مقالات

أدب الاختلاف .. وفوضى الواقع

الكاتب : فضيلة الأمين العام د. محمد الخلايلة

أضيف بتاريخ : 02-05-2012

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي دائرة الإفتاء العام


 

يحق لنا أن نتساءل في خضم فوضى الواقع الذي تعيشه الأمة في هذا الزمن عن أدب الاختلاف وفقهه الحضاري في شريعتنا الإسلامية، ونحن نشاهد هذا الأدب الجم قد ذاب في فوضى واقعٍ جَرَفَ الكثير من العقول، واستولى على الألباب، حتى لدى أصحاب الفكر والنظر في علوم الشريعة وفقهها الحضاري.

فأدب الاختلاف أصل عتيد في شريعتنا الإسلامية، وليس محل خلاف أو اختلاف، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ الصحابة يوم بني قريظة، ولم يُعَنِّفْ أحداً منهم على اجتهاده. عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال: قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا لَمّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزابِ: (لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إلا في بَنِي قُرَيْظَةَ). فأدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ في الطَّرِيقِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي؛ لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا مِنْهُمْ. متفق عليه.

ثم نهل الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح من معين هذا الأدب، وارتشفوا من رحيقه وهم يتمثلون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) متفق عليه. فأيقنوا أن المجتهد الذي يملك أدوات الاجتهاد مأجور على اجتهاده، سواء أصاب أم أخطأ، ما دامت النية صالحة والغاية سامية.

وهذا يدل على أن الاختلاف واقع لا محالة لعوامل متنوعة، في مسائل تختلف فيها المدارك والأفهام؛ ولهذا لم يقصد سلفنا الصالح الاختلاف لذاته، بل كان الهدف عند الجميع هو القصد إلى موافقة الشارع فيما قصد؛ لذا فإن المختلفين وإن اختلفوا في مسألة معينة فهم متفقون من جهة القصد إلى موافقة الشارع والوصول إلى مراده.

ولهذا لم يكن الاختلاف لدى السلف سبباً في إثارة العداوة والبغضاء فيما بينهم، بل اتسعت صدورهم لهذا الاختلاف وقبلوه؛ فكان كلٌّ منهم يرى أن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب. ولم يكن هذا الاختلاف كذلك سبباً من أسباب ضعفهم وتفرقهم، بل كان سبباً من أسباب عزتهم ونماء فكرهم؛ فقدموا لنا هذه الثروة التشريعية الهائلة التي تزخر بها المكتبة الإسلامية.

فقد اختلف أئمة المذاهب في كثير من الأحكام الفقهية الفرعية أكثر مما هو في زماننا هذا ولم نسمع بفوضى الفتوى في زمانهم، بل كان احترام المخالف والتعامل مع اختلافه بأسلوب حضاري علمي هو الأسلوب السائد والغالب، فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى عندما زار  قبر الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وصلى في مسجده لم يقنت في صلاة الفجر، وهو يرى القنوت سنة، فقيل له في ذلك، فقال: احتراماً لصاحب هذا القبر. ثم قال أبياتاً من الشعر في مدح أبي حنيفة:

لقد زان البلاد ومن عليها
بأحكامٍ وآثار وفـقـهٍ
فما بالمشرقين له نظير
فرحمة ربنا أبداً عليه
 

 

إمام المسلمين أبو حنيفة
كآيات الزبور على الصحيفة
ولا بالمغربيـن ولا بكوفة
مدى الأيام ما قرئت صحيفة
 

ويقول الإمام أحمد عن الإمام الشافعي - وقد خالفه في كثير من المسائل -: ما صليتُ صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي. فيقول له ابنه عبدالله: أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له هذا الدعاء؟ قال: يا بني: كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف؟

وكان الإمام أحمد يرى أن خروج الدم ينقض الوضوء، ولكنه سُئل: "أتصلي خلف رجل احتجم ولم يتوضأ؟ فقال: سبحان الله، كيف لا أصلي خلف مالك بن أنس وسعيد بن المسيب؟!

