مولد الهادي... مولد حضارة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على صاحب الذكرى العطرة، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول الله سبحانه وتعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) المائدة / 15-16.
إن الله سبحانه وتعالى أراد للإنسان أن يكون مكرماً منذ بدء خلقه، وتتويجاً لهذا التكريم الإلهي أرسل الله تعالى الأنبياء والرسل لهداية الناس وإخراجهم من ظلماتِ الجاهلية إلى نورِ المعرفةِ الإلهية التي تهدي الناس إلى طريق النجاة، ورسخ سبحانه هذا التكريم في جميع الشرائع السماوية وعلى لسان جميع الرسل الذين أرسلهم لهداية هذا الإنسان والأخذ بيده لما فيه خيره، ونجاته في الدنيا والآخرة.
وكلما حاد الإنسان عن هذا المنهج الرباني على مر العصور أرسل الله تعالى من الرسل والأنبياء ما يرد الإنسان إلى جادة الصواب لا سيما فيما يتعلق بالذات الإنسانية وتحقيق عزتها وكرامتها ونيل حقوقها.
وكانت ولادة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قمة التكريم الرباني للإنسان، فقال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) الإسراء / 70. ذلك أن البشرية قبل مولده صلى الله عليه وسلم كانت تموج بالظلم والاضطهاد، وكان الجهل والفساد قد استشرى في العالم أجمع، بالإضافة إلى التدهور الحضاري، والانحلال الأخلاقي، والتفكك الاجتماعي، إضافة إلى تحريف الأديان التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام حيث أصبحت الديانات فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرفين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها التي جاء بها الأنبياء السابقون.
كانت الحضارات السائدة إبان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم من الفرس والروم والهند واليونان تعيش حياة أساطير وخرافات وانحطاط ثقافي وديني في كافة مجالات الحياة سواء على الصعيد الاجتماعي أم الثقافي، أضف إلى ذلك جانب العبادات التي تمثل الجانب الروحي الإيماني.
ويكفي نظرة واحدة إلى ممارسات تلك الشعوب تجاه الإنسان نفسه لتدرك مدى الانحطاط التي وصلت إليه البشرية، فقد كانوا يتلذذون بالقتل من خلال ما يسمى بالمصارعة التي لا تنتهي إلا بقتل أحد المتصارعين، والنظرة الدونية للمرأة، حيث كان الصراع الفكري سائداً آنذاك هل المرأة روح بجسد أم جسد بلا روح، ولم يكن العرب في الجزيرة العربية أفضل حالاً، فقد كان الغزو والسلب والنهب أحد المصادر الرئيسية للرزق، وكانت تشتعل الحروب لسنوات طويلة وتزهق فيها الأرواح بسبب ناقة أو طائر، وكان آخرها حرب بُعاث التي استمرت ما يزيد عن مائة عام ولم تقف إلا في ظل القيم الإسلامية.
كانت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً ببدء حضارة جديدة تعيد للإنسان كرامته وتحقق أمنه واستقراره، لترتقي من براثن الجهل والانحطاط وسفك الدماء والجاهلية العمياء إلى بر الرحمة والعدالة والرفق، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء / 107.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالم أجمع ولم تقتصر رحمته على المؤمنين به، بل جاوزتها إلى من حاربه وآذاه، وصدّ الناس عن الدين الحق، فها هو يضرب أروع الأمثال في الرفق بالمخالفين له في الدين والعقيدة، حين يأتيه ملك الجبال يستأذنه بالانتقام ممن آذوه وأدموا قدميه الشريفتين، فيقول له: (عسى الله أن يخرج من بين أظهرهم من يعبد الله)، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم لبناء الحضارة وليس لهدمها أو الانتقام لنفسه، وهي لا شك دعوة لإنسان هذا العصر بأن يتجاوز الكثير من الأمور تجنباً للدمار والهدم الذي نراه في مجتمعات المسلمين اليوم مما لا يقره دين ولا عقل.
ومن هنا فقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم ببناء الإنسان الذي هو أساس الحضارة، لتتجلى فيه الإنسانية بأبهى صورها، من خلال إيقاظ الروح وربطها بالعقل وتحفيز هذا العقل للتفكير والتدبر والتأمل لإيجاد التناسب بين واقع الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، (أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ)، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ)، (أَفَلَا يَعْقِلُونَ)، لصناعة الإنسان المتكامل، المتسلح بالقيم، القادر على إنتاج الحضارة التي تشع نوراً على البشرية جمعاء.
