موقف الإمام الشافعي من سد الذرائع مع الاستدلال(*)
فضيلة الدكتور حارث محمد العيسى/ جامعة آل البيت
فضيلة الدكتور أحمد غالب الخطيب/ مفتي محافظة المفرق
الملخص
هذه الدراسة تهدف إلى بيان القواعد التي اعتمدها الإمام الشافعي رحمه الله في رفضه العمل بسد الذرائع، وبيان معنى الدلالة التي بنى عليها رفضه هذا، وبيان رأي المالكية والحنابلة في ذلك.
والشافعي رحمه الله صاحب رؤية دقيقة في موقفه هذا، فلا يجوز إبطال العقود بحجة أنها ذريعة لما لا يحل؛ وكذا لا يجوز أخذ الناس بالريبة بحجة أن هذا يضبط نظام الحياة. كما أن الأخذ بمذهبه رحمه الله لا يعني عدم الاستفادة من الدلالات والقرائن مطلقاً، وفي هذا فائدة ولا شك.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
إشكالية الموضوع:
وتتضح إشكالية الموضوع من خلال بيان رأي الشافعي في سد الذرائع ومقارنة ذلك بآراء الفقهاء في هذا البحث؛ فان قاعدة سد الذرائع مما اختلف فيه الفقهاء، فذهب الإمام مالك رحمه الله إلى وجوب العمل بسد الذرائع، وعمل بها في أكثر مسائله الفقهية، وتبعه علماء المالكية على ذلك، فقال بها الإمام ابن العربي والإمام القرطبي رحمهما الله، وظهرت جلية عند القرافي في كتابه (الفروق) وعند ابن فرحون في كتابه (تبصرة الحكام). كما روي عن الإمام احمد رحمه الله أخذه بهذه القاعدة، وقد برزت هذه القاعدة جلية في الفقه الحنبلي عند الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه (إعلام الموقعين) وكتاب (الطرق الحكمية) حتى إنه جعل العمل بسد الذرائع أحد أرباع الدين.
وخالف الإمام الشافعي رحمه الله الإمام مالك، فأبطل العمل بالذرائع بناء على إبطاله العمل بالأمارات والدلالات والقرائن في القضاء، وحرم على الحكام والولاة الحكم على الناس بغير ما أظهروا، فلا يحكم على الناس بدلالة أو أمارة أو قرينة، بدعوى أن هذا ذريعة ووسيلة إلى ارتكاب الحرام، وبعد فلا بد من إلقاء الضوء على موقف الشافعي من سد الذرائع وتأيده بالمثال.
أهمية الدراسة:
تهدف هذه الدراسة إلى بيان القواعد التي اعتمدها الشافعي في رفضه العمل بسد الذرائع، وبيان رأي المالكية والحنابلة في ذلك.وأن الشافعي كان صاحب رؤية دقيقة في موقفه هذا , فلا يجوز إبطال العقود بحجة أن هذا يضبط نظام الحياة. كما أن الأخذ بمذهبه رحمه الله لا يعني عدم الاستفادة من الدلالات والقرائن مطلقا , وفي هذا فائدة لا شك.
الدراسات السابقة:
تناول بعض الفقهاء المعاصرون موضوع سد الذرائع عند الشافعي في كتبهم وإن كانوا لم يفردوه بكتاب مستقل ومن هذه الدراسات:
1. إبراهيم بن موسى، الشاطبي، ت 790 هجري، الموافقات في أصول الأحكام، دار الفكر، بيروت، بدون سنة الطبع.والكتاب بتعليق الشيخ محمد حسنين مخلوف.
2. محمد بن أبي بكر، ابن القيم، ت 751 هجري، إعلام الموقعين، دار الجيل، بيروت، لبنان
3. محمد هشام البرهاني، سد الذرائع في الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، مطبعة الريحاني، بيروت، (1406هـ-1985م).
منهجية البحث:
تعالج هذه الدراسة سد الذرائع عند الشافعي مع الاستدلال؛لذا فإن الباحث اعتمد المناهج الآتية:
1. منهج الاستقراء: عنيت بتحرير واستقراء أقوال الفقهاء من كتبهم المختلفة.
2. منهج المقارنة: قمت بمقارنة بين أراء المذاهب التي تحتاج الى تحرير، لأن الأمور لا تتميز إلا بأضدادها، ولما في المقارنة من بعد عن التعصب وإثراء للفكر.
هيكلية الدراسة:
ولبيان موقف الشافعي رحمه الله من سد الذرائع فقد قسمت بحثي هذا إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة على التفصيل الآتي:
المقدمة.
المبحث الأول: مدخل في بيان سد الذرائع، ومن قال بها، وأدلتهم.
المطلب الأول: معنى الذرائع لغة واصطلاحا.
المطلب الثاني: فيمن قال بسد الذرائع، وحجتهم، وأدلتهم.
