السؤال:
ما يقول سيدنا في قول الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله في كتاب "الإحياء"، لما ذكر معرفة الله سبحانه وتعالى والعلم به قال: "والرتبة العليا في ذلك للأنبياء، ثم للأولياء العارفين، ثم للعلماء، ثم للصالحين"، فقدم الأولياء على العلماء وفضلهم عليهم، وقال الأستاذ القشيري رحمه الله في أول رسالته: "أما بعد: فقد جعل الله سبحانه هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه صلى الله عليه وسلم"، فهل هذا كقول أبي حامد رحمه الله، وهل هذا المذهب صحيح، أم لا.
الجواب:
أما تفضيل العارفين بالله تعالى على العارفين بأحكام الله عز وجل، فقول الأستاذ وأبو حامد رحمهما الله تعالى فيه: متفق، ولا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال، ونعوت الكمال، وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفين بالأحكام، بل العارفون بالله تعالى أفضل من أهل الفروع والأصول؛ لأن العلم بشرف المعلوم وبثمراته.
فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم من جهة أن متعلقه أشرف المعلومات وأكملها، ولأن ثماره أفضل الثمرات، فإن معرفة كل صفة من الصفات توجب حالاً عليه، وينشأ عن تلك الحال ملابسة أخلاق سَنيةٍ ومجانبة أخلاق دنية.
فمن عرف سعة الرحمة أثمرت معرفته سعة الرجاء، ومن عرف شدة النقمة أثمرت معرفته شدة الخوف، وأثمر خوفه الكف عن الإثم والفسوق والعصيان مع البكاء والأحزان، والورع وحسن الانقياد، والإذعان.
ومن عرف أن جميع النعمة منه أحبه، وأثمرت المحبة آثارها المعروفة، وكذلك من عرفه بالتفرد بالنفع والضر، لم يعتمد إلا عليه، ولم يُفوض إلا إليه، ومن عرفه بالعظمة والجلال هابه وعامله معاملة الهائبين المعظمين من الانقياد والتذلل وغيرهما. فهذه بعض ثمار الصفات، ولا شك أن معرفة الأحكام لا تورث شيئا من هذه الأحوال ولا من هذه الأقوال والأعمال، ويدل على ذلك الوقوع، فإن الفسوق فاشٍ في كثير من علماء الأحكام، بل أكثرهم مجانبون للطاعة والاستقامة، بل قد اشتغل كثير منهم بأقوال الفلاسفة في النبوات والإلهيات. فمنهم من خرج عن الدين، ومنهم من شك، فتارة يترجح عنده الصحة، وتارة يترجح عنده البطلان (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) التوبة/ 45.
والفرق بين المتكلمين من الأصوليين وبين العارفين: أن المتكلم تغيب عنه علومه بالذات والصفات في أكثر الأوقات، فلا تدوم له تلك الأحوال، ولو دامت لكان من العارفين؛ لأنه شاركهم في العرفان الموجب للأحوال الموجبة للاستقامة.
وكيف يساوى بين العارفين، وبين الفقهاء، والعارفون أفضل الخلق وأتقاهم لله تعالى، والله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/13، ومدحه تعالى في كتابه للمتقين أكثر من مدحه للعاملين.
وأما قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر/28، فإنما أراد العارفين به وبصفاته وأفعاله، دون العارفين بأحكامه، ولا يجوز حمل ذلك على علماء الأحكام؛ لأن الغالب عليهم عدم الخشية، وخبر الله تعالى صدق، فلا يحمل إلا على من عرفه وخشيه.
وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو ترجمان القرآن العزيز، ثم إنا نقول: العلماء بالأحكام أقسام:
أحدها: من تعلّم لغير الله تعالى، وعلّم لغير الله عز وجل، فعلم هذا وتعليمه وبال عليه.
الثاني: من تعلم لغير الله تعالى وعلم لله، فهذا ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، ولا أدري هل يقوم إحسانه بإساءته أم لا.
الثالث: من تعلم لله تعالى وعلم لغير الله عز وجل، فهذا كأوله أو أشد إثما منه.
الرابع: من تعلم لله وعلم لله تعالى، فهو ضربان:
أحدهما: أن لا يعمل بعلمه، فهذا شقي، ولا يفضل على أحد من أولياء الله عز وجل. وإن عمل بعلمه: فإن كان عالما بالله تعالى وبأحكامه فهذا من السعداء، وإن كان من أهل الأحوال العارفين بالله عز وجل فهذا من أفضل العارفين، إذ حاز ما حازوه وفَضَلَ عليهم بمعرفة الأحكام وتعاليم أهل الإسلام.
وأما قول من يقول: العمل المتعدي خير من العمل القاصر، فإنه جاهل بأحكام الله تعالى، بل للعمل القاصر أحوال:
إحداهن: أن يكون أفضل من المتعدي، كالتوحيد، والإسلام، والإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه واليوم الآخر.
