبق في مناقشة أدلة القول الأول، حيث قلنا إن هذه وإن كانت غرامات إلا أنها المقصود بها عقوبات وليست غرامة أو تعويض عن مال، ثم إن التعزير بأخذ المال غير جائز عند جمهور الفقهاء([92]).
وأما بالنسبة لأقوال الفقهاء، فقد نظروا إلى أثر الضربة أو الجرح -وهي مادية- فإن لم يكن هنالك أثر أو لم يفوت مصلحة فلم يوجبوا الضمان غير أنهم أيضاً اختلفوا في إيجاب الضمان مع أنها أضرار مادية:
فقد جاء في الكافي: والقول الثاني: يجب الضمان- إن لم يحصل بالجناية نقص من جمال ولا نفع- لأنه جزء من مضمون فوجب ضمانه كغيره، فعلى هذا يقومه في أقرب أحواله إلى الاندمال؛ لأنه لما سقط اعتباره بعد اندماله، قوّم في أقرب أحواله إليه، كولد المغرور يقوم في أول حال يمكن فيها التقويم بعد العلوق، وهي عند الوضع فإن لم ينقص في تلك الحال، قوم حين جريان الدم وإن قلع سناً زائدة قوم وليس خلفها سن أصيلة، وإن قلع لحية امرأة قومت كرجل لا لحية له، ثم يقوم وله لحية ويجب ما بينهما"([93]).
المطلب الرابع: الرأي المختار.
الرأي المختار كما أرى: هو عدم جواز التعويض عن الضرر الأدبي بالمال ويعالج الضرر الأدبي بوضع عقوبات رادعة من قبل الحاكم بما لديه من سلطة في التعزير. خاصة وأن أدلة المذاهب قد نوقشت وظهر ما بها من ضعف أرى أن هذا هو الأقرب إلى الصواب.
يقول الزرقا: "وخلاصة القول إننا لا نرى مبرراً استصلاحياً لمعالجة الأضرار الأدبية بالتعويض المالي، ما دامت الشريعة قد منحت مجالاً واسعاً لقمعه بالزواجر التعزيرية، ولم نر في الاستدلال عليه من الشريعة حجة مقنعة على تبدل في أنماط الحياة المعاصرة بجعل الاستمرار في قمعه تعزيراً غير ذي جدوى، بل الأمر على العكس، فإن قبول مبدأ التعويض المالي عن الأضرار الأدبية له محذور واضح، هو أن مقدار التعويض اعتباطي محض لا ينضبط بضابط، بينما يظهر في أحكام الشريعة الحرص على التكافؤ الموضوعي بين الضرر والتعويض، وهذا متعذر هنا وكثيراً ما نسمع فندهش في أخبار الدعاوي والأقضية الأجنبية أرقاماً بالملايين لقاء مزاعم أضرار أدبية في منتهى التفاهة"([94]).
ثم إن كثيراً من الفقهاء قرروا التعزير على العقوبات في الحبس أو الضرب في الأضرار الأدبية والمادية ولم يتطرقوا للتعزير بالمال.
يقول ابن نجيم: "من آذى غيره بقول أو فعل يعزر، ولو بغمز العين"([95]).
- كما أن أخذ المال على الضرر الأدبي يعتبر بمثابة أخذ المال بدلاً من العرض أو السمعة أو غيرها، وهذا لا يجوز.
- والضرر الأدبي غير متقوّم شرعاً، فلا يجوز أخذ البدل والعوض عنه.
- أن الضرر المعنوي ليس فيه خسارة مالية، وهو شيء غير محسوس وغير ممكن تحديده وتقديره، ولا يترك آثاراً ظاهرة في الجسم والتعويض في الفقه الإسلامي لا يكون إلا عن ضرر مالي واقع فعلاً أو ما في حكمه، كنقص في جزء من أجزاء الجسم البشري، أو تشويه في خلقته، فالتعويض المالي إذا شرع لمقابلة مال ضائع على المضرور أو بدلاً عن القصاص إذا تعذر إجراؤه لكون الضرر وقع خطأ، أو عفى المجني عليه أو وليه، أو لأسباب أخرى، فلأن الضرر في هذه الحالة تسبب في فقد شيء محسوس، وغالباً ما يتبع الضرر الجسمي خسارة مالية.
- كما أن الشريعة الإسلامية إذ صانت الأعراض وحفظتها جعلت للحاكم تقدير العقوبة المناسبة على حس الجرم وحسب المجرم وحسب المجني عليه فيأخذ بالاعتبارات وينفذ فيه العقوبة المناسبة. والله تعالى أعلى وأعلم.
