تمويل الخدمات التعليمية والطبية من منظور فقهي(*)
الدكتور حمزة عدنان مشوقة/ باحث شرعي بدائرة الإفتاء الأردنية
الملخص
يعتبر التعليم والتطبيب من الحاجات الأساسية التي لا يستغني عنها الأفراد، وقد أولى الإسلام هذه الحاجات اهتماماً كبيراً لتحقيق الكفاية فيها، ومع صعود نجم المؤسسات المالية الإسلامية فقد أصبح الدور منوطاً بهذه المؤسسات أن توفر بديلاً شرعياً يحقق هذا الهدف العظيم، وقد هدفت هذه الدراسة إلى بيان الأساس الشرعي والتكييف الفقهي والضوابط الشرعية والإجراءات العملية لتمويل هذه الخدمات، وتوصلت الدراسة إلى أن التكييف الفقهي الأقرب لهذا التمويل هو عقد الإجارة الموصوفة في الذمة، وأن الأساس الشرعي لمبنى عقد تمويل هذه الخدمات هو قاعدة تقبُّل العمل، كما توصلت الدراسة إلى مجموعة من الضوابط الشرعية والإجراءات العملية في تطبيق هذا التمويل.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
يعتبر التعليم والتطبيب من الحاجات الأساسية التي لا يستغني عنها الأفراد، وقد أولى الإسلام اهتماماً كبيراً بكفاية هذه الحاجات، وجعلها في مصفّ فروض الكفايات التي يجب على مؤسسات المجتمع التآزر فيما بينها وتوفيرها لأفراد المجتمع.
وقد تعطّل اليوم دور كثير من المؤسسات المجتمعية عن القيام بدورها المنوط بها اتجاه كفاية هذه الحاجات العامة، وأصبح التوجه العالمي اليوم مربوطاً بالمؤسسات الخاصة ذات الربحية.
ومع صعود نجم المؤسسات المالية الإسلامية والمصارف الإسلامية خصوصاً، فقد أصبح الدور منوطاً بهذه المصارف أن توفر بديلاً شرعياً يحقق هذا الهدف العظيم ويغطي بعض حاجات المجتمع فيما يتعلق بهذا المجال.
وقد وقع الاختيار على موضوع (تمويل الخدمات التعليمية والطبية من منظور فقهي) ليغطي الباحث الجانب الفقهي المتعلق بهذا الموضوع.
مشكلة الدراسة
تتمثل مشكلة الدراسة في الإجابة عن السؤال الآتي: ما التأصيل الشرعي لتمويل الخدمات التعليمية والطبية؟ وكيف تطبق صيغ تمويل الخدمات التعليمية والطبية بشكل شرعي؟
أهداف الدراسة
تهدف هذه الدراسة إلى الآتي:
1- بيان التكييف الفقهي والأساس الشرعي لتمويل الخدمات التعليمية والطبية.
2- بيان الضوابط الشرعية والإجراءات العملية المتعلقة بتمويل الخدمات التعليمية والطبية.
3- بيان مشروعية الصيغ العقدية المطبقة في المؤسسات المالية الإسلامية.
الدراسات السابقة
أولاً: تمويل المنافع بأوروبا (أبو غدة: 2008م).
تناولت هذه الدراسة التمويل بالمنافع عن طريق عقد إجارة الأعيان والإجارة الموصوفة بالذمة والتطبيقات المستندة إلى إجارة الخدمات والإجارة الموصوفة بالذمة.
ثانياً: التكييف الشرعي للمرابحة على المنافع (مهيدات والشويات: 2013م).
تطرقت هذه الدراسة إلى تمويل منفعة التعليم، وهي الدراسة في الكليات والجامعات عن طريق عقد الإجارة الموصوفة بالذمة مع بيان الضوابط الشرعية.
ثالثاً: تمويل المنافع والخدمات في المؤسسات المصرفية الإسلامية الأردنية (الجيوسي والشطي 2013م).
تناولت هذه الدراسة التمويل بالمنافع عن طريق عقد الإجارة الموصوفة بالذمة، وبيان إجراءات التطبيق وآلياته، وبيان أبرز الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على تمويل هذه المنافع، مع الإشارة إلى بعض النماذج المطبقة في المصارف الإسلامية الأردنية.
رابعاً: تطبيق عقد الجعالة في الخدمات المصرفية الإسلامية (الشيخ 2013م).
قدمت هذه الدراسة عقد الجعالة بديلاً مقترحاً لتقديم خدمات التعليم والصحة والسياحة في المصارف الإسلامية.
خامساً: تمويل الخدمات دراسة فقهية تأصيلية تطبيقية (الدميجي 2017م).
تعتبر هذه الدراسة أوسع ما كُتب في تمويل الخدمات عموماً، وهي رسالة ماجستير، وتناولت الصيغ العقدية التي يمكن أن تقدمها المصارف الإسلامية، وبينت المشروع منها وغير المشروع، ولكن الدراسة ركزت على التأصيل النظري.
سادساً: إشكالات إجارة الموصوف بالذمة وحلولها (أبو العز 2017).
هذه الدراسة تتألف من ثلاث مقالات نشرت في مجلة الاقتصاد الإسلامي العالمية، وتتميز بأنها عالجت كثيراً من الإشكاليات الشرعية والتطبيقات العملية بشكل عميق.
إضافة الدراسة
يُلاحظ الباحث أن أغلب الدراسات التي كُتبت حول الموضوع ركزت على التأصيل النظري وتناولت صيغة عقدية واحدة، وهي عقد الإجارة الموصوفة بالذمة، وبعضهم أضاف لها عقد الجعالة، وستكون إضافة الباحث ببناء هذا النوع من التمويل بناءً فقهياً متكاملاً يشمل الأساس الشرعي والتكييف الفقهي والأحكام والشروط الشرعية والإجراءات العملية مع البحث في مشروعية الصيغ العقدية المطبقة في المؤسسات المالية الإسلامية.
خطة الدراسة
سيقوم الباحث بتقسيم هذه الدراسة إلى ثلاثة مباحث رئيسة ومبحث تمهيدي:
المبحث التمهيدي: مفهوم تمويل الخدمات التعليمية والطبية.
المبحث الأول: التأصيل الفقهي لتمويل الخدمات التعليمية والطبية.
المبحث الثاني: الضوابط الشرعية والإجراءات العملية المتعلقة بتمويل الخدمات التعليمية والطبية.
المبحث الثالث: صيغ عقدية مطبقة في تمويل الخدمات التعليمية والطبية.
المبحث التمهيدي
مفهوم تمويل الخدمات التعليمية والطبية
المطلب الأول: مفهوم تمويل الخدمات التعليمية والطبية باعتباره مركباً إضافياً:
أولاً: مفهوم التمويل:
أصل التمول لغة مأخوذة من (مول)، يُقال: تمول الرجل، أي صار ذا مال، ومنه الحديث (ما جاءك منه وأنت غير مشرف عليه فخذه وتموله)[1]، أي: اجعله لك مالاً[2]، فالمعنى اللغوي يتضمن إعطاء المال من طرف لآخر. وأما في الاصطلاح؛ فالتمويل: تقديم ثروة عينية أو نقدية من مالكها إلى شخص آخر يديرها ويتصرف فيها مقابل عائد[3].
ثانياً: مفهوم الخدمات:
الخدمات جمعٌ، واحدُه خدمة، وأصله اللغوي يرجع إلى (خدم)، وهو إطافة الشيء بالشيء؛ أي الإحاطة المستديرة بالشيء، ومن هذا الباب أطلق على من يقوم بحاجات الناس بالخادم؛ لأنه يحيط بمن يخدمه[4].
وأما في الاصطلاح؛ فتعرف بأنها القيام بالحاجات الخاصة لشخص أو أشخاص[5].
وتعتبر الخدمات في الفقه الإسلامي من المنافع، وقد توسّع الناس في استخدامها على ما يقدمه الإنسان للآخرين من تسهيلات وأعمال، فلم تعد خاصة بمنافع الأعمال[6].
