التربية العقلية عند علماء الكلام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنّ الله عزّ وجلّ قد أنعم على الإنسان بالإيجاد، وتمّم نعمته هذه بأنْ جعله من ذوات الاستعداد، قابلاً للتهيئة والتطور والتغير من حال إلى حال، ثم لم يقتصر كرم الله تعالى على نعمة الإيجاد ومنح الاستعداد، بل أمدّه بالمرشدين والمربّين من الأنبياء والمرسلين، وأيّدهم في سبيل ذلك بالمعجزات القاهرة، والحكمة الباهرة، التي لا يجد الإنسان في اتباعها من ضير، بل تهديه إلى خير بعد خير، حتى يكون للإنسان باتباعهم كمال عقلي وروحي وعملي يهديهم إلى مراشدهم في الدنيا، وتؤمّنهم من المخاوف يوم القيامة.
مفهوم التربية والتربية العقلية
والتربية مأخوذة في اللغة من ربّ فلان الشيء، أي قام عليه فأصلح شأنه، ويكون ذلك بلزوم الشيء والانعطاف عليه، فالتربية هي تدبير الشيء وحسن التصرف فيه والنظر في أحواله لتكون عاقبته خيراً من أول أمره، ولأجل عظيم شأن التربية وشدّة الحاجة إليها وصف الله تعالى نفسه بأنه ربّ العالمين، أي مدبر شؤونهم من جميع وجوه التدبير، والتربية هي فعلٌ يقع من المربّي تجاه من وقعت عليه التربية، وغايته أن يحصل الكمال اللائق بالمتربّي شيئاً فشيئاً، رتبة بعد رتبة، أي بالتدريج الذي يتأتّى معه ظهور أثر التربية وثمرتها المرجوة، قال شيخ الإسلام المفسر أبو السعود رحمه الله تعالى: "والرب في الأصل مصدرٌ بمعنى التربية، وهي تبليغُ الشيء إلى كمالِه شيئاً فشيئاً".
ولا شك أنّ جوانب التربية كثيرة جداً، تندّ عن الحصر، فمنها التربية البدنية والأخلاقية والعلمية والعقلية والروحية، ولكن أخصّ في مقالي هذا جانباً من تلك الجوانب، وهي التربية العقلية عند طائفة خاصة من علماء المسلمين، وهم علماء الكلام، وهم الذين يشتغلون ببيان العقيدة الإسلامية الصحيحة المأخوذة من كتاب الله تعالى وسنة سيدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع إثباتها بالدلائل اليقينية ودفع الشبه عنها، ويدبّرون في سبيل ذلك كل ما يُحتاج إليه من وسائل الفكر والتعاون على الحقّ، ولذلك فهم أرباب العقائد الإسلامية وأهل العلم بها.
والتربية العقلية هي إجراءات معينة من شأنها أن يتحلّى الإنسان بالكمالات العقلية تدريجاً، فإن الإنسان في مبدأ تمييزه العقليّ قادر على إدراك الفرق بين الصواب والخطأ بصورها البسيطة، ثم يحتاج بعد ذلك إلى الفرق بينهما في صور أقل بساطة، ثم ما تلبث حتى تكون مركبة وأكثر تعقيداً، ويسعى المتكلمون في أساليبهم العلمية والتربوية إلى أن يصير الإنسان قوياً في تعقّله قادراً على إدراك أدقّ دقائق الأمور التي قد تتداخل على وجه التوافق أحياناً، وعلى وجه التعارض أحياناً، بل يسعون إلى حصول ملكة علمية راسخة للإنسان يتمكن بها من إدراك الأمور بصورة مطابقة للحقّ مطابقة تامة، بحيث لا يحتاج إلى تقليد أحد، ليكون في أفكاره وآرائه على صفة الكمال الممكن، فتتحقق له الحرية الفكرية بصورة حقيقة لا تجنح إلى الانفلات من الحقيقة، ولا تقصر عن إدراكها.
مظاهر التربية العقلية عند المتكلمين
من مظاهر التربية العقلية عند المتكلمين ما يقررونه في مسائل الكلام تبعاً لنصوص الشريعة الإسلامية، وأنا أذكر شيئاً منها، فمن ذلك:
الإرشاد إلى وجوب النظر والفكر وإعمال العقل، فلا مجال للتقليد والاتباع الأعمى لقول فلان أو فلان -كائناً من كان في العلم أو الولاية والصلاح أو السلطة والجاه- بدون تمحيص رأيه ومعرفته حقّه من باطله، حتى إن المتكلمين والفقهاء اتفقوا على تخطئة مسلك من بنى اعتقاده على مجرّد التقليد، وعدّوه على شفا حفرة من الشكّ والريبة سرعان ما تنهار به في أودية الضلال، وذلك منهم تلبية لمئات من الآيات الآمرة بالتفكر والتدبر والنظر، منها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُون} [الروم: 8]، والآيات التي تتضمن ثناء الله تعالى على أرباب الفكر والحجج، كقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} [الأنعام: 83]، والآيات التي ذمّت طريق التقليد التي كانت سبباً في كفر الكافرين، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُون} [الزخرف: 23].
ومن التربية العقلية المقررة عند أهل السنة والجماعة أنهم يبنون العقائد الإسلامية على الأدلة اليقينية، فلا محلّ في العقيدة للخرافات والأباطيل وما لا أصل له من العادات والتقاليد واتباع الآباء، فضلاً عن بناء العقيدة على المصالح الشخصية أو الضغوط الاجتماعية، بل كلّ شيء ينبني على الحقائق والبراهين، وهذا ما ينصّون عليه في تعريف علم العقائد بأنه "إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية".
ومن مظاهر التربية العقلية أيضاً أنهم يبدؤون في تقرير العقائد بالأصول الكبرى، ثم يتدرّجون في إثبات ما ينبني عليها مما هو دونها ومتوقف عليها، فهم يشتغلون أوّلاً بالمعارف الإلهية، فيثبتون وجود الله تعالى وصفاته وما يتعلّق بأفعاله سبحانه، ثمّ يعطفون على ذلك إثبات نبوة الأنبياء الذين هم رسل الله تعالى إلى خلقه، مبينين صفاتهم اللائقة بهم وأحوالهم ودرجتهم بالنسبة للمؤمنين، ثم يبينون ما يحتاج إلى معرفته من أمر الآخرة وما يكون فيها مما ينبغي للإنسان أن لا يغفل عنه، ويجعلون كل ما ذكر في أبواب خاصة، منظمة تنظيماً خاصاً، ويستدلون على كل واحدة من المسائل بما يناسبها من الأدلة، ولا يخفى ما في هذه التراتيب والتنظيمات من تنمية للقدرة الذهنية وتمكين للقوة العقلية في الإنسان، بحيث تمنحه زمام مبادرة النظر في الآراء ومعرفة صوابها من خطئها.
ومن مظاهر التربية العقلية عند المتكلمين حكاية مذاهب المخالفين بصورة دقيقة بدون تجنّ عليهم أو افتراء، مع ذكر ما لهم من أدلة مع مناقشتها، فلا تجد لهم شهوة خاصة في إسكات أحد من المخالفين أو كتمان مسألة يُحتاج إليها في بحث من البحوث، كما أنهم يهملون من الأفكار ما حقّه الإهمال إن كان غير مؤسّس على دليل قابل للنظر والفكر والحوار.
ومن تلك التربية العقلية وضعهم كتباً مبتدئة يعلمونها للأطفال والمبتدئين في العلم، بحيث يقدمون لهم حاجتهم اللائقة بهم من المسائل، مع المحافظة على نفوسهم من أن تقع فريسة للتقليد أو الخطأ في العقائد، ثم يتدرجون في أوضاع الكتب من المختصرات إلى المتوسطات، ثم إلى المطولات وما بعد ذلك من الكتب البحثية الموسعة، فلا احتكار للمعرفة عندهم، بل هي مبذولة لأهلها وبشرطها وفي مرتبتها.
ومن التربية العقلية كذلك إيرادهم للشبه التي تعارض العقيدة الحقيقية، فلا يخفون منها شيئاً، ولكن يناقشونها وفق الاختصاص، وينظرون فيها نظر المنصف، فلا يبطلون كلام المخالفين بالجملة، ولكن يفصّلون الكلام في كلّ معلومة من المعلومات مورداً ومصدراً ودليلاً، بحيث يظهر للناظر الصواب من الخطأ بصورة جلية لا يرتاب معها في وجه الحقّ.
ومن أطرف طرق التربية العقلية عند المتكلمين إرشادُهم إلى إهمال بعض الآراء التي تخالف البديهيات أو تناكر الحسيّات، فلا تجدهم يحفلون بآراء أهل السفسطة والعناد، وكذلك قد يعرضون بعض الدعاوى العريضة لأصحابها، ثم يرشدون إلى أنها لا تستحقّ أن تُسمَع لخلوّها عن دليل يتقدّمها، وبرهان يسندها، فيعلمون الناس بذلك شجاعة أدبية وعلمية في التعامل مع الآراء والأفكار، مع الحزم اللائق في القضايا الكبرى، من ذلك ما ذكره السعد التفتازاني في مقاصده في بعض مسائل الفلاسفة: "الدعوى عالية والشبهة واهية"، يقصد بذلك تهافت ما يذكرونه لدرجة لا تستحقّ معها أن تناقش.
ومن أهمّ أساليب المتكلمين سعيهم في تفصيل المسائل تفصيلاً قد يملّ منه من لا يحتاجه أو لا يدركه، لكنه يكون حزّاً لمفاصل المسألة الدقيقة على الحقيقة، وذلك منهم سعيٌ حثيث في إعطاء العلم حقّه ومستحقّه، مبينين مقاصده ومواقفه وغايته، بحيث لا يتركون الحكم مجملاً في أذهان المفكرين والباحثين، وهم بذلك لا يتركون مجالاً لسوء الفهم أو خلل التعبير، بل لا يقنعون من البيان إلا بأوضحه وأتمه، فهذه أسماء أشهر كتبهم تجدها معبرة عن هذا المضمون "المقاصد، والمواقف، والقواعد، وأبكار الأفكار، والمحصل، والمطالب، والمعالم، والتبصرة" وغيرها من الكتب التي تحكي أسماؤها مضمونها بحقّ.
وهم في ذلك كلّه آخذون بحقّ البيان الذي كلف الله تعالى به الأنبياء والمرسلين، يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين} [المائدة: 67].
ثمرات التربية العقلية عند المتكلمين
وقد أنتجت هذه التربية العقلية ثمرات ونتائج كثيرة في نفوس من يمشي على الطريقة الكلامية، منها القدرة على إيضاح مسائل العلوم وتأصيلها وتفصيلها وإعادة بنائها وتحليلها، واتساع الأفق عند مناقشة الآراء، والقدرة على المحاورة بإنصاف واعتدال بغية الوقوف على وجه الحقّ والصواب، والبعد عن التعصب والعصبية وما يتصل بهما من دعوى احتكار المعرفة، أو التقليل من شأن المخالفين، أو تحقيرهم بغير وجه حقّ، أو فرض الآراء الفكرية عليهم، كما أنّ هذه التربية العقلية تنشأ إنساناً ذا نفس تأبى اتباع غير الحقّ، ولا يلتبس عليها الحقّ بالباطل، وهذا كله يمهّد لأنْ يكون عمل الإنسان عملاً مستقيماً، ويده نظيفة، وضميره نزيهاً عن ملابسة الباطل في اعتقاد أو قول أو عمل، وكل ذلك بشرط أن يلتزم الإنسان بأوثق عرى الرشاد، وأن يجانب طرق الغيّ والعناد، ولا أبالغ إن وصفت هذه التربية العقلية بأنها تجمع فضائل التربية العملية والخلقية والروحية، إن لم تكن مؤسّسة لها على الأقل، ولكن بشرط الالتزام بالعلم.
وبعد؛ فإنّ الكلام في شأن موضوعنا طويل الذيل، لا يأتي على مقاصده مقال قصير، لكن ما ذكرناه بعض من كثير، يهدي إلى سرّ اعتماد أهل السنة والجماعة في علومهم الأصلية (علم الكلام والأصول وما يخدمها من علوم المعقولات) طريقاً واضحاً ومنهجاً نجيحاً، حتى كاد أسلوب المتكلمين يطغى لكمال دقته على تصنيفات المصنفين في أبواب النحو والصرف والبلاغة، وتجاوز ذلك إلى كتب التفسير وشروح الحديث ومصطلحه وكثير من كتب الفقه، هذا إن لم نقل إنه بالفعل طبع التصنيف في هذه العلوم بطابعه العالي.
ونسأل الله تعالى أن يقوّينا للسير على خطى البصيرة التي امتاز بها علماؤنا الكرام التي هي أثر من آثار اتباع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علّمه الله تعالى وربّاه، وأرشده إلى أن يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} [يوسف: 108]. والحمد لله رب العالمين.