أضيف بتاريخ : 16-02-2011


موقف الإمام الشافعي من سد الذرائع مع الاستدلال(*)

 فضيلة الدكتور حارث محمد العيسى/ جامعة آل البيت

فضيلة الدكتور أحمد غالب الخطيب/ مفتي محافظة المفرق

 الملخص

هذه الدراسة تهدف إلى بيان القواعد التي اعتمدها الإمام الشافعي رحمه الله في رفضه العمل بسد الذرائع، وبيان معنى الدلالة التي بنى عليها رفضه هذا، وبيان رأي المالكية والحنابلة في ذلك.

والشافعي رحمه الله صاحب رؤية دقيقة في موقفه هذا، فلا يجوز إبطال العقود بحجة أنها ذريعة لما لا يحل؛ وكذا لا يجوز أخذ الناس بالريبة بحجة أن هذا يضبط نظام الحياة. كما أن الأخذ بمذهبه رحمه الله  لا يعني عدم الاستفادة من الدلالات والقرائن مطلقاً، وفي هذا فائدة ولا شك.

 المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

إشكالية الموضوع:  

وتتضح إشكالية الموضوع من خلال بيان رأي الشافعي في سد الذرائع ومقارنة ذلك بآراء الفقهاء في هذا البحث؛ فان قاعدة سد الذرائع مما اختلف فيه الفقهاء، فذهب الإمام مالك رحمه الله إلى وجوب العمل بسد الذرائع، وعمل بها في أكثر مسائله الفقهية، وتبعه علماء المالكية على ذلك، فقال بها الإمام ابن العربي والإمام القرطبي رحمهما الله، وظهرت جلية عند القرافي في  كتابه (الفروق) وعند ابن فرحون في كتابه (تبصرة الحكام). كما روي عن الإمام احمد رحمه الله أخذه بهذه القاعدة، وقد برزت هذه القاعدة جلية في الفقه الحنبلي عند الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه (إعلام الموقعين) وكتاب (الطرق الحكمية) حتى إنه جعل العمل بسد الذرائع أحد أرباع الدين.

وخالف الإمام الشافعي رحمه الله الإمام مالك، فأبطل العمل بالذرائع بناء على إبطاله العمل بالأمارات والدلالات والقرائن في القضاء، وحرم على الحكام والولاة الحكم على الناس بغير ما أظهروا، فلا يحكم على الناس بدلالة أو أمارة أو قرينة، بدعوى أن هذا ذريعة ووسيلة إلى ارتكاب الحرام، وبعد فلا بد من إلقاء الضوء على موقف الشافعي من سد الذرائع وتأيده بالمثال.

أهمية الدراسة:

تهدف هذه الدراسة إلى بيان القواعد التي اعتمدها الشافعي في رفضه العمل بسد الذرائع، وبيان رأي المالكية والحنابلة في ذلك.وأن الشافعي كان صاحب رؤية دقيقة في موقفه هذا , فلا يجوز إبطال العقود بحجة أن هذا يضبط نظام الحياة. كما أن الأخذ بمذهبه رحمه الله لا يعني عدم الاستفادة من الدلالات والقرائن مطلقا , وفي هذا فائدة لا شك.

الدراسات السابقة:

تناول بعض الفقهاء المعاصرون موضوع سد الذرائع عند الشافعي في كتبهم وإن كانوا لم يفردوه بكتاب مستقل ومن هذه الدراسات:

1. إبراهيم بن موسى، الشاطبي، ت 790 هجري، الموافقات في أصول الأحكام، دار الفكر، بيروت، بدون سنة الطبع.والكتاب بتعليق الشيخ محمد حسنين مخلوف.

2. محمد بن أبي بكر، ابن القيم، ت 751 هجري، إعلام الموقعين، دار الجيل، بيروت، لبنان

3. محمد هشام البرهاني، سد الذرائع في الشريعة الإسلامية، الطبعة الأولى، مطبعة الريحاني، بيروت، (1406هـ-1985م).

منهجية البحث:

تعالج هذه الدراسة سد الذرائع عند الشافعي مع الاستدلال؛لذا فإن الباحث اعتمد المناهج الآتية:

1. منهج الاستقراء: عنيت بتحرير واستقراء أقوال الفقهاء من كتبهم المختلفة.

2. منهج المقارنة: قمت بمقارنة بين أراء المذاهب التي تحتاج الى تحرير، لأن الأمور لا تتميز إلا بأضدادها، ولما في المقارنة من بعد عن التعصب وإثراء للفكر.

هيكلية الدراسة:

ولبيان موقف الشافعي رحمه الله من سد الذرائع فقد قسمت بحثي هذا إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة على التفصيل الآتي:

المقدمة.                                                     

المبحث الأول: مدخل في بيان سد الذرائع، ومن قال بها، وأدلتهم.    

المطلب الأول: معنى الذرائع لغة واصطلاحا.                                    

المطلب الثاني: فيمن قال بسد الذرائع، وحجتهم، وأدلتهم.                                        

المطلب الثالث: المعنى المختلف فيه مع الإمام الشافعي.                             

المبحث الثاني: موقف الشافعي من سد الذرائع.

المطلب الأول: في حجة الشافعي، وأدلته على بطلان الذرائع.                             

المطلب الثاني: بعض الأمثلة والمسائل عند الإمام الشافعي بناء على موقفه هذا.

1. تأصيل مذهب الشافعي في العقود.

2. جواز بيع العينة.

3. عدم اعتبار قاعدة (المعارضة بنقيض المقصود).

4. تحريم بيع المعاطاة.

5. جواز بيع الكراع والسلاح في الفتنة.

المطلب الثالث: تحقيق موقف الشافعي، وفهم بعض المحدثين.

1. تحقيق موقف الشافعي.                                                                                      

2. الرد على فهم بعض المحدثين.

المبحث الثالث: مناقشة مذهب الشافعي من سد الذرائع.

المطلب الأول: مناقشة ابن القيم للشافعي.

المطلب الثاني: الترجيح والخاتمة.                            

 المبحث الأول

مدخل في بيان سد الذرائع ومن قال بها وأدلتهم

 وسأبين فيه معنى الذريعة، ومن قال بها، والمعنى المختلف فيه مع الإمام الشافعي يرحمه الله. 

المطلب الأول: معنى الذرائع لغة واصطلاحا. 

الذريعة لغة: الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعة أي: توسل، والجمع ذرائع.

والذريعة مثل الدريئة: جمل يختل به الصيد، يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به، ويرمي الصيد

إذا أمكنه، وذلك الجمل يسيب أولا مع الوحش حتى تألفه.

والذريعة: السبب إلى الشيء، وأصله من ذلك الجمل، يقال فلان ذريعتي إليك، أي سببي ووصلتي الذي أتسبب به إليك[1].

وسمي هذا البعير الدريئة والذريعة، ثم جعلت الذريعة مثلا: لكل شيء أدنى من شيء وقرب منه؛ وأنشد:

وللمنية أسباب تقربها          كما تقرب للوحشية الذرُُُعُ

ومن نوادر الأعراب: أنت ذرعت بيننا هذا، وأنت سجلته يريد: سببته[2]

من خلال ما تقدم يتبين أن معنى الذريعة يدور حول:

الوسيلة، والاستتار، والتحايل لعمل شيء، والتقريب من الشيء والإدناء منه، والتسبب.

الذرائع اصطلاحا:

ولها عدة تعاريف، منها:

1- عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في الممنوع، وسد الذرائع: منع من الإقدام على الفعل مخافة الوقوع في المحرمات[3].

2- حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها[4].

3- الذريعة: الوسيلة إلى الشيء، والقضاء بسد الذرائع: حسم مادة وسائل الفساد، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل[5].

4- هي ما يتوصل بها إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة[6]. وهذا التعريف يشمل الوسيلة المباحة وغيرها.

5- هي كل وسيلة مباحة قصد التوصل بها إلى المفسدة، أو لم يقصد بها التوصل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالبا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها [7].

6- هي الوسيلة والطريق إلى الشيء، سواء كان هذا الشيء مفسدة أو مصلحة، قولا أو فعلا [8].

وهذا يعني: أن الذرائع يتصور فيها السد كما يتصور فيها الفتح. قال ابن فرحون: وسيلة المحرم محرمة، فكذلك وسيلة الواجب واجبة، كالسعي إلى الجهة والسفر للحج، فكما يجب سد الذرائع يجب فتحها[9].

من خلال ما تقدم يتبين أن العلماء سلكوا في تعريف الذريعة اتجاهين: عام، وخاص.

المعنى العام: (وسيلة وطريقة إلى الشيء سواء أكان مشروعاً أم محضوراً)؛ ويراد بها كل ما يتخذ وسيلة لشيء آخر، بصرف النظر عن كون الوسيلة أو المتوسل إليه مقيدا بوصف الجواز أو المنع، وهي بهذا المعنى تشمل المتفق عليه والمختلف فيه، ويتصور فيها الفتح كما يتصور السد؛ وبناءً على ذلك عرفها بعض العلماء بما يأتي:

1. عرفها القرافي، فقال: "هي الوسيلة إلى الشيء وقال اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للحج"[10].

2. وبمثل هذا عرفها ابن القيم، فقال: الذريعة: "ما كان وسيلة وطريقا ًإلى الشرع"[11].

3. وأيضاً تعليق ابن الشاط على ما قاله القرافي، (إن ما قاله القرافي من أن حكم الوسائل حكم ما أفضت من وجوب أو غيره غير صحيح، فإن ذلك مبني على قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) [12].

المعنى الخاص: (وسيلة إلى أمر محظور)؛ وهي الوسائل التي ظاهرها الجواز، إذا قويت التهمة بها إلى الممنوع، وبناءً على ذلك عرفها بعض العلماء بما يأتي:

1. عرفها الشاطبي: "التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة"[13].

