الدراسات الصوتية الحديثة وعلم التجويد (*)
الدكتور محمد أحمد الجمل/ كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة اليرموك
ملخص
ينعقد هذا البحث لدراسة جوانب العلاقة بين علم الصوتيات الحديث وعلم التجويد، ذلك أن بعض الباحثين المعاصرين المهتمين بالدراسات الصوتية الحديثة أرادوا أن يحكِّموا نتائج دراساتهم واجتهاداتهم في مباحث علم التجويد النظرية والتطبيقية، وأن يعدِّلوا على هذه المباحث في جانبيها الوصفي والأدائي على السواء، وترتّب على ذلك تخطئة علماء التجويد السابقين في كثير مما قرروه من مباحث علم التجويد، وفيما تلقوه بالمشافهة كابرا عن كابر.
فما مدى دقة وقيمة هذه الدراسات الصوتية الحديثة من حيث تناولها لأحكام التجويد وتقييمها لمنجزات علماء التجويد، وما الضوابط التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار عند دراسة علم التجويد، وما حدود الاستفادة من علم الصوتيات الحديث في خدمة هذا العلم؟
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
فهناك علاقة جدلية لا انفكاك لها بين علم الصوتيات وعلم التجويد، ذلك أن علم التجويد إنما هو علم صوتي في أصوله وفروعه ومقرراته، وبينما نجد علم التجويد غلب عليه طابع الثبات والاستقرار- ولا أقول الجمود -لأنه يتعلق بالنقل والتوقيف، نجد علم الصوتيات- وبخاصّة في العصر الحاضر- ينموا نمواً كبيراً ومطرداً بفضل التقدم التقني، والاكتشافات والاختراعات الحديثة للأجهزة الصوتية، وامتد ذراع الدراسات الصوتية الحديثة يتدخل في العديد من علوم اللغات عموماً ومنها العربية، وكان لعلم التجويد نصيب واضح من هذا التدخل، وثارت مناقشات ودراسات وجدالات حول العديد من مفاهيم علم التجويد ومصطلحاته ومعارفه من قبل المهتمين بالدراسات الصوتية، وبرزت دعوات تحث على ضرورة الإفادة من هذا العلم الحديث في رفد علم التجويد وتطويره بل وتصويب بعض مباحثه.
فما أحقية هذه الدعوات؟ وما حدود العلاقات والتعاون بين العلمين؟
هذا البحث يعنى بمناقشة هذه التساؤلات، مناقشة تجمع بين الالتزام بأصالة التشريع وثبات كثير من مفاهيمه، وروح المعاصرة ومرونة التطبيق في العديد من متعلقات التشريع.
ولتحقيق ما انعقد البحث لمعالجته، جاءت هذه الدراسة -بعد المقدمة– في مبحثين وخمسة مطالب وخاتمة على النحو الآتي:
المبحث الأول: علم التجويد: نشأته الصوتية واستقلاله.
المطلب الأول: نشأة علم التجويد نشأة صوتية.
المطلب الثاني: تميز علماء التجويد في الدراسات الصوتية.
المطلب الثالث: غاية الدراسات الصوتية بين علماء التجويد وعلماء اللغة.
المبحث الثاني: علم الأصوات الحديث؛ طبيعته وعلاقته بعلم التجويد.
المطلب الأول: مجالات وضوابط إفادة علم التجويد من علم الأصوات الحديث.
المطلب الثاني: ضوابط وملحوظات حول العلاقة بين علم التجويد وعلم الأصوات الحديث.
المبحث الأول
علم التجويد: نشأته الصوتية واستقلاله
المطلب الأول: نشأة علم التجويد نشأةٌ صوتية
لم يُعرف مصطلح (التجويد) بمعنى العلم الذي يعنى بدراسة مخارج الحروف وصفاتها وما ينشأ لها من أحكام عند تركيبها في الكلام المنطوق إلا في حدود القرن الخامس الهجري، كذلك لم يعرف كتاب ألف في هذا العلم قبل القرن الرابع الهجري، ومعنى هذا أن علم التجويد تأخر في الظهور علما مستقلا بالنسبة إلى كثير من علوم القرآن وعلوم العربية أكثر من قرنين من الزمان([1]).
ولعل أول من صنف في علم التجويد، كما يشير ابن الجزري([2]) هو أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى الخاقاني (ت 325ﻫ) وذلك في قصيدته الرائية المشهورة بالقصيدة الخاقانية، التي كان لها أثر واضح في جهود اللاحقين في علم التجويد. فهم بين مقتبس منها مستشهد بأبياتها، ومعارض لها أو شارح موضح لمعانيها.
لم يستخدم أبو مزاحم في قصيدته هذه كلمة (التجويد) ولا أيا من مشتقاتها واستخدم كلمة (حُسْنِ الأداء) بدلا منها، وهذا يدل على أن مصطلح (التجويد) لم يكن مشهورا حينذاك([3]).
ولم يذكر ابن النديم المتوفى –على الأرجح- سنة 385ﻫ في كتابه (الفهرست) أيّ كتاب يحمل اسم التجويد، أو يمكن أن يكون موضوعه هذا العلم، بالرغم من ذكره لمئات الكتب المؤلفة في علوم القرآن، وهذا يدل على أن علم التجويد كان لا يزال في القرن الرابع الهجري يخطو خطواته الأولى.
أما القرن الخامس الهجري فإنه يمثل التاريخ الحقيقي لظهور المؤلفات في علم التجويد، حتى إننا لنجد أعظم مؤلفات التجويد قد ظهرت في هذا القرن، ومن أشهرها كتاب (الرعاية) لمكي (ت 437ﻫ) الذي أشار إلى أن أحداً من المتقدمين لم يسبقه إلى تأليف مثل هذا الكتاب([4])، وكتاب (التمهيد) لأبي عمرو الداني (ت 444ﻫ) الذي أشار فيه إلى ما يقرب من إشارة مكي عن كتابه([5]).
هذا في الوقت الذي كان للُّغويين والنحاة دراسات في الأصوات العربية، ابتداء من القرن الثاني، ولكنها كانت دراسات مجتزأة ومتفرقة ولا تشكل في مجموعها علما مستقلا. وأبرز هذه الدراسات ما كتبه:
1- الخليل بن أحمد (ت170ﻫ) في مقدمة كتاب العين عن مخارج الحروف وصفاتها.
2- سيبويه (ت180ﻫ) في (الكتاب) في باب الإدغام خاصة.
3- المبرد(ت285ﻫ) في كتاب (المقتضب) في أبواب الإدغام.
4- ابن دريد (ت 321ﻫ) في مقدمة جمهرة اللغة.
5- ابن جني (ت392ﻫ) في سر صناعة الإعراب.