المطلب الثالث: المعنى المختلف فيه مع الإمام الشافعي.
المبحث الثاني: موقف الشافعي من سد الذرائع.
المطلب الأول: في حجة الشافعي، وأدلته على بطلان الذرائع.
المطلب الثاني: بعض الأمثلة والمسائل عند الإمام الشافعي بناء على موقفه هذا.
1. تأصيل مذهب الشافعي في العقود.
2. جواز بيع العينة.
3. عدم اعتبار قاعدة (المعارضة بنقيض المقصود).
4. تحريم بيع المعاطاة.
5. جواز بيع الكراع والسلاح في الفتنة.
المطلب الثالث: تحقيق موقف الشافعي، وفهم بعض المحدثين.
1. تحقيق موقف الشافعي.
2. الرد على فهم بعض المحدثين.
المبحث الثالث: مناقشة مذهب الشافعي من سد الذرائع.
المطلب الأول: مناقشة ابن القيم للشافعي.
المطلب الثاني: الترجيح والخاتمة.
المبحث الأول
مدخل في بيان سد الذرائع ومن قال بها وأدلتهم
وسأبين فيه معنى الذريعة، ومن قال بها، والمعنى المختلف فيه مع الإمام الشافعي يرحمه الله.
المطلب الأول: معنى الذرائع لغة واصطلاحا.
الذريعة لغة: الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعة أي: توسل، والجمع ذرائع.
والذريعة مثل الدريئة: جمل يختل به الصيد، يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به، ويرمي الصيد
إذا أمكنه، وذلك الجمل يسيب أولا مع الوحش حتى تألفه.
والذريعة: السبب إلى الشيء، وأصله من ذلك الجمل، يقال فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك[1].
وسمي هذا البعير الدريئة والذريعة، ثم جعلت الذريعة مثلا: لكل شيء أدنى من شيء وقرب منه؛ وأنشد:
وللمنية أسباب تقربها كما تقرب للوحشية الذرُُُعُ
ومن نوادر الأعراب: أنت ذرعت بيننا هذا، وأنت سجلته يريد: سببته[2]
من خلال ما تقدم يتبين أن معنى الذريعة يدور حول:
الوسيلة، والاستتار، والتحايل لعمل شيء، والتقريب من الشيء والإدناء منه، والتسبب.
الذرائع اصطلاحا:
ولها عدة تعاريف، منها:
1- عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في الممنوع، وسد الذرائع: منع من الإقدام على الفعل مخافة الوقوع في المحرمات[3].
2- حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها[4].
3- الذريعة: الوسيلة إلى الشيء، والقضاء بسد الذرائع: حسم مادة وسائل الفساد، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل[5].
4- هي ما يتوصل بها إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة[6]. وهذا التعريف يشمل الوسيلة المباحة وغيرها.
5- هي كل وسيلة مباحة قصد التوصل بها إلى المفسدة، أو لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها [7].
6- هي الوسيلة والطريق إلى الشيء، سواء كان هذا الشيء مفسدة أو مصلحة، قولا أو فعلا [8].
وهذا يعني: أن الذرائع يتصور فيها السد كما يتصور فيها الفتح. قال ابن فرحون: وسيلة المحرم محرمة، فكذلك وسيلة الواجب واجبة، كالسعي إلى الجهة والسفر للحج، فكما يجب سد الذرائع يجب فتحها[9].
من خلال ما تقدم يتبين أن العلماء سلكوا في تعريف الذريعة اتجاهين: عام، وخاص.
المعنى العام: (وسيلة وطريقة إلى الشيء سواء أكان مشروعاً أم محضوراً)؛ ويراد بها كل ما يتخذ وسيلة لشيء آخر، بصرف النظر عن كون الوسيلة أو المتوسل إليه مقيدا بوصف الجواز أو المنع، وهي بهذا المعنى تشمل المتفق عليه والمختلف فيه، ويتصور فيها الفتح كما يتصور السد؛ وبناءً على ذلك عرفها بعض العلماء بما يأتي:
1. عرفها القرافي، فقال: "هي الوسيلة إلى الشيء وقال اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للحج"[10].
2. وبمثل هذا عرفها ابن القيم، فقال: الذريعة: "ما كان وسيلة وطريقا ًإلى الشرع"[11].
3. وأيضاً تعليق ابن الشاط على ما قاله القرافي، (إن ما قاله القرافي من أن حكم الوسائل حكم ما أفضت من وجوب أو غيره غير صحيح، فإن ذلك مبني على قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) [12].
المعنى الخاص: (وسيلة إلى أمر محظور)؛ وهي الوسائل التي ظاهرها الجواز، إذا قويت التهمة بها إلى الممنوع، وبناءً على ذلك عرفها بعض العلماء بما يأتي:
1. عرفها الشاطبي: "التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة"[13].
