التكرار في طائفة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم
دراسة وظيفية أسلوبية لأسلوب من أساليب الإقناع في الخطاب النبوي(*)
دة. فوز سهيل كامل نزال/ كلية الآداب، الجامعة الأردنية
ملخص
استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أساليب لغوية متعددة في خطابه مع الآخر تتناسب مع الموضوعات التي جسمتها للتأثير في المتلقي والانتقال به من دور المستمع إلى المنصت المدرك إلى المقتنع بالفكرة إلى المنفذ لها.
ويأتي التكرار على رأس هذه الأساليب بصوره المتعددة وتوزيعاته المتنوعة في جسد الخطاب النبوي الشريف.
وقد حاولت هذه الدراسة الوقوف على ضروب هذا الأسلوب وتوزيعاته معللة اختيارها ومبينة الدور الدلالي الذي أنتجته في الخطاب النبوي الشريف.
مقدمة
استخدم رسول الله عليه الصلاة والسلام أساليب لغوية متعددة في خطابه مع الآخر تتناسب مع الموضوعات والأفكار التي جسمتها ناقلا المتلقي من دور الاستماع إلى دور الإنصات فالإدراك فالاقتناع المؤدي إلى الفعل المجسم للمعتقد.
ويأتي أسلوب التكرار بصوره المتعددة وتوزيعاته المتنوعة في جسد الخطاب النبوي على رأس الأساليب التي انتقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقناع المتلقي.
وقد أشار أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثا"([1]).
ولعل استخدام هذا الأسلوب يتناسب مع الهـدف التعليمي الراقي الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشده في دعوته، ولعله ينسجم مع مراعاة الفروق الفردية في التلقي، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس على قدر عقولهم. والفكرة الواحدة تتلقفها الأذهان بسرعات متفاوتة، وتترسخ دلالاتها في العقول بتدرج، بحيث يحمل الدال دلالة ويضيف الدال المكرر دلالة أخرى.
ويرتبط التكرار باختيار المتكلم لعنصر لغوي من عناصر الخطاب ليكرره، ويكون هذا الاختيار واعيا مقصودا، وقد يكون بغير قصد أو إدراك عقلي لهذا الاختيار للمكرر من بين احتمالات لغوية متعددة، فيكون كشفا لطبيعة التجربة النفسية أو الشعورية للمتكلم مظهرا لانفعالاته.
والتكرار أسلوب يرتبط بالنظم، يشبع الفكرة ويقويها في ذهن المتلقي إذا استخدم استخداما ذكيا مناسبا لمقام الخطاب، كما ويولد إيقاعا خارجيا لافتا في النص شعرا كان أو نثرا يسهل على الأذهان استرجاعه واستذكاره، فالعقول تصنف المتماثلات كما تسترجعها حين تطلبها خاصة إذا اتخذت أماكن مخصصة في النص. ولذا لا بد من دراسته في سياقه الكلي الذي يرد فيه.
والتكرار لغة من الكر وهو: الرجوع على الشيء، "فكرر الشيء وكركره: أعاده مرة بعد أخرى. والكَرَّة: المرة، والجمع: الكَرّات، يقال: كررت عليه الحديث وكرّكرته إذا رددته عليه"([2]).
والتكرار اللفظي في اصطلاح علماء البلاغة: إعادة الكلمة بلفظها ومعناها في القول مرتين فصاعدا لنكتة([3]). وهو إعادة العنصر المعجمي نفسه بتعبير علم اللسانيات النصية.
والتكرار شكل من أشكال الإطناب في علم المعاني في البلاغة العربية. والإطناب زيادة اللفظ بعبارات إضافية إلى اللفظ الأصلي لغاية الفائدة.
وفي النحو العربي يعد التكرار ضربا من ضروب التوكيد اللفظي.
وللتكرار اللفظي وظائف حرص البلاغيون على رصدها، فإذا لم تكن له وظيفة دلالية في النص فهو عندهم عيب أو هو "الخذلان بعينه" كما عبّر عنه ابن رشيق([4]) الذي رصد للتكرار اللفظي عدة وظائف منها: التوكيد، وزيادة التنبيه، والوعد والتهديد، والتوجع، والهجاء، والتهكم، والتفخيم والتعظيم، والتشويق، والتلذذ بذكر المكرر، والتوبيخ([5]).
وتنبه علم النفس على أهمية الأثر الذي يولده أسلوب التكرار في متلقيه، يقول الدكتور مصطفى فهمي في كتابه "الدوافع النفسية: "إنه متى كثر تكرار أمر، تولد تيار فكري وعاطفي يتلوه ذلك المؤثر العظيم في الأفراد والجماعات هو العدوى، إذ لا يكفي لتحول الانفعال إلى عاطفة أن يحدث مرة واحدة، ولكن لابد لحصول ذلك أن يتكرر حدوثه، فالتكرار هو السبيل الوحيدة لربط الانفعال به، وتركزه حوله، إلى جانب ما يثيره من انفعالات أخرى تدخل في تركيب العاطفة"([6]).
وهذا يعني أن تكرار القول لا يقل تأثيرا في إثارة الانفعال وتكوين العواطف عن تكرار الفعل، بل إن تكرار القول حافز هام لحدوث الفعل.هذا بالإضافة إلى الحديث عن التكرار اللاشعوري في القول الذي يعكس نفسية المتكلم ومشاعره.
وكلما تشابهت البنية اللغوية فإنها تمثل بنية نفسية متشابهة ومنسجمة تهدف إلى تبليغ الرسالة عن طريق الإعادة التي تكون تكرارا متجاورا أو متباعدا.
ويتشكل التكرار بإعادة الدال مرة بعد أخرى بلفظه ومعناه وانزياحه من نقطة مكانية إلى نقطة أخرى في الخطاب مشكلا ظاهرة لغوية راسخة ذات نتاج دلالي مميز، أي إنَّ الدال والدال المكرر يحافظان على توافقهما الشكلي ثم يحافظان على توافقهما العميق، لكن تأتي إضافة لها أهميتها في إنتاج المعنى تتمثل في اختلاف المنطقة التي يسلط كل دال فاعليته عليها، وهي إضافة لا تنتقص من التوافق بين الدَّالين، وإنما تنمي فاعليتهما مشكلة اتساعا في مساحة المعنى الدلالي([7]).
وهكذا فإن استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم لأسلوب التكرار يعد تقنية خطابية ينفذ بها إلى عقل المتلقي وقلبه، فالتكرار من أساليب التوكيد التي استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبليغ الرسالة وتعليم الدين، وهو يجسد حرصه، صلى الله عليه وسلم، على أن تصل كلمته واضحة جلية إلى الأذهان كافة: ]لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[[128: التوبة].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم مأمور ببيان الرسالة وتبليغها بالطرائق التي تنسجم و تتناغم مع القلوب والعقول: ]يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ[[67: المائدة].
وهذا يعني ضـرورة الكشف عن الموضوعـات التي تشكلت فيها الأبنية التكرارية لبيان ملاءمة أسلوب التكرار للموضوعات التي تقولبت فيه، وما أنتجه هذا الذكاء في اختيار الأسلوب من دلالات متنوعة الأبعاد.
ومن الجدير أن نذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو إلى تكرار عبارات معينة محددا عددا معينا، ولعل لهذا التحديد دلالاته وطاقاته التأثيرية في نفس المتلقي الذي سيلتزم بتكرار العبارة:
عن أبي عبد الله عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله -ثلاثا- وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"([8]).
وعن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من عاد مريضا لم يحضره أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك: إلا عافاه الله من ذلك المرض"([9]).
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدد مرات التكرار دون أن يذكر عدد مرات التكرار وذلك بأن يكرر العبارة مرتين أو ثلاث أو سبع مرات، فيتلقف المتلقي العبارة ومرات تكرارها ملتزما بما ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث بهذا التكرار على الإلحاح بالدعاء للمريض وإظهار حرص عائد المريض مواساة له وتصبيرا وتشجيعا على الثبات.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا، اللهم اشف سعدا"([10]).
وورد أيضا في رواية عدد من الأحاديث النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يردد عبارات محددة تردادا غير محدد العدد، وكأنه يلاحق المتلقي بدلالات العبارة المكررة بكل ما فيها من انفعالات قصد عليه الصلاة و السلام إيصالها بنبضها وقوتها للمتلقي ليحذر أمرا ما كقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ -ثلاثا- قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور وشهادة الزور "فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت"([11]).