أما كتب القراءات القديمة التي ترجع إلى القرنين الثاني والثالث فإنه لم يصل إلينا منها شيء يذكر([6])، وأقدم كتاب وصل إلينا من كتب القراءات هو كتاب (السبعة في القراءات) لأبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي (ت 324ﻫ) الذي حققه الدكتور شوقي ضيف، ولا نجد في هذا الكتاب أبوابا مستقلة تعالج موضوع الأصوات العربية، وإنما جاءت الملاحظات الصوتية متناثرة في ثناياه.
لم أقصد من هذا العرض التاريخي الموجز إلى الحديث عن تاريخ علم التجويد، ولكني أردت أن أتوسل من خلال ذلك إلى بيان تأخر ظهور الدراسات الصوتية التي شكلت هذا العلم عن الإشارات الصوتية التي سبقت هذه الجهود عند علماء اللغة والقراءات.
بعد ذلك قام علماء التجويد باستخلاص المادة الصوتية من مؤلفات النحويين واللغويين وعلماء القراءات، وصاغوا منها هذا العلم الجديد الذي اختاروا له اسم (علم التجويد)، وواصلوا أبحاثهم الصوتية مستندين إلى تلك المادة، وأضافوا إليها خلاصة جهدهم حتى بلغ علم التجويد منزلة عالية من التقدم في دراسة الأصوات اللغوية.
المطلب الثاني: تميز علماء التجويد في الدراسات الصوتية:
بالرغم من اعتماد علماء التجويد على جهود سابقيهم من علماء العربية وعلماء القراءة فقد جاء عملهم متميزاً، ولا يمكن أن نعده جزءا من تلك الجهود، وإنما جاء عملا شاملا للدرس الصوتي. أما علماء العربية فإنهم عالجوا الموضوع في إطار الدرس الصرفي، وهو أمر تجاوزه علماء التجويد وذلك بالنظر إلى أصوات اللغة نظرة أشمل.
أما علماء القراءة فإنهم كانوا مشغولين برواية النص القرآني الكريم، وضبط حروفه كما نقلها علماء القراءة طبقة عن طبقة، حتى تنتهي إلى طبقة الصحابة رضوان الله عليهم، الذين تلقوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم.
لا يمكن أن تعد الكتب التي ألفها القرّاء في وصف القراءات القرآنية بدءا للتأليف في علم التجويد، لأن علم القراءة وعلم التجويد، وإن كان كل منهما يرتبط بألفاظ القرآن، يختلفان في الموضوع كما يختلفان في المنهج، أما الموضوع فإن علم التجويد لا يعنى باختلاف الرواة بقدر عنايته بتحقيق اللفظ وتجويده، مما لا اختلاف في أكثره بين القراء، وأما المنهج فإن كتب القراءات كتب رواية، وكتب التجويد كتب دراية، تعتمد على مقدرة العالم في ملاحظة أصوات اللغة وتحليلها ووصفها([7]).
وقد بين مكي وغيره من العلماء الفروق بين علم التجويد وعلم القراءات، بما لا يتسع المقام لذكره هنا، ومن ذلك ما قاله محمد المرعشي (الملقب بساجقلي زادة، ت1150ﻫ) في كتابه (ترتيب العلوم)، إذ قال: "اعلم أن علم القراءة يخالف علم التجويد، لأن المقصود من الثاني معرفة حقائق صفات الحروف مع قطع النظر عن الخلاف فيها، مثلا يعرف في علم التجويد أن حقيقة التفخيم كذا وحقيقة الترقيق كذا، وفي القراءة (يعرف) فخمها فلان ورققها فلان، وبهذا يندفع ما عسى أن يقال من أن علم القراءة يتضمن مباحث صفات الحروف كالإدغام والإظهار والمد والقصر والتفخيم والترقيق، وهي مباحث علم التجويد"([8]).
لا يعني تأخر ظهور التأليف في علم التجويد أن القراء كانوا ينطقون القرآن قبل ذلك على غير أصل واضح، كما لا يعني أن علماء التجويد اختلقوا هذه الأصول أو ابتدعوها، فالواقع هو أن قراء القرآن كانوا يُعْنَونَ غاية الاعتناء بتجويد الألفاظ وإعطاء الحروف حقها منذ عصر الصحابة، حتى عصر ظهور المؤلفات في علم التجويد، وكانوا يستندون في ذلك إلى الرواية الأكيدة والأصول المرعية عند العرب في نطق لغتهم.
فأصول علم التجويد وقواعده إذن كانت موجودة في الكلام العربي، يحرص عليها القراء، ويعتمدون عليها في قراءتهم وإقرائهم، وإن لم تكن مدونة، شأنها في ذلك شأن قواعد النحو والصرف التي استنبطها علماء العربية في وقت لاحق. فعلم التجويد الذي يدرس النظام الصوتي للغة، كان موضوعه تحليل ذلك النظام واستخلاص ظواهره ووضعها في قواعد تساعد المتعلم على ضبطها وإتقانها حين يستخدم اللغة، وهم في ذلك يسيرون على خطى علماء العربية الذين سبقوهم في هذا الميدان([9]).
المطلب الثالث: غاية الدراسة الصوتية بين علماء التجويد وعلماء اللغة:
إن دراسة علماء العربية من النحاة واللغويين للأصوات العربية، كانت تتناسب مع حاجة الموضوعات التي كانوا يعالجونها، فمثلا الخليل بن أحمد في مقدمة معجم العين كانت دراسته للأصوات لأغراض تتعلق بالمعجم وتنظيمه وبالكلمات وأبنيتها، فانشغاله بترتيب الحروف في أول المعجم وتقديمه طريقة لاختبار مخارجها كان لتوضيح منهجه الذي سار عليه في الكتاب.
وهكذا كانت دراسة الأصوات عند علماء العربية ترتبط بأغراض معينة في الموضوعات التي كانوا يبحثونها بما لا مجال لتفصيله هنا، ولم تكن تتبع نظرة شاملة ومستقلة تهدف إلى بيان النظام الصوتي للغة العربية وما يخضع له ذلك النظام من الاعتبارات الصوتية في الكلام المنطوق.
أما علماء التجويد فإن دراستهم للأصوات كانت ترتبط بشكل أساسي بمعالجة ما سمّوه باللحن الخفي. فقد قسموا اللحن إلى قسمين هما: اللحن الجلي: وهو الخطأ الظاهر في الحركات خاصة، وقالوا بأنه ميدان عمل النحاة والصرفيين، واللحن الخفي: وهو الخلل الذي يطرأ على الأصوات من جراء عدم توفيتها حقوقها من المخارج أو الصفات أو ما يطرأ لها من الأحكام عند تركيبها في الكلام المنطوق. وقالوا بأن هذا هو ميدان عمل علماء التجويد، وهو يستلزم في نظرهم دراسة ثلاثة أمور: 1-مخارج الحروف 2-صفاتها 3-أحكامها التركيبية، وهذه هي عناصر علم التجويد الأساسية.
فملاحظة اللحن الخفي- الذي لا يعرفه إلا المقرئ الضابط المتقن- في قراءة القرآن، ومحاولة معالجته وتقويم خلله كانت السبب الذي يقف وراء الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، ودراسة أصوات اللغة وتحديد صور نطقها الصحيحة، فقد رصدوا الانحرافات المتوقعة في نطقها، فتحققت بذلك فرصة لدراسة أصوات العربية دراسة شاملة، لم تتحقق للنحاة الذين كانت تشغلهم دراسة الأصوات لمعالجة بعض القضايا الصرفية([10]).
ألّف علماء التجويد كتبا مستقلة لبحوثهم الصوتية، جمعوا فيها ما تبعثر من مباحث صوتية في كتب النحو والصرف والقراءات، وأضافوا إليها ما جعلها تشكل علما مستقلا، وميزوها بتسمية جديدة مبتكرة هي (علم التجويد)، ولم يدعوها تحمل اسم علم النحو أو الصرف أو القراءات، فتميزت بذلك شخصية هذا العلم، وصار الناس يرجعون في الدراسات الصوتية للحروف والألفاظ إلى أهل هذا العلم ومؤلفاتهم.
المبحث الثاني
علم الأصوات الحديث طبيعته وعلاقته بعلم التجويد
لا بد أن نشير هنا قبل البدء في الحديث عن مدى إمكان إفادة علم التجويد من علم الأصوات الحديث وعن علاقته بعلم التجويد، إلا أن الذين طوروا علم الصوتيات الحديث وأسّسوا فيه نظريات جديدة هم الغربيون، واخترعوا لذلك أجهزة صوتية خاصة بقياس النطق من حيث الزمن والتردد والشدة والطاقة وغيرها. وأنشأوا لذلك علوما يدرسونها في جامعاتهم ومعاهدهم العلمية ومن هذه العلوم:
* علم الأصوات النطقي articulatory phonetics، ويُعنى بدراسة آلية النطق، وكيفية إنتاج الأصوات اللغوية، وحركات أعضاء النطق في أثناء هذا الإنتاج، وكيفية توليد تيار الهواء اللازم للعملية النطقية، واتجاه حركته، وتصنيف الأصوات تبعاً لذلك، ومواضع نطق الأصوات الأصلية والمُرَحَّلَة، وخصائص الأصوات من حيث سيرورة تيار الهواء أو توقفه، والخصائص الأخرى التي تميز كل مجموعة من الأصوات، ثم خصائص كل صوت في كل مجموعة. ويدرس توزيع الأصوات اللغوية إلى صوامت وحركات وأنصاف حركات([11]).
* علم الأصوات التشريحيphonetics physiological ويعنى بدراسة أعضاء النطق دراسة تشريحية، وأثر الخصائص التشريحية لكل عضو من أعضاء النطق في العملية النطقية، وفي خصائص كل صوت من الأصوات اللغوية، ويسمى علم الأصوات الوظائفي([12]).
* علم الأصوات الفيزيائي acoustical phonetics أو physical phonetics ويعنى بدراسة الخصائص الفيزيائية لكل صوت لغوي من حيث: طاقته وتردداته؛ الأول والثاني والثالث.. الخ، وشدته، وعلوه، وضغطه، وطوله، ودرجة جهارته، وذبذباته، ودرجة وضوحه، وغير ذلك من الخصائص الفيزيائية التي تٌستخدم الأجهزة الحديثة في الوقوف عليها([13]).
* علم الأصوات السمعي phonetics auditory ويعنى بدراسة أعضاء السمع، وكيفية حدوث العملية السمعية وخصائصها ودرجاتها، والإعاقات السمعية وقياسها([14]).
* علم الأصوات العصبي phonetic neuro ويعنى بدراسة عمل الجهاز العصبي المركزي في إنتاج الأصوات اللغوية، والروامز codes الخاصة بكل صوت، والإعاقات العصبية التي تؤدي إلى إعاقات نطقية أو كلامية([15]).
ثم جاء الدارسون لعلم الصوتيات الحديث من العرب والمسلمين، وحاولوا تطبيقه على لغتنا من خلال دراسة أصوات الحروف مفردة، ومركبة. ووجدوا أن ألصق العلوم في تراثنا بهذه الناحية الصوتية هو علم التجويد. فقامت دراسات كثيرة، وقدمت مجموعة من الرسائل العلمية التي تحاول دراسة علم التجويد في ضوء علم الصوتيات الحديث، ولا ضير في ذلك، فالحكمة ضالة المؤمن، ولكن ثمة أسئلة تطرح نفسها وهي: ما جدوى هذه الدراسات لعلم التجويد؟ وهل أضافت شيئا ذا بال في هذا العلم؟ وهل يمكن أن نغير في حقائق علم التجويد بناء على هذه الدراسات؟ أم إنّ فائدة دراسة علم التجويد في ضوئها تكمن في تحسين الوسائل والأساليب التي تتناول هذا العلم؟
والإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي بحث أمرين:
أولاً: مجالات إفادة علم التجويد من علم الأصوات الحديث.
ثانياً: ضوابط العلاقة بين علم التجويد وعلم الأصوات الحديث.
المطلب الأول: مجالات إفادة علم التجويد من علم الأصوات الحديث.
علمنا أن علم الصوتيات الحديث يعتمد على الأجهزة الحديثة وعلى الحاسوب لقياس الظواهر الصوتية من عدة نواح: من حيث الزمن والتردد والشدة والطاقة، ومن ثم يتم تحليل الظواهر الصوتية بناء على هذه القياسات.
ومن هنا فيمكن الحديث عن مجالات إفادة علم التجويد من علم الأصوات الحديث ضمن النقاط الآتية:
1. الاعتماد على قياسات هذه الأجهزة في إعطاء أوصاف دقيقة للحروف من حيث:
أ. تحديد المخرج الدقيق للحرف تحديداً فيزيائياً مشخصا بالصوت والصورة، مجليا كل ما يجري من عمليات تفصيلية للنطق، مما يعطي الباحث درجة كبيرة من الثقة العلمية في تحديد هذا المخرج، ومن ثم تحديد الألقاب لهذه الحروف، والتي يعتمد تحديد ألقابها على تحديد مخارجها.
ب. تحديد صفات الحروف وكيفياتها، وتشخيص الفروق الدقيقة بين الحروف، وتحديد السمات المميزة لكل حرف بتحديد تردده ووزنه وزمن نطقه وطاقته، واختلاف صفاته وأحواله مفرداً ومركبا([16]).
2. لا مانع من تعديل الحكم على بعض القضايا النظرية، وإعادة تكييف وصفها إذا ثبت بالقطع صحة هذه الأوصاف في الدراسات الصوتية الحديثة.