2. عرفها ابن رشد: "هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور"[14].
3. عرفها القرطبي: "هي عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع"[15].
4. عرفها الشوكاني: "المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور"[16].
المطلب الثاني: فيمن قال بسد الذرائع، وحجتهم، وأدلتهم.
ذهب المالكية [17]والحنابلة [18]إلى القول بسد الذرائع، ووجوب العمل بهذه القاعدة، وحجتهم
في ذلك: أن النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، فمتى قويت التهمة في أن القيام بمباح من المباحات يؤدي إلى ما هو محرم فانه يمنع ذلك المباح ويصبح في حكم ما يؤول اليه، فلا بد عندها من حسم وسائل الفساد. [19]
واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها:
1- قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) سورة الأنعام 108
قال ابن القيم: فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله، وإهانة لآلهتهم، لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز[20].
2- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة 104، قال القرطبي في هذه الآية دليلان؛ الأول: على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض. الثاني: التمسك بسد الذرائع وحمايتها، وهو مذهب مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وقد دلّ على هذا الأصل الكتاب والسنة، أما الكتاب فهذه الآية، ووجه التمسك بها: أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ لأنه ذريعة للسب. [21]
3- ما رواه البخاري في صحيحه، عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.[22]
قال القرطبي قال علماؤنا؛ ففعل ذلك أوائلهم ليتآنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم إنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباؤكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصور، فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسدّ الذرائع المؤدية إلى ذلك[23]
وهذا الذي قاله القرطبي ذكره ابن حجر رحمه الله [24]
4- ما رواه البخاري في صحيحه، من طريق النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه) [25].
قال القرطبي: " فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات "[26]. وذلك سدا للذريعة، مع أن الشبهة ليس فيها أمر أو نهي.
وقد ذكر ابن القيم تسعة وتسعين دليلا على جواز العمل بل وجوب العمل بمبدأ سد الذرائع؛ وقال: وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فانه أمر ونهي؛ والأمر نوعان: مقصود لنفسه. ووسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين [27]
وقياسا على هذا التفسير الذي ذهب إليه ابن القيم رحمه الله فانه يمكن القول:
بأن الدين كله أمره أو نهيه جاء ليخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، ويحثه على التعاون على البر والتقوى، وينهاه عن الإثم والعدوان أو التعاون عليهما.
فالشريعة جاءت لحسم مادة الفساد في العالم، فكان مبدأ سد الذرائع على هذا الاعتبار أكثر مما وصفه الإمام ابن القيم رحمه الله من أنه أحد أرباع هذا الدين. وهذا مما يتفق عليه الجميع وأما المختلف فيه فهو المقصود من هذا البحث.
ومثل قول ابن القيم قول القرافي: " وأصل سدها مجمع عليه" [28]، يعني؛ أن الإجماع منعقد على حسم مادة الفساد؛ قال الشاطبي: " قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر"[29]، وهذا الأمر المختلف فيه هو الأصل الذي بنى عليه العلماء قولهم: إن الشافعي لم يعتبر قاعدة الذرائع.
المطلب الثالث: المعنى المختلف فيه مع الإمام الشافعي.
قال القرافي: الذريعة بإجماع الأمة على ثلاثة أقسام:
الأول: معتبر إجماعا كحفر الآبار في طرق المسلمين، وإلقاء السم في طعامهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ.
الثاني: ملغى إجماعا كزراعة العنب، فانه لا يمنع ذلك خشية الخمر، والشركة في سكنى الدار خشية الزنا.
الثالث: مختلف فيه، كبيوع الآجال، كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر، فمالك يقول انه أخرج من يده خمسة الآن، وأخذ عشرة آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلا بإظهار صورة البيع لذلك.
والشافعي يقول: ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز ذلك. وهذه البيوع يقال أنها تصل إلى ألف مسألة، اختص بها مالك وخالفه فيها الشافعي [30].
قال القرطبي: فهذه هي الأدلة التي لنا على سد الذرائع، وعليه بنى المالكية كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها، وليس عند الشافعية كتاب الآجال، لان ذلك عندهم عقود مختلفة مستقلة. وأن أصل الأشياء على الظواهر لا على الظنون. قال: والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها، وهذا هو الربا بعينه، فاعلمه[31].
وتحرير الإمام القرطبي رحمه الله لمحل النزاع مع الشافعي جيد، ولكن قوله بأن ليس عند الشافعية كتاب الآجال مشكل بما في كتاب الأم عند الإمام الشافعي، فقد وضع بابا وسماه (باب بيع الآجال) [32]. وقد أجاز فيه كثيرا من المسائل في بيوع الآجال ورد فيه على مخالفيه. وقوله إنما يصدق على أغلب مؤلفات الشافعية في الفقه.
وعبر الشاطبي عن موقف الشافعي فقال: أصل النظر في مآلات الأفعال ينبني عليه قواعد؛ منها: "قاعدة الذرائع لأن حقيقتها التوسل إلى ما هو مصلحة"[33]، ومثاله بيع العينة، قال: "والسلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل، لأن المصالح التي لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء ولكن هذا بشرط أن يظهر لذلك قصد، ويكثر في الناس بمقتضى العادة ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فانه اعتبر المآل أيضا، لأن البيع إذا كان مصلحة جاز، وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى، فكل عقدة منهما لها مآلها. ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة فلا مانع على هذا"[34].قال متابعاً: " ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق، واتفقوا على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببا في سب الله تعالى"[35]؛ وأشباه ذلك من المسائل التي اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل بها. وقد خرج الشاطبي من الخلاف فقال: " فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر" [36].
قال ابن القيم: "وقوله -يعني الشافعي- ولا تفسد البيوع بان يقول هذه ذريعة وهذه نية سوء، أو بأن يقول نبطل من البيوع متى خاف أن تكون ذريعة إلى الذي لا يحل؛ فإذا دلّ الكتاب ثمّ عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها لا يفسدها نية العاقدين، كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة أولى بان لا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها، ثمّ سيما إذا كان توهما ضعيفا والله أعلم" [37] وأضاف: " وذلك إشارة منه إلى قاعدتين: إحداهما: أن لا اعتبار بالذرائع، ولا يراعى سدها. والثانية: أن القصود غير معتبرة في العقود. ومن سد الذرائع اعتبر المقاصد، ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة"[38].
ومن خلال ما تقدم من قول القرافي والقرطبي والشاطبي وابن القيم يمكن تخريج محل الاتفاق والاختلاف مع الشافعي على النحو الأتي:
أولا: الاتفاق على تحريم الوسائل المفضية إلى المحرم، وهي الوسائل التي جاء دليل على تحريمها أو كانت قطعية في إفضائها إلى المحرم، واليها أشار الشافعي بقوله: الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام، وما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى [39]
يعني الشافعي رحمه الله: أن ما كان ذريعة قطعا إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرّم الله، والدليل على هذا الفهم ما نّص عليه الشافعي نفسه في كتابه الأم قال: ولا تفسد البيوع بأن يقول هذه ذريعة، وهذه نية سوء..الخ. وقوله في حكم المتلاعنين؛ لما ظهر الدليل على صدق الرجل -في المتلاعنين- (إن جاءت به المتلاعنة على النعت المكروه، يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، فإذا أبطل الأقوى من الدلائل أبطل له الأضعف من الذرائع كلها) [40]. ومعنى ذلك أن الدلالة قائمة على بطلان صحة قول هذه المرأة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر هذه الدلالة في الحكم عليها. فإذا أبطل الشرع الدلالة كان إبطال الذرائع من باب أولى، لأن الذرائع أضعف في الاعتماد عليها من الدلالة. لان غالب الذرائع مبنية على الظنون وقوة التهمة.
وقد نقل ابن السبكي عن والده: " إنما أراد الشافعي رحمه الله تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، ومن هذا منع الماء، فإنه يستلزم منع الكلأ الذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصا ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له، وما هذا من سد الذرائع في شيء؛ وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، وأصل النزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها" [41]. قال بعضهم: " وهذا التحقيق سديد ووجيه، فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين، بينما القول بسد الذرائع قائم في أغلب صوره على الظن والتوهم والتخمين"[42]. لذا فان المتفق عليه في موضوع الذرائع هو ما أدى منها إلى المحرم قطعا أو ما جاء النص على تحريمها. وهذا هو ما أشار إليه القرافي بقوله: وأصل سدها متفق عليه[43]، والشاطبي بقوله: قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر.[44]
ثانيا: كان الاختلاف مع الشافعي في موضوع المنع من الوسائل المباحة خشية الوقوع في ما حرّمه الله. فالإمام الشافعي: اعتبر هذه الخشية توهما وظنا، وأنه لا يجوز الحكم على الناس بناء على ما ظهر من دلائل وأمارات تشير إلى فساد مقصدهم فهو لم يعتبر النوايا السيئة ولا المقاصد، ولا مآلات الأمور إذا لم يقترن مع هذه الدلائل نص أو بينة. وأجرى ذلك على العقود.
والقائلون بسد الذرائع: أجازوا، الحكم على الناس حيث ظهر منهم القصد إلى الممنوع، وحيث ظهرت الأمارات والدلائل والقرائن على مآل عملهم الفاسد. وأجروا ذلك على العقود. والشافعي يبطل العمل بالأمارات والدلائل والقرائن كلها ويجعل الحكم بها على الناس مخالفة للكتاب والسنة، وفي هذا يقول: فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالا على ما أظهروا يحتمل غير ما أظهروا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة[45].