بدأ صلى الله عليه وسلم تشكيل الحضارة الإنسانية من جديد بالدعوة إلى تحرير الإنسان من العبودية لغير الله عز وجل، ليكون إنساناً حراً طليقاً في مدارج الكون والحياة، وتحرير العقل من خرافات الجاهلية، والعادات الموروثة التي تؤدي إلى تخلف البشرية وتدميرها، واحتقار الآخرين، وتتجلى قيمة البناء الحضاري للإنسان الذي بناه النبي صلى الله عليه وسلم، من خلال الحوار الذي دار بين النجاشي وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، حين لخص جعفر رضي الله عنه أسس الإسلام ومبادئه التي تشربها من النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، " فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ". مسند الإمام أحمد
إن هذا الحوار الدائر بين جعفر بن أبي طالب والنجاشي، وما احتواه من مبادئ؛ يمثل إنموذجاً في سلم الحضارة الإنسانية بأبهى صورها، حيث تظهر النقلة النوعية بين ما كانوا عليه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما أصبحوا عليه من خلال القيم التي زرعها النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه والمتمثلة بما ذكره جعفر بن أبي طالب من أداء الأمانة وصدق الحديث وغيرها من القيم السامية.
هذه القيم رسخها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه في المسجد الذي كان بناؤه أول عمل قام به بعد هجرته؛ إيماناً منه بأنه لا يمكن بناء الحضارة إلا من خلال ربط الأمة بدينها وعقيدتها وغرس القيم، وهذا لا يتحقق إلا بالمسجد الذي هو أساس صياغة الشخصية المسلمة والبناء الحضاري؛ ففي المسجد تلتقي القلوب والأرواح وتتصافى، فتتخلص من أدران الشهوات والنزاعات الجاهلية المقيتة، فيتخرج إنسان المسجد مسلماً بالقيم النبيلة السامية، قادراً على العمل والبناء.
إن العقد الحضاري الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم لا يكتمل إلا من خلال علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فعندما تقوم هذه العلاقة على الثقة المتبادلة والمودة والرحمة والتعاون والبناء بين أفراد المجتمع الواحد فإن ذلك البناء الحضاري سوف يزدهر وينمو ويبلغ أوجه، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) المائدة / 2.
وقال صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) متفق عليه.
لقد رسّخ النبي صلى الله عليه وسلم أواصر الأخوة بين أفراد المجتمع الإسلامي واستأصل من بينهم شأفة العداوة والبغضاء والحروب والثارات التي أزهقت الأرواح وأراقت الدماء من خلال مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين الأنصار أنفسهم من الأوس والخزرج، ثم عزز اللحمة بين أفراد المجتمع من خلال مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار لإزالة جميع الفوارق الطبقية والنعرات الجاهلية من بينهم لتأهيلهم لبناء الحضارة، وهو ما كان.
إن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر في عصرنا الحاضر من مسلمات النظرات الإدارية في العالم، التي تعتبر أهم العوامل التي تنعكس على العمل والإنتاج والتقدم والبناء، ذلك أن الاختلاف والفرقة هما أساس انحدار الأمم والمؤسسات وتخلفها وزوال حضارتها وتقدمها، وهو مصداق قوله تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال / 46.
والتاريخ شاهد على ذلك أيضاً، فالنزاعات التي كانت في الجزيرة العربية جعلت العرب قبل الإسلام أبعد ما يكونون عن بناء حضارة أو عمران، بل انحدرت بهم إلى أعماق الجاهلية والظلم والاستبداد والتخلف.
وليس المقصود بترك النزاع والافتراق عدم وجود الاختلاف، فالاختلاف سنة الله تعالى في الكون قال تعالى: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) هود / 118، ولكن المقصود هو توجيه هذا الاختلاف باعتباره تنوعاً يثري الحياة الإنسانية والحضارية ويوجهها توجيهاً فكرياً صحيحاً من خلال تبادل الأفكار والآراء والاستفادة من تجارب الآخرين من خلال الحوار البناء، وهو من القواعد الأساسية التي أرساها ديننا الحنيف، فقد قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل / 125، فأي مثال للرقي والحرية الفكرية أعظم من هذا المثال، وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) آل عمران / 64، فهذه دعوة صريحة من القرآن الكريم إلى محاورة أصحاب الثقافات والديانات الأخرى للوصول إلى القواسم المشتركة التي تمثل قاعدة لبناء الحضارة، وبذلك يكون الاختلاف سبباً لبناء الحضارة لا لهدمها. والحمد لله رب العالمين