إنه صلى الله عليه وسلم ينهي خطابه السابق بتكرار لم يحدد الراوي عدده، ووقع أثر هذا التكرار في نفس سامعيه (حتى قلنا ليته سكت) الذين علقوا على التكرار غير المحدد بأنهم تمنوا توقف رسول الله عن تكرار العبارة "ألا وقول الزور وشهادة الزور" شفقة منهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تفاعل مع العبارة المكررة جسديا (كان متكئا فجلس) مظهرا خطورة الزور قولا وشهادة، حتى إننا نجده يظهر كلمة (الزور) ولا يضمرها مسلطا الأضواء عليها ليتجنبها المتلقي بقوة وعزم.
وبعد محاولة رصد تشكلات التكرار اللفظي في لغة الخطاب النبوي رأينا صورا متعددة للدوال والدوال المكررة، وطريقة التكرار، ومكانه، والمساحة بين الدَّالين.
فقد جاء التكرار في عدد من الخطابات النبوية تاما متجاورا بلا فاصل لغوي بين الدال الأول والدال المكرر:
"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"([12]).
إنه صلى الله عليه وسلم يستهل خطابه استهلالا قويا لافتا تنغيمه الصاعد بفضل التكرار التام المتجاور لعبارة (والله لا يؤمن)، هذا الأسلوب اللافت في عتبة الخطاب يحاصر المتلقي منذ البدء، الأمر الذي جعلنا نسمع نبض الخوف والفضول في سؤال من تلقى هذا الاستهلال (من يا رسول الله؟).
وجاء التكرار التام المتجاور في نهاية الخطاب لتقوية الفكرة أو الهدف لتبقى في ذهن المخاطب تتفاعل مع عقله ومشاعره:
"ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط"([13]).
وقد بني خطابه بأكمله على التكرار التام المتلاحق:
"ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"([14]).
وهذا من أساليب البيان بما فيه من التكرار الذي أفاد التوكيد، ولو نظرنا في العبارة السابقة المكررة تكرارا تاما وجدنا فيها أدوات الإقناع (ألا) و(إن) وهذا يجعل التأكيد حاضرا واضحا نافذا.
وأدى التكرار في نهايات العبارات في خطابه صلى الله عليه وسلم دوره في التأكيد والتفصيل: "من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا"([15]).
ولنا أن نتبيّن الدور الدلالي لهذا الشكل من التكرار لو أعدنا طرح الفكرة دون هذا الأسلوب في النظم (من حمل علينا السلاح وغشنا فليس منا)، فالفكرة قد طرحت ولكن بتجرد من رغبة المرسل في التوضيح والتحذير، ولا شك في أن التكرار في نهاية العبارتين يمنح كل عبارة حقها من الدلالة وهذا لا يتحقق بجمع العبارتين في خبر واحد.
ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:
"من جهّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا"([16]).
وقوله: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"([17]).
وقوله: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها"([18]).
وقد يتكرر الدال في بدايات العبارات في خطابه عليه الصلاة والسلام مؤديا دوره في التوضيح والتفصيل والبيان خاصة في باب الدعاء لما فيه من رغبة في البسط والإلحاح والإلمام:
"اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومـن شـر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيي"([19]) إنه صلى الله عليه وسلم بتكراره لشبه الجملة (من شر) يجسم الإذعان والاعتراف بكون الإنسان يخطئ و قد يعم الخطأ سائر أعضاء جسمه (السمع، البصر، اللسان، القلب، المني).
وقوله: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم"([20]).
وقوله: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة"([21]).
وقوله: "اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل"([22]).
وتكرر الدال في سياقات التفصيل منتجا ترابطا أو تماسكا في جسد النص يسلط الأضواء على المفهوم الذي أراد صلى الله عليه وسلم إيصاله.
ومن هذه السياقات المستدعية للتكرار التعليل وبيان السبب، كما جاء في قوله: "إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة"([23]).
وقوله: "لا تُسَمُّوا العنبَ الكرمَ، فإن الكرم المسلم"([24]).
وقوله: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"([25]).