ثالثاً: مفهوم التعليم والطب:
التعليم لغة مأخوذة من (علم)، قال المُناوي: "التعليم تنبيه النفس لتصور المعاني، ويفترق التعليم عن الإعلام بأن التعليم يختصّ بما يكون بتكرير وتكثير حتى يحصل منه أثر في نفس المتعلم، وتعليم الله تعالى لآدم الأسماء أن جعل له قوة بها نطق وبها وضع أسماء الأشياء"[7]، والتعليم في المصطلح المعاصر يطلق على العملية المنظمة التي يتم من خلالها إكساب المتعلم الأسس البنائية العامة للمعرفة بطريقة مقصودة ومنظمة ومحددة الأهداف[8].
وأما الطب؛ فأصله اللغوي من (طبب)، والطبيب الحاذق بالأمور العارف بها، وبه سمي الطبيب الذي يعالج المرضى[9]، قال الإمام المناوي: "الطب: علم يعرف به حفظ الصحة وبرء المرض"[10].
وفي الاصطلاح المعاصر يعرف علم الطب بأنه علم دراسة أسباب الأمراض البشريّة ومعالجتها، بما في ذلك طرق المداواة والشفاء المتعلِّقة بالأمراض التي يعالجها طبيب أو جرَّاح[11].
المطلب الثاني: مفهوم تمويل الخدمات التعليمية والطبية باعتباره عَلَماً ولقباً:
تعددت التعريفات لمفهوم تمويل الخدمات، ويلاحظ الباحث أن أكثرها لم يتطرق لتعريف تمويل الخدمات كمنتج تمويلي، وإنما اكتفى ببيان صورتها وربطها مباشرة بعقد الإجارة الموصوفة بالذمة، ومن أفضل التعريفات تعريف الدكتور الدميجي بأنه تقديم منفعة عمل من مقدمها إلى طالبها بواسطة وسيط مقابل تسديد قيمتها على أقساط[12].
وأما مفهوم الخدمات التعليمية والطبية؛ فلم يجد الباحث فيها تعريفاً سوى ما عرفه الدكتور المومني بأنه تمويل التعليم بكونه مجموعة الموارد المرصودة في إطار التعليم إلى المؤسسات التعليمية لتحقيق الأهداف التي يتعين تحقيقها بالموارد المتاحة، وإدارة هذه الأموال واستخدامها بكفاءة[13]، ويلاحظ الباحث أن هذا التعريف لم ينضبط بالمعايير العلمية للتعريفات، فهو ليس جامعاً مانعاً؛ لأنه يشمل تمويل التعليم عن طريق الدولة والأوقاف والتبرعات والمنتجات المصرفية.
والذي يختاره الباحث في تعريف مصطلح تمويل الخدمات التعليمية والطبية بأنه تقديم منفعة تعليمية أو طبية من مقدمها إلى طالبها بواسطة وسيط مقابل تسديد قيمتها على أقساط.
فتقديم المنافع التعليمية والطبية هي من منافع الأعمال، ومقدم الخدمة هو المقدم لتلك الخدمة، كالجامعة والمدرسة في المنفعة التعليمية، والمستشفى في المنفعة الطبية، وطالب الخدمة هو العميل المستفيد من الخدمة كالطالب والمريض، والوسيط هو المؤسسة المالية التي تقوم بدور الممول، فالعملية تتضمن ثلاثة أطراف، وهي مقدم الخدمة وطالب الخدمة والوسيط.
المبحث الأول
التأصيل الفقهي لتمويل الخدمات التعليمية والطبية
سيقوم الباحث في هذا المبحث بدراسة التكييف الفقهي المناسب لهذا النوع من التمويل، والأساس الشرعي الذي يقوم عليه عقد تمويل الخدمات.
المطلب الأول: التكييف الفقهي المناسب لتمويل الخدمات التعليمية والطبية:
إن معرفة الأحكام والضوابط والشروط المتعلقة بتمويل الخدمات التعليمية والطبية متوقف على التصور الكامل للمسألة، وتحرير الأصل الذي تنتمي إليه، وهذا هو المقصود من التكييف الفقهي[14].
وبيان ذلك أن هذا النوع من التمويل يعتبر من المسائل المستجدة في عصرنا الحاضر، ولم يأتِ بها نصّ شرعي ولا اجتهاد فقهيّ من المذاهب الفقهية المعتبرة، ولذلك تعيّن فهم المسألة بكاملها، ومن ثم تحريرها في المجهر الفقهي، وذلك ببيان أقرب أصل أو عقد تندرج تحته هذه المسألة.
وقد سبق تعريف مصطلح تمويل الخدمات التعليمية والطبية، وهي باختصار تقديم الخدمة المذكورة من مقدمها إلى طالبها بواسطة وسيط مالي، فهي تندرج في جنس تقديم الخدمات، فطالب الخدمة يتعاقد مع الوسيط المالي على نوع الخدمة المقدمة ووصفها، والوسيط المالي يتعاقد مع مقدم الخدمة على نوع الخدمة المقدمة ووصفها، وتقديم الخدمات يطلق في الفقه الإسلامي على عقود الأعمال، مثل الإجارة الموصوفة بالذمة والجعالة، ولكل واحد من هذين العقدين خصائص تميزه عن الأخرى، والذي يعنينا في هذا المقام التوصيف الفقهي المناسب لهذا النوع من تقديم الخدمات، ومحل العقد في تمويل الخدمات التعليمية والطبية يجب أن يكون معلوماً نوعاً ووصفاً، فيكون مندرجاً في عقد الإجارة.
فيتبين من ذلك أنّ تمويل الخدمات التعليمية والطبية يندرج في عقد الإجارة، ويعرف الفقهاء عقد الإجارة بأنه عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض[15]، وعقد الإجارة ينقسم إلى نوعين رئيسيين هما:
1. إجارة عين: حيث يتم دفع العين لمن ينتفع بها لمدة معلومة مقابل أجرة معلومة كإجارة المنزل للسكنى، وإجارة الأعيان قد يكون محلها معيناً بالرؤية، أو الإشارة، أو ما يميزه عن غيره، كإجارة هذا المنزل لمدة عام، وقد يكون محلها عيناً موصوفة في الذمة كإجارة منزل بمواصفات معينة[16].
2. إجارة عمل: حيث يتم تقديم منفعة عمل لمن ينتفع به بأجر معلوم، والمراد بالعمل هنا الفعل الصادر عن الإنسان، سواء أكان عملاً جسدياً أم جهداً عقلياً، وهذا النوع منتشر بين أرباب الحِرف وأصحاب الصناعات كالأطباء والمهندسين وغيرهم، ويسمى الشخص الذي يقدم الخدمة أجيراً.
فهذا الأجير إما أن تكون منفعته محددة لشخص معين في زمن معين، ويسمى الأجير الخاص، أي: إن العقد يقع على عينه في مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها، كالموظف والسائق الخاص والحارس الخاص.
وإما أن تكون منفعة الأجير محددة بالعمل، ولا يُحدد لشخص معين، ويسمى الأجير المشترك، أي: إن العقد يقع مع الأجير على عمل معين، كالطبيب والخياط والأستاذ الجامعي، فالأجير الخاص تحدّد منفعته لشخص معين في زمن معين، والأجير المشترك تحدّد منفعته بالعمل، وهذا هو معيار التفرقة بينهما[17].
فالأجير الخاص قد وقع العقد على عين شخصه، فهذه تعتبر إجارة عمل معينة، وأما الأجير المشترك فإما أن يشترط عليه العمل بنفسه، فهذه تعتبر إجارة عمل معينة، أو لا يشترط عليه ذلك، فتعتبر إجارة عمل موصوف بالذمة[18].
وعلى ذلك؛ فعقد إجارة الأعمال ينظم تمويل الخدمات التعليمية والطبية، فيقوم طالب الخدمة (العميل) بالتعاقد مع الوسيط المالي على نوع الخدمة ومواصفاتها وشروطها، ومن ثم يتفق الوسيط المالي مع مقدم الخدمة (كالجامعة أو المستشفى) على نفس المواصفات والشروط التي تم الاتفاق عليها من قِبل طالب الخدمة.
وهل يعتبر تمويل الخدمات التعليمية والطبية من قبيل إجارة الأعمال الموصوفة بالذمة أم من قبيل إجارة الأعمال المعينة؟
هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء المعاصرون، وهذا الاختلاف مبني على أنه إذا تم تحديد الجهة المقدمة للخدمة (الجامعة الفلانية أو المستشفى الفلاني) هل تعتبر من قبيل إجارة الأعمال المعينة، أم من إجارة الأعمال الموصوفة بالذمة؟ وترتب على هذا الاختلاف في التوصيف الفقهي اختلافٌ في الأحكام المترتبة عليها، كاشتراط التملك وفسخ العقد بامتناع مقدم الخدمة عن تقديم خدمته وغير ذلك.