2. عرفها ابن رشد: "هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور"[14].

3. عرفها القرطبي: "هي عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع"[15].

4. عرفها الشوكاني: "المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور"[16].

المطلب الثاني: فيمن قال بسد الذرائع، وحجتهم، وأدلتهم.

ذهب المالكية [17]والحنابلة [18]إلى القول بسد الذرائع، ووجوب العمل بهذه القاعدة، وحجتهم

في ذلك: أن النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، فمتى قويت التهمة في أن القيام بمباح من المباحات يؤدي إلى ما هو محرم فانه يمنع ذلك المباح ويصبح في حكم ما يؤول اليه، فلا بد عندها من حسم وسائل الفساد. [19]

واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها:

1- قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) سورة الأنعام 108

قال ابن القيم: فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله، وإهانة لآلهتهم، لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز[20].

2- قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة 104، قال القرطبي في هذه الآية دليلان؛ الأول: على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض. الثاني: التمسك بسد الذرائع وحمايتها، وهو مذهب مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وقد دلّ على هذا الأصل الكتاب والسنة، أما الكتاب فهذه الآية، ووجه التمسك بها: أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ لأنه ذريعة للسب. [21]

3- ما رواه البخاري في صحيحه، عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.[22]

قال القرطبي قال علماؤنا؛ ففعل ذلك أوائلهم ليتآنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم إنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباؤكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصور، فعبدوها، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسدّ الذرائع المؤدية إلى ذلك[23]

وهذا الذي قاله القرطبي ذكره ابن حجر رحمه الله [24]

4- ما رواه البخاري في صحيحه، من طريق النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبّه عليه من الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه) [25].

قال القرطبي: " فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات "[26]. وذلك سدا للذريعة، مع أن الشبهة ليس فيها أمر أو نهي.

وقد ذكر ابن القيم تسعة وتسعين دليلا على جواز العمل بل وجوب العمل بمبدأ سد الذرائع؛ وقال: وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فانه أمر ونهي؛ والأمر نوعان: مقصود لنفسه. ووسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين [27]

وقياسا على هذا التفسير الذي ذهب إليه ابن القيم رحمه الله فانه يمكن القول:

بأن الدين كله أمره أو نهيه جاء ليخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، ويحثه على التعاون على البر والتقوى، وينهاه عن الإثم والعدوان أو التعاون عليهما.

فالشريعة جاءت لحسم مادة الفساد في العالم، فكان مبدأ سد الذرائع على هذا الاعتبار أكثر مما وصفه الإمام ابن القيم رحمه الله من أنه أحد أرباع هذا الدين. وهذا مما يتفق عليه الجميع وأما المختلف فيه فهو المقصود من هذا البحث.

ومثل قول ابن القيم قول القرافي: " وأصل سدها مجمع عليه" [28]، يعني؛ أن الإجماع منعقد على حسم مادة الفساد؛ قال الشاطبي: " قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر"[29]، وهذا الأمر المختلف فيه هو الأصل الذي بنى عليه العلماء قولهم: إن الشافعي لم يعتبر قاعدة الذرائع.

المطلب الثالث: المعنى المختلف فيه مع الإمام الشافعي.

قال القرافي: الذريعة بإجماع الأمة على ثلاثة أقسام:

الأول: معتبر إجماعا كحفر الآبار في طرق المسلمين، وإلقاء السم في طعامهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ.

الثاني: ملغى إجماعا كزراعة العنب، فانه لا يمنع ذلك خشية الخمر، والشركة في سكنى الدار خشية الزنا.

الثالث: مختلف فيه، كبيوع الآجال، كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر، فمالك يقول انه أخرج من يده خمسة الآن، وأخذ عشرة آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلا بإظهار صورة البيع لذلك.

والشافعي يقول: ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز ذلك. وهذه البيوع يقال أنها تصل إلى ألف مسألة، اختص بها مالك وخالفه  فيها الشافعي [30].

قال القرطبي: فهذه هي الأدلة التي لنا على سد الذرائع، وعليه بنى المالكية كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها، وليس عند الشافعية كتاب الآجال، لان ذلك عندهم عقود مختلفة مستقلة. وأن أصل الأشياء على الظواهر لا على الظنون. قال: والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها، وهذا هو الربا بعينه، فاعلمه[31].

وتحرير الإمام القرطبي رحمه الله لمحل النزاع مع الشافعي جيد، ولكن قوله بأن ليس عند الشافعية كتاب الآجال مشكل بما في كتاب الأم عند الإمام الشافعي، فقد وضع بابا وسماه (باب بيع الآجال) [32]. وقد أجاز فيه كثيرا من المسائل في بيوع الآجال ورد  فيه على مخالفيه. وقوله إنما يصدق على أغلب مؤلفات الشافعية في الفقه.

وعبر الشاطبي عن موقف الشافعي فقال: أصل النظر في مآلات الأفعال ينبني عليه قواعد؛ منها: "قاعدة الذرائع لأن حقيقتها التوسل إلى ما هو مصلحة"[33]، ومثاله بيع العينة، قال: "والسلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل، لأن المصالح التي لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء ولكن هذا بشرط أن يظهر لذلك قصد، ويكثر في الناس بمقتضى العادة ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فانه اعتبر المآل أيضا، لأن البيع إذا كان مصلحة جاز، وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى، فكل عقدة منهما لها مآلها. ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة فلا مانع على هذا"[34].قال متابعاً: " ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق، واتفقوا على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببا في سب الله تعالى"[35]؛ وأشباه ذلك من المسائل التي اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل بها. وقد خرج الشاطبي من الخلاف فقال: " فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر" [36].

قال ابن القيم: "وقوله -يعني الشافعي- ولا تفسد البيوع بان يقول هذه ذريعة وهذه نية سوء، أو بأن يقول نبطل من البيوع متى خاف أن تكون ذريعة إلى الذي لا يحل؛ فإذا دلّ الكتاب ثمّ عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها لا يفسدها نية العاقدين، كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة أولى بان لا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها، ثمّ سيما إذا كان توهما ضعيفا والله أعلم" [37]  وأضاف: " وذلك إشارة منه إلى قاعدتين: إحداهما: أن لا اعتبار بالذرائع، ولا يراعى سدها. والثانية: أن القصود غير معتبرة في العقود. ومن سد الذرائع اعتبر المقاصد، ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة"[38].

ومن خلال ما تقدم من قول القرافي والقرطبي والشاطبي وابن القيم يمكن تخريج محل الاتفاق والاختلاف مع الشافعي على النحو الأتي:

أولا: الاتفاق على تحريم الوسائل المفضية إلى المحرم، وهي الوسائل التي جاء دليل على تحريمها أو كانت قطعية في إفضائها إلى المحرم، واليها أشار الشافعي بقوله: الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام، وما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى [39]

يعني الشافعي رحمه الله: أن ما كان ذريعة قطعا إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرّم الله، والدليل على هذا الفهم ما نّص عليه الشافعي نفسه في كتابه الأم  قال: ولا تفسد البيوع بأن يقول هذه ذريعة، وهذه نية سوء..الخ. وقوله في حكم المتلاعنين؛ لما ظهر الدليل على صدق الرجل -في المتلاعنين- (إن جاءت به المتلاعنة على النعت المكروه، يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، فإذا أبطل الأقوى من الدلائل أبطل له الأضعف من الذرائع كلها) [40]. ومعنى ذلك أن الدلالة قائمة على بطلان صحة قول هذه المرأة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر هذه الدلالة في الحكم عليها. فإذا أبطل الشرع الدلالة كان إبطال الذرائع من باب أولى، لأن الذرائع أضعف في الاعتماد عليها من الدلالة. لان غالب الذرائع مبنية على الظنون وقوة التهمة.

وقد نقل ابن السبكي عن والده: " إنما أراد الشافعي رحمه الله تحريم الوسائل لا سد الذرائع، والوسائل تستلزم المتوسل إليه، ومن هذا منع الماء، فإنه يستلزم منع الكلأ الذي هو حرام، ونحن لا ننازع فيما يستلزم من الوسائل، ولذلك نقول: من حبس شخصا ومنعه من الطعام والشراب فهو قاتل له، وما هذا من سد الذرائع في شيء؛ وكلام الشافعي في نفس الذرائع لا في سدها، وأصل النزاع بيننا وبين المالكية إنما هو في سدها" [41]. قال بعضهم: " وهذا التحقيق سديد ووجيه، فالقول بتحريم الوسائل التي تستلزم المحرم المتوسل إليه قائم على أساس يقرب من اليقين، بينما القول بسد الذرائع قائم في أغلب صوره على الظن والتوهم والتخمين"[42]. لذا فان المتفق عليه في موضوع الذرائع هو ما أدى منها إلى المحرم قطعا أو ما جاء النص على تحريمها. وهذا هو ما أشار إليه القرافي بقوله: وأصل سدها متفق عليه[43]، والشاطبي بقوله: قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر.[44]

ثانيا: كان الاختلاف مع الشافعي في موضوع المنع من الوسائل المباحة خشية الوقوع في ما حرّمه الله. فالإمام الشافعي: اعتبر هذه الخشية توهما وظنا، وأنه لا يجوز الحكم على الناس بناء على ما ظهر من دلائل وأمارات تشير إلى فساد مقصدهم فهو لم يعتبر النوايا السيئة ولا المقاصد، ولا مآلات الأمور إذا لم يقترن مع هذه الدلائل نص أو بينة. وأجرى ذلك على العقود.