ومن سياقات التفصيل التي جاء فيها التكرار مؤديا دور التدرج والربط ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير"([26]).
وقوله: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا"([27]).
وقوله: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة"([28]) لقد بنى صلى الله عليه وسلم خطابه السابق على أسلوب التكرار، فالفعل (أدلج) الذي انتهت به الجملة الأولى تكرر في مطلع الجملة الثانية، واتصل به خبر فيه توضيح وتتابع لدلالة الجملة الأولى.
وفي تكراره لجملة (ألا إن سلعة الله) ارتبط الدال الأول بخبر (غالية) وارتبط الدال المكرر بخبر تفصيلي توضيحي للخبر الأول (الجنة). وكذلك الحال في الحديثين السابقين للحديث الشريف المذكور.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية([29]) تتابع الدوال المكررة تتابعا ينتج تماسكا نصيا يمتد من أول الخطاب إلى آخره مؤكدا فكرة البركة.
وأدى التكرار في عدد من خطاباته عليه الصلاة والسلام دور التفصيل بعد الإجمال ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبا، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة"([30]).
وقوله: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده"([31]).
فما ذكر مجملا في الجملة الاستهلالية "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير..." وفي الجملة الاستهلالية "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن..." فصل لفظيا ودلاليا في الحديثين الشريفين مجسما التماسك النصي بين البنى الافتتاحية وصلب الخطاب.
ويؤدي تكرار الأدوات دور التفصيل ويبرز كل مفردة اقترنت بالأداة، ومنه:
تكرار (لا النافية) في قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي"([32]).
وقوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" وقد علق راوي الحديث أبو ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخطاب السابق ثلاث مرات، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: "المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"([33]).
وإذا تأملنا رد فعل أبي ذر على خطابه عليه الصلاة والسلام فإننا نراه يجسم أثر التكرار في نفس المتلقي، وما يثيره من مشاعر الفضول والإنكار "خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟".
ومن تكرار الأدوات تكرار (لا الناهية) الذي يعد أمرا لا فتا في وصاياه عليه الصلاة والسلام:
"لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"([34]) (34).
وقوله: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. (المسلم) أخو (المسلم): لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله. التقوى ههنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه (المسلم)، كل (المسلم) على (المسلم) حرام: دمه، وماله، وعرضه"([35]).
إن الخطاب الشريف السابق حافل بالتكرار، وهذا يتسق مع الوصية وما فيها من التفصيل والتوضيح ورصد الفكرة الواحدة أو الأفكار المتقاربة دلاليا في قالب شكلي متماثل: فقد تكرر تركيب النهي مع اختلاف السلوكيات والأخلاق التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها جامعا إياها في خيط دلالي واحد هو النهي عن ارتكابها: (لا تحاسدوا، لا تناجشوا، لا تباغضوا، لا تدابروا، لا يبع بعضكم على بيع بعض).
ثم نجده، صلى الله عليه وسلم، يُعرِّف الأخوة الإسلامية بسلسة من الأفعال جامعا إياها في أسلوب متماثل أو متكرر هو أسلوب النفي: (لا يظلمه، لا يحقره، لا يخذله).
ثم يُعرِّف مفهوم التقوى بحركة إشارية مكررة لها دلالة واضحة حيث أشار إلى صدره ثلاث مرات مؤكدا بهذه الإشارة وتكرارها فكرة كون مقر التقوى هو القلب، وأنها خلق خفي لا يعلمه ولا يطّلع عليه سوى الله.
واختار للمحرمات التي يحظر على المسلم مساسها تركيبا واحدا أظهرها في قالب شكلي متقارب منسجم مع وحدة الفكرة هو التركيب الإضافي: (دمه، ماله، عرضه).
وبرز في خطابه، عليه الصلاة والسلام، التكرار الذي يأتي فيه الدال الأول منفيا والدال المكرر مثبتا، وذلك في سياق تحديد المفاهيم أو المبادئ الجديدة وسلب دلالات هذه المفاهيم السائدة في أذهان المتلقين، كما جاء في قوله:
"ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"([36]).
وقوله: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"([37]).