ومثال ذلك: أن الدراسات الصوتية الحديثة ترى أن حروف الحلق تنحصر في حرفي العين والحاء، فإذا ثبت ذلك بالتحليل الفيزيائي والطيفي فلا مانع من وصف بقية حروف الحلق بأوصاف أخرى، وتحديد مخرج جديد لها نظرياً. ولكن ما لا يقبل هو أن نغير حكم إظهار الهمزة والهاء والغين والخاء إذا جاءت بعد النون الساكنة أو التنوين إلى حكم آخر كالإخفاء مثلا، ذلك لأن أحكام التجويد أحكام نقلية أخذت بالمشافهة عن الذي لا ينطق عن الهوى، وليست أحكاما اجتهادية تخضع لمنطق البحث والتجريب ومن ثم التغيير والتبديل، فتغيير وصفها شيء، وتغيير حكمها في التلاوة والأداء شيء آخر.
ولا مانع أيضا من وضع تعريفات جديدة لبعض صفات الحروف وألقابها تكون أدق من تعريفات السابقين، وذلك بعد الوقوف بالفحص المخبري على حقيقة وصف هذه الحروف، وتبين أن تعريفات علماء التجويد لم تكن بتلك الدقة، كتغيير تعريف الصفير مثلا أو القلقلة أو التفخيم أو الإخفاء أو اللين لتكون عبارة التعريف أكثر دقة([17]).
3. ربما تكون الفائدة العملية الأكثر أهمية في علم التجويد، هي الإفادة من التقنية الحديثة مثل الأجهزة الصوتية، وأجهزة قياس السمع، وأجهزة الحاسوب، في تطوير وسائل وأساليب تدريس أحكام التلاوة والتجويد، بحيث تكون أكثر فاعلية وقدرة على إيصال الأحكام النظرية إلى فكر المتعلم وتصوره، كما قد تكون الاستعانة بالأجهزة المناسبة والمطوَّرة بصورة خاصة لتدريس التلاوة والتجويد أكثر إمتاعاً وتشويقاً وجذبا للمتعلم، ومن ثمَّ تزيد من إقبال المتعلمين على هذا العلم وتجعله أكثر جاذبية وحيوية.
4. إن الباحث الذي يسلك هذا الطريق المعاصر عليه أن يتوخى الحذر، وأن لا يستعجل في نقض أمر من الأمور التي نص عليها علماء التجويد أو اتفقوا عليها، وبخاصة إذا لم يكن للاختلاف معهم ثمرة تذكر.
ومن ذلك مثلا، اعتراض بعض الكاتبين على وصف -بعض- علماء التجويد للغنة وتعريفهم لها، بقوله: "من المألوف أن يكتب كل كاتب في حقل اختصاصه. وقد نجد بين الحين والآخر بعض الذين يكتبون في غير اختصاصهم. أما أن يكون جميع المؤلفين في حقل ما من غير المختصين فأمر يكاد يقتصر على الكتاب المعاصرين في حقل تجويد القرآن الكريم. فليس من بين مؤلفي الكتب التي اطلعت عليها في هذا الحقل من هو مختص في الدراسات الصوتية أو في علم اللغة بصورة عامة.
وإذا كنا نجد للقدماء عذرا إذا أخطأوا، فقد اجتهدوا في زمن لم يتقدم فيه العلم كثيرا، وكان من الطبيعي أن يخطئوا أحياناً (في وصف الظواهر اللغوية لا في تطبيقها)، فإن من الصعب أن نجد للمحدثين عذرا في وصفهم الظواهر اللغوية وصفا غير علمي في عصر تتوافر فيه أحدث المراجع اللغوية.
وفيما يلي أمثلة من العبارات التي لا تمت إلى الدراسة الصوتية بصلة مما يتكرر في بعض كتب المحدثين:
الغنة: (صوت… شبيه بصوت الغزالة إذا ضاع ولدها) أو (يشبه صوت الغزالة حين ضياع ولدها) و"صوت لذيذ…"([18]).
قلت: من المغالطات في هذا النص، أنه ينزع صفة الاختصاص عن علماء التجويد في هذا العصر لأنهم غير مختصين بالدراسات الصوتية الحديثة، ثم إنه يريد أن يجعل البحث في التجويد حكراً على أصحاب الدراسات الصوتية الحديثة، وقد علمنا الفرق بين طبيعة العلمين من قبل.
ثم إنه اختار تعريفين للغنة هما -في الحقيقة- ليسا تعريفين، ولكنهما وصفان للغنة،واعترض عليهما. وكانت الأمانة العلمية والدقة وتسجيل الفضل لأهله تقضي بالتفريق بين ما ذكره علماؤنا للظواهر الصوتية على سبيل الأوصاف والإيضاحات، وبين ما ذكروه على سبيل التعريفات والحدود، وتقضي كذلك بذكر التعريف الدقيق جدا للغنة عند علماء التجويد، وهو الذي يشكل أساساً دقيقا في تعريف الغنة، لم تستطع الدراسات الصوتية إلى وقتنا هذا أن تتجاوزه، وهو قولهم: (الغنة: صوت أغن مركب في جسم النون والميم)([19]). وفي إطار توضيح هذا التعريف يقول أبو العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني العطار (ت569ﻫ): "وإنما سمي هذا الصوت غنة لجريه مع النون والميم بعد لزوم اللسان موضعهما، يدلك على ذلك أنك لو أمسكت بأنفك عند النطق بهما لانحصر الصوت فيها كالطنين؛ لأن الخيشوم مركب فوق الغار الأعلى، وإليه سمو هذا الصوت"([20]).
وقد بينوا كذلك أن الغنة صوت ملازم للنون ولو تنويناً([21])، لأن العبرة باللفظ، وأنها ترافق الميم والنون في حالة السكون والحركة، والإظهار والإدغام والإخفاء، وأنها صفة لا حرف، والصفة ترافق موصوفها، وأن محلها النون والميم مطلقا دون ما سواهما([22])، وكل ذلك البحث إنما هو من مستلزمات تعريف الغنة السابق الذي اصطلحوا عليه، ولم يستطع علم الصوتيات الحديث أن يعدّل أو يزيد على هذه الأوصاف شيئا. بل إن علماء التجويد تجاوزوا في دقة البحث وعمقه إلى ما هو أبعد من ذلك بمراحل فبحثوا أوصافها وقفا ووصلا، وبحثوا في المقادير الدقيقة للغنة بحسب حالاتها، وبحثوا في مراتب الغنة بحسب تركيبها وبناء حروفها في الكلام، فقسموا الغنة إلى غنة كاملة وأخرى ناقصة، وفصّلوا الحالات المتعددة لكل قسم من هذه الأقسام، وبحثوا كذلك في صفاتها ومتى تكون مفخمة ومتى تكون مرققة. قال العلاّمة عثمان مراد:
وغنـةٌ صوتٌ لذيذٌ رُكّبـا
في النّون والميم على مراتبا
مُشَــدَّدان ثُمَّ مُدْغَمــان
ومَخْفيــان ثمًّ مُظْهَــران
كاملـةٌ لدى الثلاثـةِ الأُوَلْ
ناقِصَةٌ في الرابعِ الذي فَضَلْ
وفَخِّـمِ الغُـنَّـةَ إنْ تلاهـا
حُروفُ الاسْتِـعْلاءِ لا سِواها
وتفصيل ذلك وبيانه موضح في كتب التجويد([23]).
وأما اعتراض الباحث على وصف بعض العلماء للغنّة بأنها صوت يشبه صوت الغزالة، فنحتكم إلى ما تعرفه العرب من لسانها من علامة وصف الغنة -ولا أقول تعريف الغنة- بصوت الغزالة. يقول ابن منظور بعد أن ذكر تعريف الغنّة: "... وظبي أغنٌّ: يخرج صوته من خيشومه؛ قال:
فقَـدْ أرَنِّـي ولقد أرَنِّي
غرّاً كأرْآم الصريم الغُنِّ
والأغن من الغزلان وغيرها؛ الذي في صوته غنّة"([24]).
ولأن أشبه الأصوات بصوت الغنّة صوت الظبي، نجد كثيراً من المعاجم لا تتحدث عن معنى "صوت الغنة" إلاّ وتذكر شبهه بصوت الغزال، وكأنه تجسيد مادي لذلك، فهذا الزمخشري- رحمه الله- لم يُعَرِّف الغنّة إلاّ بصوت الظبي، فقد قال في "أساس البلاغة" عند مادة (غنن): "غنن: الظبيُ أغنُّ: لأن في ترنينه غنة؛ وهي ترخيمٌ في صوته من نحو الخياشيم بعَوْنٍ من نَفَسِ الأنف، والنون أشد الحروف غنّة.."([25]). ويقول الهمذاني (العطار): "والظباء كلها غَنٌّ لما في نزيبها من الغنة"([26]).
نلحظ بعد هذا العرض، أن هذا بحث صوتي خالص، فقد كان علماء التجويد يعرّفون الظاهرة الصوتية تعريفاً دقيقاً، ثم يصفونها بأشباهها، ويقربونها للسمع والحس بأقرب أماراتها، فكيف يقول هذا الباحث إن ما ذكره علماء التجويد لا يمت إلى الدراسات الصوتية بصلة؟ هذا لعمر الحق إجحافٌ وافتئاتٌ على الحقيقة.
ويقول باحث آخر كتب رسالة ماجستير بعنوان (فونولوجيا([27]) القرآن: دراسة لأحكام التجويد في ضوء علم الأصوات الحديث) ([28]):
"وقد توصلت إلى عدة نتائج قيمة منها على سبيل المثال أن المدى الزمني للغنة لا يقاس بحركتين فقط كما يقول أصحاب علم التجويد، وإنما يزيد أحيانا كثيرة عن هذه المدة، كما أنه متوقف على سرعة أداء القارئ التي يسير عليها، وأن هناك فروقا فردية لها عامل كبير في اختلاف المدى الزمني للغنة"([29]).
وفي هذا النص أكثر من مغالطة، فهو أولا لم يحدد لنا مفهوم الحركة ولا مقدارها حتى يحاكم علماء التجويد على أساس ذلك، ثم يعترض ثانيا على قياس الغنة بحركتين، ثم يربطها بسرعة أداء القارئ. وهذا كله تداخل غير منضبط، ولا شك أن ضبط ذلك كله يعود لتحديد مفهوم الحركة.
وأقول: إن مما يسجل لعلمائنا دقة أداء وعمق تحليل هو تعريفهم للحركة واختيارهم هذا المصطلح (تحديدا) لقياس زمن الأصوات، فهم لم يختاروا زمنا معينا ثابتا (كالثانية) مثلا أو غيرها من قياسات الزمن، ولكن اختاروا مصطلح الحركة، ويقصدون به: (الزمن الذي يستغرقه نطق حركة من حركات الإعراب) أي: نطق فتحة أو ضمة أو كسرة، وتبعا لذلك فقد تختلف الحركة من حيث طول زمنها أو قصره تبعا لمرتبة التلاوة التي يتلو بها القارئ فإذا قرأ بمرتبة التحقيق([30]) كان زمن الحركة أطول من زمنها فيما لو قرأ بمرتبة الحدر([31])، لأن القارئ حين يقرأ بمرتبة التحقيق يكون متمهلا في نطق الحروف والحركات أشد التمهل، فيستغرق نطق الحركة أو الحرف زمناً أطول بكثير من زمن نطق الحركات والحروف حين يقرأ حدراً، ومن ثمَّ ينبغي أن تتناسب الحركات طولاً أو قصراً مع طبيعة القراءة التي يقرؤها القارئ، وهكذا يكون زمن الحركة نسبياً.
فهل نجد أدق من هذا التحديد الاصطلاحي الذي وضعه علماؤنا السابقون لزمن الغنة؟ ودقة هذا التحديد تأتي من كونه منتزعا من نفس مادة النطق وليس من مقياس زمني خارج عنها.
وأظن أن هذا الباحث المعترض لم يتبين له مراد العلماء من تحديد هذا المصطلح (الحركة) وإلا لما اعترض على تحديد قياس الغنة بحركتين، ولما قال إنها تزيد أحياناً كثيرة عن هذا، وأن زمنها يتوقف على سرعة القارئ وذلك أثناء رده على علماء التجويد، لأن هذا هو ما قرروه أصلاً، فبداية كلامه تتعارض مع نهايته، فكيف يزيد زمن الغنة أحياناً عن حركتين مع أن الحركة يطول زمنها وينقص اعتماداً على سرعة القارئ؟ فهو -كما قلت- زمن نسبي لا يقدر بزمن ثابت حتى يقال: إن زمن الغنة يزيد وينقص عنه.
وهكذا فإنه يتبين لنا ضرورة التأني في الحكم على منجزات علمائنا وعدم التسرع في إطلاق المخالفة لهم، كما يتبين لنا أن علماءنا سبقوا زمنهم بكثير في دراستهم للظواهر الصوتية.
المطلب الثاني: ضوابط وملحوظات حول العلاقة بين علم التجويد وعلم الأصوات الحديث:
1- إن من الملاحظ على بعض من كتب في علم التجويد ووازنه بعلم الأصوات الحديث، أنه يخضع علم التجويد لهذا العلم بمصطلحاته الغربية، وبطريقة دراستهم للأصوات، دون مراعاة لطبيعة علم التجويد والضوابط والأسس الثابتة التي تحكمه، وتراه يتجرأ على تخطئة علمائنا، بل قد ترى من بعضهم اعتزازا بما أوتوا من العلم، فيتبجح به في رده على أسلافنا، وذلك ليس من أسلوب طلبة العلم الذين دأبهم الأدب مع أسلافهم، واحترام علمهم، ولو خالفوهم في مسألة من المسائل.