والقائلون بسد الذرائع: أجازوا، الحكم على الناس حيث ظهر منهم القصد إلى الممنوع، وحيث ظهرت الأمارات والدلائل والقرائن على مآل عملهم الفاسد. وأجروا ذلك على العقود. والشافعي يبطل العمل بالأمارات والدلائل والقرائن كلها ويجعل الحكم بها على الناس مخالفة للكتاب والسنة، وفي هذا يقول: فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالا على ما أظهروا يحتمل غير ما أظهروا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة[45].  

وهذه هي النقطة الدقيقة والفاصلة التي أشار إليها ابن القيم عندما قال: ومن سد الذرائع اعتبر المقاصد، ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة، ولا يمكن إبطال واحدة منها إلا بإبطالها جميعها [46].

ويؤخذ عليه أن الشافعي رحمه الله اعتبر المقاصد واعتبر العلل في الأحكام في اجتهاده؛ ولكن عدم اعتبارها من جهةٍ لا يعني عدم اعتبارها من جميع الجهات.

 المبحث الثاني

موقف الشافعي من سد الذرائع

وسأبين فيه حجة الشافعي وأدلته على بطلان الذرائع، وأذكر بعضا من المسائل عند الشافعي بناءً على مذهبه هذا.

المطلب الأول: في حجة الشافعي وأدلته على بطلان الذرائع؛ ومعنى الدلالة التي رفضها.

حجة الشافعي:

ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن تقصي الدلائل في معرفة مآلات الأمور المباحة، ومن ثم الحكم على الناس أو العقود والتصرفات بناء على هذه الدلائل مخالف  للكتاب والسنة، فقال: فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم  استدلالا على ما أظهروا يحتمل غير ما أظهروا بدلالة منهم  أو غير دلالة  لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة. وتابع فقال: "فان الله عز وجل أبان لخلقه أنه تولى الحكم فيما أثابهم وعاقبهم عليه على ما علم من سرائرهم، وافقت سرائرهم علانيتهم أو خالفتها، وإنما جزاهم بالسرائر فأحبط عمل كل من كفر به"[47]. ومعنى كلام الشافعي، أن للناس ظواهر وسرائر، والناس فيما بينهم يتعاملون بالظاهر من الأفعال والأقوال وسائر التصرفات، أما السرائر ومآلات الأمور فهي من الأمور المغيبة التي لا يعلمها إلا الله، ولا ينبغي الأخذ بها إلا عن يقين كسائر المغيبات، والذي يحاسب الإنسان على سريرته هو الله، وليس حكام الدنيا. والذي يعرف ما تؤول إليه الأمور على حقيقتها الكاملة هو الله جل وعلى.

أدلة الشافعي على حجية ما ذهب إليه:

1- إن الله أمر بقتال الكافرين حتى يؤمنوا، وأبان ذلك عز وجل حتى يظهروا الإيمان [48]. وجه استدلاله رحمه الله أن إظهار الإيمان كافٍ في حقن دمائهم فلا يجوز لمسلم أن يقتلهم أو يقتل بعضهم استدلالاً منه بدلالة ما على أنهم لم يؤمنوا بعد.   

2- قول الله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون)(المنافقون 1 و2). وقوله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)(النساء 145).

ووجه الشافعي الآية فقال: اتخذوا أيمانهم جنة من القتل، فمنعهم من القتل، ولم يزل عنهم في الدنيا أحكام الإيمان بما أظهروا منه، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار بعلمه بسرائرهم وخلافها لعلانيتهم بالإيمان[49].

3- قول الله تعالى في المنافقين: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم) التوبة 95، وعلق الشافعي فقال: فأمر بقبول ما أظهروا ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم خلاف حكم ألأيمان، وهم يعرفون بأعيانهم، منهم من تقوم عليه البينة بقول الكفر، ومنهم من تقوم عليه الدلالة في أفعاله، فإذا أظهروا التوبة منه والقول بالإيمان حقنت دماؤهم، وجمعهم ذكر الإسلام، فجعل حكمه عليهم جلّ وعزّ على سرائرهم، وحكم نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم في الدنيا على علانيتهم بإظهار التوبة.[50]

4- قول الله تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) النمل165، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الإسراء 36، قال الشافعي: لا ينبغي تعاطي الحكم على أحد لا بدلالة ولا ظنٍ؛ لتقصير علم المجتهدين والحكام عن علم أنبيائهم الذين فرض الله عليهم التوقف عما ورد عليهم حتى يأتيهم أمره، وأن لا يحكموا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، وان لا يجاوزوا أحسن ظاهره.[51]

5- قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنّ الله أعلم بإيمانهن فان علمتموهنّ مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفار لا هنّ حلّ لهم ولا هم يحلون لهنّ) (الممتحنة، 100). قال الشافعي: فان علمتموهنّ مؤمنات، يعني ما أمرتكم أن تحكموا به فيهن إذا أظهرن الإيمان، لأنكم لا تعلمون من صدقهن بالإيمان ما يعلم الله فاحكموا لهن بحكم الإيمان في أن لا  ترجعوهنّ إلى الكفار [52].

6- قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا)الحجرات  14.

قال الشافعي موجهاً الآية الكريمة: " أسلمنا يعني؛ أسلمنا بالقول بالإيمان مخافة القتل والسباء، فهؤلاء قوم يظهرون الإسلام ويسرون غيره ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام، ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا" [53].

7- روى الشافعي: " أخبرنا مالك عن هشام عن عروة، وجاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم العجلانيُ وهو أحيمر سبط، نضو الخلق، فقال يا رسول الله: رأيت شريك بن السحماء -يعني ابن عمه- وهو رجل عظيم الآليتين أدعج العينين حاد الخلق، يصيب فلانة -يعني زوجته - وهي حبلى وما قربتها منذ كذا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكا فجحد، ودعا المرأة فجحدت، فلاعن بينها وبين زوجها، وهي حبلى، ثم قال: "أبصروها فان جاءت به أدعج عظيم الآليتين فلا أراه إلا صدق عليها، وان جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا قد كذب. فجاءت به أدعج عظيم الآليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما بلغنا (إن أمره لبين لولا ما قضى الله)" [54]. ووجه الشافعي ذلك: " يعني إنه لمن زنا لولا ما قضى الله من أن لا يحكم على أحد إلا بإقرار أو اعتراف على نفسه لا يحل بدلالة غير واحد منهما، وإن كانت بينة ً  يعني واضحة  وقال: (لولا ما قضى الله تعالى لكان لي فيهما قضاء غيره) "[55]. ولم يعرض لشريك ولا للمرأة والله أعلم، وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب، ثم علم بعد ذلك أن الزوج هو الصادق. قال: وما وصفت من حكم الله ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم في المتلاعنين أن جاءت به المتلاعنة على النعت المكروه وهذا يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، فإذا أبطل الأقوى من الدلائل أبطل له الأضعف من الذرائع كلها [56].

معنى ذلك: أن الدلالة قائمة على كذب هذه المرأة- وهي دلالة قوية - لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر هذه الدلالة في الحكم عليها، فإذا أبطل الشرع الدلالة كان إبطال الذرائع من باب أولى، لأن الذرائع أضعف في الاعتماد عليها من الدلالة، لأن غالب الذرائع مبنية على الظنون وقوة التهمة.

رفض الشافعي رحمه الله للدلالات والقرائن في الحكم على الناس، وكذا في العقود.

ويظهر هذا ملخصا من أقوال الشافعي نذكر منها:

1. "وفي جميع ما وصفت ومع غيره مما استغنيت بما كتبت عنه مما فرض الله  على الحكام في الدنيا دليل على أن حراما على حاكم أن يقضي أبدا على أحد من عباد الله إلا بأحسن ما يظهر وأخفه على المحكوم عليه، وان احتمل ما يظهر منه غير ما يبطن"[57].

2. "وهذا يدل على أنه لا يفسد العقد أبدا إلا بالعقد نفسه، لا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره ولا بتوهم ولا بأغلب، وكذلك كل شيء لا نفسده إلا بعقده، ولا نفسد البيوع بأن يقول هذه ذريعة وهذه نية سوء، ولو جاز أن نبطل من البيوع بأن يقال: متى خاف أن تكون ذريعة إلى الذي لا يحل، كان أن يكون اليقين من البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يرد به من الظن"[58].

3. "ألا ترى لو أن رجلا اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقتل به، كان الشراء حلالا، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع. وكذلك لو باع البائع سيفا من رجل يراه أنه يقتل به رجلا كان هكذا"[59].

4. "ولو أن رجلا شريفا نكح ذمية أعجمية أو العكس، فتصادقا في الوجهين على أن لم ينو واحد منهما أن يثبت على النكاح أكثر من ليلة، لم يحرم النكاح بهذه النية، لأن ظاهر عقده كان صحيحا إن شاء الزوج حبسها وان شاء طلقها"[60].

5. "فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على إن العقود إنما يثبت بالظاهر عقدها، لا يفسدها نية العاقدين، كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة أولى أن لا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها، ثم سيما إذا كان توهما ضعيفا"[61].  

6. "والبيوع وجهان: حلال لا يرد، وحرام يرد، وسواء تفاحش رده أو تباعد. والتحريم من وجهين: خبر لازم، والآخر قياس. وكل ما قسناه حلالا حكمنا له حكم الحلال في كل حالاته، وكل ما قسناه حراما حكمنا له حكم الحرام. فلا يجوز أن نرد شيئا حرمناه قياسا من ساعته أو يومه، ولا نرده بعد مائة سنة، الحرام لا يكون حلالا بطول السنين. وإنما يكون حراما وحلالا بالعقد"[62]. وهذا الذي حدا بالشافعي إلى القول بمشروعية كثير من العقود في بيوع الآجال وغيرها.