فذهب المجلس الشرعي لكتاب المعايير الشرعية إلى أنه إذا تم تعيين مقدم الخدمة كمنفعة التعليم من جامعة مسماة، صارت من قبيل إجارة الأعمال المعينة، وأما إذا لم يتم تحديد مقدم الخدمة بل اكتفي بتحديد المواصفات المطلوبة كمنفعة التعليم من جامعةٍ يتم تحديد مواصفاتها دون تسميتها، صارت من قبيل الإجارة الموصوفة بالذمة[19].
وذهبت هيئة الفتوى والرقابة الشرعية ببنك "أبو ظبي الإسلامي" إلى أنه إذا اكتفي بتعيين الجهة المقدمة للخدمة دون تعيين من يقدم الخدمة بشكل مباشرة كالمدرس والطبيب، اعتبرت من قبيل إجارة الأعمال الموصوفة بالذمة[20].
فالرأي الأول جعل من تعيين الجهة المقدمة للخدمة تعييناً للمعقود عليه.
وأما الرأي الثاني فقد اعتبر أن عقد تمويل الخدمات لا يُحدد فيه أجير معين بشخصه، بل يحدد فيه عمل في الذمة، وتحديد الجهة المقدمة للخدمة لا يعدو أن يكون وصفاً في الخدمة المتعاقد عليها.
وهذا الرأي الثاني أوجه من الرأي الأول وأقرب إلى تصوير حقيقة المسألة، ولكن يترتب عليه أنه إذا نظمنا تمويل الخدمات بعقد الإجارة الموصوفة بالذمة أنه لا يجوز فسخه إذا امتنع مقدم الخدمة عن تقديم الخدمة لطالبها، بل يلزم الوسيط المالي أن يوفر له بديلاً آخر.
ولذلك فقد توسطت الهيئة الشرعية لبنك البلاد بين الرأيين السابقين، وجعلت من عقد إجارة الأعمال الذي ينظم تمويل الخدمات شبهاً من الطرفين[21] (إجارة الأعمال الموصوفة بالذمة، وإجارة الأعمال المعينة)، فصار عقد إجارة الأعمال هذا معيناً من جهة ومطلقاً من جهة أخرى، فالعقد يعتبر إجارة موصوفة بالذمة، ولكنها محدّدة ببنية مقدم الخدمة، ويترتب على ذلك جواز تأجير الخدمة قبل تملكها؛ إعمالاً لمقتضى العقد الموصوف بالذمة، وانفساخ العقد عند تعذر استيفاء المنفعة؛ إعمالاً لمقتضى العقد المعين[22].
ويرى الباحث أنّ اعتبارها إجارة موصوفة بالذمة أقرب إلى حقيقة تمويل الخدمات التعليمية والطبية؛ لأنّ طبيعة هذه الخدمة المقدمة من المؤسسة التعليمية أو الطبية لا يُلتزم فيها غالباً بتعيين من يباشر الخدمة كالمدرس أو الطبيب، ولأن حقيقة الدور الذي قام به الوسيط المالي هو الالتزام بتقديم الخدمة لطالبها، فهو لم يعمل بنفسه، وإنما التزم بتقديم العمل، وهذا يجعل عقد التمويل أقرب إلى الإجارة الموصوفة بالذمة، وسيأتي بيان ذلك في المطلب القادم، وعلى ذلك فتعيين الجهة المقدمة للخدمة يعتبر من قبيل الصفة المشروطة في عقد الإجارة الموصوفة بالذمة؛ ولأنّ الصفة التي اشترطها طالب الخدمة على الوسيط المالي (وهي الجهة المعينة لتقديم الخدمة) إذا امتنعت عن تقديم الخدمة لطالبها، كان لطالب الخدمة خيار الفسخ، وقد ذكر الفقهاء صورة مشابهة في عقد الاستصناع أن الصانع إذا جاء بالعين المستصنعة على خلاف الصفة المشروطة لم يلزم المستصنع قبولها[23]، فوجود الصفة المشروطة في محل عقد الاستصناع لم يجعله معيناً، وكذلك لا يلزم من اشتراط جهة معينة في تمويل الخدمات التعليمية أو الطبية أن يكون عقد الإجارة معيناً، بل يبقى موصوفاً في الذمة، ويثبت لطالب الخدمة خيار الفسخ إذا امتنع الوسيط المالي عن تقديم الخدمة بالوصف المشروط.
المطلب الثاني: الأساس الشرعي لعقد تمويل الخدمات التعليمية والطبية:
يعتبر المصرف الإسلامي وسيطاً في عقد تمويل الخدمات التعليمية والطبية بين طالب الخدمة وبين مقدمها، ولكن هذا الوسيط لم يقم بعمل حقيقي؛ بمعنى أنه لم يقم بتقديم الخدمة التعليمية أو الطبية بنفسه، كما لم يقم بتملك الخدمة التعليمية أو الطبية من مقدمها قبل تأجيرها لطالب الخدمة، فقد اقتصر دوره على الوساطة المالية، فكيف يسوغ اعتبار عقد تمويل الخدمات التعليمية والطبية من قبيل الإجارة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى مفردات الفقه الإسلامي، وقد وجد الباحث صوراً مشابهة لذلك، وهي:
أولا: جاء في كتاب بدائع الصنائع في فقه السادة الحنفية: "وللأجير أن يعمل بنفسه وأجرائه إذا لم يشترط عليه في العقد أن يعمل بيده؛ لأنّ العقد وقع على العمل، والإنسان قد يعمل بنفسه وقد يعمل بغيره؛ ولأن عمل أجرائه يقع له فيصير كأنه عمل بنفسه، إلا إذا شرط عليه عمله بنفسه؛ لأن العقد وقع على عمل من شخص معين"[24].
ويتبين للباحث من النصّ السابق أنّ الأجير له أن يعمل بنفسه كما يحقّ له أن يسلم العمل إلى آخر يعمل بها، وهذا يسمى في الاصطلاح المعاصر بالإجارة الموازية، والإجارة الموازية هي إبرام الشخص عقدي إجارة موصوفة في الذمة منفصلين ليحقق الربح عن طريق اختلاف الثمن في العقدين[25].
فالصورة التي ذكرها الإمام الكاساني مشابهة لعقد تمويل الخدمات، من حيث إنّ الوسيط المالي يتعاقد مع طالب الخدمة بعقد إجارة موصوفة في الذمة، ولا يعمل بنفسه، بل يتعاقد مع مقدم الخدمة بعقد إجارة موازية لتقديم الخدمة التعليمية أو الطبية لطالبها.
ثانياً: يقول الإمام الكاساني: "والأصل أن الربح إنما يستحق عندنا إما بالمال، وإما بالعمل، وإما بالضمان... وأما بالضمان؛ فإن المال إذا صار مضموناً على المضارب يستحق جميع الربح، ويكون ذلك بمقابلة الضمان خراجاً بضمان بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان)[26]، فإذا كان ضمانه عليه كان خراجه له، والدليل عليه أن صانعاً تقبل عملاً بأجر، ثم لم يعمل بنفسه، ولكن قبله لغيره بأقلّ من ذلك طاب له الفضل، ولا سبب لاستحقاق الفضل إلا الضمان"[27].
فالصورة التي ذكرها الكاساني تتشابه مع عقد تمويل الخدمات؛ من حيث إن الوسيط المالي يتقبل عملاً بأجر، ولا يعمل بنفسه، وقد سماها الكاساني بالتقبل، ومعنى التقبل هو التعهد والالتزام بالعمل، ولا يشترط في التقبل أن يعمل المتعهد بنفسه؛ لأن العمل عرض لا يقبل التعهد والالتزام، فالمراد بتقبل العمل هو تقبل محلّ العمل[28].
والوجه الشرعي لاستحقاق الربح على تقبل العمل هو الضمان كما نصّ على ذلك فقهاء الحنفية والحنابلة؛ قال الإمام ابن قدامة: "وإذا قال أحدهما: أنا أتقبل، وأنت تعمل، والأجرة بيني وبينك، صحت الشركة، وقال زفر: لا تصح، ولا يستحق العامل المسمى، وإنما له أجرة المثل، ولنا أن الضمان يستحق به الربح، بدليل شركة الأبدان، وتقبل العمل يوجب الضمان على المتقبل، ويستحقّ به الربح، فصار كتقبله المال في المضاربة، والعمل يستحقّ به العامل الربح كعمل المضارب، فينزل بمنزلة المضاربة"[29].
