من فقه الإمام البخاري في أحاديث الصيام
المفتي هاني عابد
الحمد لله القائل شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)([1])، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ خاتم الأنبياء القائل: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ)([2]).
أما بعد؛ فبمناسبة إطلالة شهر رمضان، شهر الخير والبركة، شهر القرآن العظيم، أحببت أن أفتح باباً للنظر والتأمل في صنيع البخاري، فيما يتعلق بإيراده بعض الأحاديث المتعلقة ببركات شهر رمضان في كتاب الإيمان من صحيحه، مع أنّه أفرد للصوم كتاباً كاملاً في صحيحه، فأعجبني ما كنت قرأته لأهل الشرح في بيان مقاصد إيراد البخاري للأحاديث، بل للحديث الواحد في أكثر من موضع من صحيحه، ولما لذلك من لطائف وحتى لا يتشعب الموضوع سأحصر كتابتي باختصارٍ في نقاطٍ ثلاثٍ:
أمّا النقطة الأولى: فتتعلق بمن يحاول التهوين من شأن صحيح البخاري، ممّن يعترضون على عمل البخاري في صحيحه، بحجة أنّ العصمة للأنبياء، وأنّ عمل البخاري إنّما هو جهد بشري يتطرق إليه الخطأ والصواب؟
وللجواب عن هذه الفرية؛ لا بدّ من بيان أنّ عمل البخاري في صحيحه ليس مطلق عمل بشري حتى يقال إنه يحتمل الخطأ والصواب، ولكنّه عملٌ بشريٌ من نوع معين يروي فيه البخاري الأحاديث بأسانيد رجالٍ أجمع أهل العلم على صلاحهم، وضبطهم، من أول السند إلى منتهاه، مما لاقى قبولاً من أجيال العقلاء والخبراء على صحة اختياره([3])، فنتواصى أيّها المسلمون في هذا الزمان باحترام علمائنا، لا سيّما البخاري وأمثاله رحمهم الله، وإن كان من إشكال فيما نقرأ في كتب العلم، فلا نسارع بالإنكار، بل نرجع إلى تحليلات العلماء، وتعليلاتهم المستندة إلى أدلة المعقول والمنقول.
أما النقطة الثانية: فهي في تراجم البخاري في صحيحه، وأعني بالتراجم العناوين التي أودعها البخاري في صحيحه، ومثل هذا المجهود من روائع البخاري؛ لأنّ وضع العناوين ليس دليلاً على ذوق المؤلف فحسب، بل على فهمه وفقهه، وعلى اختياره في المسألة التي تضمنها الحديث، كما قالوا فقه البخاري في تراجمه([4])، فمثلاً عندما جاء البخاري بترجمة في كتاب الصوم باب هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ، وجاء بعد تلك الترجمة بحديث رسول الله عليه السلام الذي يقول فيه: "قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ([5])، فإيراد البخاري لهذا العنوان بالاستفهام؛ مرجعه لتوسع العلماء في موقف الصائم إن شتم هل يقول إني صائم باللسان مثلما ذهب إلى ذلك النووي، أم في نفسه مثلما جزم الرافعي، أم بهما معاً، ولذا قال ابن حجر في الفتح: وَلِهَذَا التَّرَدُّدِ أَتَى الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ فَقَالَ بَابٌ هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ([6])، قلت ما أتى به الحافظ ابن حجر من كلام النووي والرافعي لا يفهم منه أن البخاري ترجم بصيغة الاستفهام بسبب خلافهما في هذه المسألة، فمن المعلوم بأنّ البخاري متقدم عليهما بزمنٍ كبير، ولكنّه يعبّر بترجمته عن توسع مدارك علماء الإسلام، في جوانب فهم وتطبيقات الحديث، برؤى اجتهادية ما زالت حية تذكر في كتب من جاء بعده من أئمة الفقه المعتبرين.
أما النّقطة الثالثة التي أودّ أن أتحدث عنها؛ فمدارها على بيان ارتباط موضوع الصيام بالإيمان، وذلك من خلال وقفة تأملية فيما يلي:
1- إنّ الاهتمام بموضوع الصيام من علامات أهل الإيمان فهم الذين يهتمّون ويحتفلون بشهر الصيام، صوماً، وقياماً، كيف لا ورب العزة خاطبهم بفرضه عليهم بقوله عز شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)([7])، فلنتأمل في الخطاب إنه لأهل الإيمان الذين يحبّون أن يسمعوا كلام الله لينتفعوا ويتبعوا.
