"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"
الحمد لله الرحمن الرحيم، الذي أنزل القرآن كتاب الرحمة، على نبينا محمد العدنان صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، في شهر رمضان شهر الرحمة، وجعلنا من أمة الرحمة، قال تعالى: (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].
فما زالت هذه الأمة تعكف على هذا القرآن قراءة ومدارسة وتدبرا، لاسيما في شهر الصيام الذي يصفي القلب من شوائب الدنيا وعلائق الشهوات، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص:29]، كيف لا؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المتدبرين، فقد روى حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ" أخرجه مسلم، وهذا أبو بكر كما في حديث عبدالله بن عمر عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: (مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) [النساء: 123]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي؟) قلت: بلى يا رسول الله، قال: فأقرأنيها، فلا أعلم إلا أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا أبا بكر؟) قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون، فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة)، وعلى هذا سار الصحابة والتابعين وتابعيهم الى يوم الدين.
واختص الله شهر رمضان من بين الشهور لينزل فيه القرآن، فيكون هذا الشهر منحة ربانية وفرصة ذهبية للتدبر والتفكر، حيث قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة:185].
وهذه الآية الكريمة، تزخر بالبلاغة وتعج بالبيان، فيحظى المتدبر فيها بالمعاني الدقيقة، والحكم الأنيقة، والتي تفيض من جنباتها، وتتلألأ في سمائها؛ لتكون منارات تشع هداية لمن يخوض بحر القرآن الزاخر، وقد روي عن ابن مسعود قال: "من أراد خير الأولين والآخرين فليثوِّر القرآن، فإن فيه خير الأولين والآخرين" أخرجه الطبراني، قال بعض أهل العلم: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء في تفسيره ومعانيه، أي تدبره والتفكر فيه، فتثور أسئلة تحلق في فكر الناظر المتمعن في هذه الآية، ترى ما هو سر اقتران القرآن بشهر رمضان؟ وما العلاقة بين عبادة الصيام والقرآن حتى سمي شهر الصيام بشهر القرآن.
لقد أشار القرآن إلى هذه العلاقة، فبين تعالى أن القرآن أنزل في شهر رمضان، بمعنى أنه أنزل إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ جملة واحده، كما قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان:3]، وبين الله تعالى تلك الليلة المباركة بقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]، أو أنه ابتدأ نزوله من رمضان على القول الثاني، ولا مانع من الجمع بين القولين بأن يكون نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في رمضان، ثم ابتدأ نزوله على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أيضا في رمضان.
وإنك تلمس هذه العلاقة أيضا، وأنت تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي) متفق عليه، وقد فهمت هذه الأمة المرحومة هذا الارتباط والتعلق، فما زال سلفها وخلفها أكثر ما يجتهدون في قراءة القرآن في شهر رمضان.
حتى قيل إن اسم الشهر مأخوذ من "الرَّمَضُ" وهو -كما ذكر الخليل في العين - حرّ الحجارة من شدة حرّ الشمس، وهو كذلك اسم مطر خفيف ينزل قبل الخريف يغسل وجه الأرض، فكذلك شهر رمضان بما فيه من صيام وقراءة قرآن يحرق ذنوب العباد، ويطهرهم منها.
وكيف لا يكون شهر رمضان كذلك؟ وقد جمع الله فيه بين أعظم آيات الربوبية وهو القرآن الذي هو هدى للناس، بما تضمنه من حجج دامغة، وبراهين ساطعة، وأدلة واضحة، وبين أعظم آيات العبودية وهو الصيام الذي يتخلى فيه الإنسان عن حاجاته الفطرية، من أكل وشرب وغيرهما من المفطرات؛ امتثالا لأمر الله تعالى، وطلبا لمرضاته، فكان هذا التلازم بينهما، إذ القرآن كلام الله تعالى وصفته، والصيام هو العبادة الخاصة بالله تعالى، كما جاء في الحديث القدسي: (قال الله تعالى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) متفق عليه.
كما أن القرآن والصيام كلاهما تطهير للعبد، فالقرآن يطهره من الشبهات، والصيام يطهره من الشهوات، والشبهات والشهوات هما المدخل الذي ينزلق منهما العباد –والعياذ بالله– إلى نار جهنم، والتي توصد أبوابها في شهر رمضان شهر القرآن والصيام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ) أخرجه الترمذي.
والقرآن ينفع ويرفع من يقرأه بتدبر وتفكر، ليحلق بالروح في آفاق الملكوت، وهو ينظر بعين اليقين إلى آيات الله الباهرات، لكن يعكر على ذلك انشغال القلب بالعلائق الدنيوية والشهوات الجسدية، فجاء الصيام ليصفي القلب منها ويهذب النفس عنها؛ تهيئة للقلب ليتشرب القرآن فيقرأ ويرتقي في الدنيا؛ ليجزى بذلك في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (يُقَالُ -يَعْنِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ-: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا) أخرجه الترمذي.
كيف لا والصيام فيه ترفع عن الصفات الأرضية، من أكل وشرب وشهوة، إلى الصفات الملائكية، فيخشع لكلام الله الذي نزل به سيد الملائكة جبريل عليه السلام.
والمتصفح لكتاب الله لا يكاد يجد فيه صفحة تخلو عن الدعوة للتقوى، والترغيب بها، ومدح المتقين، وبيان ما لهم من عظيم الأجر وجزيل الجزاء، والصيام شرع لتحقيق التقوى عند العبد، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، فالقرآن دعا للتقوى نظريا، والصيام يحقق التقوى عمليا، ومن تحققت لديه التقوى فقد فاز في الدنيا والآخرة.
شهر رمضان منحة ربانية، ونعمة إلهية، فتعالوا نستغله ونتعرض لبركته، فإنما هي أيام معدودة، وليال مشهودة، وأجور غير محدودة، فنقوم ليله ونصوم نهاره، تقبل الله مني ومنكم وكل عام وأنتم بخير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.