وهذه هي النقطة الدقيقة والفاصلة التي أشار إليها ابن القيم عندما قال: ومن سد الذرائع اعتبر المقاصد، ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة، ولا يمكن إبطال واحدة منها إلا بإبطالها جميعها [46].
ويؤخذ عليه أن الشافعي رحمه الله اعتبر المقاصد واعتبر العلل في الأحكام في اجتهاده؛ ولكن عدم اعتبارها من جهةٍ لا يعني عدم اعتبارها من جميع الجهات.
المبحث الثاني
موقف الشافعي من سد الذرائع
وسأبين فيه حجة الشافعي وأدلته على بطلان الذرائع، وأذكر بعضا من المسائل عند الشافعي بناءً على مذهبه هذا.
المطلب الأول: في حجة الشافعي وأدلته على بطلان الذرائع؛ ومعنى الدلالة التي رفضها.
حجة الشافعي:
ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن تقصي الدلائل في معرفة مآلات الأمور المباحة، ومن ثم الحكم على الناس أو العقود والتصرفات بناء على هذه الدلائل مخالف للكتاب والسنة، فقال: فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالا على ما أظهروا يحتمل غير ما أظهروا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة. وتابع فقال: "فان الله عز وجل أبان لخلقه أنه تولى الحكم فيما أثابهم وعاقبهم عليه على ما علم من سرائرهم، وافقت سرائرهم علانيتهم أو خالفتها، وإنما جزاهم بالسرائر فأحبط عمل كل من كفر به"[47]. ومعنى كلام الشافعي، أن للناس ظواهر وسرائر، والناس فيما بينهم يتعاملون بالظاهر من الأفعال والأقوال وسائر التصرفات، أما السرائر ومآلات الأمور فهي من الأمور المغيبة التي لا يعلمها إلا الله، ولا ينبغي الأخذ بها إلا عن يقين كسائر المغيبات، والذي يحاسب الإنسان على سريرته هو الله، وليس حكام الدنيا. والذي يعرف ما تؤول إليه الأمور على حقيقتها الكاملة هو الله جل وعلى.
أدلة الشافعي على حجية ما ذهب إليه:
1- إن الله أمر بقتال الكافرين حتى يؤمنوا، وأبان ذلك عز وجل حتى يظهروا الإيمان [48]. وجه استدلاله رحمه الله أن إظهار الإيمان كافٍ في حقن دمائهم فلا يجوز لمسلم أن يقتلهم أو يقتل بعضهم استدلالاً منه بدلالة ما على أنهم لم يؤمنوا بعد.
2- قول الله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون)(المنافقون 1 و2). وقوله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)(النساء 145).
ووجه الشافعي الآية فقال: اتخذوا أيمانهم جنة من القتل، فمنعهم من القتل، ولم يزل عنهم في الدنيا أحكام الإيمان بما أظهروا منه، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار بعلمه بسرائرهم وخلافها لعلانيتهم بالإيمان[49].
3- قول الله تعالى في المنافقين: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم) التوبة 95، وعلق الشافعي فقال: فأمر بقبول ما أظهروا ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم خلاف حكم ألأيمان، وهم يعرفون بأعيانهم، منهم من تقوم عليه البينة بقول الكفر، ومنهم من تقوم عليه الدلالة في أفعاله، فإذا أظهروا التوبة منه والقول بالإيمان حقنت دماؤهم، وجمعهم ذكر الإسلام، فجعل حكمه عليهم جلّ وعزّ على سرائرهم، وحكم نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم في الدنيا على علانيتهم بإظهار التوبة.[50]
4- قول الله تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) النمل165، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الإسراء 36، قال الشافعي: لا ينبغي تعاطي الحكم على أحد لا بدلالة ولا ظنٍ؛ لتقصير علم المجتهدين والحكام عن علم أنبيائهم الذين فرض الله عليهم التوقف عما ورد عليهم حتى يأتيهم أمره، وأن لا يحكموا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، وان لا يجاوزوا أحسن ظاهره.[51]
5- قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنّ الله أعلم بإيمانهن فان علمتموهنّ مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفار لا هنّ حلّ لهم ولا هم يحلون لهنّ) (الممتحنة، 100). قال الشافعي: فان علمتموهنّ مؤمنات، يعني ما أمرتكم أن تحكموا به فيهن إذا أظهرن الإيمان، لأنكم لا تعلمون من صدقهن بالإيمان ما يعلم الله فاحكموا لهن بحكم الإيمان في أن لا ترجعوهنّ إلى الكفار [52].
6- قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا)الحجرات 14.
