مدارسة القرآن مع جبريل عليه الصلاة والسلام
المفتي الدكتورعبدالله الربابعة
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
كان لجبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم لمدارسة القرآن الكريم، ومن هذه اللقاءات ما كان في شهر رمضان وفي أيام الصيام، حيث كان للنبي صلى الله عليه وسلم مراجعات وتأملات مع كتاب الله تعالى بحضور جبريل عليه السلام، والسر في اختيار شهر رمضان لهذه المدارسة، لأن شهر رمضان شهر القرآن قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) البقرة/ 185، وجاء في حديث البخاري عن أَبُي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ القُرْآنَ) رواه البخاري، والمعارضة هي المقابلة أي: يدارسه جميع ما نزل من القرآن، وهذه المعارضة للقرآن فيها من الفوائد الجمة، وعبر عن هذه الفوائد الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بقوله: "أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة، وأيضا فرمضان موسم الخيرات، لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده، فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود"، وهذا الجود كان في رمضان عند ملاقاة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فعن ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ، وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، أَجْوَدَ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" رواه أحمد، والْحَدِيثِ يشير إلى فوائد جمة منها:
تَعْظِيمُ شَهْرِ رَمَضَانَ لِاخْتِصَاصِهِ بِابْتِدَاءِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ ثُمَّ مُعَارَضَتُهُ مَا نَزَلَ مِنْهُ فِيهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَثْرَةُ نُزُولِ جِبْرِيلَ فِيهِ، وَفِي كَثْرَةِ نُزُولِهِ مِنْ تَوَارُدِ الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ مَالا يُحْصَى، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ فَضْلَ الزَّمَانِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِزِيَادَةِ الْعِبَادَةِ، وَفِيهِ أَنَّ مُدَاوَمَةَ التلاوة تُوجِبُ زِيَادَةَ الْخَيْرِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَكْثِيرِ الْعِبَادَةِ فِي آخِرِ الْعُمُرِ وَمُذَاكَرَةُ الْفَاضِلِ بِالْخَيْرِ وَالْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّذْكِرَةِ وَالِاتِّعَاظِ، وَفِيهِ أَنَّ لَيْلَ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ نَهَارِهِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التلاوة الْحُضُورُ وَالْفَهْمُ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ لِمَا فِي النَّهَارِ مِنَ الشَّوَاغِلِ وَالْعَوَارِضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ سنة على ليَالِي رَمَضَان أَجزَاء، فيقرأ كل لَيْلَةٍ جُزْءًا فِي جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلَةِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ يَشْتَغِلُ بِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ تَهَجُّدٍ بِالصَّلَاةِ وَمِنْ رَاحَةِ بَدَنٍ وَمِنْ تَعَاهُدِ أَهْلٍ".
يقول ابن الجوزي مبينا حال النبي وكثرة جوده في رمضان: "وَإِنَّمَا كثر جوده عَلَيْهِ السَّلَام فِي رَمَضَان لخمسة أَشْيَاء: أَحدهَا: أَنه شهر فَاضل، وثواب الصَّدَقَة يتضاعف فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَات. قَالَ الزُّهْرِيّ: تَسْبِيحَة فِي رَمَضَان خير من ألف تسبيحة في غير. وَالثَّانِي: أَنه شهر الصَّوْم، فإعطاء النَّاس إِعَانَة لَهُم على الْفطر والسحور. وَالثَّالِث: أَن إنعام الْحق يكثر فِيهِ، فقد جَاءَ فِي الحَدِيث: أَنه يُزَاد فِيهِ رزق الْمُؤمن، وَأَنه يعْتق فِيهِ كل يَوْم ألف عَتيق من النَّار،فَأحب الرَّسُول أَن يُوَافق ربه عز وَجل فِي الْكَرم. وَالرَّابِع: أَن كَثْرَة الْجُود كالشكر لترداد جِبْرِيل إِلَيْهِ فِي كل لَيْلَة. وَالْخَامِس: أَنه لما كَانَ يدارسه الْقُرْآن فِي كل لَيْلَة من رَمَضَان زَادَت معاينته الْآخِرَة، فَأخْرج مَا فِي يَدَيْهِ من الدُّنْيَا. فَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يتعاهده فِي كل سنة فيعارضه بِمَا نزل عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَام الَّذِي توفي فِيهِ عَارضه بِهِ مرَّتَيْنِ، كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا؛ لأن في ملاقاته زيادة ترقيه في المقامات، وزيادة اطِّلاعه على علوم الله تعالى، ولا سيما مع مدارسة القرآن.
يقول الزبيدي: وفي الحديث فوائد منها "أن جُوَدة صلى الله عليه وسلم في رمضان يفوق على جوده في سائر أوقاته، ومنها أن المراد من مدارسته للقرآن مع جبريل علية السلام مقابلته على ما أوحاه إليه من الله تعالى ليبقي ما بقي ويذهب ما نسخ توكيدا واستئناسا وحفظا؛ ولهذا عرضة في السنة الأخيرة على جبريل مرتين، وعارضة به جبريل كذلك، ولهذا فهم عليه السلام اقترب أجله. وكان جوده صلى الله عليه وسلم يجمع أنواع الجود كلها، من بذل العلم والنفس والمال لله عز وجل في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من تعليم جاهلهم وقضاء حوائجهم وإطعام جائعهم، وكان جوده يتضاعف في رمضان؛ لشرف وقته ومضاعفة أجره وإعانة العابدين فيه على عبادتهم، والجمع بين الصيام وإطعام الطعام، وهما من أسباب دخول الجنة، فعن فاطمة رضي الله عنها، قالت: أَسَرَّ إليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كلّ سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي".
وعليه؛ فيجب على الصائمين فهم السر في مراجعة جبريل القرآن مع النبي مرتين، والواجب كذلك الحذر من الغفلة عن قراءة القرآن، وهذا ما نجده من فتور الناس عن كتاب الله وخاصة بعد رمضان.
ومن المبشرات ما نراه من إقبال الناس على تعلم وحفظ وتدبر القرآن الكريم والمسارعة إلى ختم القرآن فهما وتدبرا، فمنهم من يختم القرآن في رمضان مرة ومنهم من يختم كل أسبوع مرة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ونحن نقول: إن هؤلاء على أجر عظيم، ولهم الخير العميم، ولكن ينبغي ألا يهجر القرآن بعد رمضان؛ لأن الله تعالى ذمّ الذين يهجرونه، قال تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) الفرقان/30.
وأما الذين يقرؤون القرآن طوال عامهم، فهم أهل القرآن، وهم أهل الله وخاصته، وهم أتباع النبي الكريم في المدارسة والتعليم كما حصل مع جبريل عليه السلام مع نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.
ويجب على المسلم أن يكون مهتماً بالقرآن، ويكون من الذين يتلونه حق تلاوته، ومن الذين يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويقفون عند عجائبه، ويعتبرون بأمثاله، وبقصصه وما فيه، ويطبقون تعاليمه؛ لأن القرآن أنزل لأجل أن يعمل به ويطبق، وإن كانت تلاوته تعتبر عملاً وفيها أجر.
نسأل الله تعالى لنا جميعا أن نغتنم شهر القرآن كما أمرنا به سبحانه وتعالى حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) فاطر/29. والحمد لله رب العالمين.