الوظيفة المجتمعية للكتابة والتأليف
للتأليف والكتابة وظائف عدة يراعيها المؤلف مثل أن يجمع المتفرقات أو أن يبيّن الغامضات، أو أن يحلّ المشكلات، وهكذا، ولكن مجموعة من علماء المسلمين نظروا إلى وظيفة مختلفة تماما، وهي الوظيفة المجتمعية، أي أن المقصد من التأليف تقديم خدمة للمجتمع وللأمة، وليس لطلاب العلم والمعرفة فقط. وهذه الخدمات تختلف بحسب ما يلحظه العالم من مشكلات تستلزم حلولا لها، وأضرب على هذا الكلام ثلاثة أمثلة للتوضيح والبيان:
كتب الإمام أبو المعالي الجويني (ت478هـ) المعروف بإمام الحرمين كتابه الشهير [غياث الأمم في التياث الظلم] بناء على فرض مفاده: ما العمل إذا خلا الزمان من أهل العلم والاجتهاد؟ فنراه يحمل همّ الأمّة، ويوجد لها الحلول لهذه المشكلة التي ربّما يتعرض لها مجتمع من المجتمعات، وهكذا نلحظ الفكر الذي يخدم المجتمع ويضع المشكلة وحلها، وهو يقول في ذلك: "وأبين أن المستند المعتضد في الشريعة نقلتها، والمستقلون بأعبائها وحملتها، وهم أهل الاجتهاد الضامون إلى غايات علوم الشرع شرف التقوى والسداد، فهم العماد والأطواد، فلو شغر الزمان عن الأطواد والأوتاد، فعند ذلك ألتزم شيمة الأناة والاتئاد، فليت شعري ما معتصم العباد، إذا طما بحر الفساد؟ واستبدل الخلق الإفراط والتفريط عن منهج الاقتصاد، وبلي المسلمون بعالم لا يوثق به لفسقه، وبزاهد لا يقتدى به لخرقه! أيبقى بعد ذلك مسلك في الهدى، أم يموج الناس بعضهم في بعض مهملين سدى، متهافتين على مهاوي الردى؟".
ثم يأتي حجة الإسلام الإمام الغزالي (ت505هـ) تلميذ إمام الحرمين ليسير على ذات الطريق، ولعلّ هذا الفكر كان قد تسرّب إليه من شيخه، أعني همّ الأمة والمجتمع، فالإمام الغزالي عندما لاحظ أنّ معظم الناس قد عزفت عن سلوك طريق الآخرة، واتبعت أهواءها وشهواتها، وأن زمانهم قد ضنّ عليهم بورثة حقيقيين للأنبياء، فخلا الزمان من الدّالين على الله، إلا من رحم الله تعالى، عندها أراد أن يسدّ هذه الثغرة، ليصحح بوصلة الأمة والمجتمعات المسلمة، من خلال كتابه القيّم [إحياء علوم الدّين] يقول حجة الإسلام: "فأدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وقد شغر منهم الزمان ولم يبق إلا المترسمون، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان واستغواهم الطغيان، وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفا، فصار يرى المعروف منكراً والمنكر معروفاً، حتى ظل علم الدين مندرساً، ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمساً... فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقها وحكمة وعلماً وضياء ونوراً وهداية ورشداً فقد أصبح من بين الخلق مطوياً، وصار نسياً منسياً. ولما كان هذا ثلماً في الدين ملماً وخطباً مدلهماً، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهما إحياء لعلوم الدين، وكشفاً عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحاً لمباهي العلوم النافعة عند التبيين والسلف الصالحين".
ثم يأتي شيخ الإسلام الإمام تاج الدين السبكي (ت771هـ) ليجيب عن سؤال يتردد بين الناس وله انعكاس على حياتهم، وهو: ما السبيل إلى عودة النعم إلى الإنسان بعد فقدانها؟ ويتكلم عن أرباب الصنائع والوظائف والتجار، وما يخص كل واحد منهم، وهو يلخص ذلك في مقدمة كتابه [معيد النعم ومبيد النقم] فيقول: "هل من طريق لمن سلب نعمة دينية أو دنيوية إذا سلكها عادت إليه وردت عليه؟ وأنا أرجو أن من كانت عنده نعمة لله تعالى في دينه أو دنياه وزالت، فنظر هذا الكتاب نظر معتقد، وفهمه وعمل بما تضمنه بعد الاعتقاد، عادت إليه تلك النعمة أو خير منها، وزال همه بأجمعه، وانقلب فرحا مسرورا".