قال الشافعي موجهاً الآية الكريمة: " أسلمنا يعني؛ أسلمنا بالقول بالإيمان مخافة القتل والسباء، فهؤلاء قوم يظهرون الإسلام ويسرون غيره ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام، ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا" [53].
7- روى الشافعي: " أخبرنا مالك عن هشام عن عروة، وجاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم العجلانيُ وهو أحيمر سبط، نضو الخلق، فقال يا رسول الله: رأيت شريك بن السحماء -يعني ابن عمه- وهو رجل عظيم الآليتين أدعج العينين حاد الخلق، يصيب فلانة -يعني زوجته - وهي حبلى وما قربتها منذ كذا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكا فجحد، ودعا المرأة فجحدت، فلاعن بينها وبين زوجها، وهي حبلى، ثم قال: "أبصروها فان جاءت به أدعج عظيم الآليتين فلا أراه إلا صدق عليها، وان جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا قد كذب. فجاءت به أدعج عظيم الآليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما بلغنا (إن أمره لبين لولا ما قضى الله)" [54]. ووجه الشافعي ذلك: " يعني إنه لمن زنا لولا ما قضى الله من أن لا يحكم على أحد إلا بإقرار أو اعتراف على نفسه لا يحل بدلالة غير واحد منهما، وإن كانت بينة ً يعني واضحة وقال: (لولا ما قضى الله تعالى لكان لي فيهما قضاء غيره) "[55]. ولم يعرض لشريك ولا للمرأة والله أعلم، وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب، ثم علم بعد ذلك أن الزوج هو الصادق. قال: وما وصفت من حكم الله ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم في المتلاعنين أن جاءت به المتلاعنة على النعت المكروه وهذا يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، فإذا أبطل الأقوى من الدلائل أبطل له الأضعف من الذرائع كلها [56].
معنى ذلك: أن الدلالة قائمة على كذب هذه المرأة- وهي دلالة قوية - لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر هذه الدلالة في الحكم عليها، فإذا أبطل الشرع الدلالة كان إبطال الذرائع من باب أولى، لأن الذرائع أضعف في الاعتماد عليها من الدلالة، لأن غالب الذرائع مبنية على الظنون وقوة التهمة.
رفض الشافعي رحمه الله للدلالات والقرائن في الحكم على الناس، وكذا في العقود.
ويظهر هذا ملخصا من أقوال الشافعي نذكر منها:
1. "وفي جميع ما وصفت ومع غيره مما استغنيت بما كتبت عنه مما فرض الله على الحكام في الدنيا دليل على أن حراما على حاكم أن يقضي أبدا على أحد من عباد الله إلا بأحسن ما يظهر وأخفه على المحكوم عليه، وان احتمل ما يظهر منه غير ما يبطن"[57].
2. "وهذا يدل على أنه لا يفسد العقد أبدا إلا بالعقد نفسه، لا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا بأغلب، وكذلك كل شيء لا نفسده إلا بعقده، ولا نفسد البيوع بأن يقول هذه ذريعة وهذه نية سوء، ولو جاز أن نبطل من البيوع بأن يقال: متى خاف أن تكون ذريعة إلى الذي لا يحل، كان أن يكون اليقين من البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يرد به من الظن"[58].
3. "ألا ترى لو أن رجلا اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به، كان الشراء حلالا، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع. وكذلك لو باع البائع سيفا من رجل يراه أنه يقتل به رجلا كان هكذا"[59].
4. "ولو أن رجلا شريفا نكح ذمية أعجمية أو العكس، فتصادقا في الوجهين على أن لم ينو واحد منهما أن يثبت على النكاح أكثر من ليلة، لم يحرم النكاح بهذه النية، لأن ظاهر عقده كان صحيحا إن شاء الزوج حبسها وان شاء طلقها"[60].
5. "فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على إن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها، لا يفسدها نية العاقدين، كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة أولى أن لا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها، ثم سيما إذا كان توهما ضعيفا"[61].
6. "والبيوع وجهان: حلال لا يرد، وحرام يرد، وسواء تفاحش رده أو تباعد. والتحريم من وجهين: خبر لازم، والآخر قياس. وكل ما قسناه حلالا حكمنا له حكم الحلال في كل حالاته، وكل ما قسناه حراما حكمنا له حكم الحرام. فلا يجوز أن نرد شيئا حرمناه قياسا من ساعته أو يومه، ولا نرده بعد مائة سنة، الحرام لا يكون حلالا بطول السنين. وإنما يكون حراما وحلالا بالعقد"[62]. وهذا الذي حدا بالشافعي إلى القول بمشروعية كثير من العقود في بيوع الآجال وغيرها.
