الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
فرضت زكاة الفطر طهرةً للصائم مما قد يقع فيه من اللغو والرفث، وعوناً للفقراء والمعوزين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ) رواه أبو داود.
والواجب في صدقة الفطر صاع من القمح، أو الشعير، أو التمر، أو الزبيب، أو الأرز، أو نحو ذلك مما يعتبر قوتاً غالباً، وذلك لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ) رواه البخاري، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: (كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ -أي قمح-، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ -اللبن المجفف-، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ) رواه البخاري.
ويختار المسلم منها ما يشاء حسب سعته وقدرته، وغالب قوت البلاد يختلف باختلاف البلدان، وتخرج من أفضله وأحسنه، كما نصَّ على ذلك فقهاء السادة الشافعية، جاء في [المهذب 1/ 304]: "تجب من غالب قوت البلد؛ لأنه حق يجب في الذمة تعلق بالطعام، فوجب من غالب قوت البلد كالطعام في الكفارة، فإن عدل عن قوت البلد إلى قوت بلد آخر نظرت؛ فإن كان الذي انتقل إليه أجود أجزأه، وإن كان دونه لم يجزئه، فإن كان أهل البلد يقتاتون أجناساً مختلفة ليس بعضها بأغلب من بعض؛ فالأفضل أن يخرج من أفضلها".
ولا يجزئ إخراج زكاة الفطر من اللحم عند الشافعية ولو تعارف الناس على أنه من قوت البلد؛ لعدم الاقتيات به عادةً، وقد نصَّ على ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله حيث قال: "ولا فرق في هذه المذكورات-أي الأقط واللبن والجبن-بين أهل البادية والحاضرة إذا كانت لهم قوتاً، لا لحمٌ ومَصْلٌ-هو ماء نحو الأقط- ومخيض وسمن، وإن كانت قوت البلد لانتفاء الاقتيات بها عادة" [تحفة المحتاج بشرح المنهاج 3/ 321].
فإن عُدم القوت في البلد أخرج المجزئ من قوت أقرب بلد إليه، يقول شيخ الإسلام الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "ومن لا قوت لهم مجزئ يخرجون من قوت أقرب محل إليهم" [تحفة المحتاج 3/ 321].
ويجوز إخراج زكاة الفطر لحماً عند الحنفية؛ لأنهم جوّزوا إخراج زكاة الفطر بالقيمة تيسيراً على الناس، وتحقيقاً لمصلحة الفقراء، كما صرح بذلك الإمام علاء الدين الكاساني رحمه الله، حيث قال: "فيجوز أن يعطي عن جميع ذلك -الأقوات الغالبة- القيمة دراهم، أو دنانير، أو فلوساً، أو عروضاً، أو ما شاء وهذا عندنا... ولنا أن الواجب في الحقيقة إغناء الفقير لقوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم)، والإغناء يحصل بالقيمة بل أتم وأوفر؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة، وبه تبيّن أن النص معلول بالإغناء" [بدائع الصنائع 2/ 73]، ويعطي قيمة الحنطة البالغة نصف صاع (1625غم)، قال الإمام السرخسي رحمه الله: "فإن أعطى قيمة الحنطة جاز عندنا" [المبسوط 3/ 107].
واشترط المالكية إخراجها من تسعة أصناف بحيث لا يجزئ غيرها مع وجود واحد منها ولو اقتيت ذلك الغير، وهي: البر، أو الشعير، أو السّلت -وهو شعير لا قشر له- أو التمر، أو الأقط، أو الزبيب، أو الدخن، أو الذرة، أو الأرز، فإن عدمت هذه الأصناف جاز إخراجها لحماً، قال الإمام شهاب الدين النفراوي رحمه الله: "وأما لو لم يوجد واحد منها -أي الأصناف التسعة- فإنه يجب الإخراج من أغلب ما يقتات من غيرها ولو لحماً أو زيتاً، لكن يخرج منه مقدار عيش الصاع من القمح وزناً؛ لأن عيش الصاع من القمح أكثر" [الفواكه الدواني 1/ 348].
وعليه؛ لا يجوز أن تخرج زكاة الفطر لحمًا عند الشافعية، وأجازها الحنفية مطلقا، والمالكية بشرط انقطاع الأقوات التي نصوا عليها، فالأولى عدم إخراجها لحماً خروجاً من خلاف من منع ذلك، لكن من قلد من أجاز إخراجها لحماً صحت منه. والله تعالى أعلم.