7. "إن أحكام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم تدل على ما وصفت من أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بالظن وان كانت له عليه دلائل قريبة، فلا يحكم إلا من حيث أمره الله بالبينة تقوم على المدعى عليه أو إقرار منه بالأمر البين، وكما حكم الله أن ما أظهر فله حكمه، كذلك حكم أن ما أظهر فعليه حكمه، لأنه أباح الدم بالكفر، وان كان قولا، فلا يجوز في شيء من الأحكام بين العباد أن يحكم فيه إلا بالظاهر، لا بالدلائل" [63].

  من خلال ما تقدم يتبين أن مقصد الشافعي من الدلائل: الأمارات والقرائن المحتفة بالتصرف والتي تشير إما إلى ظهور حق ٍ، أوالى ظهور فسادٍ، وهي تكون دون البينة في الإثبات، ومثالها الدلالة على صدق العجلاني، ولكن هذه الدلالة لم تكن كافية في إقامة الحد على زوجته، لأن حكم الله في الملاعنة أقوى من هذه الدلالة في الاعتبار. فهذه هي الدلالة التي لا يجوز الاعتماد عليها في الحكم على الناس عند الشافعي؛ وليس مقصد الشافعي في الدلالة هنا ما هو معروف لدى الأصوليين في مبحث دلالات الألفاظ، أي دلالة النص على المعنى، فهذا مبحث يقره الشافعي ويجعله سبيلا إلى بيان الأحكام الشرعية وفهمها؛ فهذا شيء آخر. وبه قال الشافعي: من طلب أمر الله بالدلالة عليه فإنما طلبه بالسبيل الذي فرض عليه [64].

ومقصده من الظاهر: البينة، أو العقد الصحيح وان كان ذريعة إلى الربا. وموضوع سد الذرائع هو الذي قال فيه الشافعي: " فلما كانت الدلالة لا تكون عند العباد إحاطة دل ذلك على إبطال ما لم يكن إحاطة عند العباد من الدلائل، فإذا قامت بينة فيؤخذ من حيث أمر الله أن يؤخذ" [65].

المطلب الثاني: بعض الأمثلة والمسائل عند الشافعي بناء على مذهبه هذا.

1- تأصيل مذهب الشافعي في العقود:

قال التفتازاني الشافعي رحمه الله في شرح عبارة (التوضيح) -المؤلف على مذهب الحنفية -: "المقصود في العبادات تفريغ الذمة، وفي المعاملات الاختصاصات الشرعية". وتابع قائلاً: "وفي المعاملات الاختصاصات الشرعية، أي الأغراض المترتبة على العقود والفسوخ، كملك الرقبة في البيع، وملك المتعة في النكاح، وملك المنفعة في الإجارة، والبينونة في الطلاق، وكذا معنى صحة القضاء. فمرجع ذلك إلى المعاملات، فالفعل المتعلق بمقصود دنيوي إن وقع بحيث يوصل إليه فصحيح، وإلا: ما كان عدم إيصاله إليه من جهة خلل في أركانه وشرائطه، فباطل وإلا ففاسد، فالمتصف بالصحة والبطلان حقيقة هو الفعل لا نفس الحكم"؛ وعلق قائلاً: "نعم يطلق لفظ الحكم على الصحة والفساد بمعنى أنهما ثبتا بخطاب الشارع، وكذا الكلام في الانعقاد والنفاذ واللزوم، وكثير من المحققين على أن أمثال ذلك راجعة إلى الأحكام الخمسة، فان معنى صحة البيع، إباحة الانتفاع بالمبيع، ومعنى بطلانه حرمة الانتفاع به"[66].

وهذا الذي قاله التفتازاني يبين موقف الشافعي إذا لم يعتبر الذريعة في العقود لأنها خارجة عن الفعل نفسه (العقد) فلا تفسده ولا تبطله، فان الفعل هو المتصف بالصحة والبطلان عنده لا نفس الحكم، فان كان العقد لا يوصل إلى مقصوده بسبب خلل في أركانه وشرائطه فباطل وإلا فصحيح.

2-جواز بيع العينة:  

العينة: شراء ما باع بأقل مما باع[67]. وسمي عينة لأن العين غير مقصودة في البيع، ولكن المقصود التذرع بها إلى ما يشبه الربا. ومثاله: أن يشتري ثوبا من إنسان بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يبيعها نقدا إلى نفس البائع بخمسة نقدا، فيحصل له خمسة حالا ويبقى في ذمته عشرة دراهم[68].وفي هذا ورد عن الشافعي: " لا يجوز تحريم هذا البيع بحجة أنه ذريعة إلى الربا، لأن الله عز وجل أحل البيع وحرم الربا، وهذا بيع وليس ربا، فإذا اشترى الرجل من الرجل السلعة فقبضها وكان الثمن إلى أجل، فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه، ومن غيره بنقد أقل"[69].

والقائلون بسد الذرائع: إن هذا بيع قصد منه التوسل به إلى الربا فيمنع سدا للذريعة.

وذكر ابن فرحون: " ومن ذلك عقود الربا وعقود العينة وسلف جر منفعة وما أشبهه، فكل هذه وما جرى مجراها يجب على الحاكم المنع منه ابتداء إذا علم به، وفسخه إذا اطلع عليه مع تأديب من اعتاد تعاطي هذه العقود"[70]، والشافعي على أنه لا يجوز للحاكم المنع من ذلك.

3-عدم اعتبار قاعدة من استعجل الشيء قبل أوانه (المعارضة بنقيض المقصود).

جمهور الشافعية على عدم اعتبار هذه القاعدة في غير ما ورد فيه النص أو قطع فيه بالمعارضة ومبنى هذه القاعدة على سد أبواب الفساد قبل حصوله. فهي تعتبر من أدلة القائلين بسد الذرائع.

ورد عن الزركشي رحمه الله[71]:

- لو أمسك زوجته من أجل ميراثها مسيئا عشرتها، فانه يرثها في الأصح.

- ولو رمى نفسه من شاهق ليصلي قاعدا لا يجب عليه القضاء في الأصح.

-  ولو شربت دواء يلقي الجنين فألقته ونفست لم يلزمها قضاء صلوات أيام النفاس على   الأصح.

- لو طلقها في مرضه فرارا من الإرث نفذ ولم ترثه على الجديد. وفي القديم ترث مناقضة لقصده.

- لو هدم المستأجر الدار المستأجرة ثبت له الخيار في الأصح.يعني: يجوز أن يطالب المستأجر بفسخ الإجارة.

- ولو باع المال الزكوي قبل الحول فرارا من الزكاة يصح وان كان مكروها.

- ولو أفطر بالأكل متعديا ليجامع لم تجب الكفارة، ولو شرب شيئا ليمرض قبل الفجر في رمضان، فأصبح مريضا فانه يباح له الفطر.

- ولو قتلت أم الولد سيدها أعتقت بذلك.

والقائلون بسد الذرائع على خلاف ذلك، ووجوب المعارضة بنقيض المقصود سدا لذريعة الفساد[72].

4- تحريم بيع المعاطاة:

المعاطاة هي المناولة باليد [73].           

أما في الاصطلاح فهي[74]: أن يوجد في أحد شقي العقد لفظ من أحد المتعاقدين، ويشفعه الأخر بالفعل أو لا يوجد لفظ أصلا، ولكن يصدر الفعل بعد اتفاقهما على الثمن والمثمن. فأما إذا أخذ منه شيئا ولم يتلفظا ببيع بل نويا أخذه بثمنه المعتاد كما يفعله كثير من الناس فهو باطل بلا خلاف لأنه ليس بيعا لفظيا ً ولا معاطاة.

  • قال النووي: " ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن يأخذ الحوائج من البياع، ثم بعد ذلك يحاسبه ويعطيه العوض"[75]. وموقف الشافعية هذا مبني على عدم اعتبار الدلالة في الحكم على البيع، وأن العبرة في العقود للألفاظ والمباني.

  • ونقل عن البجيرمي في التدليل على هذا: " وإنما اعتبرت الصيغة لأن البيع في اللفظ، أي إن دلالته على ما في النفس من الرضا أقوى من دلالة القرائن عليه، فلا يقال إن القرائن تدل على الرضا، فخرج بيع المعاطاة حيث اقترن بها لفظ ليست دلالته ظاهرة"[76].

  • وتابع بعض الشافعية رفض الاقتصار على دلالة الرضا في العقود وأن العبرة بالعقود للألفاظ والمعاني معاً. وجعل بعضهم التعاقد على غير اللفظ المقصود في العقود معصية، ومثال ذلك ما ذكره البجيرمي الشافعي حيث قال: " لو وقع بيع بمعاطاة بين مالكي وشافعي، هل يحرم على المالكي ذلك لأعانته الشافعي على معصية في اعتقاده أم لا؟ قال: فيه نظر والجواب عنه أن الأقرب الحرمة" [77]

  • ونقل عن ابن فرحون قوله: ينعقد البيع بالمعاطاة من غير لفظ اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا، وقال بهذا المالكية والحنابلة، وقال بها الحنفية في المحقرات، وخالفهم الشافعية في ذلك[78].

  • لكن الإمام الغزالي رحمه الله أشار إلى التسامح ببيع المعاطاة؛ قال: يجعل الفعل باليد أخذا وتسليما سببا، إذ اللفظ لم يكن سببا لعينه، بل لدلالته، وهذا الفعل قد دل على مقصود البيع دلالة مستمرة في العادة، وانضم إليه مسيس الحاجة وعادة الأولين، واطرد في جميع العادات، بقبول الهدايا من غير إيجاب وقبول، مع التصرف فيها.[79] وهذا الذي ذهب إليه الغزالي اختاره الزركشي الشافعي[80].

5- جواز بيع الكراع والسلاح في الفتنة.