وقد يُثار استشكال فقهي في هذا المقام أنّ المقرر فقهاً أنّ الضمان لا يستحقّ صاحبه عوضاً بالإجماع، كما نقله العلامة ابن القطان[30]، فكيف يقال إن الضمان سبب لاستحقاق الربح.
ويمكن أن يُجاب عن ذلك بأنّ المراد بالضمان الذي لا يجوز لصاحبه أن يأخذ أجراً عليه هو الضمان المحض، وهو الالتزام في الذمة، وأمّا الضمان الذي يعتبر سبباً لاستحقاق الربح هو ضمان العمل بمعنى الالتزام بتقديم العمل كما في شركة الأعمال أو ضمان الملك بمعنى الالتزام بهذا الملك كما في شركة الوجوه[31]، وفي صورة عقد تمويل الخدمات يكون الوسيط ملتزماً بتقديم العمل، فضمان العمل نوع من العمل.
وبناءً على ذلك؛ فالتكييف الفقهيّ الأقرب لعقد تمويل الخدمات التعليمية والطبية هو عقد الإجارة الموصوفة بالذمة، والأساس الشرعي الذي يقوم عليه المبنى العقدي لتمويل هذه الخدمات هو قاعدة تقبل العمل، فالوسيط المالي يتعهد بتقديم الخدمة التعليمية أو الطبية لطالب الخدمة، ولا يشترط أن يقوم بتقديم الخدمة بنفسه، بل يتعهد بتقديمها لطالبها.
وبذلك يزول الإشكال الذي يُثار حول تمويل الخدمات التعليمية والطبية، ومدى شرعية العائد الذي تأخذه المصارف الإسلامية على هذا النوع من التمويل، على الرغم أنها لم تقدم خدمة التعليم أو التطبيب بنفسها، ولكنها التزمت بتقديمه لطالب الخدمة، وهذا الالتزام بتقديم الخدمة يعتبر مسوغاً شرعياً لاستحقاق الربح مقابل ذلك.
المبحث الثاني
الضوابط الشرعية والإجراءات العملية المتعلقة بتمويل الخدمات التعليمية والطبية
سيقوم الباحث في هذا المبحث بدراسة أبرز الشروط والضوابط الشرعية التي يجب أن تتوافر في تمويل الخدمات التعليمية والطبية مع الإشارة إلى بعض الصور العملية، ومن ثم سيقوم ببيان الإجراءات العملية للتطبيق الشرعي لتمويل الخدمات التعليمية والطبية مع الإشارة إلى بعض الأخطاء الشائعة التي قد تقع فيها المؤسسات المالية الإسلامية في هذا المجال.
المطلب الأول: الضوابط الشرعية المتعلقة بتمويل الخدمات التعليمية والطبية:
يمكن إجمال أبرز الضوابط التي يجب توافرها في عقد تمويل الخدمات إلى نوعين: شروط عامة يجب توافرها في عقود التمويل الإسلامي، وشروط خاصة متعلقة بتمويل الخدمات عن طريق عقد الإجارة الموصوفة بالذمة والإجارة الموازية، وفيما يأتي بيان لأبرز الأحكام والشروط العامة التي يجب توافرها في عقود التمويل الإسلامي:
أولاً: الشروط العامة يجب توافرها في عقود التمويل الإسلامي:
1. أهلية العاقد: أي يشترط في العاقد أن يكون بالغاً عاقلاً راشداً، وعلى ذلك فإذا كان طالب الخدمة غير راشد – كالطالب المدرسي مثلاً – يجب أن يوقع عنه وليه[32].
2. معلومية الأجرة: أي يشترط أن يكون مقدار الأقساط التي سيدفعها طالب الخدمة معلومة، ويتحقّق العلم بالأجرة إذا نصّ على مقدارها في العقد أو كانت مربوطة بمؤشر منضبط؛ لأنه يؤول للعلم على وجه لا يؤدي إلى النزاع والشقاق، وقد أجازت المجامع الفقهية والمجلس الأوروبي للإفتاء والمعايير الشرعية ربط الأجرة بمؤشر منضبط[33].
3. أن تكون المنفعة (الخدمة) معلومة: أي أن يتفق العاقدين على الصفات التي تنضبط بها المنفعة؛ حذراً من الجهالة والغرر[34].
ومن الصور التطبيقية لذلك في تمويل التعليم الجامعي، مثلاً: أن يتفق الوسيط المالي مع طالب الخدمة على أبرز الصفات التي تنضبط بها المنفعة من تعيين التخصص والجامعة وعدد الساعات.
ومن الصور التطبيقية كذلك في تمويل التعليم الجامعي: عمليات السحب والإضافة، فقد يضطر طالب الخدمة إلى إضافة مواد لم يكن قد اتفق عليها مع الوسيط المالي، وهذه الصورة لا تخلو: إما أن يقوم بسحب مادة وإضافة مادة أخرى مكانها، وحينئذ ليس على الطالب أن يقوم بالرجوع إلى الوسيط المالي أو أخذ موافقته؛ لأن العقد بينهما تم على استيفاء ساعات محددة وليس على مواد بعينها، وإما أن يقوم الطالب بإضافة مادة جديدة دون أن يسحب مادة أخرى، وحينئذٍ فيجب عليه أن يرجع على الوسيط المالي لأخذ موافقته ليقوم الوسيط بإشعار مقدم الخدمة بتلك المادة المضافة ودفع رسومها.
وأمّا إذا تمت عملية سحب مادة دون إضافة مادة مكانها، فإذا تمّ ذلك في الزمان الذي يتيحه مقدّم الخدمة (أسبوع السحب والإضافة)، فالأصل أنْ يرجع طالب الخدمة على الوسيط ليخصم من رسوم الفصل رسوم هذه المادة، وأما إذا تمّت عملية السحب بعد ذلك ولم يخصم مقدّم الخدمة أي مبلغ فلا يرجع على الوسيط.
4. أن تكون المنفعة (الخدمة) مقدوراً على تسلميها: فكل ما لا يقدر المؤجر على تسليمه حساً أو شرعاً لا يجوز العقد عليه، فالخدمة التي يلتزم الوسيط المالي بتقديمها لطالب الخدمة يجب أن يكون تقديمها ممكناً من الوسيط حساً وشرعاً[35].
ومن الصور التطبيقية لذلك تمويل الدراسة الجامعية في الجامعات الحكومية، ففي الأردن مثلاً يُحدّد مجلس التعليم العالي قبل بداية كل عام دراسي أعداد الطلبة المقبولين في الجامعات الأردنيّة في برنامج البكالوريوس والدراسات العليا وفق شروط محددة، والطالب الذي يقع الاختيار عليه للالتحاق بجامعة حكومية معينة، لا يمكنه أنْ يتنازل عن حقه في المقعد الجامعي لغيره، ولو فعل لا ينفذ تصرفه ولا تجيزه الجامعة، فالعبرة بشخص الطالب تحديداً، ولا تقبل الجامعة التعاقد مع غيره بوجه من الوجوه إذا كان ممّن لا تنطبق عليه المعايير المعتمدة لديها.
وبناء على ذلك؛ فلا يصحّ شرعاً تمويل الدراسة الجامعية للجامعات الحكومية؛ لأن الوسيط المالي لن يستطيع حينئذ تقديم الخدمة التعليمية لطالب الخدمة، فيكون تمويل الدراسة الحكومية من التمويل النقدي المحض، وقد أفتت هيئة الرقابة الشرعية في البنك العربي الإسلامي أنه لا يجوز تقديم منتج تمويل منفعة التعليم في الجامعات الحكومية إلا في النظام الموازي الذي لا يخضع لنظام التنافس[36].
5. أن تكون المنفعة (الخدمة) متقومة شرعاً: أي أن تكون المنفعة ذات قيمة عند الناس عرفاً، وأباح الشارع الانتفاع بها[37].
