مقالات

السنة النبوية مصدرٌ للتشريع

الكاتب : سماحة الدكتور نوح علي سلمان رحمه الله

أضيف بتاريخ : 05-06-2012


 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

فإن المُطَّلع على علم الحديث النبوي الشريف يرى أنه إلهام من الله تبارك وتعالى، حفظ به دينه وشريعته لتبقى السنة محفوظةً إلى جانب القرآن الكريم، يمدان المسلمين في كل العصور بما يحتاجون إليه من أجل إسعادهم في الدنيا والآخرة.

ولولا هذا الإلهام والعناية الربانية لما استطاع المحدِّثون أن يضعوا هذه الضوابط الدقيقة للتأكد من صحة المرويات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويشعر المسلم بهذه العناية الربانية إذا ما قارن بين دقة المرويات عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبين حال المرويات عن الأنبياء السابقين، ويوقن المرء بأن هذه معجزة من معجزات هذا الدين، إذا تذكر أن الإسلام نزل في أمة أمية، والكتب السابقة نزلت على أقوام كانت لهم معرفة بالقراءة والكتابة والتدوين، لكن بلغ بهم الأمر أن شهد الله عليهم بتزييف كتبهم فقال:(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران/78.

ولا يمتري أحد بأن القرآن الكريم قد حُفِظَ بصورة قطعية، فكل ما فيه من عند الله، وما بين أيدينا هو كل القرآن الذي أُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلينا.

أما السنة النبوية فقد استطاع المحدِّثون - بعون الله تعالى - أن يضبطوها، وأن يضعوا موازين دقيقة يُعرَف بها ما يصح وما لا يصح مما نسب إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي ضوابط لا مزيد عليها مع ما طرأ على فن التوثيق في القرون المتلاحقة إلى يومنا هذا، بل لعل المشتغلين بعلم التوثيق قد استفادوا من القواعد التي وضعها علماء الحديث.

وكان موقف علماء الحديث دقيقاً حرجاً، فهم من جهة يخافون أن يضيع شيء مما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أو يستبعد نتيجة لقواعد الضبط الصارمة، ومن جهة أخرى يخافون أن يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يصدر عنه، لأن في الأول ضياعاً لشيء من الدين، والثاني إدخال في الدين ما ليس منه، وإلزام للأمة بما لم يُلزمها به الله تعالى.

ولنتصور الحالة الذهنية لمن يقف بين هذين الاعتبارين الخطيرين، ومع ذلك وفقهم الله تعالى، وألهمهم أسلوباً لا يضيع به شيء من الدين، ولا يُفترى به على سيد المرسلين، لأن السنة مشمولة بوعد الله تعالى إذ قال:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9.

وكانت هذه الضوابط التي أشرت إليها نتيجة جهود متكاتفة ومتكاملة أعدَّت لهذا الأمر كل ما يجب أن يُعَدَّ له: وضعت قواعد عقلية للضبط، وحفظت السير الذاتية لكل من نسب إليه شيء من هذا العلم، وتفنن المحدثون في أساليب التدوين، حتى صار هذا الصرح الشامخ مفخرة من مفاخر هذه الأمة، ووجهاً من وجوه التأييد لهذا الدين، سعد المسلمون به قروناً طويلة، ووجدوا في الحديث ما يفسر ويكمل ويبين ما في القرآن العظيم.

ومع الأيام جدَّت على الأمة الإسلامية ظروف ثقافية بسبب خلطتهم مع أمم أخرى، واطِّلاعهم على ثقافات وافدة، وهم في حالة من الضعف المادي والارتباك الاجتماعي والمعاناة أمام الغزو الثقافي والعسكري والاقتصادي، وهذه ظروف تؤثر سلباً على الأمة.

فرأينا من يتعامل مع علم الحديث كما يتعامل مع علم الحساب، يراها قواعد جامدة ليس فيها بُعْدٌ إنساني ولا اعتبار اجتماعي وثقافي، ويهدف من وراء ذلك إلى خلخلة الثقة ببعض نصوص الحديث التي كانت مسلَّمة عند السلف الصالح، ولم ترق لبعض المتأثرين بالثقافة الوافدة.

ورأينا من يتطاول على أعلام علم الحديث لأسباب متعددة، منها: حب الظهور، في الوقت الذي يُعَدُّون فيه عالة على أولئك الأعلام، سواء من حيث نص الحديث أو من حيث قواعد ضبطه، فلا شك أنهم ما أخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل بواسطة الأعلام من الرواة، وما خالطوا رواة الحديث بل عرفوا عنهم من خلال ما كتبه أولئك الذين دونوا سيرتهم، وما استقلوا بوضع ضوابط هذا العلم بل وجدوها منقحة ممحصة لا مزيد عليها فتعاملوا بموجبها، ثم سولت لهم أنفسهم أن يتطاولوا على من أخذوا عنهم باسم الموضوعية والتجرد في البحث!!

ورأينا أسوأ من هذا كله، أشباحاً يريدون حذف السنة كلِّها من الاعتبار التشريعي، بحجة عدم تواترها، فلا يبقى إلا القرآن مصدراً للتشريع، فيتخففون من الواجبات والالتزامات التي جاءت بها السنة، ويؤولون القرآن كما يحلو لهم؛ لأن بعض آيات القرآن يحتمل وجوهاً، فيحملونه على ما يوافق مزاجهم، وهم بذلك يكشفون جهلهم، فإن الله تعالى كما أمر بطاعته أمر بطاعة نبيه، قال تعالى:(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) المائدة/92، وبعض ما في القرآن لا يُفهم إلا بالسنة، فأين في القرآن الكريم عدد ركعات الصلاة وتوقيتها وكيفيتها؟!

ومهما يكن من أمر فإن هذا اللغط حول السنة النبوية ونصوصها لا يروج إلا عند من جهل علم الحديث، ولم يدرك حال علماء الحديث وظروفهم، وقد قيل: "من جهل شيئاً عاداه".

فكان لا بد من نهضة علمية تنفي الشُّبَه، وتُصَحِّح النظر إلى علم الحديث، ولا بد أيضاً من مخاطبة كل عصر بما يفهمه أبناء ذلك العصر، مما يُجَلِّي غوامض هذا العلم، ويُنَبِّه إلى قواعد في التعامل مع النصوص ورواتها، توضيحاً لمناهجه بالشرح والبيان والاستشهاد وضرب المثال، مما يقرب للقارئ ما يجب أن يعرفه عن هذا العلم كما هو عند أصحابه من السلف الصالح الذين أرادوا بعلمهم وجه الله، وأرادوا خدمة الدين ونفع المسلمين، ولو لم يُنْسَب إليهم من هذه العلوم شيء.

ولعل هذه الجهود تُحيي في الأذهان من علم الحديث ما يجب أن يبقى فيها حيّاً. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

رقم المقال [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب



اقرأ أيضا

دراسات وبحوث

   اهتمام السُّنة النبوية بعوامل السلامة العامة

الفتاوى

   ليس بين الكتاب والسنة تعارض في شأن حد الردة

   هل يمكن أن تخالف السنةُ الصحيحةُ القرآنَ الكريم

   هل الجمع بين الصلوات في المطر من السنة؟


التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha