صناعة "الحلال"
تغيرت أنماط المعيشة الإنسانية في العقود السابقة بصورة جذرية، وتغيرت وفقاً لذلك طبيعة السلوك الاجتماعي، ومن أهم النواحي الحياتية التي طالها ذلك التغير طبيعة التغذية والإعاشة التي يعتمد عليها الإنسان في حياته.
ومن المعلوم أنّ الشريعة الإسلامية تهتمّ بغذاء الإنسان بوصفه قواماً للجسد والعقل والروح، ومؤثراً على سلوكياته وتصرفاته في الدنيا، ومقرراً لعاقبته في الآخرة، وأخذاً من ذلك كان للشريعة الإسلامية منهج متكامل في التعامل مع الأغذية والمنتجات المتنوعة التي يتعامل معها الإنسان، وكان الخطاب الشرعي في كثير من النصوص موجهاً إلى الناس كافة، وهو خطاب شامل للمؤمنين وغيرهم، وذلك لأهمية الغذاء في حياة كل إنسان، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، وبهذا الشمول يمكن أن نؤصل مبدأ "عالمية الحلال" في الإسلام.
وقد بين لنا القرآن الكريم ارتباط الرزق الطيب بأصل خلق السماوات والأرض، قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [غافر: 64].
وجاء في هدي النبي صلى الله عليه وسلم التنبيه والتأكيد على أهمية إطابة الرزق وأثره على المسلم، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟"، وقد ذكر بعض علماء الشرع أنّ الأكل من الدين، بمعنى أنّ العبادات والمعاملات ونشاط الإنسان يتوقف على الأكل، فلا بدّ أن تكون له أحكامه الشرعية.
وقد اهتمّت دول العالم عموماً، حتى تلك الدول التي يسكنها الغالبية من غير المسلمين، علاوة على الدول العربية والإسلامية بإطار مؤسسي يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، وصارت فكرة الحلال عالمية لا تقتصر على منطقة معينة، وصارت عمليات تصنيع الأغذية وإنتاجها تمرّ بمراحل كثيرة تضمن استيفاءها للمتطلبات والاشتراطات الشرعية والفنية، ليسهل استيرادها وتصديرها، واشتهر هذا الإطار فيما يعرف بـ "شهادة حلال"، ولا تقتصر هذه الشهادة على المعايير الشرعية، بل تشمل المعايير الفنية العلمية اللازمة، فمنح مثل هذه الشهادة هو مصادقة على مرور المنتج بجميع ما يشترط له من الشروط والمتطلبات المعتمدة التي تقررها الهيئات المختصة بإعداد المواصفة القياسية لكل فئة من فئات المنتجات.
وهنا يجدر الإشارة إلى أنّ شهادة الحلال ليست طقوساً دينية خاصة كما يجري في بعض الشهادات، بل هي شهادة مطابقة لما هو مطلوب في الغذاء من الأحكام الشرعية والفنية العلمية، ليكون الغذاء حلالاً سليماً عن أي شائبة، ويشار هنا إلى مبدأ "الحلال"، ومبدأ "الحلال الطيب"، فالغذاء الحلال هو الذي لا تدخل فيه مكونات محرمة في الشريعة الإسلامية كالخمر والخنزير مثلاً، أما الحلال الطيب فهو الذي تراعى فيه متطلبات السلامة الغذائية، فهو علاوة على خلوّه من المحرمات الشرعية يخلو أيضاً من متبقيات المبيدات الحشرية مثلاً، ويخلو من نسب المضافات التي تتجاوز الحدود المسموحة، ونحو ذلك مما ينبغي أن لا يوجد في الغذاء ممّا سنذكره في المعايير الآتية، ومبدأ "الحلال الطيب" وإن لم يكن اصطلاحاً خاصاً مشهوراً، إلا أن معناه مقرّر ومطبق عبر اشتراطات "شهادة حلال".
وفي المملكة الأردنية الهاشمية؛ تقوم مؤسسة المواصفات والمقاييس الأردنية بمنح شهادة "حلال" مستعينة بالخبرات الفنية اللازمة لتحقيق الاشتراطات الفنية، وتتعاون مع خبرات شرعية من دائرة الإفتاء العام لتحقيق الاشتراطات الشرعية، وترتقي هذه الشهادة بمستوى التصنيع والإنتاج ليكون ضمن جودة عالية، ولهذه المؤسسة نظيراتها في الدول الأخرى، وقد يمتدّ مدى الشهادة ليشمل المستحضرات التجميلية ممّا يستعمله الإنسان استعمالاً خارجياً.
وتستند معايير "شهادة الحلال" إلى نوعين من الاشتراطات كما ذكرنا: شرعية وفنّية، ولهذه الشهادة اعتماديات محلية ودولية وعالمية، بحيث صارت أشبه بـ "كود" أو "رمز" يدلّ باختصار على تلبية تلك المتطلبات الشرعية والفنية لشعار "حلال"، ولا شكّ أنّ شهادة "حلال" قبل اعتماديتها تستند إلى العلم بكل معانيه، سواء كان علماً حسياً خاضعاً للقياس في المختبرات، أو علماً شرعياً يخضع لمعايير الحلال والحرام في الشريعة الإسلامية، فمثلاً: لتحديد المواصفة المتعلقة بنسبة التخمّر الطبيعي في الظروف الطبيعية قد يحتاج الأمر إلى سنوات من البحث والدراسة، وعشرات الآلاف من العينات، وعشرات المختصين، مع ما يتطلبه ذلك من متابعة حثيثة وإعداد الفتاوى والبحوث والدراسات الشرعية المرتبطة بالحيثيات المتعلقة بما تعدّه الشريعة الإسلامية حلالاً أو حراماً في هذا الشأن.
وبعبارة أخرى؛ فإن شهادة الحلال ليست علامة مقتصرة على مشروعية المنتج فقط، بل هي علامة على كل ما يتعلق بعملية إنتاجه وتصنيعه وعرضه ونقله وتخزينه وصولاً إلى المستهلك، والذي أهتمّ به في الدرجة الأولى في هذا المقال هو بيان المعايير المتعلقة بالأحكام الشرعية التي تستند إليها "شهادة حلال"، ويمكن أن نلخّصها في الجوانب الآتية:
1. معيار حلّ المكوّنات: يتبادر إلى الذهن مباشرة في هذا المعيار قطاع اللحوم، بما يشمل عمليات الذبح والتذكية الشرعيّة، وشروطها المعتبرة في ذبح الطيور والحيوانات، لكن هذا المعيار يتسع مداه إلى أكثر من ذلك، فيشمل لتحديد الحلال والحرام من المكونات التي تدخل في المنتجات، سواء كانت طبيعية أو مصنّعة، وسواء كانت أساسية أو مضافة، بحيث تستبعد بحسب أحكام الشريعة الإسلامية أيّ مادة محرمة أو ضارة أو تصنّف ضمن النجاسات (كالخمر أو الخنزير أو الدم... الخ) من مكونات المنتج، وقد يقع في هذا المعيار بحسب اجتهادات شرعية وضمن ظروف طارئة بعض الاستثناءات التي تجيز استعمال ما يكون غير جائز في الأصل، مثل استعمال بعض المحرمات للضرورات العلاجية التي تتوقف عليها حياة الإنسان، بشرط أن لا يكون لها بديل آخر.
2. معيار دفع الضرر: ويضمن هذا المعيار أنْ تكون المكوّنات بشتى أنواعها غير ضارة في نفسها، ولا يترتب عليها ضرر، ويتناول هذا المعيار كثيراً من المواد المضافة إلى الأغذية والأشربة لضبط نسبها لتظل في ضمن الحد المسموح، ويتناول أيضاً التحقق من خلوّ المنتج من أية ملوثات أو متبقيات المبيدات أو المعادن، وينبغي التنبه هنا إلى قضية هامّة، وهي أن المنتج قد تكون المضافات فيه ذات نسبة مسموحة (غير ضارة)، ولكن كثرة استهلاك الإنسان لمثل هذه المواد في أغلب غذائه اليومي وبصورة مستمرة (شبه يومية) يؤدي إلى ضرر ناتج عن طبيعة الاستهلاك غير الجيد، ويعود الأمر في هذه الحال إلى رقابة الإنسان على نفسه وعلى أهله ومن يتولى أمورهم، وينبغي في هذا الصدد المحافظة على أن يكون الغذاء الأساسي منزلياً في الغالب، أو أن لا تكون المنتجات المصنعة المستعملة يومياً محتوية على مواد حافظة أو مضافات أو ملوّنات، وهنا نذكر بمبدأ "الحلال الطيب" الذي يعد مفهوماً يشكل أعلى معيار للجودة والسلامة للمنتج الحلال.
3. معيار توافر النظافة: ونشير به إلى اتّباع الأساليب التي تحقّق نظافة المنتج النهائي، ويشمل ذلك نظافة المكونات والأدوات المستعملة في الإنتاج، والجوّ العامّ الذي يعدّ فيه المنتج، وصولاً إلى المواد التي تستعمل في صيانة خطوط الإنتاج وإدامة عملها، وطبيعة المواد الكيميائية التي تستعمل في نظافة الأماكن، وضرورة أنْ تكون ملبّية للمتطلبات الغذائية، وقد يصل الأمر إلى ملاحظة المنطقة الصناعية المحيطة بالمصنع المنتج للمادة الغذائية، وضرورة أن يكون هواؤها خالياً من الملوثات والإشعاعات.
4. معيار ضمان الممارسة التصنيعية الفضلى: وهذا المعيار وإن كان في ظاهره لا يرتبط بحكم الحل والحرمة مباشرة، إلا أنّ الممارسة الفضلى تضمن استمرار نمط صحيح في التصنيع يترتب عليه منتج نهائي ذو جودة عالية، وبالعكس فإنّ الممارسة السيئة وإن لم تتضمن حرمة مباشرة، إلا أنها تتيح الفرصة أمام عدم جودة الإجراءات التصنيعية بحيث يمكن اختلاط المنتج مثلاً بمادة محرمة أو غير نظيفة أو غير معدة كطعام أو شراب أو نحو ذلك.
