نشأة الاقتصاد الإسلامي
إن المتأمل في مفردات تعريف الاقتصاد الإسلامي -والتي أشرنا لها سابقاً- من ثروة ومال وتكسب وتملك وإنفاق وإنتاج واستثمار وخدمات وتوفير وادخار ومسائل الفقر والغنى، ليدرك أن المسلمين من أوائل من اعتنى وألف الكتب في مسائل الاقتصاد.
وهذا يدفعنا إلى التفريق بين مصطلحين:
الأول: المذهب الاقتصادي الإسلامي
ويمثل الأصول العامة التي وردت في الأدلة الشرعية من كتاب وسنة وغيرهما، وهي أصول ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وتشكل بمجموعها قواعد ناظمة للحياة الاقتصادية بكلياتها، ويصلح أن نصفها بقولنا: هي القواعد الكلية التي يتفرع عنها التطبيقات المتنوعة والجزئيات التفصيلية لمفردات الاقتصاد الإسلامي.
الثاني: النظام الاقتصادي الإسلامي
ويمثل الناحية التطبيقية بجزئياتها الفرعية، والتي تختلف باختلاف الزمان والمكان، وهي محل اجتهاد العلماء، ونظر الفقهاء، وما الحكم على المستجدات الفقهية والمسائل المعاصرة في المعاملات المالية والاقتصاد إلا شكل من أشكال النظام الاقتصادي الإسلامي.
ولذلك يصلح أن نقول: "الاقتصاد الإسلامي إلهي من حيث المذهب، ووضعي من حيث النظام أو التطبيق" (انظر؛ ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية وأهمية الاقتصاد الإسلامي للدكتور محمد شوقي الفنجري ص18).
فإذا نظرنا إلى المذهب الاقتصادي الإسلامي وجدنا أن الإسلام هو الأسبق في تقرير الأصول العامة والقواعد الكلية التي ينبني عليها تقرير النظام الاقتصادي بتطبيقاته المختلفة.
فقواعد العدالة وتحريم الربا والظلم والغبن الفاحش والغش، بل وقواعد الملكية والاستهلاك والإنتاج والتوزيع وغيرها، كلها نجدها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة، وفي كتب التفسير والحديث والفقه.
فقد أمر الله تعالى بالعمل والذي يمثل الانتاج بأوضح صوره، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} الملك/15.
كما جاء في السنة المطهرة الحديث عن الملكية العامة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاث: الكلأ والماء والنار" سنن أبي داود.
أما الملكية الخاصة فآيات المواريث حالة واضحة وصورة جلية لتطبيقاتها، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امريء إلا بطيب نفس منه) السنن الكبرى للبيهقي، بيان شاف لحق التملك الشخصي.
كما نجد الحديث عن التوازن الاقتصادي في المجتمع وطرق تحقيقه بتحريم الاحتكار والربا والظلم والجور، إضافة إلى تجلية ذلك بقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} الحشر/ 7 والتي تختصر علينا حِكَما كثيرة للزكاة والإنفاق وتشغيل الأموال وعدم الاكتفاء بادخارها وتحريم الاحتكار والربا مما يحقق بمجموعه التوازن الاقتصادي الطبيعي الذي يجب أن يكون عليه المجتمع المسلم.
ولو استقصينا كل الأمثلة من الأدلة الشرعي في توضيح مفردات الاقتصاد الإسلامي لطال بنا المقام، ولكن نكتفي بما تمت الإشارة إليه.
وإذا نظرنا إلى النظام الاقتصادي الإسلامي وما يمثله من نواحي تطبيقية ومن فرعيات جزئية لوجدنا كماً من الكتب المتخصصة في بعض فرعيات الاقتصاد الإسلامي، علاوة على ما نجده منثورا من المعارف الاقتصادية في تفصيلات المعاملات في كتب الفقه والحديث والتفسير المختلفة.
بل نجد "كتابات ابن خلدون والمقريزي والعيني والدلجي في أواخر القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر الميلادي نقطة البدء للمدرسة العلمية في الاقتصاد الحديث" (الوجيز في الاقتصاد الإسلامي للدكتور محمد شوقي الفنجري ص 27).
ويقرر الدكتور زكي محمود شبانة وكيل جامعة الأزهر سابقا أن مقدمة ابن خلدون التي ظهرت سنة 784هــ هي صورة مماثلة لكتاب (ثروة الأمم) لمن يسمونه أبو الاقتصاد الحديث آدم سميث والذي ألفه سنة 1776م، فابن خلدون سبقه بخمسة قرون، بل يعتبر كتاب (ثروة الأمم) صورة مشوهة لمقدمة ابن خلدون ولا يختلف عنه إلا اختلافا بيئيا وزمنيا (الوجيز للفنجري ص27، والنظام الاقتصادي الإسلامي للدكتور محمود الخطيب ص16).
ونظرة فاحصة لمقدمة ابن خلدون تنبيك عن حجم المعرفة الاقتصادية المتخصصة والموجودة بين ثنايا هذا الكنز الحضاري، بل تؤسس المقدمة لنظريات اقتصادية حديثة ومتقدمة كما في الحديث عن النمو الاقتصادي ونظرية السكان والنشاط الاقتصادي للدولة. (المسلمون وعلم الاقتصاد: ابن خلدون مؤسس علم الاقتصاد للدكتور شوقي أحمد دنيا ص6)
ناهيك عن الكتب الأخرى التي ألفت في مفردات الاقتصاد الإسلامي المتنوعة في القرون الهجرية الأولى؛ مثل: كتاب الخراج لأبي يوسف المتوفى سنة 182هــ، والخراج ليحيى بن آدم القرشي المتوفى سنة 203 هــ، وكتاب الأموال لأبي عبيد المتوفى سنة 224 هــ، وغيرها من الكتب.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين وبعد ظهور المذاهب الاقتصادية الوضعية الحديثة، وتطور النظم الاقتصادية المعاصرة، بدأت الدراسات الاقتصادية الإسلامية بالظهور، وبدأ الاقتصاد الإسلامي كعلم وفكر بالطرح من خلال المؤتمرات الدولية والتي افتتحت بالمؤتمر الأول للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة عام 1976م، وتوالت المؤتمرات والندوات المتخصصة، وأُفرِد الاقتصاد الإسلامي كتخصص في كليات الشريعة وأقسامها، وبدأ العلماء بالتأليف في الاقتصاد الإسلامي، وأبرزهم: الأستاذ محمد باقر الصدر، وعلي عبد الرسول، ود. محمد المبارك، ود. أحمد النجار، ود. رفعت العوضي، وغيرهم كثير ...