2- مسألة الصيام والقيام في رمضان ينبغى أن تعتمد عند المسلم على التصديق بأهمية شهر رمضان، وما فيه من البركات، من كونه شهر القرآن الكريم، وشهر ليلة القدر، وشهر تضاعف فيه أجور الأعمال القلبية كالإخلاص، واللسانية كالتهليل والاستغفار، والعملية كالصلاة وعمل المعروف مع خلق الله، هذا من جهة، ومن جهة ٍ ثانية احتساب كل ما يقوم به المسلم عند الله، وهذا الاستشعار يدفع المسلم للصيام والعمل الصالح في رمضان بدافعية وشوق، بعيداً عن الملل، واستثمارٍ إيجابيٍّ للحظات الصيام بكل جد واجتهاد، وفي هذا المجال نرى البخاري في كتاب الإيمان من الصحيح يتناول عدداً من الأحاديث لفهم موضوع الإقبال على الصيام بإيمان واحتساب ومن ذلك قوله عليه السلام:
أ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)([8]).
ب- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)([9]).
ت- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)([10]).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح نقلاً عن الخطابي: احْتِسَابًا أَيْ عَزِيمَةً وَهُوَ أَنْ يَصُومَهُ عَلَى مَعْنَى الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ بِذَلِكَ، غَيْرَ مُسْتَثْقِلٍ لِصِيَامِهِ وَلَا مُسْتَطِيلٍ لِأَيَّامِه([11]).
3- إنّ الفهم الحقيقي لمقاصد الصيام، هو ما يعمق الإيمان في النفس، فالصيام سبيل عظيم لتهذيب النفس، وتقوية الجانب الروحي عند الإنسان، فأداء الصيام مما يزيد في الرصيد الإيماني للفرد، فيدفعه للإيجابية في تعامله مع خالقه، ومع نفسه، ومع الناس، فكونك يا أخي الحبيب تؤمن بوجود شهر الصيام، وتؤمن بفضل القيام فيه، وتؤمن بوجود ليلة القدر في رمضان، هذا الإيمان بحدّ ذاته تؤجر عليه، ويزيد من أجر تلك الأعمال مع أدائها، قال أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة المتوفى (سنة 699هـ) عندما تناول الأوجه المستفادة من حديث البخاري في فضل قيام ليلة القدر قال: وفيه دليل على أن استحضار الإيمان زيادة فيه؛ لأنّ الإيمان قد ثبت أولاً، وإحضاره في النية قام مقام الزيادة([12]).
4- ومن بركات هذا الفهم لتناول البخاري لبعض أحاديث الصيام في كتاب الإيمان مع أنه أفرد كتاباً للصوم هو أن الله سبحانه وتعالى الذي طالبنا بالإيمان وبمفردات إيمانية متعددة أفردها العلماء بالتأليف كالبيهقي رحمه الله في شعب الإيمان،هو رب ّرحيمٌ شرع لنا العديد من الأعمال التي تكفّر الذنوب والخطايا مثل صيام وقيام شهر رمضان وصيام عرفة، وقد جمعها بعضهم في منظومة:
يكفّر القديم والأخيرا حجّ، وضوء مسبغ تكفيراً
صيام شهره وصوم عرفة قيام ليله لذي المعرفة
كذاك قل قيام ليل القدر قراءة آخر ذات الحشر([13])
5- لكن لا بد ّمن الاحتياط في الفهم بأن غفران الذنوب المترتب على الصيام والقيام في رمضان لا يتناول حقوق العباد، فمن المقرر شرعاً أنّه لا تبرأ ذمّة الإنسان إلا بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، فذاك من شروط صحة التوبة وصدقها، قال النووي رحمه الله: (قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ دُونَ الْكَبَائِرِ، قَالَ بَعْضُهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يُخَفِّفَ مِنَ الْكَبَائِرِ مَا لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً)([14]).
([1]) سورة البقرة، الآية: 185.
([2]) رواه البخاري، كتاب التوحيد بَابُ (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ) [هود: 7]، (وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) [التوبة: 129] رقم 7423.
([3]) مختصر من مقال للدكتورأحمد معبد عبد الكريم /نشر في مجلة الأزهر عدد جمادى الآخرة 1436هـ ص1161 باختصار وتلخيص.
([4]) فقه الحديث عند الإمام البخاري، د نور الدين عتر، دار البصائر القاهرة، ط1، 2009 ص22 باختصار.
([5]) رواه البخاري، كتاب الصوم، باب هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ، رقم 1904.
([6]) فتح الباري لابن حجر، دار المعرفة – بيروت، 1379هـ، ج4ص105 باختصار.
([7]) سورة البقرة، الآية: 183.
([8]) رواه البخاري كتاب الإيمان بابٌ: قِيَامُ لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الإِيمَانِ رقم 35.
([9]) رواه البخاري كتاب الإيمان بَابٌ: تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الإِيمَانِ رقم 37.
([10]) رواه البخاري كتاب الإيمان بابٌ: صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الإِيمَانِ رقم 38.
([11]) فتح الباري لابن حجر 4/115.
([12]) شرح مختصر صحيح البخاري لابن أبي جمرة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 2007م: ج1، ص67.
([13]) فتح المنعم شرح زاد المسلم، للشيخ حبيب الله الشنقيطي دار الكتب العلمية، بيروت 2012م/م2/ص489.
([14]) شرح النووي على مسلم دار إحياء التراث العربي – بيروت1392هـ/ط2/ج 6/ص40.