2- إن مما لا يخفى أن العلماء الأقدمين لم يكن عندهم من أدوات العصر الحديث ما يحددون به المخرج والصفة والمقدار الزمني لأداء الحروف المتحركة والساكنة والمشددة وغير ذلك. ومع هذا، فقد أظهر الباحثون المعاصرون الذين أجروا دراسات على علم التجويد من خلال علم الأصوات الحديث، دقة وعمق ما توصل إليه علماؤنا في معرفة هذه القضايا.
يقول الدكتور صبحي الصالح: "إن مما نود أن نؤكده أن دراسة علمائنا للأصوات العربية لا يضاهيها في العمق والدقة والاستقصاء جميع الدراسات التي يقوم بها اللغويون الآن فيما يسمونه "علم الأصوات اللغوية"، وما نريد أن نثبته هو أن حروفنا العربية محفوظة الأصول، معروفة الأنساب.
لسنا نزعم طبعاً أن الدراسات الحديثة لم تعد بالفائدة على الأبحاث اللغوية، فما يجرؤ على مثل هذا القول باحث منصف، ومن ذا الذي ينكر على علماء الأصوات دقتهم في ملاحظة المسموعات، وتسجيلها بالأجهزة والآلات؟ ولم يكن شيء من هذا متيسرا لعلمائنا المتقدمين لدى دراستهم للأصوات، وكيفية خروجها من أعضاء النطق، وما يعتريها من التغيير، وما يصيبها من الانحراف، وجاؤوا مع ذلك بوصف دقيق لجهاز النطق ووظائف أعضائه عندما أرادوا أن يرتلوا القرآن ترتيلا، فكانوا أول الروّاد لعلم الأصوات اللغوية، وعلى كثير من ملاحظاتهم بنيت المباحث الحديثة في مخارج الحروف وصفاتها"([32]).
ولبيان دقة علمائنا السابقين، وتميز ما توصلت إليه دراساتهم الصوتية، إليك هذا المبحث التطبيقي بين المتقدمين والمحدثين، حول حرف هو من أدق حروف العربية مخرجاً وصفةً؛ هو حرف الهمزة.
تقول الدكتورة مي الجبوري:([33]) "والهمزة عند القدماء حرف مجهور والمجهور عند سيبويه: "حرف أشبع الاعتماد في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت"([34]). فإذا كان هذا تعريف الحرف المجهور فهو منطبق على الهمزة فالهمزة تحدث من انطباق الوترين الصوتيين في الحنجرة انطباقاً كاملا، وهو ما يقابل إشباع الاعتماد في موضعه، إذ الاعتماد هو الاستناد والاتكاء([35]). وإشباعه في موضعه هو ثبوت أعضاء الجهاز الصوتي بوضعها الخاص بإصدار الصوت في المنطقة الخاصة بنطقه، وفي حالة الهمزة هو استناد الوترين الصوتيين الغشائيين في الحنجرة بعضهما على بعض، وانطباقهما، ومنع النفس من الجريان خلالهما، فلا يسمح للهواء بالمرور فيحتبس داخل الحنجرة حتى ينقضي الاعتماد، ويجري الصوت عندما يسمح له بالخروج على صورة انفجار هو صوت الهمزة الذي نسمعه نتيجة تباعد الوترين الصوتيين بعضهما عن بعض.
فبحسب التعريف القديم للجهر يصح عد الهمزة حرفاً مجهوراً، والدليل على ذلك وسيلة الاختبار التي وضعها سيبويه لمعرفة الجهر والهمس في الأصوات، فالمهموس كما قال: "حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى النفس معه، وأنت تعرف ذلك إذا اعتبرت فردَّدْت الحرف مع جري النفس، ولو أردت ذلك في المجهورة لم تقدر عليه، فإذا أردت إجراء الحروف فأنت ترفع صوتك إن شئت بحروف اللين والمد أو بما فيها منها وإن شئت أخفيت"([36]). فنحن لا نستطيع ترديد الهمزة مع جري النفس، وهي همزة واحدة في بداية نطق الصوت، نستطيع أن نجري بعدها حرف مد أو لين، ولا يمكن ترديدها مع جري النفس؛ لأنها تتكون أصلاً من سد مجرى النفس ثم انفتاحه فجأة في الحنجرة.
أما عند المحدثين فالهمزة مهموسة عند هفنر([37])؛ لأن صفة الجهر عنده هي ذبذبة الوترين الصوتيين، وهذا لا يحدث عند إصدار الجهاز الصوتي للهمزة لانطباق الوترين انطباقاً تاماً ثم انفتاحهما بدون ذبذبة. وعند دانيال جونز([38]). الهمزة صوت لا هو بالمجهور ولا بالمهموس؛ لأن الصوت المجهور لديه هو الذي ينفتح له الوتران الصوتيان مع تذبذبهما، والمهموس هو الذي ينفتح له الوتران الصوتيان بدون تذبذب، وفي الهمزة يحتبس الهواء ثم يخرج وهو ما لا يحدث في بقية الأصوات؛ (أي الاحتباس).
فلا اختلاف إذن في صفة الهمزة بين المتقدمين والمحدثين، إنما الاختلاف في تعريف الصفة عند كل من الفريقين ؛ أقصد تعريف المجهور والمهموس كما وضحت.
والهمزة عند المتقدمين والمحدثين صوت شديد وعرفه سيبويه "بالذي يمنع الصوت أن يجري فيه"([39]). وهو الصوت الانفجاري عند المحدثين، أو الذي نُحس معه بانحباس مؤقت لدى المخرج بسبب التقاء عضوين التقاء محكما، فإذا انفصلا فجأة سمع صوت انفجاري هو الذي نسميه بالشديد([40]). وهذا حال صوت الهمزة الذي ينتج من انطباق الوترين الصوتيين الغشائيين والغضروفين الهرميين في الحنجرة انطباقاً كاملاً وشديداً، بحيث لا يسمح للهواء بالمرور مطلقاً، فيحتبس داخل الحنجرة ثم يسمح له بالخروج على صورة انفجار([41]).
وفيما يخص مخرج الهمزة، كرر المتقدمون أنها أبعد الحروف مخرجاً، ويتفق المحدثون معهم على هذا، وقد تابع المتقدمون سيبويه في أنها من أقصى الحلق، وقد أثبت العلم الحديث ذلك وميز المحدثون منطقة الحنجرة عن منطقة الحلق.
