دور المرأة في الهجرة- دروس وعبر
الهجرة النبوية من أهم الأحداث في التاريخ الإسلامي، حيث شكلت نقطة تحول حاسمة في تاريخ المسلمين. ومن المهم أن نلقي الضوء على دور المرأة في هذه الهجرة العظيمة، فقد كان لها دور بارز وفعّال في نجاحها وتحقيق أهدافها.
وأول من كان لها السبق والفضل في الهجرة النبوية السيدة خديجة رضي الله عنها، فهي كانت أول من ساند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت بيده وآمنت به وصدقته وواسته بمالها، فكانت رضي الله عنها المأوى للنبي صلى الله عليه وسلم، وبذلت الغالي والنفيس مقابل تثبيت النبي على دعوته ورسالته، لكنها لم تدرك اللحظات التي ترى فيها دولة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد التحقت بالرفيق الأعلى قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين.
ولم يتوقف دور المرأة بموت السيدة خديجة رضي الله عنها، بل هي كانت البداية ونقطة الانطلاق لما بعدها من أدوار وجهود وتضحيات سطرها التاريخ، ففي السطور التالية بعض أدوار الصحابيات المجاهدات اللواتي ساهمن في إتمام هجرة النبي صلى الله عليه وسلم:
بداية الأمر لم يكن يعلم بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا سيدنا أبو بكر وعلي رضي الله عنهما وابنتاه أسماء وعائشة رضي الله عنهن، ومن ذلك نستنتج أنه جعل أسماء وعائشة رضي الله عنهما محلَّ ثقته وسره ولم يخشَ منهما على أمر الهجرة، وهو أعظم حدث في تاريخ الإسلام، بدليل أنه لم يتحدث مع أبي بكر رضي الله عنه في أمر الهجرة إلا بعد معرفته بأنهما وحدهما الموجودتان عنده، وإلا لأخرجهما من البيت لينفرد بالسر هو وأبو بكر وحدهما، وهذا في حد ذاته دليل على أن دور المرأة لا يقل أهمية عن دور الرجل في حماية الدعوة والمشاركة في إنجاح الهجرة النبوية.
ومن مواقف المرأة المسلمة في الهجرة ما روته السيدة أسماء رضي الله عنها، قالت: "لما خرج رسول الله وأبو بكر الصديق، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا عند باب أبي بكر؟ فخرجت إليهم، فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشًا خبيثًا - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي" [السيرة النبوية لابن هشام].
ولما كانت الرحلة طويلة، فإنها تحتاج إلى إعداد وتجهيز، ومَن غير المرأة يجيد هذا الدور؟ لقد دفع أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالراحلتين اللتين أعدَّهما للهجرة إلى بناته أسماء وعائشة رضي الله عنهما فجهزتاهما أحسن الجهاز، وتروي أسماء رضي الله عنها ما صنعت، فقالت: "صنعتُ سُفْرةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بيتِ أبي بكر ٍرضي الله عنه حين أرادَ أن يهاجرَ إلى المدينةِ، قالت: فلم نجدْ لسُفرتِه، ولا لسِقائِه ما نربطُهما به، فقلت لأبي بكرٍ: واللهِ ما أجدُ شيئًا أربطُ به إلا نِطاقِي، قال: فشقِّيهِ باثنيْن فاربِطِيه بواحدِ السقاءِ وبالآخرِ السُّفرةِ ففعلتُ، فلذلكَ سُمِّيتْ ذات النِّطاقيْن" [صحيح البخاري].
وإذا كان الرحل سيمكث على أطراف مكة ثلاث ليال، فقد ينفد الزاد، وهنا لا بد أن يستمر دور المرأة ولا يتجمد في أي مرحلة من مراحل الدعوة مهما كان حجم هذا الدور، ومهما كانت طبيعة المرحلة، وهنا تكون المرأة أقدر على تأمين الزاد، وهو دور يناسبها كامرأة كما ناسب أخاها عبد الله نقل الأخبار إذ هو بطبيعته أقدر لهذه المهمة.
ومن ثم فإننا:
لا نستطيع إلا وأن نعرج ونلقي الضوء إلى شخصية أسماء العجيبة رضي الله عنها، وهي الأنثى الحامل في شهورها الأخيرة، تصعد الجبل الذي يعجز المسلم العادي صعوده، أسماء المرأة التي لم يكن همها الدنيا وزينتها، بل هي المؤمنة التي يشغلها أمر الدعوة، فلا عجب أن تكتم السر في شجاعة، وتستقبل أبا جهل وأصحابه في قوة، وتشق نطاقها وهي راضية، وتتحمل لطم خدها وهي صابرة، وهي سعيدة بما تصنع من أجل دينها ورسالتها.
ومن مواقف النساء في الهجرة موقف أم سلمة رضي الله عنها التي حدثت به عن نفسها وزوجها فيما روته قالت: "لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيرًا ثم حملني عليه وجعل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رآه رجال من بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه، عند ذلك غضب بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، وقالوا: والله عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق أبو سلمة إلى المدينة، وهكذا تفرقت الأسرة الصغيرة، الزوجة عند قومها، والولد عند قوم أبيه، والزوج هاجر إلى المدينة، قالت: فكنت أخرج كل يوم فأجلس في الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبًا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي فرأى ما بي فرحِمني، فقال: ألا تخرجون من هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها، فقالوا لي: الحقي إن شئت، قالت: فرد بنو عبدالأسد عن ذلك ابني، فارتحلت على بعيري، فلما بلغت التنعيم لقيني عثمان بن أبي طلحة، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ قالت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أوما معك أحد؟ قالت: ما معي أحد إلا الله وبني هذا، فقال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي؛ فوالله ما صحبت من العرب قط رجلًا أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت أخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي، فما زال يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة نازلًا فيها. [السيرة النبوية لابن هشام 1/ 469].
وكان عدد النساء اللواتي هاجرن إلى الحبشة الهجرة الأولى أربع نسوة، ثم لحق بهم في الهجرة الثانية كما ذكر أهل السير ثماني عشرة امرأة أو تسع عشرة امرأة.
هذه هي المرأة المسلمة في حدث واحد من أحداث الإسلام الكبرى والأخطر في مسيرته ومرحلته، فلا يمكن لمنصف عاقل أن يغفل دور المرأة وما ساهمت به من جهود لنشر دعوة الإسلام، وكان لها مشاركات في جميع مراحل الدعوة، فهي جزء لا يتجزأ من المجتمع المسلم الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم.