التحسين والتقبيح بين العقل والشرع
"من معالم منهجيات الفتوى والاستنباط في فقه أهل السنة والجماعة"
يقوم دين الإسلام على العبودية لله تعالى في كل شيء، ففعل المسلم واعتقاده وخلقه وتصرفاته في خاصة نفسه ومع الناس عامة، بل مع كل شيء يحيط به، منضبطة بهذا المعنى، مما يجعل الإنسان إذا أدرك ذلك مؤهَّلاً لمعرفة حقائق الألوهية، والقيام بحقوق العبودية، متنزهاً عن اتباع نفسِه هواها، وإيرادها موارد رداها، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُون} [الجاثية: 23].
وقد تناول علماء الأصلين -أعني علم الكلام وأصول الفقه- معلماً من معالم العبودية، وهي المسألة المشهورة بالتحسين والتقبيح، واستوعب المحققون هذه المسألة نظراً، فأوردوا فيها الأدلة، ووقفوا على جهات البحث فيها أخذاً وردّاً، وعرضوا جهات نظر المخالفين من المعتزلة وأجابوا عن تمسّكاتهم، حتى ظهر باطن أمر المسألة، وتقرر أن التحسين والتقبيح شرعي لا عقلي.
وأنا في هذا المقال لا أبغي سوى التنبيه على جملة ما في المسألة من محلّ النزاع، مبيّناً محلات الوفاق، وذلك دفعاً لشبهات وقع فيها من وقع من الكاتبين والمفكرين لا ينبغي إيرادها على أهل السنة والجماعة من المتكلمين والأصوليين والفقهاء، فأقول مستعيناً بالله تعالى طالباً منه التوفيق:
أما الحسن والقبح في اللغة فهما واضحان، وهما من المتضادات في المعنى، فالحُسْن ضد القبح، منشأ للمدح، والتحسين هو تزيين الشيء، وتصريف التفعيل يرجع إلى معنى الجعل، فالتحسين هو جعل الشيء حسناً، ومنه الحكم بالحُسْن، والتقبيح هو الحكم بالقبح، ولا خلاف بين الناس في شيء من ذلك، إذ اللغة فيه واضحة.
وأما ما وقع فيه الخلاف بين الفرق في أول أمر ذلك الخلاف؛ فهو: تحديد منشأ الحكم على فعل الإنسان بالحسن أو القبح، وبعبارة أخرى: ما علّة التحسين والتقبيح للأفعال والأحكام؟ فقول أهل السنة الموافق لأصول الاعتقاد أن منشأ ذلك هو حكم الله الذي لا يُعلم إلا بخبر الشريعة، ومنه قالوا بـ "التحسين والتقبيح الشرعي"، وذهبت المعتزلة ومن وافقهم إلى أقاويل تردّدت بين أن يكون منشأ التحسين والتقبيح هو الفعل في ذاته أو لصفة فيه، ويدرك ذلك العقلُ بمجرده ولا يتوقف على انتظار خبر الشرع، ومنه قالوا بـ "التحسين والتقبيح العقلي".
وأودّ التنبيه على أن من أسباب وقوع الخلاف بين العقلاء في بعض الأحيان ما يسميه علماء البحث والمناظرة بـ "عدم تحرير المراد"، حتى إذا تحرّر المراد أوشك الخلاف أن يزول في آخر الأمر وارتفع موجِبه، ولم يبق للمخالف مجال بعد تحرير المقال، ولذلك فإن البحث في المسألة المذكورة انجلى عن بطلان قول المعتزلة، واستوى البحث العلمي على سوقه بتأصيل التحسين والتقبيح على وفق الشرع، وجعل الفقهاء ذلك معياراً في الاستنباط والتفريع.
ولأجل البيان العلمي وواجب تحرير المراد؛ فإننا نجد المتكلمين والأصوليين في بحثهم للمسألة في كتب المتقدمين ومتون المتأخرين يشتغلون ببيان المراد وتحرير محل النزاع ومحل الوفاق قبل أي شيء، ونحن نفعل ذلك الآن، وهو غاية مرادنا من مقالنا، ونعقب عليه بكلمة موجزة لدفع بعض الإيرادات.
ذكر نخبة المتكلمين والأصوليين من طبقات الأشاعرة كالأشعري وتلامذته والباقلاني والجويني والغزالي والرازي والآمدي والبيضاوي وابن الحاجب والسبكي والسعد في الكتب المعتمدة وشروحها أنّ الحسن والقبح يقع في مدارك العقول على واحد من ثلاثة أشياء، وقد حصل وفاق بيننا وبين المعتزلة في منشأ اثنين منها، وحصل النزاع في منشأ الثالث، وأذكرها هنا على الترتيب([1]):
المعنى الأول: الحُسْن بمعنى الكمال، والقُبْح بمعنى النقص، فمثلاً عندما نقول: العلم وكمال صورة الجسد واكتمال قواه حَسَن، نريد بالحسن هنا أنه كمال، وأما الجهل أو فقد الجسد عضواً منه أو عدم اعتداله بحيث تراه مشوهاً، فكلّ ذلك قبيحٌ، نريد هنا بالقبح أنه نقصٌ، وقد قرّر الأشاعرة أنّ هذا الحسن والقبح بحسب هذا المعنى عقليّ لا ينتظر العقل فيه خبراً من الشارع، بل لو تصورنا هذه المعاني قبل وجود الشريعة لم نتوقف في الحكم بالحسن أو القبح على شيء من تلك الأشياء إذا علمنا كونها كمالاً أو نقصاً، وقرر أهل السنة أن هذا محل وفاق لا خلاف فيه بين العقلاء عموماً، لا المعتزلة ولا غيرهم.
المعنى الثاني: الحَسَن ما يلائم الطبع والغرض، والقبح ما يخالفه، فمثلاً: تناول الأغذية الحسنة وأطايب الطعام من كل لون تشتهيه النفوس، وتنشق الهواء العليل وتسريح النظر في معاني الجمال، كل ذلك يوافق طبع الإنسان وغرضه فهو حسن بهذا المعنى، ولا يتوقف إدراك حسنه على الشرع، وأما تحسّي السم الناقع أو التعرض للقتل والسلب ونحو ذلك، فهو لا يلائم طبع الإنسان ولا غرضه، فهو قبيح بهذا المعنى، وبين أهل السنة أنّ هذا المعنى يدرك بالعقل، وبينوا أنه محلّ وفاق بين العقلاء.
وأمّا المعنى الثالث: فالحسن هو ما يترتب على فعله ثواب يوم القيامة، والقبيح ما يترتب عليه العقاب، فمثلاً: أداء الحركات المعينة التي تسمى في الشريعة "صلاة" حَسَن، أي يترتب عليه الثواب يوم القيامة، وعدم أدائها قبيح، أي يترتب عليه العقاب يوم القيامة، وهذا المعنى الثالث وقع فيه الخلاف المشهور.
ومن الواضح أنّ قول أهل السنة هو الحقّ، فمن أين يعلم العقل بمجرّده ترتب الثواب أو العقاب على فعل ما؟ ومن أين له أن يعلم وجوب شيء أو حرمته ولا شرع أصلاً، بل كيف يحكم في شيء من ذلك مع علمه بموجب الأدلة العقلية نفسها أن ترتيب الثواب والعقاب على الأفعال، وجعل الشيء واجباً أو حراماً هو من خواصّ الألوهية، ومن متعلقات الإرادة الربانية المطلقة، التي لا يقيدها قيد، ولا يحدها حدّ، وأما عند العقل فهو من الأمور الجائزة التقدير على كل وجه، فكان العقل منتظراً لخبر الشارع ليحكم بالحسن أو القبح.
وقد بين الأئمة أنّ المعنى الثالث هو المتبادر عند النظر في منشأ التحسين والتقبيح، ومنه قالوا إنه شرعي، ولم ينكروا تحسين العقل وتقبيحه بحسب المعنى الأول والثاني.
وقد نوّه العلماء إلى تبادر المعنى الثالث، وأن قضية الثواب والعقاب دائرة على حقائق الألوهية وصفات القدرة والإرادة؛ فحكموا على القول بالتحسين والتقبيح العقلي بالمعنى الثالث الآنف الذكر، أنه في غاية البعد عن معاني دين الإسلام أصوله وفروعه، ولا يستحسنه المسلم ولا يجد له مساغاً، لذلك يقول الباقلاني الواضع الثاني لعلم الأصول: "ولكن ليس يقول مسلم أنّ العَلَم على حُسْن الشيء ميل الطبع إليه وعاجل النفع به، والعَلَم على قبحه نفور الطبع عنه، ولا أن ذلك هو معنى وصف الحَسَن والقبيح بأنه حَسَن وقبيح، لأن الطباع تميل إلى ترك النظر والبحث، والاسترسال إلى الراحة، وإمراج النفس في شهواتها، ودفع الألم بالنظر وغيره عنها، وتميل إلى الزنا واللواط وشرب الخمر والتبسط في أملاك الغير، كل ذلك قبيح مع ميل الطبع إليه، وعاجل النفع به، وكذلك فهي تنفر عن النظر وكدّ القلب بدقيق الفكر في أدلة التوحيد، وعن الصيام في أيام القيظ، والصلاة، وعن الحج والسعي وسائر العبادات، وليس ذلك بدليل على قبحها، فالمسلم لا ينبسط لتحقيق معنى الحَسَن والقبيح بهذا. وكثير من القدرية وإخوانهم من المجوس والبراهمة وأهل الدهر يرجعون في معنى الحسن والقبيح إلى هذا، وهو خلاف دين المسلمين" انتهى([2]).
وختاماً؛ أقول: ثمرة المسألة أن الفقيه يجب عليه عند الاستنباط والتفريع أن يرجع إلى مدارك الشرع حصراً، لا إلى ما فيه تقدير المصلحة مطلقاً، لكن مع ذلك نقول: من رحمة الله وكرمه أن جعل كثيراً من الأحكام معللة بعلل شرعية تفيد الإنسان مصالحه وتدفع عنه مضارّه.
وإذا تبينت المسألة لم نتصور علة صحيحة لأن يقول قائل: إنّ فقه أهل السنة لا يؤسس أعمال الإنسان سواء في المجتمع أو خاصة نفسه وفق ترتيب فقهي وسلوكي يقوم على أساس الحكمة والأخلاق، ولا قول القائل: إنّ المذاهب الفقهية الأربعة لا تراعي إنسانية الإنسان وطموحه في الانعتاق من التسلّط، ولا قول القائل: إنّ الشريعة الإسلامية وفقهها من منظور أهل السنة والجماعة لا يرجى منها نفع دنيوي، بل هي معارضة لمصالح الإنسان ومقاصده وتقدمه في الحياة، أقول: لا يمكن تصور صدور هذه الكلمات إلا عن طائفة من فلاسفة الحداثيين ومتابعي مناهج فلسفية باطلة لا تقوم على أساس يؤمن بالألوهية إيماناً صحيحاً، وذلك لأنهم يختلفون في أصول النظر إلى الله تعالى والعالم ومكانهم من العبودية لله سبحانه. ونسأل الله التوفيق والعصمة.
([1]) مراجع المسألة كثيرة جداً، منها كلامية وأصولية، انظر مثلاً: السعد التفتازاني، تهذيب الكلام وشرحه للسنندجي: ج2، ص192، والسبكي، جمع الجوامع مع شرح المحلي بحاشية العطار: ج1، ص78.
([2]) الباقلاني، التقريب والإرشاد الصغير، تحقيق أبو زنيد: ج1، ص285.