ويمكن أن يتصور هذا الشرط في تمويل الجراحات التجميلية وعمليات الإجهاض وأطفال الأنابيب مثلاً، وحينئذ فلا بد من البحث عن حكم ذلك، ويفضل حينئذ الرجوع إلى القرارات المجمعية والفتاوى الرسمية؛ منعاً من تضارب الفتوى داخل البلد الواحد.
6. حكم الشرط الجزائي: لا يجوز فرض شرط جزائي أو غرامات تأخير على التأخر عن سداد الدين؛ لأن ذلك من الربا المحرم، ويجوز فرض شرط جزائي على التأخر عن إنجاز العمل المتعاقد عليه، وهذا ما نص عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي (قرار رقــم: 51/ 2/ 6)[38].
فلا يجوز أن يفرض الوسيط المالي غرامات تأخير على طالب الخدمة في حال التأخر عن تسديد الأقساط، وأما فرض غرامات تأخير على مقدم الخدمة (المؤسسة التعليمية أو الطبية) في حال الامتناع عن تقديم الخدمة فذلك جائز.
ثانياً: الشروط الخاصة المتعلقة بتمويل الخدمات التعليمية والطبية عن طريق عقد الإجارة الموصوفة بالذمة والإجارة الموازية:
1. عدم وجود ارتباط عقدي سابق على تمويل الخدمات بين طالب الخدمة وبين مقدم الخدمة: أي يشترط ألا يكون طالب الخدمة قد تعاقد مع مقدم الخدمة على الانتفاع بها، ثم يذهب للوسيط المالي ليطلب تمويلاً لذلك؛ لأن ذلك يعتبر تمويلاً نقدياً ربوياً[39].
وعلى ذلك: فلو طلب الوسيط المالي من طالب الخدمة فاتورة دون التعاقد مع مقدم الخدمة كان ذلك تمويلاً ربوياً محرماً.
وقد يثور استشكال في تمويل الدراسة الجامعية: هل يشترط أن يمول مقدم الخدمة جميع السنوات الجامعية، أم يجوز أن يُكتفى بتمويل فصل دراسي واحد؟ يرى الباحث أنه يصح شرعاً تمويل فصل دراسي واحد؛ لأن منفعة التعليم تطلق على الدراسة الجامعية كاملة كما تطلق على دراسة فصل واحد، وحينئذٍ تعتبر منفعة كل فصل مستقلة عن غيرها من الفصول الدراسية، ويشترط ألا يكون طالب الخدمة قد سجّل الساعات المقررة في الجامعة؛ حتى لا يكون التمويل ربوياً.
2. ضمان تقديم العمل: أي إن الوسيط المالي لما كان ملتزماً بتقديم الخدمة التعليمية أو الطبية لطالبها، فإنه يبقى ملتزماً بذلك حتى الانتهاء من هذه الخدمة المتفق عليها في العقد، فلو امتنعت المؤسسة التعليمية أو الطبية عن تقديم الخدمة لطالبها، فإن طالب الخدمة يرجع على الوسيط المالي، ويجبر الوسيط على تقديم خدمة مماثلة في المواصفات لطالب الخدمة، وذلك ما لم يكن سبب امتناع مقدم الخدمة منصوصاً عليه في العقد أو النظام، كرسوب الطالب، أو افتعاله مشاجرة، أو ارتكاب أمر ممنوع في النظام الجامعي.
وعلى ذلك؛ فلا يجوز للوسيط المالي اشتراط البراءة عن العيوب أو نفي الضمان؛ لأن مقتضى عقد الإجارة الموصوفة في الذمة التعهد بتقديم العمل، وبالتالي فاشتراط البراءة من العيوب أو نفي الضمان يعتبر مناقضاً لمقتضى عقد إجارة الأعمال الموصوفة في الذمة.
ومن الصور التطبيقية لهذا الشرط مسؤولية متابعة تقصير الطبيب أو المستشفى، والأصل أن عقد الإجارة وارد في الذمة وليس في ذات معينة، فإذا لم يتم تحديد الطبيب المباشر للعلاج في عقد الإجارة بين الوسيط المالي وطالب الخدمة، فإن طالب الخدمة لا يرجع على الوسيط المالي إلا إذا امتنع المستشفى أو المركز الصحي حينئذٍ عن تقديم الخدمة لطالبها، وأما إذا تم التعاقد على طبيب بعينه، فيكون العقد حينئذٍ إجارة عمل معينة، فيرجع طالب الخدمة على الوسيط المالي ليتابع الطبيب في ذلك، ويسير في الإجراءات القانونية لمحاسبة ذلك الطبيب[40].
والأمر ذاته ينطبق على الطالب الجامعي، فإذا حدثت مشكلة بين طالب الخدمة وأحد المدرسين، فإنه لا يرجع على الوسيط المالي.
وأما فشل العملية الجراحية -من غير تقصير مقدم الخدمة– أو رسوب الطالب الجامعي، فهذا ليس من ضمان الوسيط المالي؛ لأن محلّ العقد بين الوسيط المالي وطالب الخدمة هو إنجاز العمل (العملية الجراحية أو التعليم الجامعي)، ولا علاقة بين ضمان تقديم الخدمة وبين تحقق نتائجها.
3. تأجيل الأجرة: اختلف الفقهاء في جواز تأجيل الأجرة، وقد ذهب فقهاء الحنفية إلى أن الأجرة لا تجب بنفس العقد، بل تجب إما بشرط التعجيل، وإما بالتعجيل دون شرط، وإما باستيفاء المعقود عليه[41]، وعلى ذلك فيصحّ تأخير الأجرة أو تقسيطها على المستأجر (طالب الخدمة)، وهذا ما اختاره المجلس الشرعي لكتاب المعايير الشرعية[42].
4. تملك الخدمة: وهنا يثور استشكال: هل يشترط أن يتملك الوسيط المالي للخدمة من قبل مقدمها قبل تقديمها للعميل طالب الخدمة، المسألة قد اختلف فيها الفقهاء المعاصرون، وهذا الاختلاف مبني على أنه إذا تم تحديد الجهة المقدمة للخدمة (الجامعة الفلانية أو المستشفى الفلاني) هل تعتبر من قبيل إجارة الأعمال المعينة أم من إجارة الأعمال الموصوفة بالذمة، فإذا اعتبرت من قبيل إجارة الأعمال المعينة اشترط تعاقد الوسيط المالي أولاً مع مقدم الخدمة قبل تعاقده مع طالب الخدمة، وأما إذا اعتبرت من قبيل إجارة الأعمال الموصوفة بالذمة لم يشترط تعاقد الوسيط المالي أولاً مع مقدم الخدمة.
وقد تقدم أن اعتبارها إجارة موصوفة بالذمة أقرب إلى التوصيف الفقهي لحقيقة تمويل الخدمات التعليمية والطبية؛ لأنّ مبنى عقد تمويل الخدمات هو تقبل العمل أو ضمان العمل، وأما تعيين الجهة المقدمة للخدمة فهو من قبيل الصفة المشروطة في عقد الإجارة، ولأن الصفة التي اشترطها طالب الخدمة على الوسيط المالي (وهي الجهة المعينة لتقديم الخدمة) إذا امتنعت عن تقديم الخدمة لطالبها، كان لطالب الخدمة خيار فوات الصفة المشروطة.
وبناء على ذلك؛ فلا يشترط أن يتملك الوسيط المالي للخدمة قبل تقديمها لطالب الخدمة إلا إذا تم تعيين الشخص أو الأشخاص المباشرين لتقديم الخدمة.
5. فسخ الإجارة بالعذر: الفسخ هو حلّ ارتباط العقد، والأصل الشرعي أن عقد الإجارة لازم لا ينفسخ إلا باتفاق الطرفين، وهو قول الجمهور[43]، وذهب فقهاء الحنفية إلى جواز فسخ عقد الإجارة لحدوث عذر بأحد العاقدين؛ لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر؛ لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر؛ للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد لما يذكر في تفصيل الأعذار الموجبة للفسخ، فكان الفسخ في الحقيقة امتناعاً من التزام الضرر[44]، وقد اختار المجلس الشرعي لكتاب المعايير الشرعية عدم جواز فسخ العقد بدون اتفاق الطرفين إلا لعذر طارئ أو ظرف قاهر[45].