وقد يأتي الدال الأول في مقام النهي والدال المكرر في مقام الأمر، ويبدو أن هذا اللون من التكرار يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسلب المتلقي فكرة ما أو سلوكا إلا ويبدله بفكرة أو سلوك يتناسبان مع روح التعاليم الإسلامية مستدركا ومؤكدا:
"لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي"([38]).
وقوله: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان"([39]).
وكثر ارتباط أسلوب التكرار مع التضاد أو الطباق، وبدا وكأنه كفة الميزان بين مفهومين متناقضين دلاليا ليختار المتلقي أحدهما:
ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا"([40]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر"([41]).
وكثر هذا اللون من التكرار في الدعاء لما في التضاد من إيحاء بالإحاطة والشمول:
"لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك من (خير) هذه الريح و(خير) ما فيها و(خير) ما أمرت به، ونعوذ بك من (شر) هذه الريح و(شر) ما فيها و(شر)ما أمرت به"([42]).
وقوله: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"([43]).
وقوله: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي"([44]).
ومن صور التكرار في أحاديثه، صلى الله عليه وسلم، أن يتكرر الفعل ويختلف الفاعل، ولهذا الأسلوب دلالاته في الشرط ورد الفعل (السبب والنتيجة) ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:
"من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه يوم القيامة"([45]) وكأني بالتكرار هنا يجسم فكرة بيان أن الجزاء من جنس العمل.
ومنه ما جاء في تشبيه فعل صدر عن فاعل بفعل صدر عن فاعل آخر كقوله:
"ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة"([46]) ففي التكرار هنا تقريب صورة من صورة أخرى لما في التكرار من تماثل وتشابه وكأن الصورة الأولى "ما يجد الشهيد من مس القتل" هي صنوان أو مثيل الصورة التي ورد فيها الدال مكررا " إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة".
ومنه ما جاء في اختلاف الفاعلين المشتركين في الفعل المكرر في مفعولهما كقوله:
"لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنّبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره"([47]) فالفعل الذي تكرر (جنّب) اتصل مرة بمفعول به هو الضمير المتصل (نا) ومرة بمفعول به هو الاسم الصريح (الشيطان) دالا على تأكيد فكرة تجنب أذى الشيطان.
وقوله: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم". قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. لا، ما أقاموا فيكم الصلاة"([48]). لقد جسم التكرار في الحديث الشريف السابق فكرة تماثل السلوكيات بين أولياء الأمر والرعية، سواء أكانت سلوكيات إيجابية أم سلبية. وقد ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطابه بإجابة على سؤال المتلقين استخدم فيها أسلوب التكرار التام "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" وكأنه بهذا التكرار يجسم فكرة التحذير والتنبيه من الانشقاق على الحكام وأولياء الأمر.
ويحفل عدد كبير من خطابات الرسول بتكرار الأصوات مشكلا بهذا التكرار الموزع بدقة إيقاعا صوتيا لافتا:
"تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء"([49]).
وقوله: "أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"([50]).
وقوله: "إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعا وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"([51]).
ومن تكرار الأصوات تكرار الصيغة الصرفية كتكرار صيغة اسم الفاعل في قوله:
"بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر"([52]).
ومن تكرار الأصوات تكرار الضمائر، كتكرار الواو التي يخاطب فيها الجماعة كما في قوله:
"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"([53]) وقد سبقت الواو بصوت آخر مكرر هو الراء، وتكرر في الحديث تركيبا الأمر والنهي أيضا، وهذه الأشكال من التكرار تحدث انسجاما واضحا بين الإيقاع الخارجي والإيقاع الداخلي.
ومن صور التكرار في أحاديث الرسول التكرار مع القلب، أي أن الدال الأول والدال المكرر يتبادلان الأماكن في جسد النص وهذا يؤدي دور التأكيد للفكرة والمساواة:
كقوله: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس"([54]).
وقوله: "لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت، ولو أهدي إلى ذراع أو كراع لقبلت"([55]).
وقد يأتي التكرار في إجابات الرسول عليه الصلاة والسلام عن أسئلة توجه إليه، فيؤكد بتكرار الإجابة عن أسئلة مختلفة الفكرة التي يريد، كما جاء في إجابته عن أسئلة الرجل المتعلقة بأحق الناس بحسن صحبته:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك"([56]).