ويقول الشافعي عن الإمام مالك: إذا ذُكر العلماء فمالك النجم. ويقول: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة.

وما زلنا نتنسَّم أدب الاختلاف وفقهه من رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك وهو يخالفه في كثير من المسائل ويرد عليه بأسلوب علمي حضاري تظهر من خلاله المحبة المكنونة في نفوسهم للعلم والعلماء.

هذه شذرات من أقوال بعضهم ببعض تعطينا في هذا الزمن تصوراً عن أدب التعامل مع أهل العلم واحترامهم، فضلاً عن إحسان الظن بهم، والبحث عن أعذار أو مخارج حتى لو أخطأوا في نظرنا.

إذا تأملنا ذلك يحقُّ لنا مرة أخرى أن نتساءل: كيف غاب هذا الأدب عن الخطاب الإسلامي المعاصر ولماذا اختفى؟! والجواب الذي نعتقده هو أن فوضى الواقع والانحياز إلى تيارات مختلفة وأفكار متصارعة هو الذي طغى على هذا الأدب؛ فذهب به وأخرجه من عقول الكثيرين حتى ممن هم في عداد العلماء والمتدينين؛ فأصبح الاختلاف مذموماً ينطوي على الإعجاب بالنفس والغرور وسوء الظن بالآخرين والمسارعة إلى اتهامهم والتعصب لاتجاهات معينة وأقوال أشخاص وأحزاب وجماعات ولو كان في ذلك مخالفة صريحة للأدلة الشرعية، وعدم التثبت في نقل الأخبار وسماعها، وبناء المواقف على الظنون، ونسوا أن الظن لا يغني من الحق شيئاً.

وأصبح الرد على المخالف يكون بالسب والشتم والطعن في العلماء واتهامهم في نياتهم التي لا يعلمها إلا الله ولا يطلع عليها إلا علام الغيوب، وبنظرة سريعة إلى فوضى واقعنا المعاصر ندرك ذلك جيداً؛ فالمصطلحات المستخدمة في الرد على المخالف لا توجد في أدبيات الاختلاف العلمي، ولا يجوز شرعاً أن توجه إبان الرد على المخالف.

ومن الأمثلة على ذلك ما نقرؤه في الآونة الأخيرة من مصطلحات مثل: الرعاع، والأوباش، والأقزام، وعلماء السلطان، والمبطلون، والجهلة، وأهل الهوى، والفردة الأخرى للبوطي... بل إن من كنا نظن فيهم خيراً ونحسبه منارة من منارات العلم في أحد مقالاته يقول: "هناك مفتون، تعينهم الأنظمة والحكومات، وهؤلاء في ورطة كان الله في عونهم؛ لأن المطلوب منهم - غالباً - إباحة ما أراده الحكام وما يصدر عن الحكومات، ولو كان حراماً مجمعاً عليه".

ولا يخفى على من له أدنى معرفة بالعلم الشرعي أن إباحة الحرام المجمع عليه كفر، ولغة التكفير والاتهام هذه بعيدة كل البعد عن أدب الخطاب الإسلامي بين العلماء، وإحسان الظن بهم، وأنوه هنا أن هذه المقالة جاءت في سياق الرد على رأي في مسألة يمكن أن تكون محل خلاف بين العلماء، وقد اختلف من هم قبلنا أكثر من ذلك فلم نجد هذه الاتهامات، حيث قال الكاتب في هذه المسألة: "وتكلم فيه أهل العلم كما تكلم فيه أهل الهوى وأهل الجهل وأهل السلطان، وبينما أجازه بعض المتكلمين وكنت واحداً منهم ولله الحمد".

وهذه تزكية عجيبة للنفس مع اتهام للآخرين، ودون احترام الآراء الأخرى، وقد قال الله تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) النجم/32. والتعصب للرأي بهذه الطريقة صفة ذميمة لا ينبغي للمسلم أن يتصف بها.