المبحث الثالث
تطبيقات معاصرة على الضرر الأدبي
أولاً: الضرر الأدبي الناشئ عن العدول عن الخطبة أو فسخها:
الخطبة هي وعد بالزواج، على أن المسلم يفي بوعده وعهده (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [2-3: الصف].
قد يترتب ضرر على العدول عن الخطبة مثل:
أ. إعداد الجهاز أو ترك العمل بالنسبة للمرأة.
ب. تجهيز السكن والأثاث، وهذه كلها أضرار مادية.
أما الأضرار المعنوية: فهي ما يترك في نفس الخاطبة أو المخطوبة من جرح للمشاعر والأحاسيس، ونشر الشائعات والكذب من كل منهما عن أسباب العدول عن الخطبة؛ الأمر الذي أراه أكثر إيلاماً من الضرر المادي.
- في كتب الفقه القديمة لن تجد مثل هذه المسألة، وربما لأنها لم تكن موجودة بالصورة التي هي عليها الآن. وإذا ما نظرنا إلى الخطبة في هذه الأيام وجدنا أن علاقة الخاطب بالمخطوبة أقرب ما تكون إلى الزوجة؛ فهو ينفرد في الجلوس بها، من غير محرم؛ ويخرج مع خطيبته خارج المنزل، الأمر الذي يترتب عليه ضرراً يلحق بالمرأة عندما يعدل الخاطـب عنها، ولا يتم الزواج بها.
والضرر الأدبي الناشئ عن العدول عن الخطبة يتمثل بـ:
1. الخروج مع الخطيبة أمام الناس.
2. الخلوة بين الخاطب والمخطوبة ولساعات متأخرة بعد منتصف الليل.
3. اطلاع الخاطب على ما لا ينبغي له أن يتطلع عليه من مخطوبته.
4. الكذب وإطلاق الشائعات، وتشويه السمعة والسيرة أمام الناس.
ومن هنا نقول: حتى إذا كانت الخطبة وعداً غير ملزم بالزواج ويجوز العدول عنها، هذا لا يمنع ترتب الإثم إذا كان العدول من غير سبب وجيه، فهذا الأمر يبقى قائما بين العبد وربه، وإن لم تكن هنالك مؤاخذة ومحاسبة مباشرة أو عقوبة رادعة في الدنيا.
غير أن هنالك بعض التصرفات والأفعال التي تصدر من البعض خاطباً كان أو مخطوبة تلحق ضرراً أدبياً بالمشاعر والأحاسيس، كما لو أن الخاطب قدح في دين وخلق المخطوبة، أو في عرض أو شرف مما يسيء إلى المخطوبة إساءة أدبية، أو أشاع عنها عدم سلامة بدنها وأن بها برصاً أو حروقاً... إلخ، وكان العدول دون مسوغ شرعي مقبول، فإنني أرى في هذه الحالة والله أعلم ضرورة التعزير والمؤاخذة والمحاسبة على هذا التصرف بما يراه القاضي مناسباً الأمر الذي يزجر المرتكب لهذه التصرفات ويؤدبه، لا بالغرامات المالية كما رجحنا سابقاً والله أعلم.
الضرر الناتج عن العدول عن الخطبة في مثل هذه الحالات ليس هو المقصود لذات العدول، وإنما المقصود هنا ما يصاحب هذا العدول من أضرار أخرى نتيجة لفعل وتعدي الشخص الذي عدل عن الخطبة([96]). ومعلوم لدينا أن الذي يعدل عن الخطبة بدون مسوغ شرعي يتحمل تبعات هذا العدول كاملة: فإذا كان الخاطب هو الذي عدل فإنه يقوم بدفع نصف المهر المتفق عليه في عقد الزواج عند إبرامه، وإذا كانت المخطوبة هي التي عدلت، فإنها تتنازل عن مهرها كاملاً حتى أنها ترجع للخاطب أي شيء أخذته منه على حساب المهر، إضافة إلى أن بعضهم ألزم عليها إعادة حتى الهدايا التي قدمها لها الخاطب أثناء فترة الخطوبة؛ لأنه قدمها لها على أساس أنها زوجة في المستقبل وهي التي لم ترغب في إكمال الحياة معه كزوجة في المستقبل.
ثانياً: الضرر الأدبي الناشئ عن الطلاق:
الطلاق: هو نهاية الحياة الزوجية، وقد تطرأ أسباب تستدعي كلاً من الزوجين أن يطلب الفراق من قرينه الآخر، وهذا بالتأكيد يلحق أضراراً مادية ومعنوية بحق الطرف الآخر.
