الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد شرع الله تعالى الصوم مع ما فيه من المشقة، وفرضه على عباده رحمة بهم، ومغفرة لذنوبهم، وتزكية لنفوسهم، وتطهيراً لقلوبهم من أمراضها، قال تعالى:(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة/185، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ:إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) متفق عليه.
إلا أن الإنسان قد تعتريه بعض الأحوال التي يكون الصوم معها شاقاً أو متعذراً:كالسفر أو المرض؛ مما يلحق به ضرراً بالغاً ومشقة غير محتملة، لا تقبلها قواعد الشريعة وكلياتها الثابتة التي جاءت تنادي بدفع الضرر، والتيسير على المسلمين، ورفع المشقة غير المحتملة حيثما وجدت.
ومن هنا فقد رخص الله تعالى للمريض الفطر في نهار رمضان، فقال الله تعالى:(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) البقرة/184.
ويُعَرَّف المرض بأنه: ما يوجب تغير الطبيعة إلى الفساد. إلا أن الأمراض تختلف اختلافاً كبيراً حسب نوعها وشدتها وآثارها على جسد الإنسان، ومن هنا يمكن أن نقسم المرض باعتبار إباحته للفطر إلى ثلاثة أقسام:
أولاً:المرض الذي لا يبيح لصاحبه الإفطار:
وهو المرض اليسير الذي لا يشق معه الصيام؛ كبعض الأمراض البسيطة، والتي لا ارتباط لها بالصوم.
ومثل ذلك:الصداع، والحمى، ووجع الضرس، أو وجع الإصبع أو الرجل. ومن ذلك أيضاً الأمراض التي يستطيع صاحبها أن يؤخر تناول الأدوية فيها إلى ما بعد الإفطار أو مع السحور، ويشمل أيضاً مرضى السكري ذوي الحالات المستقرة والمسيطر عليها بمجرد الحمية أو بالعلاجات الخافضة للسكر، وهذا ما عليه جمهور العلماء.
قال الإمام النووي: "وأما المرض اليسير الذي لا يلحق به مشقة ظاهرة لم يجز له الفطر بلا خلاف عندنا" [المجموع 6/363].
وذهب الظاهرية وابن سيرين إلى أن مطلق المرض يبيح الفطر للصائم.
قال طريف ابن شهاب العطاردي:"دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت إصبعي هذه".
وقال البخاري: "اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه، فقال لي:أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت: نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة" (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/276).
وهذا القول بعيد، والمفتى به هو قول جمهور العلماء أن المرض اليسير الذي لا يشق معه الصيام لا يبيح الفطر.
ثانياً:المرض الذي يبيح لصاحبه الإفطار:
وهذا ما يسمى لدى العلماء:(المرض المرخص)؛ أي: يرخص لصاحبه الفطر ولا يوجبه عليه.
وهذا المرض يستطيع صاحبه الصوم ولكن بضرر ومشقة لا تؤديان إلى الهلاك، أو زيادة المرض المؤدي إلى الهلاك، أو زيادة المرض واستفحاله في جسد الإنسان. فهذا اختلف العلماء فيه؛ فذهب الحنفية والشافعية إلى أنه يباح له الفطر في مثل هذا المرض، وذهب المالكية على أنه يستحب له الفطر ويكره الصوم.
قال القرطبي:"الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل" (الجامع لأحكام القرآن 2/276).
قال الإمام أبو حنيفة: "إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعاً أو تزداد حمّاه أفطر" (المبسوط للسرخسي 4/230).
قال الكاساني: "أما المرض، فالمرخص منه هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم، وإليه وقعت الإشارة في الجامع الصغير..." ثم قال: "وروي عن أبي حنيفة أنه إن كان بحال يباح له أداء الصلاة قاعداً فلا بأس أن يفطر" (بدائع الصنائع 2/94).
وعليه:فإن مذهب جمهور العلماء: أنه إذا كان بالإنسان مرض يؤلمه ويؤذيه، أو يخاف تماديه، أو يخاف ازدياده صح له الفطر.
وأي مرض يغلب على الأطباء زيادته بالصوم كمرض السكري، الذي يعاني فيه المريض من ارتفاع السكر في الدم، فإن أصحاب هذا المرض يستحب لهم الفطر.
ثالثاً:المرض الموجب للفطر:
وهو المرض الذي لا يستطيع معه الصيام، أو يخاف الهلاك من المرض، أو يؤدي إلى الضعف، أو تفاقم المرض المؤدي لهلاكه. ومن الأمثلة عليه مرضى السكري الذين يُجرى لهم غسيل الكلى.
ويجب على المريض الفطر في هذه الحالة بشرط تأكده من حصول الهلاك، أو الضرر البالغ، أو غلبة الظن بحصوله، بحسب ما يقدره الأطباء الثقات المختصون، وعلى الأطباء أن يبينوا لمرضاهم مدى تأثير الصيام على صحتهم، وما يؤول إليه من مضاعفات قد تشكل خطورة على حياتهم أو تفاقم أمراضهم؛ مما يُحرِّم عليهم الصيام.
والمريض في هذا الحال يأثم بالصيام؛ لأن فيه إلقاء النفس على التهلكة، قال تعالى:(وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) النساء/29، وقوله تعالى:(وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) البقرة/195.
قال الكاساني: "والمبيح المطلق، بل الموجب هو الذي يخاف منه الهلاك؛ لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة لا لإقامة حق الله تعالى وهو الوجوب، والوجوب لا يبقى في هذه الحالة، وإنه حرام، فكان الإفطار مباحاً، بل واجباً: (بدائع الصنائع 2/94).