لا نعتقد أن هناك فوضى في الفتوى في هذا الزمن بقدر ما نعتقد أن هناك فوضى فكرية وأخلاقية انتشرت في مجتمعنا؛ فأورثت فوضى أخلاقية واقتصادية واجتماعية، وفوضى صراع أفكار وتيارات ضغطت على العقول فأعمتها عن أدب الخلاف والاختلاف حتى من الذين كنا وما زلنا نحترمهم ونُجلِّهم ونظن فيهم خيراً.

فالعلم رحم بين أهله، وكنا نتمنى أن نجد ردوداً علمية محكمة تستند إلى الأدلة الشرعية على بعض الآراء من المخالفين، أو حتى ردوداً منطقية على المخالف أياً كان، تستند إلى الموضوعية والحكمة وقبول الرأي الآخر، بعيداً عن لغة الشتائم والسباب واتهام الآخرين وسوء الظن بهم والألفاظ التي لا تليق بالعوام فضلاً عن العلماء والمفكرين، ولكنها فوضى الواقع التي جرفت الكثيرين وغرتهم فأعمتهم عن الحق؛ فزلت أقدام وضلت أفهام في خضم هذه الفوضى العارمة التي يجب أن لا تنطلي على الراسخين في العلم.

فالمسلم كَيِّسٌ فَطِن، وليس إمعة، ولا تتلاعب به الأهواء والاتجاهات المختلفة، ولا يغرُّه الباطل ولا كثرة سالكيه، فالدين النصيحة، والواجب الشرعي يُحتِّم علينا أن نتناصح فيما بيننا وأن يكون الخطاب الإسلامي الأصيل المستند إلى لغة الحوار وأدب الاختلاف هو الطريق الأمثل لتبادل وجهات النظر وبيان الآراء للوصول إلى الحق والصواب، وما دامت الغاية واحدة - وهي الوصول إلى الحق - لا يضيرنا اختلاف الطريق وأي طريق نسلك، فالاختلاف لا يُفسد للود قضية، وأدب الاختلاف يجب أن لا يضيع في خضم فوضى الواقع الذي نعيشه، لنعيد بناء الصرح الإسلامي، ونرأب الصدع الذي ألمَّ بمجتمعنا، ونعالج جذور الفوضى الفكرية التي أورثتنا التنازع والاختلاف، قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال/46. سائلين الله تعالى أن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل، وأن يُلهمنا الصواب في القول والعمل.

رقم المقال [ السابق | التالي ]

اقرأ للكاتب



اقرأ أيضا

المقالات

   الإفتاء ضرورته وضوابطه

   تأخر إصدار الفتوى تأن وتثبت

   تعظيم شأن الفتوى من تعظيم الله: المفتي العام

   دائرة الإفتاء تذكر بأنه لا تقبل الفتوى إلا من عالم بالشريعة

   المفتي من أفتاك بما ينجيك لا بما يرضيك

دراسات وبحوث

   ضوابط الفتوى عبر الفضائيات

   أسباب الاختلاف الفقهيّ

   التعجل في الفتوى

الفتاوى

   توحيد الفتوى

   طلب الفتوى من أهل العلم المختصين

   اختلاف العلماء في مسائل الفقه اختلاف رحمة

   أسباب اختلاف الفتاوى

   هل يلزم المفتي أن يسأل الزوجة عن واقعة الطلاق


التعليقات



تنبيه: هذه النافذة غير مخصصة للأسئلة الشرعية، وإنما للتعليق على الموضوع المنشور لتكون محل استفادة واهتمام إدارة الموقع إن شاء الله، وليست للنشر. وأما الأسئلة الشرعية فيسرنا استقبالها في قسم " أرسل سؤالك "، ولذلك نرجو المعذرة من الإخوة الزوار إذا لم يُجَب على أي سؤال شرعي يدخل من نافذة " التعليقات " وذلك لغرض تنظيم العمل. وشكرا


Captcha