7. "إن أحكام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم تدل على ما وصفت من أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بالظن وان كانت له عليه دلائل قريبة، فلا يحكم إلا من حيث أمره الله بالبينة تقوم على المدعى عليه أو إقرار منه بالأمر البين، وكما حكم الله أن ما أظهر فله حكمه، كذلك حكم أن ما أظهر فعليه حكمه، لأنه أباح الدم بالكفر، وان كان قولا، فلا يجوز في شيء من الأحكام بين العباد أن يحكم فيه إلا بالظاهر، لا بالدلائل" [63].
من خلال ما تقدم يتبين أن مقصد الشافعي من الدلائل: الأمارات والقرائن المحتفة بالتصرف والتي تشير إما إلى ظهور حق ٍ، أوالى ظهور فسادٍ، وهي تكون دون البينة في الإثبات، ومثالها الدلالة على صدق العجلاني، ولكن هذه الدلالة لم تكن كافية في إقامة الحد على زوجته، لأن حكم الله في الملاعنة أقوى من هذه الدلالة في الاعتبار. فهذه هي الدلالة التي لا يجوز الاعتماد عليها في الحكم على الناس عند الشافعي؛ وليس مقصد الشافعي في الدلالة هنا ما هو معروف لدى الأصوليين في مبحث دلالات الألفاظ، أي دلالة النص على المعنى، فهذا مبحث يقره الشافعي ويجعله سبيلا إلى بيان الأحكام الشرعية وفهمها؛ فهذا شيء آخر. وبه قال الشافعي: من طلب أمر الله بالدلالة عليه فإنما طلبه بالسبيل الذي فرض عليه [64].
ومقصده من الظاهر: البينة، أو العقد الصحيح وان كان ذريعة إلى الربا. وموضوع سد الذرائع هو الذي قال فيه الشافعي: " فلما كانت الدلالة لا تكون عند العباد إحاطة دل ذلك على إبطال ما لم يكن إحاطة عند العباد من الدلائل، فإذا قامت بينة فيؤخذ من حيث أمر الله أن يؤخذ" [65].
المطلب الثاني: بعض الأمثلة والمسائل عند الشافعي بناء على مذهبه هذا.
1- تأصيل مذهب الشافعي في العقود:
قال التفتازاني الشافعي رحمه الله في شرح عبارة (التوضيح) -المؤلف على مذهب الحنفية -: "المقصود في العبادات تفريغ الذمة، وفي المعاملات الاختصاصات الشرعية". وتابع قائلاً: "وفي المعاملات الاختصاصات الشرعية، أي الأغراض المترتبة على العقود والفسوخ، كملك الرقبة في البيع، وملك المتعة في النكاح، وملك المنفعة في الإجارة، والبينونة في الطلاق، وكذا معنى صحة القضاء. فمرجع ذلك إلى المعاملات، فالفعل المتعلق بمقصود دنيوي إن وقع بحيث يوصل إليه فصحيح، وإلا: ما كان عدم إيصاله إليه من جهة خلل في أركانه وشرائطه، فباطل وإلا ففاسد، فالمتصف بالصحة والبطلان حقيقة هو الفعل لا نفس الحكم"؛ وعلق قائلاً: "نعم يطلق لفظ الحكم على الصحة والفساد بمعنى أنهما ثبتا بخطاب الشارع، وكذا الكلام في الانعقاد والنفاذ واللزوم، وكثير من المحققين على أن أمثال ذلك راجعة إلى الأحكام الخمسة، فان معنى صحة البيع، إباحة الانتفاع بالمبيع، ومعنى بطلانه حرمة الانتفاع به"[66].
وهذا الذي قاله التفتازاني يبين موقف الشافعي إذا لم يعتبر الذريعة في العقود لأنها خارجة عن الفعل نفسه (العقد) فلا تفسده ولا تبطله، فان الفعل هو المتصف بالصحة والبطلان عنده لا نفس الحكم، فان كان العقد لا يوصل إلى مقصوده بسبب خلل في أركانه وشرائطه فباطل وإلا فصحيح.
2-جواز بيع العينة:
العينة: شراء ما باع بأقل مما باع[67]. وسمي عينة لأن العين غير مقصودة في البيع، ولكن المقصود التذرع بها إلى ما يشبه الربا. ومثاله: أن يشتري ثوبا من إنسان بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يبيعها نقدا إلى نفس البائع بخمسة نقدا، فيحصل له خمسة حالا ويبقى في ذمته عشرة دراهم[68].وفي هذا ورد عن الشافعي: " لا يجوز تحريم هذا البيع بحجة أنه ذريعة إلى الربا، لأن الله عز وجل أحل البيع وحرم الربا، وهذا بيع وليس ربا، فإذا اشترى الرجل من الرجل السلعة فقبضها وكان الثمن إلى أجل، فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه، ومن غيره بنقد أقل"[69].
والقائلون بسد الذرائع: إن هذا بيع قصد منه التوسل به إلى الربا فيمنع سدا للذريعة.