وكذلك الدعائم الخمس إلا الزكاة، وكذلك التسبيح عقيب الصلوات، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه على التصدق بفضول الأموال، وهو متعدٍ وقال: (أقرب ما يكون العبد من الله تعالى إذا كان ساجداً) [رواه مسلم]، وقال: (خير أعمالكم الصلاة) [أخرجه الدارقطني بلفظ قريب]، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟ فقال: الإيمان بالله. قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) [رواه البخاري ومسلم]. فهذه كلها أعمال قاصرة وردت الشريعة بتفضيلها.
القسم الثاني: ما يكون متعديه أفضل من قاصره، كبِرِّ الوالدين، إذ سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟ فقال: بر الوالدين) [رواه البخاري ومسلم]، وليست الصلاة بأفضل من كل عمل متعدٍّ، فلو رأى المصلي غريقاً يقدر على إنقاذه، أو مؤمناً يُقتل ظلماً، أو امرأة يزنى بها، أو صبياً تؤتى منه الفاحشة، وقدر على التخليص والإنقاذ لزمه ذلك مع ضيق الوقت، لأن رتبته عند الله تعالى أفضل من رتبة الصلاة، والصلاة إن قيل ببطلانها أمكن تداركها بالقضاء.
فهذان القسمان مبنيان على رجحان مصالح الأعمال، فإن كانت مصلحة القاصر أرجح من مصلحة المتعدي، فالقاصر أفضل من المتعدي، وإن كانت مصلحة المتعدي أرجح، قدمت على القاصر، فتارة نقف على الرجحان، فيقدم الراجح، وتارة ينص الشرع على تفضيل أحد العملين فنقدمه وإن لم نقف على رجحانه، وتارة لا نقف على الرجحان، ولا نجد نصا يدل على التفضيل، فليس لنا أن نجعل القاصر أفضل من المتعدي، ولا أن نجعل المتعدي أفضل من القاصر، لأن ذلك موقوف على الأدلة الشرعية.
فإذا لم يظهر شيء من الأدلة الشرعية لم يجز أن نقول على الله تعالى ما لا نعلمه أو نظنه بدلالة شرعية. والله اعلم.
إذا استوى الناس في المعارف بحيث لا يفضل بعضهم بعضاً في ذلك، فلا فضل لبعضهم على بعض إلا بتوالي العرفان واستمراره؛ لأنه توالي شرف قد فات البعض، وفاز به البعض.
وكذلك لا تدوم الأحوال الناشئة عن هذه المعارف إلا بدوام المعارف، ولا تدوم الطاعات الناشئة عن الأحوال إلا بدوام الأحوال، فإذا دام صلاح القلب بدوام المعارف والأحوال دام صلاح الجسد بحسن الأقوال واستقامة الأعمال، وإذا غلبت الغفلة على القلب غابت الأحوال الناشئة عن المعارف ففسد بذلك، وفسدت بفساده الأقوال والأعمال.
وللمعارف رتب في الفضل والشرف، يترتب فضل الأحوال الناشئة عنها على رتبها في الفضل والكمال، وكذلك ما يترتب عليها من الأقوال والأعمال، فالحال الناشئة عن معرفة الجلال والكمال ينشأ عنها أفضل الأعمال، وهو التعظيم والإجلال، وملاحظة شدة الانتقام ينشأ عنها الخوف، وملاحظة سعة الرحمة ينشأ عنها الطمع والرجاء، وملاحظة التوحيد بالنفع والضر ينشأ عنها التوكل على الله تعالى في جميع الأحوال، فالهائب أفضل من المحب، والمحب أفضل من المتوكل، والمتوكل أفضل من الخائف، والخائف أفضل من الراجي، فهذه نبذة من أوصاف العارفين بالله تعالى.
ومما يدل على فضلهم على الفقهاء: ما يجريه الله تعالى عليهم من الكرامات الخارقة للعادات، ولا يجري شيء من ذلك على أيدي الفقهاء إلا أن يسلكوا طريق العارفين، ويتصفوا بأوصافهم، وما سبقكم أبو بكر رضي الله عنه بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره رحمه الله.
ولا يصح قول من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فضل بأعماله الشاقة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل بتكليم الله تعالى إياه تارة على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم، وتارة من غير واسطة، وكذلك فضل بالعلوم التي يختص بها الرسل والأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وكذلك فضل بالمعارف والأحوال، ولهذا قال: (إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله تعالى وأشدكم له خشية) [رواه البخاري ومسلم]، وكذلك لما احتقر بعضهم قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيامه، وصلاته إلى صلاته؛ أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أن تفضيله عليهم إنما كان بمعرفته بالله تعالى، وهذه أكبر جهات تفضيل رسول الله، ولا مشقة عليه فيها، وكيف لا يكون كذلك، والله تعالى يقول لموسى صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي) الأعراف/144.
ومثل هذه المقالة لا تصدر إلا عن جلفٍ جاف، وكيف يفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعماله الشاقة مع أنه لا نسبة لأعماله وصبره وتأذّيه بقومه بأعمال نوح صلى الله عليه وسلم وصبره وتأذّيه من قومه.
وما أسرع الناس إلى أن يقولوا ما ليس لهم به علم، ولو أنهم سألوا إذا جهلوا لكان خيرا لهم. والله أعلم.
"فتاوى العز بن عبد السلام" (رقم/14)