القائلون بسد الذرائع على عدم جواز بيع السلاح في الفتنة سدا لذريعة الفساد وازدياده وانتشاره. وفي هذا يقول الشافعي: " أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحا في الظاهر لم أبطله بتهمة، ولا بين المتبايعين، وأجزته بصحة الظاهر وأكره لهما النية إذا كانت النية لو أظهرت كانت تفسد البيع. وكما أكره للرجل أن يشتري السيف على أن يقتل به، ولا يحرم على بائعه أن يبيعه ممن يراه أنه يقتل به ظلما، لأنه قد لا يقتل به، ولا أفسد عليه هذا البيع. وكما أكره للرجل أن يبيع العنب ممن يراه أنه يعصره خمرًا، ولا أفسد البيع إذا باعه إياه، لأنه باعه حلالا، وقد يمكن أن لا يجعله خمرا أبدا، وفي صاحب السيف أن لا يقتل به أحدا أبدا. وكما أفسد نكاح المتعة، ولو نكح رجل امرأة بعقد صحيح وهو ينوي أن لا يمسكها إلا يوما أو أقل أو أكثر لم أفسد النكاح، إنما أفسده أبدا بالعقد الفاسد." [81]وأصل البجيرمي هذا فقال: " العقد الصحيح الحرام والمكروه.[82] يعني أن العقد قد يكون صحيحا ومحرما، وقد يكون صحيحا ومكروها ولا أثر للحرمة على صحة العقد. وذلك لان النهي لا للعقد بل لشيء خارج عنه"[83].وتابع قائلاً: " لان الاعتناء بعموم الأحكام أولى منه بمعاني الألفاظ"[84].   فصحة العقد كافية في إمضائه فلا عبرة بما يؤول إليه أو ما يسبقه.

المطلب الثالث: تحقيق موقف الشافعي وفهم بعض المحدثين.

أولاً: مما تقدم فإنه يتبين مذهب الإمام الشافعي رحمه الله جليا، فهو لم يأخذ بمبدأ الذرائع الذي أخذ به الإمام مالك رحمه الله والسبب في ذلك يعود إلى أصول معينة اعتمدها الإمام الشافعي، اذكر منها:

1. أن الحكم على الناس ينبغي أن يكون بما أظهروا. فلا يجوز الحكم على الناس بدلالة أو قرينة أو أمارة على ظهور فساد في عملهم، وذلك لأن الشرع أبطل العمل بالدلالة، والدلالة أقوى من الذريعة، فيكون الشارع قد أبطل العمل بالذريعة من باب أولى.

2. العمل بالذرائع عمل بالتوهم والظنون وهو لا يجوز وذلك لأن العباد لا يحيطون بالدلالة، فكل ما لم يحيطوا بعلمه من الدلائل باطل.

وينبني على ما تقدم: أن العبرة في العقود بالمباني والألفاظ، وأن العقد إذا كان صحيحا لا ينظر إلى مآله: فلا عبرة للمآل في العقود.وقد بنى الشافعي رحمه الله أكثر مسائله في الفقه على هذه المبادئ، وليس فقط في بيوع الآجال كما يتوهم البعض وان كانت بيوع الآجال هي أبرز المسائل التي اتضح فيها مذهبه هذا، ومن خلال هذه الأصول جزم الإمام ابن القيم رحمه الله بأن الشافعي أبطل العمل بالذرائع، وهذا الذي جزم به الإمام ابن القيم هو الصحيح، وهو الذي يظهر لي من خلال هذا البحث، والله تعالى أعلم وأحكم.

ثانيا ً: الرد على فهم بعض المحدثين: ذهب بعض المحدثين[85]. الذين لم يمعنوا النظر في مذهب الإمام الشافعي، إلى القول بأن الشافعي أخذ بمبدأ سد الذرائع، واستدل على ذلك بما هو محل اتفاق بين العلماء وهو قول الشافعي: (الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام)؛ وانطلق من هذا القول وجعله مستندا له للطعن في فهم الأئمة الأعلام من المالكية والحنابلة وكثير من الشافعية ممن قالوا بأن الشافعي لم يأخذ بالذرائع. فقال: (أما من قال إن الشافعي لا يسد الذرائع، ولا يعطي الوسائل حكم المقاصد، فقد اعتمد على ظاهر عبارات وردت على لسان الشافعي نفسه، فهم منها رفض الشافعي لهذه القاعدة؛ ثم قال إن قاعدة الذرائع لا يحقق مناط تطبيقها على بيوع الآجال وما ذكر معها عند الشافعي، لأنه إذا كانت القاعدة تعني إعطاء الوسيلة حكم المقصد، والمظنة حكم المضنون، فان بيوع الآجال وما ذكر معها ذريعة إلى القصد المحرم غير المبطل، فتكون محرمة، غير باطلة. ثم قال: إن الإمام الشافعي رضي الله عنه لا يخالف شيخه إمام دار الهجرة في هذه القاعدة لا من حيث أصل الأخذ بها، ولا من حيث مضمونها، ولا من حيث نطاق تطبيقها، وانه إذا خالف الشافعي مالكا في عدم إبطال بيوع الآجال، فذلك لأن مناط القاعدة لا يتحقق في هذه البيوع.

ويجاب عن هذا الفهم لموقف الشافعي بالآتي:

1. الذين قالوا بأن الشافعي لا يسد الذرائع هم كبار المالكية والحنابلة والشافعية، وهؤلاء أكثر فهما وأعمق علما، فلا يجوز وصفهم بأنهم يعتمدون على ظواهر العبارات، بل عندهم بذلك أدلة وبينات. وقد تقدم موقف الشافعي جليا في بيوع الآجال، ومنها بيع العينة وكذا بيع  المعاطاة، وبيع الكراع والسلاح في الفتنة، وهذه المسائل وغيرها في الفقه الشافعي هي التي دفعت كبار العلماء كابن القيم والقرافي وابن فرحون إلى القول بان الشافعي لم يسد الذرائع، وليس اعتمادهم على ظواهر العبارات؛ وقد فهموا الأصول التي اعتمدها الشافعي في موقفه وردوا عليه من خلال مناقشة هذه الأصول.

2. إذا كانت قاعدة الذرائع لا يتحقق مناط تطبيقها في بيوع الآجال، فعلى ماذا تتحقق؟  ثمّ إن الشافعي يقول بجواز بيع العينة، وهي من بيوع الآجال والجواز ظاهرا وباطنا، فالقول بأنها محرمة غير باطلة لم يقل به الشافعي ولا يرضاه. بل أنه قال بجوازها ظاهرا وباطنا.

3. إن مخالفة الإمام الشافعي للإمام مالك ليست عيبا، بل إن الإمام الشافعي خالف الإمام مالك في كثير من المسائل، ولم يكن ذلك عيبا، وإذا أجاز الإمام الشافعي بيوع الآجال وهي كما قيل تقرب من ألف مسألة فقد خالفه في بيوع الآجال وحدها ألف مرة ثمّ إن الشافعي لم يقل فقط بمذهبه هذا في بيوع الآجال فقط، بل إن قراءة متأنية لفقه الإمام الشافعي في كتاب الأم (في الاشتراك في القتل، وفي إقامة الحد في دار الحرب وفي تضمين الصناع، وفي قضاء القاضي بعلمه، وكذلك ما تقدم من مسائل) وغيرها من المسائل التي لم يعتبر فيها الذريعة ولا الدلالة على المآل الفاسد، لدليل على ان الشافعي لم يسد الذرائع.

 المبحث الثالث

مناقشة مذهب الشافعي من سد الذرائع

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: مناقشة ابن القيم للشافعي.

  • قال ابن القيم: وأما قوله - يعني الشافعي - (انه لم يحكم في المنافقين بحكم الكفر مع الدلالة التي لا أقوى منها وهي خبر الله تعالى عنهم وشهادته عليهم، فجوابه: إن الله تعالى لم يجر أحكام الدنيا على علمه في عباده، وإنما أجراها على الأسباب التي نصبها أدلة عليها، وان علم الله سبحانه وتعالى أنهم مبطلون فيها، مظهرون لخلاف ما يبطنون، وإذا اطلع الله ورسوله على ذلك لم يكن ذلك مناقضا لحكمه الذي شرعه ورتبه على تلك الأسباب كما رتب على المتكلم بالشهادتين حكمه واطلع رسوله وعباده المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين، وإنهم لم يطابق قولهم اعتقادهم، وهذا كما أجرى حكمه على المتلاعنين ظاهرا ثمّ اطلع رسوله والمؤمنين على حال المرأة بشبه الولد لمن رميت به وكما قال - صلى الله عليه وسلم - (إنما اقضي على نحو ما اسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما اقطع له قطعة من النار)[86] وقد يطلعه الله على حال أحدٍ لا يحل له أخذه، ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم [87]؛ فأحكام الدنيا تجري على الأسباب.ويجاب عن هذا بأن الله تعالى جعلَ ألفاظ العقود سببا في انعقادها. والذي ذكره ابن القيم حجة للشافعي رحمه الله.

  • أما قصة الملاعن فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال بعد إن ولدت الغلام على شبه الذي رميت به (لولا ما قضى الله لكان لي ولها شأن) إنما أراد به لولا حكم الله بينهما باللعان لكان شبه الولد بمن رميت به يقتضي حكما آخر غيره، ولكن حكم الله باللعان ألغى حكم هذا الشبه، فإنهما دليلان وأحدهما أقوى من الآخر، فكان العمل به واجبا وهذا كما لو تعارض دليل الفراش والشبه، فإنا نعمل دليل الفراش، ولا نلتفت إلى الشبه بالنص والإجماع، فأين في هذا ما يبطل المقاصد والنيات والقرائن التي لا معارض لها؟ وهل يلزم من بطلان الحكم بقرينة قد عارضها ما هو أقوى منها بطلان الحكم بجميع القرائن؟ والكتاب والسنة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن[88]. والمعروف من مذهب الشافعي رفضه للقرينة التي تستقوي على حكم الشرع؛ كقرينة الريبة التي توجب التعذيب، وقرينة الشك في النوايا التي تمنع من الحقوق، أو توجب له المعاملة بنقيض المقصود، أما أن يستفاد من هذه القرائن فيما لا يخالف الشرع فهذا لا يمنع منه.

