الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فها نحن نتفيؤ ظلال شهر رمضان المبارك، شهر الخير والبركة، شهر فضائله عظيمة وعوائده جليلة، وليست تلك الفضائل والعوائد منحصرة في الجانب التعبدي فقط، إنما هي متحققة كذلك في الجانب المادي -الاقتصادي- وذلك من خلال منظومة أحكامه المالية، التي تنعكس عنها آثار اقتصادية إيجابية على الأفراد والمجتمعات، وبيان ذلك على النحو الآتي:
أولاً:رمضان وإعادة توزيع الثروة:
إعادة توزيع الثروة في المفهوم الاقتصادي الإسلامي تعني: اقتطاع جزء من أموال الأغنياء وردها إلى الفقراء. عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن فقال:(ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) رواه البخاري.
والإسلام شرع أحكاماً تتولى إعادة التوزيع للثروة -الدخول والمكاسب- ومن هذه الأحكام ما شرعه في رمضان: كصدقة الفطر، وفدية العجز عن الصيام، وكفارة الجماع في رمضان... فكل هذه الأحكام المالية القصد منها إعادة توزيع الدخول والمكاسب يين أفراد المجتمع، وذلك تحقيقاً للتوازن بين دخولهم ومكاسبهم، قال الله تعالى:(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الحشر/7.
فإعادة توزيع الثروة في رمضان تقوم على ما توحيه الأحكام المالية في شهر رمضان لصالح الفقراء والمحتاجين، وبهذا التملك لتلك الأموال زيادة لدخول ومكاسب الفئات التي استحقتها، وهذه الزيادة في دخولهم ومكاسبهم بالطبع ستنعكس على النشاط الاقتصادي، وذلك من خلال تنشيط الحركة الاقتصادية؛ لأنه من الطبيعي حينما يتملك الفقراء وغيرهم من المحتاجين لدخول جديدة، سيتوجهون بها إلى الأسواق لشراء حاجياتهم وضرورياتهم، وبالتالي سيزيد الاستهلاك، وزيادة الاستهلاك زيادة في الإنتاج، وزيادة الإنتاج زيادة حركة المصانع، وزيادة حركة المصانع تحتاج إلى عمال، والعمال يستحقون أجوراً، والأجور سيعاد ضخها في الأسواق، وهكذا تدور عجلة الدورة الاقتصادية، هذا فضلاً عن زيادة نسبة الزكاة، وذلك بزيادة دخول ومكاسب التجار وأصحاب المصانع.
ثانياً:الصيام والصحة:
إذا نظر المسلم إلى رمضان على أنه شهر تعبد وتقرب إلى الله تعالى، لا شهر الإكثار من الطعام والشراب، فإن ذلك سينعكس عليه بالصحة والعافية؛ لأنه سيكون فرصة للتخلص من أمراض كثيرة قد تفتك بالبدن، وبيان ذلك كما يلي:
قال صلى الله عليه وسلم:(ما ملأ آدمي شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) رواه الترمذي. وورد عن طبيب العرب ابن كلدة أنه قال: "المعدة بيت الداء، والحمية بيت الدواء" [كشف الخفاء 2/94].
فمدلول هذه الآثار أن كثرة الطعام تتسبب في إصابة الإنسان ببعض الأمراض؛ وذلك لما يحتوي عليه من سموم وبكتيريا وجراثيم -التي تسمى بمجملها نفايات الغذاء- التي قد لا يستطيع الجسم التخلص منها، لذا فإن الإنسان حينما يتناول على مدار أحد عشر شهراً الطعام وبمعدل ثلاث وجبات كل يوم، هو بحاجة إلى وقت تستريح فيه المعدة، وفي الوقت نفسه ليتخلص الجسم من تلك الفضلات الضارة، وهذا لا يتأتى إلا في شهر الصيام حيث إن الإنسان يمتنع عن الطعام من (10) إلى (12) ساعة يومياً، وبافتراض اتِّباعه السنة في تناوله للطعام فيجعل ثلثاً لطعامه، وثلثاً لشرابه، وثلثاً لنفسه، فهذا يضعف الجراثيم، بل يقضي عليها -كما بينت بعض التقارير الطبية-، وكذلك يتخلص من سموم كثيرة ونفايات ضارة تكدست في الجسم على مدار أحد عشر شهراً، وهذا الترشيد للطعام والشراب من شأنه أن يقلل من إصابة الإنسان بالأمراض.