فقد يكون الرجل هو الذي يوقع الطلاق على الزوجة، وربما تكون الزوجة غير راغبة في حدوث الطلاق. وقد تكون الزوجة هي التي تطلب الطلاق، وتنفر من زوجها ومن الحياة الزوجية على خلاف الزوج، وربما تخلع الزوجة نفسها منه، وقد يكون الزوج غير راغب في حدوث الأمر الذي يوقع ضرراً معنوياً على كليهما في الحالتين السابقتين.
لذلك قرر الله سبحانه وتعالى أن الذي يطلق زوجته قبل الدخول ولم يكن للمرأة سبب في ذلك أن لها نصف المهر وبعد الدخول لها المهر كاملاً، يقول الله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[237: البقرة].
ومن هنا يقول أبو زهرة في كتابه الأحوال الشخصية: "إن وجوب نصف المهر للمطلقة قبل الدخول، فيه معنى التسريح بإحسان الذي أمر سبحانه وتعالى حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً)[49: الأحزاب]، ولأن الفرقة قبل الدخول تجرح نفس المرأة فأوصى الله سبحانه وتعالى نصف المهر لها. فدل ذلك على أن الضرر الأدبي يؤخذ به، وفي هذه الحالة -حالة طلاق الرجل لزوجته قبل الدخول أو بعده- عقابه مادي حتى يكون أكثر انضباطاً، هذا فيما لو كان الزوج هو الذي يرغب بإيقاع الطلاق دون مسوغ شرعي مقبول.
أما لو كانت الزوجة هي السبب في الطلاق فإنه يسقط حقها في المال وفي الأثر النفسي؛ لأنها هي التي ترغب بالطلاق وقد يكون الزوج غير راغبٍ بالطلاق. وفي حالة الخلع: فإن طلب الطلاق يكون من جانب الزوجة، وأن الضرر يكون واقعاً على الرجل لذلك شرع الخلع وهو عبارة عن مبلغ من المال تدفعه الزوجة لزوجها مقابل الطلاق، بحدود المهر أو أكثر أو أقل دفعاً للضرر الواقع من الزوجة على زوجها والله أعلم.
من كل ما سبق يتضح لنا أن الشريعة الإسلامية راعت الضرر من خلال التعويض المالي في العدول عن الخطبة أو في الطلاق، وإن كان هنالك أيضاً ضرر أدبي واقع لا ينكره أحد، والشريعة الإسلامية ضبطت هذا الأمر لأهميته وكثرة وقوعه- العدول والطلاق- بالتعويض المالي، وهنالك بعض الأفعال والتصرفات التي تلحق ضرراً أدبياً كما أسلفنا سابقاً، فلا تكون العقوبة عليها مالية وإنما تعزيرية، بما يراها لقاضي ابلغ بالزجر والتأديب والله أعلم.
الخاتمة
وتضمنت أهم النتائج والتوصيات التي قد توصل إليها البحث:
1. أن موضوع الضرر الأدبي والتعويض عنه هو موضوع مستجد بحثه الفقهاء والعلماء والمعاصرون وذلك مجاراة للقانون المدني الذي كان له السبق في معرفة هذا الاصطلاح.
2. إن التعويض عن الضرر الأدبي غير جائز وليس له مستند شرعي يقوى لأن يكون جديراً بالتطبيق.
3. الشريعة الإسلامية راعت حرمة الإنسان ولم تجعل الأمر عبثاً بل وضعت العقوبات التعزيرية الزاجرة عن هذا الفعل الضار في الضرر الأدبي وغيره.
4. السلطة التعزيرية الممنوحة للقاضي هي التي تخوله بتقدير الضرر وإيقاع العقوبة المناسبة له من حبس أو ضرب أو كلمة حسب طبيعة الجناية وطبيعة الجاني وطبيعة المجني عليه وهذا كله من مبدأ الإصلاح وجعل المجتمع المسلم نقياً خالياً من أصناف الفواحش والرذيلة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(*) المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، جامعة آل البيت، المجلد الخامس، العدد (3)، 1430 ه/2009م.
الهوامش
([1]) إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، المكتبة العلمية، طهران، ج1، ص45. محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي، لسان العرب، دار صادر، بيروت، باب الراء، فصل (الضاد)، ج4، ص482. محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، عناية السيد محمود خاطر، دار نهضة، فجالة، القاهرة ص379.