  • وأما قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل في حكم الدنيا استعمال الدلالة) يعني دلالة الشبه فإنما أبطلها بدلالة أقوى منها وهي اللعان، كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش، واعتبرها حيث لم يعارضها مثلها ولا أقوى منها في إلحاق الولد بالقيافة وهي دلالة الشبه، فأين في هذا إلغاء الدلالات والقرائن مطلقا ؟

  • وقوله: (ولا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه، ولا يفسد بشيء تقدمه ولا تأخره، ولا بتوهم، ولا بأمارة عليه) يريد: أن الشرط المتقدم لا يفسد العقد إذا عرى صلب العقد عن مقارنته وهذا أصل قد خالفه فيه جمهور أهل العلم، وقالوا: لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن، ومفسدته متقدما كمفسدته مقارنا. فإذا اشترطا قبل العقد أن النكاح نكاح تحليل أو متعة أو شغار، وتعاهدوا على ذلك، وتواطئا عليه ثمّ عقدا على ما اتفقا عليه، سكتا عن إعادة الشرط في صلب العقد اعتمادا على تقدم ذكره والتزامه، لم يخرج العقد بذلك عن كونه عقد تحليل ومتعة وشغار حقيقية.وهل مثل هذا إلا عينَ تفويت مقصود الشارع؟ وهل هذه القاعدة - وهي أن الشرط المتقدم لا يؤثر - إلا فتح لباب الحيل؟ وهل هذا ألا من اقرب الوسائل والذرائع إلى حصول ما قصد الشارع عدمه وإبطاله ؟وأين هذه القاعدة من قاعدة سد الذرائع إلى المحرمات؟ ولهذا صرح أصحابها ببطلان سد الذرائع لما علموا أنها مناقضة لتلك، فالشارع سد الذرائع إلى المحرمات بكل طريق، وهذه القاعدة توسع الطرق إليها وتتهجها، وإذا تأمل اللبيب هذه القاعدة وجدها ترفع التحريم أو الوجوب مع قيام المعنى المقتضي لها حقيقية. وفي ذلك تأكيد للتحريم من جهتين:

  • الأول: من جهة أن فيها فعل المحرم وترك الواجب.

  • الثاني: من جهة اشتمالها على التدليس والمكر والخداع والتوسل بشرع الله الذي أحبه ورضيه لعباده ـ إلى نفس ما حرم الله ونهى عنه والاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والأفعال، فان الألفاظ إذا اختلفت عباراتها أو مواضعها بالتقدم والتأخر والمعنى واحد كان حكمها واحدا، ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفا، وكذلك الإعمال ومن تأمل الشريعة حق التأمل علم صحة هذا بالاضطرار، فالأمر المحتمل عليه بتقدم الشرط دون مقارنة صورته صورة الحلال المشروع ومقصوده الحرام الباطل، فلا تراعى الصورة وتلغى الحقيقة والمقصود، بل مشاركة هذا للحرام صورة ومعنى والحاقة به لاشتراكهما في القصد والحقيقة، أولى من الحاقة بالحلال المأذون فيه بمشاركته له في مجرد الصورة. واللفظ إنما وضع لدلالته على المعنى، فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن في تغير اللفظ كثير فائدة[89].

وهذا أيضا هو ما يتفق مع مذهب الشافعي رحمه الله فالعقد ظاهرا صحيح والله يتولى السرائر. 

المطلب الثاني: الترجيح والخاتمة.

أولا: إن رؤية الإمام الشافعي رحمه الله في رفض العمل بالذرائع تضبط العمل بالإجراءات الخاصة بالمتهمين، وهذا جيد في احترام إنسانية الإنسان، فإن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وهذا ما تذهب إليه أغلب المدنيات الحديثة في إجراءات التقاضي.وخالف المالكية والحنابلة وقالوا بأن المتهم غير بريء حتى يثبت براءته وأجازوا تعذيب المتهمين[90]. قال ابن القيم: فمن أطلق كل متهم، وخلّى سبيله، مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض وكثرة سرقاته؛ وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل، فقوله مخالف للسياسة الشرعية[91].وتابع قائلاً: فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذا الأمارات (أي: العلامات). قال: فإن قال شافعيٌ: (لا سياسة إلا ما وافق الشرع)، فان أردت بقولك أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وان أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن.ويجاب عن هذا بأن الشافعي رحمه الله يتكئ على ظاهر الشرع وهو قانون منضبط؛ أما غيره فعلى الظن ولا يجوز تعذيب احد من عباد الله إلا بأن يفعل ما يوجب أن يعذب لأجله، وبأن يثبت ذلك عليه، بالوجه المشروع. ثم إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يجتمعوا على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم لورود الدليل الصريح في حادثة ما، أو أن يختلفوا فيها لاختلافهم في فهم الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مشروعية التمثيل والتحريق بالنار. والوارد عن المعصوم المنع منه حتى في حق الكافرين. فكيف يعتمد عليها في تعذيب المتهمين!.      

ثانيا: قوة موقف الشافعي: والدليل على قوة ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله، ظاهرٌ فإن الله لما أعلم رسوله بحال المنافقين لم يبطل جميع الأحكام المتعلقة بما أعلمه به فهناك فائدة، فقال الله عز وجل له(هم العدو فاحذرهم) المنافقون 4، وحذرُ الإمامِ من فئة معينة عمل بالسياسة الشرعية واهتمام بدلالات ظهور المفسدة، وقال الله عز وجل له: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا، ولن تقاتلوا معي عدوا، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) التوبة، 83. ومنعهُ لهم من الخروج معه والجهاد في سبيل الله عمل ترتب على معرفة سرائرهم، وان لم يأمره الله بقتلهم، وقال الله عز وجل له: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) التوبة 84. ونهيه عز وجل لنبيه أن يصلي عليهم وكذا قيامه على قبورهم، مبني على معرفة سرائرهم وان لم يأمره الله بقتلهم. قال القرطبي في دلالة قول الله تعالى: (لن تخرجوا معي أبدا) قال: هذا يدل على أن استصحاب المخذّل في الغزوات لا يجوز[92]. وهذا حكم ترتب على معرفة النبي للمنافقين وفيه فائدة كبيرة لمجموع المسلمين، ثمّ إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول) محمد 30، والسيما: المراد بها حال يظهر على الشخص [93]. ولحن القول: أي في فحواه ومعناه [94]. قال ابن كثير: أي فيما يبدوا من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان  رضي الله عنه: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه[95]. ومثلها قوله تعالى: (تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) البقرة 73، وهذه السيما تظهر لذوي الألباب من صفاتهم[96].

فالله عز وجل ارشد نبيه إلى معرفة المنافقين والنظر إلى الأمارات والعلامات التي يعلم بها صدق المحق وبطلان المبطل، وفي هذا أكبر فائدة للإسلام والمسلمين، وان لم يأمره الله عز وجل بقتلهم وهذا يدل على أن عدم إعمال الدلالة في حكم - أي قتلهم بدلالة كفرهم - لا يعني عدم إعمالها في بقية الأحكام كالصلاة عليهم واصطحابهم في القتال؛ وفي هذا وقوف عند ظاهر  النصوص وعدم تجاوزها بحجة السياسة الشرعية.

  • قوله تعالى: (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر، إذ يعدون في السبت، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون) الأعراف 163 وقصتهم معروفة، وهي أن الله عز وجل نهاهم عن اصطياد السمك يوم السبت، فتحايلوا على ذلك فصاروا يضعون الشباك يوم الجمعة ويأخذون السمك يوم الأحد. فسمى الله عز وجل عملهم هذا عدوانا.

قال ابن العربي: قال علماؤنا هذه الآية أصل من أصول إثبات الذرائع التي انفرد بها مالك، وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته، وخفيت على الشافعي وأبي حنيفة مع تبحرهما في الشريعة وهو كل عمل ظاهر الجواز يتوصل به إلى محظور، كما فعل اليهود حين حرّم عليهم صيد السبت، فسكّروا الأنهار، وربطوا الحيتان فيه إلى يوم الأحد. فان قيل: هذا الذي فعلت اليهود لم يكن توسلا إلى الصيد، بل كان نفس الصيد، قلنا: إنما حقيقة الصيد إخراج الحوت من الماء وتحصيله عند الصائد فأما التحايل عليه إلى حين الصيد فهو سبب الصيد لا نفس الصيد، وسبب الشيء غير الشيء، وإنما هو الذي يتوصل به إليه، ويتوسل به في تحصيله، وهذا هو الذي فعله أصحاب السبت. وقال: قال علماؤنا: إنما هلكوا بإتباع الظاهر، لان الصيد حرّم عليهم، فقالوا لا نصيد، بل نأتي بسبب الصيد، وليس سبب الشيء كالشيء. فنحن لا نرتكب عين ما نهينا عنه، قال: فنعوذ بالله من الأخذ بالظاهر المطلق في الشريعة. قال ابن كثير: وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام. وقد قال الإمام الفقيه أبو عبد الله بن بطة من طريق أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)[97].