سأل كسرى طبيباً:ما الداء الذي لا دواء له؟ قال: إدخال الطعام على الطعام، فذاك الذي أفنى البرية، وقتل سبع البرية. فسأل عن الحمية فقال: الاقتصاد في كل شيء [دليل الفالحين 4/361].
وروي عن حذيفة مرفوعاً: (من قل طعامه صح بطنه وصفا قلبه، ومن كثر طعامه سقم بطنه وقسا قلبه)، وروي: (لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلب ثمرة كالزرع إذا كثر عليه الماء) [عمدة القاري: 30/315]، وورد في قوله: (شراً من بطنه) قيل: لأنه سبب غالب أمراض البدن [حاشية السندي على ابن ماجه 6/336].
وعليه فإنه يمكن القول:إن في الصوم شفاء لكثير من الأمراض والعلل، ولا شك أن هذا سيؤدي إلى انخفاض النفقات التي تصرف على العلاجات، وفي هذا توفير للأموال، وهذه الأموال ستنفق في مجال آخر سواء كان استهلاكاً أو استثماراً، وكل ذلك سيؤدي إلى تحريك السوق، ومن ثمَّ تحريك الاقتصاد بما يعود على الأفراد والمجتمع بالتوسعة بالعيش.
ثالثاً:رمضان وترشيد الاستهلاك:
الأصل في الإنسان أنه رشيد عقلاني في استهلاكه، فلا يستهلك إلا قدر حاجته، مبتعداً عن التبذير والإسراف. قال الله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف/31. وعليه فإن من الرشد أن يكون المسلم متوسطاً في إنفاقه الاستهلاكي: لا مقتراً ولا مبذراً. قال الله تعالى مثنياً على أهل التوسط في الإنفاق: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) الفرقان/67. وهذا السلوك ينبغي أن يكون في كل الأحوال، إلا أنه في رمضان ينبغي أن يكون أكثر تطبيقاً؛ لأن شهر رمضان هو شهر عبادة وتقرب إلى الله تعالى، لا شهر تفنن وتلون في موائد الطعام والشراب.
ومن هنا فلو كان سلوك جميع الأفراد في الأمة رشيداً عقلانياً في استهلاكهم وإنفاقهم في هذا الشهر المبارك، فإن ذلك سينعكس عليهم بتوسعة في العيش لجميع فئات المجتمع وخاصة الفقيرة منها، وفلسفة ذلك اقتصادياً: أن الانخفاض في كمية الاستهلاك يحافظ على الأسعار الطبيعية للحاجات، والزيادة في كمية الاستهلاك -الذي يصل إلى درجة التبذير والإسراف- يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ومن ثمَّ إلى تركز الثروة، بسبب ما سيحصل عليه التجار من الأرباح الكثيرة جراء الارتفاع الفاحش للأسعار، هذا فضلاً عن خلو معظم الأسواق من الحاجات الضرورية، وإحلال الكماليات محلها؛ لأن التجار سيتحكمون فيما يجلب إلى الأسواق وبالسعر الذي يحددونه، وهذا لا شك سيتسبب في ضيق العيش لأصحاب الدخول الثابتة والفقراء.
إذن فانضباط الأفراد في سلوكهم الاستهلاكي بالضوابط الشرعية، ومن غير إسراف ولا تبذير، ينعكس عليهم بالرفاهية والتوسعة بالعيش.
والحمد لله رب العالمين.