إنه، صلى الله عليه وسلم، يعيد إجابته الأولى مع علمه بأن السائل يرنو إلى إجابة أخرى لا إلى الإجابة الأولى ولذلك نراه أعاد السؤال طالبا بسؤاله المكرر تحديد هوية شخص آخر بالإضافة إلى الأم ليكن أحق الناس بحسن الصحبة، فإذا بالإجابة الأولى تلاحقه مرة ثانية معززة ومؤكدة عظم هذه الصحبة وأحقيتها وأنها مقدمة على أي علاقة.
ويطرح السائل سؤاله مرة ثالثة: "ثم من؟" فتأتي الإجابة ذاتها وقد قصدها رسول الله قصدا يؤكد دلالات
البر والإحسان إلى الأم وتقديمها على أي إنسان.
ويأتي السؤال الرابع مشحونا بطلب يختلف عن ذلك الكامن في الأسئلة السابقة وإن اتفق معها في البنية السطحية: "ثم من؟" وذلك بفعل إجاباته المتكررة عليه الصلاة والسلام الذي أجابه بما يتفق مع مطلوب السائل في اختيار إنسان آخر غير الأم فتكون: "أبوك".
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر، محتسب مقبل غير مدبر" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت؟" قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدَّين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك"([57]).
ولنا مع الخطاب السابق وقفة تأملية في قوله عليه الصلاة والسلام للسائل بعد أن أجاب عن سؤاله: "كيف قلت؟" وكأنه يطلب منه تكرار سؤاله، وهذا ما حدث، فقد أعاد الرجل طرح سؤاله مجددا: "أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟".
وإذا تساءلنا عن علة طلبه صلى الله عليه وسلم بتكرار السؤال فإننا نجدها في إجابته التي تكررت مع إضافة جديدة لم تكن في الإجابة الأولى وهي: "إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك" وهذا يعني استدراكا على الإجابة الأولى وتوكيدا لأهمية سؤال الرجل لما فيه من الكشف والتوضيح الذي يهم المسلمين كافة.
ختاماً؛
فما ذكرته مجرد لمسات أسلوبية لطائفة من النصوص النبوية الشريفة التي حفلت بأسلوب التكرار بصوره المتعددة وتوزيعاته المنوعة في جسد النص مؤديا إنشاء دلالات وإيقاعات ما كانت تتولد بحضور اللفظ مرة واحدة فقط.
وقد وقفت على أحاديث شريفة دعا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التكرار بأساليب مختلفة محددا عدد مرات تكرار عنصر لغوي أو أكثر لهدف ما يكشفه السياق، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعيد اللفظ نفسه سواء كان صوتا أو كلمة أو جملة.
وأحيانا كنا نرى راوي الحديث يذكر أن رسول الله كرر قولا غير مرة، كأن يعلق الراوي: "مرارا" أو "ثلاث مرات" أو "فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت".
ولعل حضور المتلقي في ذهنه عليه الصلاة والسلام كان الدافع وراء اختيار أسلوب التكرار في عدد من خطاباته، فرسول الله يخاطب الناس على قدر عقولهم ومواقفهم فمنهم المنكر والمتردد والجاهل والمسترشد..إلخ، وهو يبصر ببصيرته وحكمته موقف المتلقي لخطابه فينتقي الأسلوب الأمثل لإقناعه أو تحفيزه لتنفيذ فعل ما، أو لترغيبه وربما لترهيبه.
كل هذا وأكثر من الدلالات والأهداف الممزوجة بإيقاع يتولد من تكرار المتماثلات، يضفي على خطابه صلى الله عليه وسلم رونقا وجمالا يجسم الفكرة في أبهى حلة لفظية.
وما ذكرته هو قراءة تنتظر قراءات أخرى لأسلوب التكرار في حديث رسولنا الكريم. وهو أسلوب من أساليب عديدة انتقاها عليه الصلاة والسلام الذي لا ينتطق عن الهوى ليكون خطابه أبين وأكثر إقناعا.
(*) المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، جامعة آل البيت، المجلد السابع، العدد (1/أ)، 1432 ه/2011م.
الهوامش
([1]) البخاري، الصحيح، الكتاب: العلم، الباب: من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه، رقم الحديث: 92/93.