ويجاب عن هذا بأن المعنى الخاص للذرائع: الوسائل التي ظاهرها الجواز، إذا قويت التهمة بها إلى الممنوع.والتحريم واضح الدلالة فإن الله تعالى نهاهم عن الاعتداء على السمك يوم السبت بصيد أو إمساك أو أي نوع من أنواع الاعتداء؛ وليس هذا من هذا فإن الإمام الشافعي رحمه الله حرم الوسائل التي تفضي إلى الحرام قطعا أما ما ثبت اعتباره من القرائن والدلالات فلا بد من اعتباره بحدود ما تدل عليه فقط، والأدلة على ذلك ما يأتي:

1. روى البخاري من طريق أبي هريرة حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال أن تسكت[98]).ومن طريق عائشة قال: (رضاها صمتها) [99]، قال ابن فرحون: فجعل صمتها قرينة على الرضا، وتجوز الشهادة عليها بأنها رضيت، وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن[100].وقد قال ابن العربي رحمه الله على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بالترجيح، وهو قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها. وقد جاء العمل بها في مسائل اتفقت عليها الطوائف الأربعة، وبعضها قال بها المالكية خاصة، وذكر خمسين مسألة تدل على العمل بالقرائن والأمارات[101].

2. روى البخاري من طريق نافع أنه سمع أن كعب بن مالك يحدث عن أبيه، أنه كانت له غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا، فكسرت حجرا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من سأله، فأمر بأكلها[102]. وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت، أو شيئا يفسد ذبح أو أصلح ما يخاف عليه الفساد [103]. قال ابن المنير[104]: ليس غرض البخاري بحديث الباب الكلام في تحليل الذبيحة أو تحريمها، وإنما غرضه إسقاط الضمان عن الراعي أو الوكيل [105]؛ قال ابن حجر: واستُدل به-أي الحديث- على تصديق المؤتمن على ما اؤتمن        عليه ما لم يظهر دليل الخيانة، وعلى أن الوكيل إذا أنزى على إناث الماشية فحلا بغير إذن المالك، حيث يحتاج إلى ذلك فهلكت أنه لا ضمان عليه [106]. ومن قول مالك: في الراعي يأتي بالشاة مذبوحة ويزعم أنها وقعت للموت فذبحها، أن القول قوله لأنه مؤتمن عليها.قال ابن فرحون: وكل شيء يضيعه الراعي مما يجوز له فعله فلا ضمان عليه [107]؛ قال الشيخ  أحمد الزرقا رحمه الله: الإذن دلالة. وذلك كما لو مرضت الشاة مع الراعي المستأجر في المرعى، مرضا لا يرجى حياتها معا فذبحها، فانه لا يضمنها، لان ذلك مأذون فيه دلالة [108] وقد نصت المادة (772) من مجلة الأحكام على أن (الإذن دلالة كالإذن صراحة) [109]. وما تقدم يدل على اعتبار الشرع للدلالة المعتبرة.

3. في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، قال تعالى: (وشهد شاهد من أهلها، إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال انه من كيدكن إن كيدكن عظيم) يوسف(26-27-28)

وهذه الآية ترشد إلى العمل بالأمارات والقرائن والعلامات والدلائل، التي يعلم بها صدق المحق، وبطلان قول المبطل [110]. والشافعي رحمه الله أجاز الاستفادة من مثل هذه القرائن بحدود ما سيقت لأجله لا أن تكون بينة كاملة.قال ابن القيم رحمه الله: والمقصود أن الشريعة لا ترد حقا، ولا تكذب دليلا، ولا تبطل أمارة صحيحة. وقد أمر الله سبحانه بالتثبت والتبيين في خبر الفاسق، ولم يأمر برده جملة فلا يجوز لحاكم ولا وال رد الحق بعدما تبين وظهرت أماراته بقول أحد من الناس. قال: والمقصود: أن البينة في الشرع: اسم لما يبين الحق ويظهره وهي تارة تكون بأربعة شهود، وتارة ثلاثة بالنص في بينة المفلس وتارة شاهدين، وشاهدا واحدا، وامرأة واحدة ونكولا ويمينا، أو خمسين يمينا، أو أربعة أيمان. فقوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي) أي عليه أن يظهر ما يبين صحة دعواه، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حكم له [111].

وهذا الذي ذكره ابن القيم جيد ولكن يؤخذ عليه قوله: بأي طريقة من الطرق؛ فإن علم القاضي طريق من ثبوت الحق ولكن الفقهاء على عدم جواز قضاء القاضي بعلمه.

د- إن الحاجة ماسة في زماننا إلى العمل بالدلالة، خصوصا فيما يأتي:  

1- دلالة البصمات على صاحبها.

2- دلالة الجينات الوراثية على النسب.

3- ما يقوم به علماء ومتخصصو البحث الجنائي في أيامنا من إثبات التفاصيل في الجرائم والقبض على المجرمين من خلال معرفة الدلالات على المجرمين، كنوع السيارة -مثلا- التي استخدمت أو عجلاتها، ومعرفة  الجاني من خلال بصماته أو خصلات شعره، أو بقايا دمه.

 وان كانت مثل هذه الدلالات والأمارات لا تصل إلى مستوى البينة، لكن يمكن استخدامها في التوصل إلى المجرمين وتعقبهم والتحقيق معهم.

وأخيرا فإن ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله من إبطال العمل بالذرائع في العقود جيد وهو صحيح إذ لا يبطل عقد بسبب نيةٍ. وكذا إبطاله للدلائل والقرائن والإمارات وعدم اعتبارها سبيلا إلى التجاوزات الشرعية أمر جيد  لضبط القضاء نسأل الله السداد في القول والعمل.

تم، والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات.

 (*) منشور في "المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية"، المجلد (5)، العدد (4)، محرم 1431هـ/ كانون الأول 2009م.

 الهوامش:


[1] إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، ج1 المكتبة العلمية، طهران، ص311.

[2] محمد بن مكرم بن منظور، ت 711 هجري، لسان العرب، ج 8، ص 96، دار صادر، بيروت، لبنان ط 3، 1994، مادة زرع، ومحمد أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، ص 221، دار البراعم للإنتاج الثقافي، ط 1. ومحمد بن يعقوب، مجد الدين الفيروز آبادي، ت 718، القاموس المحيط، ج 3، ص 23، الطبعة الثالثة، 1933 م، 1352 هجري، المطبعة المصرية.

[3] محمد بن احمد القرطبي ت 671 هجري، الجامع الأحكام القرآن، ج2 ص 58-59، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1987 م.

[4] أحمد بن إدريس القرافي، ت 684 هجري، الفروق، ج 1، ص 32، الفرق رقم 58، عالم الكتب، بيروت.

[5] إبراهيم بن محمد بن فرحون ت 779 هجري، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، ج2، ص 267، المطبعة العامرة الشرقية، مصر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1301 هجري مصورة.

[6] وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، ج2، ص 873، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 1، 1986 م.

[7] مصطفى البغا، أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي، ص 572، دار القلم، دمشق، ط 2، 1993 م.

[8] عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، ص 245، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 3، 1990م.

[9] ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج 2، ص 268.

[10] أحمد بن إدريس القرافي، الفروق وبهامشه تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، لابن الشاط المسمى: ادرار الشروق على انواء الفروق، ج2 عالم الكتب، بيروت، ص32، ابراهيم بن شمس الدين ابي عبدالله محمد بن فرحون اليعمري المالكي، تبصرة الحكام في أصول الاقضية ومناهج الإحكام، الطبعة الأولى، ج2، المطبعة العامرة الشرقية، مصر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (1301هـ)، ص(267-268).

[11] ابن القيم، اعلام الموقعين، ج3، ص135...

[12] أبو القاسم بن عبدالله بن محمد الانصاري، المعروف بابن الشاط، ادرار الشروق على أنواء الفروق، ج2 عالم الكتب، بيروت، ص32.مطبوع بذيل الفروق.

[13] إبراهيم بن موسى، الشاطبي ت(90 هـ) الموافقات في أصول الأحكام، ج4، ص 113.

[14] محمد بن أحمد بن رشد، المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات الشرعيات لامهات مسائلها المشكلات، على نفقة محمد افندي ساسي، المغربي التونسي، ج2، مطبعة السعادة، مصر، دار صادر، بيروت، ص524.

[15] القرطبي، الجامع لاحكام القرآن، ج2ص57 وما بعدها..

[16] محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، دار الفكر، بيروت، ص246.

[17] القرافي، الفروق، ج 1، ص 32.  دار الجيل، بيروت، لبنان.

[18] محمد بن أبي بكر، ابن القيم، ت 751 هجري، إعلام الموقعين، ج 3.

[19] الشاطبي، الموافقات، ج 4، ص 111-113.

[20] ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 3، ص 137.

[21] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج2، ص 58.

[22]  رواه البخاري، أنظر أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هجري، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 1، ص 124، كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ حديث رقم (427)و(436).طبعة دار الريان للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987 م.

[23] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج2، ص 58.

[24] ابن حجر، فتح الباري، ج2، ص 626.

[25] رواه البخاري، أنظر ابن حجر، فتح الباري، ج 4، ص 340، كتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، حديث رقم (2051).

[26] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج2، ص 58 و59.

[27] ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 3، ص 159.

[28] القرافي، الفروق: ج 1، ص 33، الفرق الثامن والخمسون.

[29] الشاطبي، الموافقات، ج 4، ص 113.

[30] القرافي، الفروق، ج2، ص 32، وابن فرحون، تبصرة الحكام، ج2، ص 267.

[31] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج2، ص 60.

[32] محمد بن إدريس الشافعي، ت 204 هجري، الآم، ج 3، ص 78، إشراف وتصحيح: محمد زهدي النجار، دار المعرفة، بيروت، لبنان.

[33] الشاطبي، الموافقات، ج 4، ص 113.

[34] المرجع السابق.

[35] المرجع السابق.

[36] المرجع السابق.، ص 114.