ومن الصور التطبيقية لذلك في تمويل الخدمات الطبية شفاء المريض قبل إجراء العملية الجراحية، فالأصل الشرعي أن ينفسخ العقد، ولكن الوسيط المالي لا يتكلف بفسخ العقد ما لم يوافق مقدم الخدمة (المستشفى) على فسخ العقد، فإذا وافق على ذلك وترتبت تكلفة جراء ذلك فيتحملها طالب الخدمة.
المطلب الثاني: الإجراءات العملية المتعلقة بتمويل الخدمات التعليمية والطبية:
أولاً: الإجراءات العملية المتعلقة بتمويل الخدمات التعليمية:
1. يتقدم طالب الخدمة (العميل) بطلب استئجار خدمة، ويحدد جنسها (تعليمية) ونوعها (التخصص والجامعة)، وأبرز الصفات المطلوبة (كيفية الاستيفاء والمدة والأجرة وأي تفاصيل مهمة لها علاقة أساسية بالخدمة).
2. يقوم الوسيط المالي (المصرف الإسلامي) بدراسة الطلب من الناحية المالية والائتمانية، ويتخذ القرار اللازم بهذا الصدد.
3. إذا صدر قرار بالموافقة يقوم المصرف بالاتفاق مع مقدم الخدمة (المؤسسة التعليمية) على استئجار هذه الخدمة بنفس المواصفات التي طلبها العميل (عقد إجارة موازية).
ويُلاحظ في هذا الصدد أنه لا يشترط تقدم الإجراء الثالث على الإجراء الرابع؛ لأن العقد إجارة موصوفة بالذمة، وليس إجارة أعيان، ولكن يفضل تقدم هذا الإجراء على الإجراء الرابع؛ حتى لا يضطر المصرف إلى فسخ العقد؛ بسبب عدم قدرته على الإتيان بالخدمة كما اتفق عليها مع العميل.
ومن الحلول العملية التي تختصر وقت الإجراءات أن يقوم المصرف بتوقيع اتفاقية عامة مع المؤسسة التعليمية يتفقان فيه على الشروط العامة، وعند كل تعاقد بينهما يرسل الوسيط إشعار إيجاب مبيناً فيه المواصفات المطلوبة، وترد المؤسسة التعليمية بإشعار قبول.
ومن الأخطاء الشرعية التي قد تقع فيها المصارف الإسلامية في هذه النقطة: ألا تقوم بالتعاقد مع مقدم الخدمة، وتكتفي بإرسال إشعار قبول إلى المؤسسة التعليمية، لترد عليها المؤسسة التعليمية بإشعار قبول، ولو كان التوصيف الفقهي لتمويل هذه الخدمات من قبيل بيع المنافع لجاز ذلك؛ لأن مقتضى عقد البيع تمليك المبيع للمشتري والثمن للبائع، ولكن عقد تمويل الخدمات هو من تقبل الأعمال، فيقتضي ذلك أن يقوم المصرف بضمان تقديم الخدمة بالمواصفات المتفق عليها، وهذا لا يتم بتبادل إشعارات إيجاب وقبول، بل لا بدّ من الاتفاق على شروط متعلقة بضمان المؤسسة التعليمية تقديم الخدمة لطالبها وعدم الامتناع عن ذلك، وقد يتفقان على بعض الأسباب التي تسوغ للمؤسسة التعليمية الامتناع عن تقديمها للعميل.
4. يقوم العميل بالتوقيع مع المصرف على عقد استئجار الخدمة المبينة في العقد.
وهنا لا بدّ للمصرف أن يرسل للمؤسسة التعليمية إشعاراً باسم العميل الذي سيستفيد من الخدمة التعليمية، ويمكن أن يذكر اسم العميل عندما يرسل المصرف إشعار الإيجاب.
5. يقوم المصرف بدفع أجرة الخدمة إلى المؤسسة التعليمية بالآلية التي يتفقان عليها.
ثانياً: الإجراءات العملية المتعلقة بتمويل الخدمات الطبية:
1. يتقدم طالب الخدمة (العميل) بطلب استئجار خدمة، ويحدد جنسها (طبية) ونوعها (نوع الخدمة الطبية المطلوبة واسم المستشفى)، وأبرز الصفات المطلوبة (كيفية الاستيفاء والمدة والأجرة وأي تفاصيل مهمة لها علاقة أساسية بالخدمة).
2. يقوم الوسيط المالي (المصرف الإسلامي) بدراسة الطلب من الناحية المالية والائتمانية، ويتخذ القرار اللازم بهذا الصدد.
3. إذا صدر قرار بالموافقة يقوم المصرف بالاتفاق مع مقدم الخدمة (المؤسسة الطبية) على استئجار هذه الخدمة بنفس المواصفات التي طلبها العميل (عقد إجارة موازية)، وقد يتأخر تنفيذ هذا الإجراء عن الإجراء الرابع كما تقدم.
ويمكن للمصرف أن يختصر وقت الإجراءات بأن يقوم بتوقيع اتفاقية عامة مع المؤسسة الطبية يتفقان فيه على الشروط العامة، وعند كل تعاقد بينهما يرسل الوسيط إشعار إيجاب مبيناً فيه المواصفات المطلوبة، وترد المؤسسة الطبية بإشعار قبول.
4. يقوم العميل بالتوقيع مع المصرف على عقد استئجار الخدمة المبينة في العقد.
وهنا لا بد للمصرف أن يرسل للمؤسسة الطبية إشعاراً باسم العميل الذي سيستفيد من الخدمة الطبية، ويمكن أن يذكر اسم العميل عندما يرسل المصرف إشعار الإيجاب.
المبحث الثالث
صيغ عقدية مطبقة في تمويل الخدمات التعليمية والطبية
ينظم تمويل الخدمات التعليمية والطبية بعدة عقود يجري تطبيقها في المؤسسات المالية الإسلامية، وهذه العقود هي: (الإجارة الموصوفة بالذمة والإجارة الموازية –الجعالة- بيع المنافع - التورق المنظم)، وقد تناول الباحث صيغة الإجارة في المبحثين السابقين، وسيقوم الباحث بدراسة مشروعية العقود الأخرى وتناسبها مع هذا النوع من التمويل، كما يأتي:
المطلب الأول: عقد الجعالة:
عرف الفقهاء عقد الجعالة بأنه التزام عوض معلوم على عمل معلوم أو مجهول[46]، وقد شرعت الجعالة لحاجة الناس إليها، وثبتت مشروعيتها بالقرآن الكريم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: 72]، ويسمى هذا العقد أيضاً بعقد السمسرة.
ويشترط في عقد الجعالة معلومية الجُعل (العمولة)، وأن يكون العمل فيه ذا كلفة أو مشقة؛ لأن ما لا كلفة فيه لا يقابل بعوض، ولا يستحق المجعول له (العامل) عمولة إلا بعد تمام العمل[47].
ويمكن لعقد الجعالة أن ينظم تمويل الخدمات التمويلية والطبية؛ فيتفق الوسيط المالي مع مقدم الخدمة (المستشفى أو الجامعة) على عمولة معلومة على طالب خدمة يرسل من طرفه (يستحقها الوسيط المالي من مقدم الخدمة)، ويقوم الوسيط المالي بسداد تكاليف التعليم أو العلاج لمقدم الخدمة، ويقسط الوسيط المالي على طالب الخدمة المبلغ الذي قام بتمويله دون زيادة.
ويُلاحظ في هذا الصدد أن الصورة مركبة من عقد الجعالة والكفالة[48]؛ والأصل الشرعي أنه لا يجوز الجمع بين المعاوضة والسلف درءاً للوقوع في الربا، ولذلك يشترط الفصل بين عقد الجعالة وعقد الكفالة؛ فلا يصحّ للوسيط المالي أنْ يسدد عن طالب الخدمة المبلغ المطلوب مخصوماً منها ربح الجعالة.
وقد أجازت دائرة الإفتاء العام في فتوى لها تمويل الخدمات التعليمية مع المدارس عن طريق عقد الجعالة بشروط[49]، وأجازت الهيئة الشرعية لبنك البلاد كذلك تمويل الخدمات عن طريق هذا العقد أيضاً بشروط[50].
