الهجرة النبوية المشرفة
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغرّ الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
إن مناسبة الهجرة النبوية المشرفة محطة مهمة في حياة كلّ مسلم لما فيها من معان خالدة يستلهم من ثناياها المعاني والعبر، ويسترشد بهديها إلى طريق الفلاح، ويستنير بقبسها إلى خير الدنيا والآخرة، خاصة في ظلّ ما تعيشه الأمة اليوم من ظروف استثنائية تهدد هويتها، ومعاول تحاول هدم أركانها، وخطر محدق بأقدس مقدساتها، لذلك كانت ذكرى الهجرة النبوية هي التاريخ الخالد الذي أعلن ولادة أمةٍ ربانية وحجر الأساس في بناء مجد اشترك في تشييده جميع أبناء المجتمع من مهاجرين وأنصار بسواعد الجد والاجتهاد، وروح الأخوة والتعاون يقول الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:8-9]، فكان هذا الاجتماع سبباً في اختيار هذه الحادثة لبداية تأريخ الأمة حافزاً لحماية مكتسباتها، ودافعاً للحفاظ على عزها وشموخها.
فالهجرة النبوية المشرفة كانت هي المحطة التي غيرت مجرى التاريخ، ورسمت خريطة أمةٍ ولدت من رحِم المعاناة بعد بذل التضحيات العظيمة، وصبر على الأذى، لتذكر الإنسان بهويته وفطرته التي خلقه الله تعالى عليها، وترجعه إلى مقام العبودية التي أرادها الله تعالى للناس، من خلال منهج صحيح يقوم على التخطيط الحكيم، فبناء الأمم يحتاج إلى سواعد تبني أمجاده بسواعد الإخلاص، وعزيمة لا تقبل لصاحبها الكسل والخمول، لذلك أعلنها المهاجرون والأنصار في مدينتهم المباركة، وصدحت بها أصواتهم المبتهلة، المستبشرة ببداية جديدة:
لئن قعدنا والنبي يعمل فذاك منا العمل المُضلل
هذه الكلمات القليلة التي هتفت بها حناجر الصحابة الكرام، لها معانٍ عظيمة انعكست آثارها على بناء أمةٍ على أساس ثابت ومثابرة لا نظير لها، فالله سبحانه وتعالى قادر على أن ينقل النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بطرفة عين أو أقل كما حصل في معجزة الإسراء والمعراج التي جاءت لتسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنّ بناء الأمم لا يقوم على المعجزات، وعزتها لا تبنى على مشاعر وجدانية عابرة، ولا على ردات فعل عشوائية، بل هو عمل دؤوب يقوم على إرادة حقيقية تحمل في سبيلها النبي صلى الله عليه وصحابته الكرام أشد أنواع العذاب في سبيل هداية الناس إلى طريق الحق والإيمان، وصبر معها النبي صلى الله عليه وسلم على أذى القريب والبعيد، وتحمل عناء سفر طويل في صحراء مقفرة بحثاً عن أرضٍ خصبة لزراعة بذور الإيمان بعد أن تحولت قلوب أهل مكة إلى صخرة صمّاء لا تنتج زرعاً ولا تثمر ينعاً، وتحولت صلة القربى بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قطيعة وعداوة.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفقد الأمل بقلوب حية بحث عنها في أرض يثرب التي طابت بمقدمه وتنورت بطلعته صلى الله عليه وسلم، فانتقل من بلدٍ أهلها يلاحقونه بالسيوف، إلى بلد أهلها يحيونه بالدفوف، ليبدأ بنشر الخير والفضيلة، ومعه ثلّة من المؤمنين الصادقين يساندونه وينصرونه.
وقد رافق هذه المسيرة تخطيط سليم، ومنهج قويم في التفكير، وتنظيم للجهود، وتوظيفٍ للقدرات، للوصول إلى قطف ثمار النجاح، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة، حيث اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم جميع الأسباب من تجهيز الراحلة، وتغيير طريق المسير، واتخاذ الدليل المرشد في الصحراء، والاحتماء في غار ثور، ولكن هذه الأسباب وحدها بحاجة إلى نصرة وتوفيق ومعونة من الله سبحانه وتعالى، وهذا ما كان منه صلى الله عليه وسلم حين عثر المشركون على مكانه في غار ثور رغم اتخاذ جميع وسائل الحماية، حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا"، فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بلغة الواثق من ربه سبحانه وتعالى: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، يقول سبحانه وتعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40].
لقد هدم الهجرة النبوية المشرفة عبادة الأوثان والشرك في المدينة المنورة، وطوت صفحة من تاريخ المدينة المليء بالأحقاد الجاهلية، والصراعات التي أججها يهود المدينة المنورة، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعاً عماده المحبة والأخوة بين الناس، وجعل صلة الدين أقوى من صلة الدم والنسب، حتى يعلم المؤمنون أنهم أمة واحدة وجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، هذه الحقيقة التي يجب أن تبقى حاضرة في وجدان الأمة لكي تبقى قوية عزيزة.
وفي ظل الظروف التي تعيشها أمتنا اليوم، تعلمنا الهجرة المشرفة أن المحافظة على المقدسات بحاجة إلى عمل دؤوب، وأن أعداء الأمة الذين واجهوا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة من اليهود والمنافقين ما زالوا يحاولون هدم هوية الأمة وحضارتها، والاعتداء على مقدساتها، وهدم أركانها، بنفس الوسائل والأساليب وإن اختلف الزمان والمكان وتغيرت الوجوه.
لذلك ينبغي للمسلمين التنبه إلى هذا الخطر الداهم الذي يحيط بأمتنا، وأن نجعل من معاني الهجرة المشرفة، مفتاحاً لمواجهة هذه التحديات، بأخوة المسلمين واتحادهم، والتفافهم حول راية وحدتهم، وبتخطيط سليم وعمل دؤوب، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ستبقى هذه الأمة قوة في وجه هذه التحديات، مصداقاً لقول النبي صلى عليه وسلم: (بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمِ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ) مسند الإمام أحمد.
والحمد لله رب العالمين