وقد اهتم علماء القراءات بالهمزة اهتماماً كبيراً، فأفردوا لها أبواباً في كتبهم، وحثوا على تعلمها فإنها " إنما تعلم بالشكل والمشافهة، ولبعد مخرج الهمزة لا يكون قارئاً لديهم من لا يستشعر بيانها في قراءته... فينبغي للقارئ إذا همز الحرف أن يأتي بالهمزة سلسة في النطق سهلة في الذوق من غير لكز ولا ابتهار لها ولا خروج بها عن حدها ساكنة كانت أو متحركة"([42]).
3. إن علم التجويـد (علم توقيـفي) أساسه ومرجعـه التلقي والمشافهة التي تنقل نقلا متواترا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن علماء التجويد يعتقدون أن كيفيات النطق لألفاظ القرآن الكريم كلمات وحروفا مفردة ومركبة إنما هي وحي من الله تعالى، فكما أن ألفاظ القرآن الحاملة للمعاني وحي من الله، لا سبيل مطلقاً إلى التصرف فيها، فكذلك كيفية أداء هذه الألفاظ من إظهار وإدغام وغنة ومد وتفخيم وترقيق وغيرها، كل ذلك نثق بأنه أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مجال للاجتهاد فيه؛ ولذا فكثير من الظواهر الصوتية في القراءات المتواترة، لا سبيل إلى تعليلها تعليلاً عقليا، ومن هنا فقد علمنا مشايخنا القرّاء أن التعليل الأول- وليس الأخير- لأية ظاهرة صوتية في القرآن هو أن نقول: (هكذا وردت القراءة)، ومثال ذلك:
قوله تعالى: (يس* وَالْقُرْآنِ)[1-2: يس]، (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)[1: القلم]، فقد أدغم النون في الواو بعدها في الآيتين جماعة من القراء وأظهرها غيرهم([43]). ولم يصدر فعل هؤلاء القراء وأولئك إدغاما أو إظهارا تبعا لتعليل صوتي، ولكن تبعا للتلقي والرواية والمشافهة بصرف النظر عن التعليل الصوتي لكل ظاهرة.
ومثل ذلك يمكن أن يقال في ظاهرة إظهار الميم الساكنة قبل الفاء والواو وإخفائها قبل الباء مع أنها كلها حروف شفوية، ويسهل فيها الإدغام لقرب المخارج، فإدغام الميم من الناحية الصوتية في الفاء أو الواو لقرب المخرج سائغ جدا، ولكن الرواية وردت بإظهار الميم عند هذين الحرفين, فأخذنا بالرواية وأظهرنا الميم، ولا يجوز بحال أن نحكِّم الناحية الصوتية في التلاوة فنجتهد ونقول بالإدغام، ذلك لأن عمدتنا الرواية في هذا الأمر ليس غير؛ لذا وجب التنبه لإظهار الميم قبل الفاء والواو أكثر من غيرها من الحروف مخافة أن يزل اللسان بإدغامها فيقول في (هم فيها) (هفِّيها)، فوصفوا الإظهار الشفوي هنا بأنه (أشد إظهاراً)([44]).
ومن الأمثلة أيضا:
أن جمهور القراء يظهرون النون الساكنة والتنوين عند جميع حروف الحلق باستثناء أبي جعفر فإنه يخفي النون الساكنة والتنوين عند الغين والخاء. واستثنى بعض أهل الأداء عن أبي جعفر (فَسَيُنْغِضُونَ) [51: الإسراء]، و(إِن يَكُنْ غَنِيّاً)[135: النساء]، و(وَالْمُنْخَنِقَةُ)[3: المائدة]، فأظهروا النون عند هذه الكلمات الثلاث([45]).
فتفَرُّدُ أبي جعفر في إخفاء النون الساكنة والتنوين قبل حرفي (الغين والخاء)، من بين القراء يدل على أن الرواية هي الأصل الذي أقام عليه أهل الأداء قراءتهم، وليس لاعتبار صوتي آخر. ويزيد الأمر تقريرا وجلاء أن أبا جعفر نفسه اشتهر عنه إظهار النون الساكنة في الكلمات الثلاث السابقة دون غيرها مخالفا بذلك أصل قراءته؛ وموافقا جمهور القرّاء في أصل قراءتهم، فلو كان الأمر راجعا لتعليل صوتي فقط لاطردت القاعدة عنه في إخفاء النون الساكنة عند هذين الحرفين في جميع المواضع، وهكذا يمكن تعليل غيرها من الظواهر الصوتية بالإحالة على التوقيف([46]).
ومن هنا، وبناءً على ذلك فإن علم الصوتيات الحديث، مهما كانت النتائج التي يتوصل إليها فإنها غير مخولة ولا مؤهلة للتدخل في تغيير حكم من أحكام التجويد أو التعديل عليه بما يخرجه عن صورته التي تم نقله عليها، أو تغيير نطق حرف بحرف.
ومثال ذلك: حرف الضاد، إذ تجمع الدراسات الصوتية الحديثة على أن الضاد التي ننطقها اليوم ليست هي الضاد الفصيحة، وأن الضاد الفصيحة مفقودة وأننا بحاجة إلى دراسات أكثر عمقا للبحث عنها، ويستدلون بأدلة عديدة منها الاحتكام إلى أقوال علماء التجويد المتقدمين في وصف الضاد متوائماً مع ما توصلت إليه الدراسات الصوتية الحديثة من وصف وتشخيص للضاد المنطوقة اليوم([47]). فهم يقولون: "إن العلماء المتقدمين مُجْمِعون على أن نطق الضاد عسير. وعسر نطقها لا يمكن أن يتصور بالنسبة للعرب الأوائل، عرب الجاهلية وصدر الإسلام وهي لغتهم الأم، ولكنها عسيرة على من فقدت لهجتهم العربية فيما بعد صوت الضاد الفصيحة. وصوت الضاد المستعملة في البلاد العربية اليوم على أنها عربية فصيحة ونسمعها عند قراء القرآن الذين يحتج بهم يختلف وصفها الصوتي عن وصف علماء التجويد للضاد الفصيحة من حيث المخرج والصفة. أما من حيث المخرج فإن الضاد التي يشيع نطقها بين عرب اليوم ويعتقد أنها فصيحة أو أنها أقرب ما تكون إلى الفصيحة هي عبارة عن دال مطبقة. فنحن نخرجها من طرف اللسان بوضعه فوق اللثة كما نفعل في حالة الذال مع ارتفاع اللسان كله إلى أعلى ملتصقا بالطبق (سقف الحنك) ليعطينا صفة الإطباق. والضاد القرآنية التي وصفها لنا علماء التجويد مخرجها حافة اللسان اليمنى أو اليسرى أو كلتا الحافتين.