وقد يستشكل وجود شبهة (كل قرض جر نفعا فهو رباً) في تمويل الخدمات عن طريق الجعالة؛ لأن الوسيط المالي استفاد منفعة من إقراض طالب الخدمة، وقد أجابت دائرة الإفتاء في فتوى لها عن هذه الشبهة: بأن عقد الجعالة هذا لا يدخل تحت قاعدة (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) إذا قام الوسيط المالي بالسداد الفوري عن طالب الخدمة ورجعت عليه بحسم نسبة معينة من راتبه الشهري؛ لأن هامش الربح الذي استحقه الوسيط لم يكن سببه الكفالة –أي أداء الكفيل مبلغ الدين للدائن ورجوعه على المدين– وإنما استحقه الوسيط بالجعالة، سواء دفع طالب الخدمة فوراً أم قام الوسيط بالسداد الفوري عنه[51].
فقاعدة (كل قرض جر نفعا فهو ربا) ليست على إطلاقها عند الفقهاء، فالمنفعة المحرمة ما كانت بسبب القرض، وأما المنفعة التي يحصلها الوسيط المالي هنا فهي بسبب الجعالة (السمسرة)، وخاصة أن كثيراً من المؤسسات المالية الإسلامية تقوم بنشر إعلانات على وسائط الإعلام والتواصل الاجتماعي عن تقسيط هذه الخدمة للراغبين بالحصول عليها.
ويشترط لصحة تمويل الخدمات التعليمية والطبية بالجعالة الشروط الآتية:
1. أن تكون العمولة على الجعالة وليس على الكفالة؛ لأن الفقهاء أجمعوا على عدم جواز أخذ الأجرة على الكفالة، أي أن الوسيط المالي يستحق عمولته من مقدم الخدمة مقابل السمسرة التي قام بها، ولا يصح أن يأخذ عمولته من طالب الخدمة.
ومن الصور التطبيقية لذلك أن يزيد الوسيط المالي مقدار الرسوم على طالب الخدمة بشكل يزيد عن التكلفة التي يتقاضاها مقدم الخدمة، وهذا من التحايل على الربا[52].
ومن الصور التي تقع كثيراً أن يرفع مقدم الخدمة التكلفة على طالبها، ليعوض النقص الذي سيعطيه إلى الوسيط المالي كعمولة، وهذا من التحايل على الربا.
2. تُستحق العمولة بموافقة مقدم الخدمة على تقديمها لطالبها؛ لأنّ العمولة استحقت بالسمسرة، فلا يضمن الوسيط المالي تقديم الخدمة لطالبها[53].
ومن الصور التطبيقية لذلك في تمويل الدراسة الجامعية أن الوسيط المالي يستحق العمولة بمجرد تسجيل طالب الخدمة في الجامعة، وكذلك الحكم بالنسبة لتمويل العملية الجراحية يستحق الوسيط عمولته بمجرد موافقة المستشفى على إجراء العملية لطالب الخدمة (المريض).
3. الفصل بين عقد الجعالة الذي يتم بين الوسيط المالي ومقدم الخدمة، والعقد الذي يتم بين الوسيط المالي وطالب الخدمة؛ حذراً من الوقوع في شبهة الربا: أي أنه لا يصحّ للوسيط المالي أن يسدد عن طالب الخدمة المبلغ الإجمالي للخدمة مخصوماً منها عمولة الجعالة؛ لأنّ ذلك يقلب المعاملة إلى قرض ربوي، بل يحصل الوسيط المالي على عمولته من خلال مبالغ مستردة من مقدم الخدمة[54].
وعند المقارنة بين المزايا الاقتصادية لتمويل الخدمات التعليمية والطبية بالإجارة وبين التمويل بالجعالة يمكن ملاحظة الآتي:
4. الأرباح التي يحصلها الوسيط المالي من التمويل بالإجارة أعلى من الأرباح التي يُحصلها من التمويل بالجعالة؛ لأنّ المنفعة التي يمولها الوسيط في الإجارة يستطيع أن يجدّدها كل فصل دراسي، في حين أن الربح الذي حصله الوسيط في الجعالة يحصل لمرة واحدة مقابل الترويج والسمسرة، ولا يستطيع الوسيط أن يجدّد العقد كل فصل دراسي.
5. المخاطر الاقتصادية للتمويل بالإجارة أعلى من مخاطر التمويل الجعالة، لأنّ الوسيط في التمويل بالجعالة يقوم بالترويج لمقدم الخدمة فقط، ويتحمل مخاطر عدم قدرة طالب الخدمة (العميل) على السداد، وأما في التمويل بالإجارة فيتحمل بالإضافة إلى مخاطر الائتمان مخاطر عدم التزام مقدم الخدمة بتقديمها لطالبها ومخاطر تشغيلية أخرى.
6. بالنسبة لطالب الخدمة (العميل) يكون التمويل بالجعالة أنفع له من التمويل بالإجارة من الناحية الائتمانية؛ لأنه سيتحمل في التمويل بالجعالة تكلفة التعليم أو العلاج فقط، وأما التمويل بالإجارة فيتحمل التكلفة والربح.
ويرى الباحث أن التمويل بالجعالة أنسب لتمويل الخدمات الطبية؛ لأن طبيعة الخدمة الطبيعة تعتبر ضرورة وتتطلب مراعاة الحالة الإنسانية لطالب الخدمة (المريض)، بينما يعتبر التمويل بالإجارة أنسب لتمويل الخدمات التعليمية؛ لأن طالب الخدمة يستطيع أن ينتفع من هذا التمويل في جميع الفصول الدراسية، بينما لا يستطيع هو أن ينتفع من هذه الخدمة إلا لأول فصل دراسي في التمويل الجعالة.
المطلب الثاني: عقد بيع المنافع بالمرابحة:
المنفعة في اللغة كل ما ينتفع به، وفي الاصطلاح الفقهي الفائدة التي تحصل باستعمال العين، فكما أن المنفعة تستحصل من الدار بسكناها تستحصل من الدابة بركوبها[55].
والمنفعة عند جمهور الفقهاء تعتبر مالاً متقوماً يصحّ العقد عليها، فيصحّ بيعها وإجارتها؛ لأنّ أعراف الناس تقضي باعتبارها أموالاً بذاتها[56]، والخدمات التعليمية والطبية تعتبر من قبيل المنافع، فيصحّ العقد عليها، وهل يصحّ للمؤسسة التعليمية والطبية العقد عليها عن طريق عقد البيع؟ يرى الباحث أنّ مفتاح الإجابة يكمن في التمييز بين محل العقد الذي يصلح لعقد البيع وبين محلّ العقد الذي يصلح لعقد الإجارة.
وبيان ذلك أن عقد البيع له طبيعة وخصائص تختلف عن عقد الإجارة، ومن أبرز هذه الخصائص أن عقد البيع يعتبر من العقود الفورية، والعقد الفوري يتم تنفيذه فوراً دفعة واحدة في الوقت الذي يختاره العاقدان، سواء أكان العقد حالاً أم مؤجلاً، بينما يعتبر عقد الإجارة من العقود الزمنية، والعقد الزمني يستغرق تنفيذه مدة من الزمن، بحيث يكون الزمن عنصراً أساسياً في تنفيذه[57].
وبناء على ذلك؛ فإذا كان تنفيذ العقد الوارد على المنفعة ممّا يتم دفعة واحدة في الوقت الذي يختاره العاقدان انضبطت أحكام المعاوضة على تلك المنفعة بضوابط عقد البيع، ومن الأمثلة على المنافع التي يصحّ بيعها الحقوق المعنوية مثل حق الاسم التجاري، فيتم تنفيذ العقد في الوقت الذي يختاره العاقدان دفعة واحدة، سواء أكان العقد حالاً أم مؤجلاً.
وأما إذا كان تنفيذ العقد الوارد على المنفعة مما يستغرق مدة من الزمن انضبطت أحكام المعاوضة على تلك المنفعة بضوابط عقد الإجارة، ومن الأمثلة على المنافع التي يصحّ إجارتها منافع الدور والأراضي، فيحتاج تنفيذ العقد إلى وقت يسري حكم العقد فيه باستمرار.
وبناء على ذلك؛ يرى الباحث أن منافع الخدمات يستغرق تنفيذها مدة من الزمن، فخدمات التعليم يستغرق تنفيذها أربع سنوات للتعليم الجامعي، والخدمات الطبية يستغرق تنفيذها مدة الكشف الطبي والعملية الجراحية والإقامة داخل المستشفى والمتابعة الطبية بعد العملية، فمنافع هذه الخدمات تستغرق مدة زمنية، ولا يمكن تنفيذها دفعة واحدة، وبالتالي فهذه المنفعة لا تصلح محلاً لعقد البيع.