5. معيار التوثيق والنزاهة: ويضمن هذا المعيار عدم وقوع الغشّ في التصنيع والإنتاج، وضمان نظام مستمرّ ومستقرّ متبع في إجراءات التصنيع بكافة مراحله، فمنح شهادة الحلال لمنتج معين يمثل مرآة لواقع المنتج وشهادة بمطابقته النهائية للمواصفة المعتمدة له من قبل الهيئات الرسمية شرعية وفنية، ابتداءً بما يحتويه من مكونات ومواد أولية، وتوصيفها ونسبها وكيفيات التصنيع، وتحقيق الشركة المنتجة لكل متطلبات هذه الشهادة، بما يشمل مراقبة الوثائق والأوراق التي تشهد بكل ما يجري في المصنع من توريد البضاعة وما يتعلق بمنشئها وكمياتها وظروف توريدها التي تضمن سلامتها، كما يشمل أيضاً ظروف التخزين والعرض والنقل وإجراءات التتبع للمنتج ومكوناته، والمحافظة على متطلباته في جميع المراحل، ويعدّ كل من الخبير الفني والشرعيّ والمؤسسة التي تمنح الشهادة بمثابة شاهد على تلك الإجراءات وسلامتها ومطابقتها للمواصفة المعتمدة في المجال، كما تضمن تلك المواصفات البعد عن التعسف أو ازدواجية المعايير، ويدخل في ضمن النزاهة أيضاً الحفاظ على خصوصيات الشركات ومعلوماتها الخاصة.
إن هذه المعايير هي خلاصة الجوانب الشرعية التي تستند إليها شهادة حلال، وهي إما أن تكون شرعية بصورة مباشرة، أو تشتمل على جانب شرعي وفني (كما في المعيار 3، 4، 5)، ولا يخلو أيّ معيار منها من التداخل مع الجوانب الفنية على أيّ حال.
ولا شكّ أنّ تطبيق هذه المعايير على القطاعات الصناعية يحتاج إلى يقظة وانتباه وفتوى تأخذ بعين النظر إجراءات التصنيع للمنتجات، وتأخذ أيضاً بعين النظر كل مادة على حدة، من حيث وصفها الدقيق وكيفيات التصنيع إن كانت مصنعة، وينبغي أن لا يركن الخبير الشرعي إلى التقليد التامّ في هذه الجوانب، بل ينبغي أن يكون مطلعاً فنياً بصورة كافية ليشارك في المعرفة واتخاذ قرار فيما يعرض له من حيثيات، خصوصاً في ظل سوق قد تزدحم فيه المنافسة، وتقدم علميّ قد تتباين فيه الآراء العلمية.
ومن الجدير بالذكر أنّ الجوانب الفنية في "شهادة حلال" عميقة الأثر في منح الشهادة، بل تكاد تكون هي الأساس، من حيث دخول الأمور الفنية في كل جزئية من دقائق التصنيع والإنتاج ومراحلها، ولذلك فإنّ العلاقة بين الخبراء الفنيين والشرعيين مبنية على التكامل، ولا يستقلّ أحدهما عن الآخر في اتخاذ القرار أو تقييم وضع الإنتاج والحكم على المنتج.
وفي ظلّ وجود شهادات كثيرة في القطاعات الغذائية والدوائية والمكمّلات الغذائية؛ وفي ظلّ التعقيد الصناعيّ والتقدم التكنولوجيّ الذي يشهده العالم؛ بل في ظلّ تعدّد مناحي الاجتهاد الشرعي في بعض المسائل المعاصرة، خصوصاً مع تعدّد المذاهب الفقهية المعتمدة، وعجز الأفراد عن الوصول إلى المرتبة المطلوبة من الكفاية والخبرة والمعرفة؛ أقول: في ظلّ هذا كلّه تبرز الحاجة إلى اجتهاد معتبر، لا أنه جماعيّ فقط، بل مؤسسيّ يستند إلى المعايير التي ينبغي مراعاتها بدقة وكفاءة وأمانة، بحيث تكون المواصفات القياسية المعتمدة لكلّ غذاء أو دواء مبنية على أساس علمي صحيح وواضح، وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ أيّ معيار لمنح شهادة الحلال وإعداد المواصفات يخضع لضوابط الدولة وتعليماتها في هذا المجال، لا تلبية لمتطلبات السوق فقط، بل ابتعاداً عن أيّ جدل حول الأغذية والأشربة التي تشكل عنصراً مهماً في إدامة الحياة الإنسانية، وقبل ذلك كلّه وقوفاً مع أوامر الشريعة الغراء بإطابة المطعم والمشرب، مما يعود على الناس جميعاً بالنفع والهناء، يقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون} [النحل: 114]. ولله الحمد أولاً وآخراً.