أما من حيث الصفة، فإن الضاد التي تنطق اليوم على أنها فصيحة تتصف بالشدة بمعنى أن الهواء ينحبس انحباسا تاما وراء المخرج عند النطق بها كما هو الشأن في الدال.
أما الضاد الفصيحة فقد وصفها علماء التجويد بأنها حرف رخو بمعنى أن الهواء يجري أثناء النطق بها في شكل مستمر (فإذا سمعت صوتها تجده يمتد عند خروجها من أول حافة اللسان إلى آخرها حتى يتصل بمخرج اللام لأنها رخوة)([48])؛ ولذا سميت مستطيلة.والاستطالة هي امتداد الحرف، وهي خاصة بالضاد. وقالوا أيضا: سمي مستطيلا لأنه استطال عن الفم عند النطق به حتى اللام.
على أن ابن الجزري قرر أن الضاد الفصيحة قل من يخرجها صحيحة حتى في عصره ذاك، وحذر من إخراج حرف الضاد ممزوجا بالظاء أو الدال، ومن جعله لاما مفخمة، ومن إشمامه الزاي. وقال: وكل ذلك لا يجوز.
وبناءً على ما سبق فمن العسير إعطاء صورة حقيقية للضاد الفصيحة أكثر مما قدمه لنا الأئمة. وليس المشكل وصف الضاد نظريا، وإنما المشكل هو الوصول إلى حقيقة نطقه من حيث إخراجه عمليا. وإذا تضافرت جهود فريق من علماء الأصوات والقراءات لبحث هذا الموضوع فربما كان الوصول إلى الضاد الفصيحة محتملا؛ على أن الأمر يعوزه وجود النموذج الذي يوثق به على أنه هو الأصلي. والضاد الحديثة التي ننطقها اليوم هي الطاء الفصيحة حسب وصف علماء التجويد"([49]).
وهي أدلة يبدو في ظاهرها كثير من القوة والوجاهة، ولكنها تصطدم بحقيقة النقل المتواتر للفظ القرآني، ومع ذلك حتى لو ثبت بطريق القطع أن ضاد اليوم ليست هي العربية الفصيحة التي كانت مستعملة عند العرب عند نزول القرآن الكريم، فليس من السهولة تحديد تلك الضاد والرجوع إليها مع عدم وجود نطق شفاهي مطبق لها اليوم نقطع بأنه هو، هذا مع إجماع قراء اليوم على نطق الضاد القديمة كما ننطقها اليوم وأنهم أخذوها مشافهة عن مشايخهم.
ولو استطعنا الوصول إلى تلك الضاد الضائعة- كما يقولون- وأردنا الرجوع إليها، فهذا لا سبيل إليه إلا باجتماع علماء الأمة، وإجماعهم على ترك هذه والعودة لتلك إجماعا يقطع العذر، ثم إلزام الأمة بذلك.. ولكن هيهات هيهات.
الخاتمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد
فبعد هذا البيان لطبيعة كل من علم التجويد وعلم الصوتيات الحديث، وحدود العلاقات بينهما اتفاقا وافتراقا يجمل أن نسجل أهم نتائج البحث:
1-إن البحث في أهمية الدراسات الصوتية في علم التجويد، إنما هو بحث في أساسيات هذا العلم ومنطلقاته، فعلم التجويد قائم أصلا على البحث الصوتي، فهو (علم صوتي) تشكل المادة الصوتية للحروف مفردة ومركبة في كلماتها وجملها لحمته وسداه.
2- تأخَرَ البحث الصوتي في علم التجـويد قليلاً عن البحث الصوتي عند علماء اللغة وعلماء القراءات من حيث الزمن، إلا أنه تميز باستقلالية البحث الصوتي وعمقه ودقته واستيعابه. فهو منهج صوتي خالص من ناحية، وهو منهج شامل في دراسته لأصوات حروف اللغة في كل تقاليبها من ناحية أخرى.
3- حرص علماء التجويد على تأسيس هذا العلم الصوتي الدقيق، وكان دافعهم لذلك الحرص على ضبط تلاوة القرآن الكريم كما أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وصون ألسنة المسلمين عن الوقوع في اللحن في شيء من حروفه وألفاظه.
4- يلفت النظر في هذا المقام دقة ما توصل إليه علماء التجويد قديما في تحليلهم للظواهر الصوتية، وعمق نظرتهم رغم اعتمادهم على حواسهم المجردة، بعيدا عن التكنولوجيا الحديثة.
5- إن علم الصوتيات الحديث نشأ ونما وترعرع على أيدي الغربيين؛ وذلك لما توصلوا إليه من اختراع أجهزة صوتية دقيقة، تعطي وصفا تحليلياً للكلام أو المنطوقات من نواح عدة، كقياس الزمن والتردد والشدة والطاقة، وتُظْهِر ذلك في صورة طيفية يمكن طباعتها على الورق([50]). ومن ثم يصار إلى وضع النظريات الصوتية الخاصة بالحروف مفردة ومركبة. ورغم دقة هذه الأجهزة، إلا أن النظريات المبنية على قراءات هذه الأجهزة تبقى اجتهادية إلى حد كبير. فالأجهزة تعطي قراءات، ولكن تفسير هذه القراءات واستخراج دلالات منها يعتمد على ثقافة من يتعامل مع هذه القراءات ويحلل نتائجها، لذا نجد تباينا كبيرا بين الباحثين في النتائج التي يتوصلون إليها.
6- ضرورة الاستعانة بالأجهزة الصوتية الحديثة، وبالتكنولوجيا المعاصرة، والاستفادة منها في تحديد كثير من القضايا المتعلقة بالدراسات الصوتية القرآنية، بشرط أن يكون ذلك كله منضبطا بضوابط ومحددات وضعها علماؤنا قديما ويعرفها المتخصصون في علم التجويد والقراءات في كل عصر.
7- هناك فجوة كبيرة بين علم الصوتيات وبين المتخصصين في علم التجويد، نتيجة قيام علم الصوتيات على أسس مختلفة، ونتيجة تغاير المصطلحات والمفاهيم والمنطلقات بين العلمين. ولذا فلا بد من قيام دراسات تحاول تذليل هذه الصعوبات في محاولة للتسهيل على المختصين في علم التجويد الإفادة قدر الإمكان من علم الصوتيات الحديث.
وأخيراً، أسأل الله أن يديم لهذا العلم؛ علم التجويد، تهيئة من ينهض بمسئوليته ويقوم به على أتم وجه وأحسن حال، إنه خير مسؤول.
والحمد لله رب العالمين
(*) المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، جامعة آل البيت، المجلد السابع، العدد (1/أ)، 1432 ه/2011م.
الهوامش:
([1]) الحمد، غانم قدوري، الدراسات الصوتية عند علماء التجويد، وزارة الأوقاف العراقية، ط1، 1986م، بغداد، ص13.