وقد صدر عن مجلس الإفتاء الأردني قرار رقم (108) بعدم جواز عقد بيع المرابحة على الخدمات؛ لأنّ بيع المرابحة يتعلق بالسلع وليس بتقديم الخدمات[58].
وبذلك يتبين أنه لا يصحّ تمويل الخدمات التعليمية والطبية عن طريق عقد البيع[59]؛ لأنّ طبيعة منافع هذه الخدمات تتناقض مع طبيعة عقد البيع وأحكامه.
المطلب الثالث: عقد التورق المنظم
التورق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء شخص (المستورق) سلعة بثمن مؤجل من أجل أن يبيعها نقداً بثمن أقل غالباً إلى غير من اشتُريت منه بقصد الحصول على النقد، وهذا التورق جائز شرعاً بشرط أن يكون مستوفياً لشروط البيع المقررة شرعاً[60].
وأما التورق المنظم فهو شراء المستورق (المشتري) سلعة بثمن مؤجَّل عن طريق ممول، ويتولى الممول ترتيب بيعها، إما بنفسه، أو بتوكيل غيره، أو بتواطؤ المستورق مع الممول[61]، وذلك بثمن حالٍّ أقل غالباً، فالمشتري كان من البداية يهدف إلى الحصول على النقد، فلجأ إلى الممول ليتولى تنظيم عملية شراء السلعة ثم بيعها، ويحصل المشتري (المستورق) في نهاية الأمر على النقد (ثمن السلعة المباعة) الذي كان يريده، ويلتزم في مقابل ذلك أن يسدد ثمن السلعة التي اشتراها، وهو في الغالب أكبر من ثمنها عند البيع، وسمي بالتورق لأن المشتري أراد الحصول على الورِق، وهو الفضة، أي أنه أراد الحصول على السيولة.
ويتم تمويل خدمات التعليم والتطبيب عن طريق عقد التورق المنظم في بعض المؤسسات المالية الإسلامية.
ويعد التورق المنظم واحداً من المنتجات التي كثر الجدل فيها في الآونة الأخيرة، وتعارضت آراء الشرعيين فيها، كما أن المؤسسات المالية الإسلامية قد تباينت ما بين آخذ بها ورافض لها.
وقد صدرت قرارات المجامع الفقهية بتحريم التورق المنظم منها: قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشر، وقرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي (قرار رقم 179: 5/19)، وقرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته التاسعة عشرة، وقرار مجلس الإفتاء الأردني رقم (171)، وقد تتابع جمهور العلماء المعاصرين على تحريم التورق المنظم[62].
وقد استدل المانعون بعدة أدلة شرعية أبرزها وجود شبهة العينة والتحايل على الربا في التورق المنظم، فالتزام الممول بالوكالة في بيع السلعة لمشترٍ آخر يجعلها شبيهة ببيع العينة، ووجود مواطأة بين المؤسسة المالية والمستورق تحايل لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة يجعل العقد تحايلاً على الربا[63].
وذهب عدد من الهيئات الشرعية وبعض الفقهاء المعاصرين إلى جواز التورق المصرفي المنظم؛ لأنّ الأصل في المعاملات الإباحة، ولأنّ التورق المنظم صورة من صور التورق الفردي الذي أجازه جمهور الفقهاء.
ويرى الباحث أنّ التورق المصرفي المنظم يتناقض مع فلسفة التمويل الإسلامي في محاربة الربا؛ وبيان ذلك أنّ التمويل الإسلامي جعل التمويل تابعاً للبيع؛ تحقيقاً لمنافع التبادل ومنعاً لمفاسد الربا، ولكن التورق المنظم يجعل البيع تابعاً للتمويل، مما يؤدي إلى مفاسد الربا، وعلى رأسها تضاعف الدين[64].
وبناء على ذلك؛ فلا يصح اعتبار عقد التورق المنظم صيغة عقدية لتمويل الخدمات التعليمية والطبية، وأما تمويل هذه الخدمات عن طريق التمويل الفردي، فهذا أمر جائز، كما قرره مجمع الفقه الإسلامي الدولي، ولكنه خارج محل البحث.
ويستخلص الباحث من هذا المبحث أن تمويل الخدمات التعليمية والطبية يصحّ عن طريق عقد الإجارة وعقد الجعالة، وأمّا تمويل هذه الخدمات عن طريق عقد بيع المنافع بالمرابحة وعقد التورق المنظم فلا يصحّ شرعاً.
الخاتمة
في ختام هذه الدراسة يوجز الباحث أهم النتائج والتوصيات التي توصل إليها:
* يُعرف مصطلح تمويل الخدمات التعليمية والطبية بأنه تقديم الخدمة المذكورة من مقدمها إلى طالبها بواسطة وسيط مالي، وبالتالي فهي تندرج في جنس تقديم الخدمات، فطالب الخدمة يتعاقد مع الوسيط المالي على نوع الخدمة المقدمة ووصفها، والوسيط المالي يتعاقد مع مقدم الخدمة على نوع الخدمة المقدمة ووصفها، وتقديم الخدمات يطلق في الفقه الإسلامي على عقود الأعمال، ولذلك فقد توصل الباحث إلى أن التكييف الفقهي لتمويل الخدمات التعليمية والطبية هو عقد الإجارة الموصوفة.
* توصل الباحث إلى أن الأساس الشرعي الذي يقوم عليه عقد تمويل هذه الخدمات هو قاعدة تقبل العمل، فالوسيط المالي يتعهد بتقديم الخدمة التعليمية أو الطبية لطالب الخدمة، ولا يشترط أن يقوم بتقديم الخدمة بنفسه، بل يتعهد بتقديمها لطالبها.
* توصل الباحث إلى مجموعة من الشروط والضوابط التي يجب توافرها في تمويل الخدمات التعليمية والطبية، وهذه الشروط والضوابط تنقسم إلى قسمين:
1. الشروط العامة التي يجب توافرها في عقود التمويل الإسلامي: ومن أهمها أهلية العاقد، ومعلومية الأجرة (العمولة)، وأن تكون المنفعة (الخدمة) معلومة ومتقومة شرعاً، وأن تكون قابلة للتملك مقدوراً على تسليمها لطالب الخدمة، وألا يتم اشتراط غرامات تأخير على طالب الخدمة عند التأخر في سداد الأقساط، وأما وجود شرط جزائي على مقدم الخدمة عند الامتناع عن تقديمها فلا حرج فيه شرعاً.
2. الشروط الخاصة التي يجب توافرها في عقد الإجارة، وهي: عدم وجود ارتباط عقدي سابق على تمويل الخدمات بين طالب الخدمة وبين مقدم الخدمة، وضمان الوسيط المالي لتقديم العمل، وتوصل الباحث إلى أنه لا يشترط تعجيل الأجرة أو تملك الوسيط المالي للخدمة قبل تقديمها لطالبها في حال لم يتم تعيين المباشر للخدمة كالطبيب والمدرس.
* توصل الباحث إلى مجموعة من الإجراءات العملية التي تعين المؤسسات المالية الإسلامية في تطبيقاتها.
* ينظم تمويل الخدمات التعليمية والطبية بعدة عقود أخرى يجري تطبيقها في المؤسسات المالية الإسلامية، وهذه العقود هي (الجعالة – بيع المنافع بالمرابحة - التورق المنظم)، وقد توصل الباحث إلى أنّ تمويل الخدمات التعليمية والطبية يصحّ عن طريق عقد الجعالة، وأما تمويل هذه الخدمات عن طريق عقد بيع المنافع بالمرابحة وعقد التورق المنظم فلا يصح شرعاً.
* يوصي الباحث المؤسسات المالية الإسلامية بضرورة مراعاة الشروط والضوابط والإجراءات الشرعية في منتجات تمويل الخدمات التعليمية والطبية.
* يوصي الباحث بضرورة دراسة مبدأ (تقبل الأعمال) في الفقه الإسلامي وتطبيقاته المعاصرة.
(*) مجلة الفتوى والدراسات الإسلامية، دائرة الإفتاء العام، المجلد الأول، العدد الثالث، 1442هـ/ 2020م.
الهوامش
[1] أخرجه أحمد، أحمد بن حنبل، المسند، مؤسسة الرسالة، 2001م، ج36 ص30 حديث رقم (21699).