وذكر ابن فرحون: " ومن ذلك عقود الربا وعقود العينة وسلف جر منفعة وما أشبهه، فكل هذه وما جرى مجراها يجب على الحاكم المنع منه ابتداء إذا علم به، وفسخه إذا اطلع عليه مع تأديب من اعتاد تعاطي هذه العقود"[70]، والشافعي على أنه لا يجوز للحاكم المنع من ذلك.
3-عدم اعتبار قاعدة من استعجل الشيء قبل أوانه (المعارضة بنقيض المقصود).
جمهور الشافعية على عدم اعتبار هذه القاعدة في غير ما ورد فيه النص أو قطع فيه بالمعارضة ومبنى هذه القاعدة على سد أبواب الفساد قبل حصوله. فهي تعتبر من أدلة القائلين بسد الذرائع.
ورد عن الزركشي رحمه الله[71]:
- لو أمسك زوجته من أجل ميراثها مسيئا عشرتها، فانه يرثها في الأصح.
- ولو رمى نفسه من شاهق ليصلي قاعدا لا يجب عليه القضاء في الأصح.
- ولو شربت دواء يلقي الجنين فألقته ونفست لم يلزمها قضاء صلوات أيام النفاس على الأصح.
- لو طلقها في مرضه فرارا من الإرث نفذ ولم ترثه على الجديد. وفي القديم ترث مناقضة لقصده.
- لو هدم المستأجر الدار المستأجرة ثبت له الخيار في الأصح.يعني: يجوز أن يطالب المستأجر بفسخ الإجارة.
- ولو باع المال الزكوي قبل الحول فرارا من الزكاة يصح وان كان مكروها.
- ولو أفطر بالأكل متعديا ليجامع لم تجب الكفارة، ولو شرب شيئا ليمرض قبل الفجر في رمضان، فأصبح مريضا فانه يباح له الفطر.
- ولو قتلت أم الولد سيدها أعتقت بذلك.
والقائلون بسد الذرائع على خلاف ذلك، ووجوب المعارضة بنقيض المقصود سدا لذريعة الفساد[72].
4- تحريم بيع المعاطاة:
المعاطاة هي المناولة باليد [73].
أما في الاصطلاح فهي[74]: أن يوجد في أحد شقي العقد لفظ من أحد المتعاقدين، ويشفعه الأخر بالفعل أو لا يوجد لفظ أصلا، ولكن يصدر الفعل بعد اتفاقهما على الثمن والمثمن. فأما إذا أخذ منه شيئا ولم يتلفظا ببيع بل نويا أخذه بثمنه المعتاد كما يفعله كثير من الناس فهو باطل بلا خلاف لأنه ليس بيعا لفظيا ً ولا معاطاة.
-
قال النووي: " ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن يأخذ الحوائج من البياع، ثم بعد ذلك يحاسبه ويعطيه العوض"[75]. وموقف الشافعية هذا مبني على عدم اعتبار الدلالة في الحكم على البيع، وأن العبرة في العقود للألفاظ والمباني.
-
ونقل عن البجيرمي في التدليل على هذا: " وإنما اعتبرت الصيغة لأن البيع في اللفظ، أي إن دلالته على ما في النفس من الرضا أقوى من دلالة القرائن عليه، فلا يقال إن القرائن تدل على الرضا، فخرج بيع المعاطاة حيث اقترن بها لفظ ليست دلالته ظاهرة"[76].
-
وتابع بعض الشافعية رفض الاقتصار على دلالة الرضا في العقود وأن العبرة بالعقود للألفاظ والمعاني معاً. وجعل بعضهم التعاقد على غير اللفظ المقصود في العقود معصية، ومثال ذلك ما ذكره البجيرمي الشافعي حيث قال: " لو وقع بيع بمعاطاة بين مالكي وشافعي، هل يحرم على المالكي ذلك لأعانته الشافعي على معصية في اعتقاده أم لا؟ قال: فيه نظر والجواب عنه أن الأقرب الحرمة" [77]
-
ونقل عن ابن فرحون قوله: ينعقد البيع بالمعاطاة من غير لفظ اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا، وقال بهذا المالكية والحنابلة، وقال بها الحنفية في المحقرات، وخالفهم الشافعية في ذلك[78].
-
لكن الإمام الغزالي رحمه الله أشار إلى التسامح ببيع المعاطاة؛ قال: يجعل الفعل باليد أخذا وتسليما سببا، إذ اللفظ لم يكن سببا لعينه، بل لدلالته، وهذا الفعل قد دل على مقصود البيع دلالة مستمرة في العادة، وانضم إليه مسيس الحاجة وعادة الأولين، واطرد في جميع العادات، بقبول الهدايا من غير إيجاب وقبول، مع التصرف فيها.[79] وهذا الذي ذهب إليه الغزالي اختاره الزركشي الشافعي[80].