[37] الشافعي، الأم، ج 7، ص 298

[38] ابن القيم، إعلام  الموقعين، ج 3، ص 134.

[39] الشافعي، الأم، ج 4، ص 49.

[40] الشافعي، الأم، ج 7، ص 297.

[41] مصطفى البغا، أثر الأدلة، ص 578 و579، نقلا عن حاشية العطار على شرح المحلى لجمع الجوامع، ج 2، ص 364، المطبعة العلمية 1316 هجري.

[42] المرجع ذاته، ص 579.

[43] القرافي، الفروق، ج 1، ص 33.

[44] الشاطبي، الموافقات، ج 4، ص 114.

[45] الشافعي، الأم، ج 7، ص 297.

[46] ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 3، ص 134.

[47] الشافعي، الأم، ج 7، ص 296 و297.

[48] الشافعي، الأم، ج 7، ص 296 و297، بحث الشافعي ذلك في مقدمة كتابه (إبطال الاستحسان) عند قوله تعالى"الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان"

[49] المرجع السابق. ص 294، 295.

[50] المرجع السابق..

[51] المرجع السابق.

[52] المرجع السابق.

[53] المرجع السابق.، ج 7، ص 295.

[54] رواه الشافعي في الأم، ج 7، ص 297، والحديث رواه البخاري -بلفظ آخر- من طريق سهل بن سعد (أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله أم كيف يفعل؟ فانزل الله في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المتلاعنين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام قد قضى الله فيك وفي امرأتك، قال فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد، فلما فرغا قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم فكمال ذلك تفريق بين كل متلاعنين، قال ابن جريج قال ابن شهاب فكانت السنة بعدهما أن يفرق  بين المتلاعنين، وكانت  حاملا، وكان ابنها يدعى لأمة...وفي الحديث: إن جاءت به أحمر قصيرا كأنه وحرة فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها، وان جاءت به أسود أعين ذا آليتين فلا أراه إلا قد صدق عليها، فجاءت به على المكروه من ذلك). كتاب الطلاق، باب التلاعن في المسجد، حديث رقم(5309) انظر ابن حجر، فتح الباري، ج 9، ص 162.

[55] روى البخاري من طريق ابن عباس -حديث التلاعن- وفيه: قال رجل لابن عباس في المجلس: هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم (لو رجمت أحدا بغير بينة لرجمت هذه؟)فقال: لا، تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء.كتاب الطلاق، باب قول النبي صلى الله عليه  وسلم: لو كنت راجما بغير بينة... حديث رقم(5310)، انظر ابن حجر، فتح الباري، ج 9، ص 363.

[56] الشافعي، الأم، ج 7،  ص 297.

[57] المرجع السابق،  ص 297، 298.

[58] المرجع السابق.

[59] المرجع السابق.

[60] المرجع السابق.

[61] المرجع السابق

[62] المرجع السابق، ج 4، ص 7.

[63] المرجع السابق، ج 7، ص 304.

[64] المرجع السابق

[65] المرجع السابق.

[66] مسعود بن عمر التفتازاني، ت 792 هجري، شرح التلويح على(التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه) والتنقيح مع شرحه التوضيح، عبد الله بن مسعود المحبوبي البخاري الحنفي، ت 747 هجري، ج2، ص 256، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1996 م.

[67] نجم الدين بن حفص النسفي، ت 537، طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية، تحقيق خليل الميس، ص 233، دار القلم، بيروت، لبنان، ط 1، 1986م.

[68] الشافعي، الأم، ج 3، ص 75.

[69] المرجع السابق.

[70] ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج 2، ص 269، انظر: إعلام الموقعين، ج 3، ص 188-169.

[71] محمد بن بهادر الزركشي، ت794هجري، المنثور في القواعد الفقهية، ج2، ص 280 و281. تحقيق: محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط، 2000 م.

[72] المرجع السابق.

[73] ابن منظور، لسان العرب، ج 15، ص 70.

[74] هذا التوجه عند الشافعية.

[75] الزركشي، المنثور في القواعد، ج 5، ص 282

[76] سليمان البجيرمي، تحفة الحبيب على شرح الخطيب، (البجيرمي على الخطيب)، ج 3، ص 8،  مصطفى البابي الحلبي، مصر،    1338 هجري.

[77] البجيرمي، تحفة الحبيب، ج 3، ص 9.

[78] ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج2، ص 97.

[79] الزركشي، المنثور في القواعد، ج2، ص 28، تحقيق محمد حسن إسماعيل، نقلا عن الغزالي أبي حامد، إحياء علوم الدين، ج2،   ص 87 و89.

[80] الزركشي، المنثور في القواعد، ج، ص 96.

[81] الشافعي، الأم، ص 74.

[82] البجيرمي، تحفة الحبيب، ج 3، ص 4.  

[83] محمد الخطيب الشر بيني، مغني المحتاج، ج2، ص48، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1997م.

[84] البجيرمي، تحفة الحبيب، ج 3، ص 4. 

[85] حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، ص 390 و394 و397، رسالة دكتوراه، 1981م، مكتبة المتنبي، القاهرة.

[86] البخاري، صحيح البخاري، كتاب الحيل، باب اذا غصب جارية فزعم انها ماتت فقضى بقيمة الجارية، ص581، دار السلام للنشر والتوزيع، ط1، الرياض -السعودية(1420هـ1999م).

[87] ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 3، 4 ص و12.

[88] ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 3، ص 134 و128.

[89] ابن القيم، إعلام الموقعين، ج 3، ص 134 و128. وفي الفصل الثالث من القسم الثالث من تبصرة ابن فرحون في الدعاوى بالتهم والعدوان ما نصه: إذا كان المدعى عليه بذلك ليس من أهل تلك التهمة فهذا النوع لا تجوز عقوبته اتفاقا واختلف في عقوبة المتهم له على قولين والصحيح منهما أنه يعاقب ثم قال في آخر الفصل: قال الباجي: وإذا كان المدعى عليه مجهول الحال فظاهر ما في المذهب يقتضي أن الأدب على المدعى عليه وعليه اليمين وفي الواضحة ما يقتضي أنه يخلى سبيله دون يمين وقد أطال رحمه الله.

[90] جاء في مواهب الجليل ما نصه: "وفي الفصل الثالث من القسم الثالث من تبصرة ابن فرحون في الدعاوى بالتهم والعدوان ما نصه: إذا كان المدعى عليه بذلك ليس من أهل تلك التهمة فهذا النوع لا تجوز عقوبته اتفاقا واختلف في عقوبة المتهم له على قولين والصحيح منهما أنه يعاقب، الحطاب(954هـ)، مواهب الجليل ج15مطبعة السعادة، مصر، ص276، باب الغصب، أحمد بن تيمية (728هـ-1328م)، مجموع الفتاوى، ج9، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد الحنبلي، دار عالم الكتاب للطباعة والنشر، المملكة العربية السعودية، الرياض، باب دعاوي التهم، ص282، عبد القادر عودة، التشريع الجنائي في الإسلام، ج 1، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الرابعة، (1405هـ-1985م)، بيروت، لبنان، ص162.

[91] ابن القيم، الطرق الحكمية ص13 و14، دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق محمد حامد الفقي.

[92] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 8، ص 218.

[93] ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج2، ص 93.

[94] القرطبي، الجامع  لأحكام القرآن، ج 16، ص 252.

[95] إسماعيل بن كثير، ت 774 هجري، تفسير القرآن العظيم، ج 4، 190، دار الأسماء، بيروت، دار الكتب المصرية.

[96] المرجع ذاته، ج 1، ص 348.  

[97] محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ت 543 هجري، أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، ج2، ص 798، دار المعرفة.

[98] رواه الحافظ ابن كثير قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة رحمه الله: حدثنا احمد بن محمد بن سلم، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمر عن أبي أسامة عن أبي هريرة، قال الحافظ ابن كثير: وهذا إسناد جيد، فأن احمد بن محمد بن سلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه باقي رجاله مشهورون الثقات، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرا. انظر ابن كثير تفسير القرآن العظيم، ج2، ص 286.

[99] رواهما البخاري، انظر ابن حجر، فتح الباري، ج 9، ص 98، كتاب النكاح، باب لا ينكح البكر الثيب إلا برضاها، الحديث(5136).

[100] ابن فرحون، بصرة الحكام، ج2، ص 94، 95.

[101] ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج2، ص 95 -98.

[102] رواه البخاري، انظر: ابن حجر، فتح الباري، ج 4، ص 563، كتاب الوكالة، باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت، حديث 2204.

[103] المرجع ذاته، ج 4، ص 563.

[104] هو أحمد بن محمد بن منصور الاسكندري، ناصر الدين ابن المنير، وله حاشية على البخاري هي (المتواري على أبواب البخاري) وقد أكثر ابن حجر رحمه الله من النقل عنها، ولد سنة 620 هجري، في الإسكندرية ونشأ في أسرة علمية، وله مؤلفات أشهرها هذه الحاشية، توفي سنة 683 هجري، انظر معجم المؤلفين، ج2، ص 161، وابن العماد، شذرات الذهب، ج 5، ص 381.

[105] ابن حجر، فتح الباري، ج 4، ص 563

[106] المرجع ذاته، ج 4، ص 563.

[107] ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج2، ص 235.

[108] المرجع ذاته، ج2، ص 235.

[109] احمد بن محمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، ص 462، القاعدة رقم 95، دار القلم، دمشق، سوريا، ط 3، 1993 م.

[110] سليم رستم باز، شرح المجلة، المطبعة الأدبية، بيروت، لبنان، 1923. ط 3. ص 428. ابن فرحون، تبصرة الحكام، ج2، ص 93 94.

[111] ابن القيم، الطرق الحكمية، ص 24.