الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
يشكل الدستور القواعد والمبادئ الأساسية التي تحدد شكل الدولة ونظام الحكم وشكل الحكومة، وينظم السلطات العامة فيها من حيث تكوينها واختصاصها والعلاقات بينها وحدودها، والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويضع الضمانات لها تجاه السلطة، وتلتزم به كل القوانين الأدنى مرتبة في الهرم التشريعي.
فالغاية من الدستور أن يكون المرجعية القانونية للدولة؛ محافظة على الحقوق والواجبات بين الدولة والأفراد، وتنظيماً للعمل بين السلطات المختلفة في الدولة، وهذا ما فعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة المنورة، حيث عمل على إنشاء ميثاق بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، وسكان المدينة من عرب غير مسلمين، وقبائل يهود، وعرف هذا الميثاق باسم "ميثاق المدينة" أو "العهد النبوي"، وقد وضع لتنظيم العلاقات بين الجماعات المسلمة وغير المسلمة في المدينة المنورة وتعزيز التضامن والسلم الاجتماعي، وهذا الميثاق هو عين ما يعرف الآن باسم الدستور.
فالدساتير تتضمن المبادئ العامة التي تشكل هوية الدولة، وتحدد طبيعة علاقاتها المختلفة وترتيباتها الإدارية، وهذه العلاقات والتراتيب الإدارية في مجملها مما أناطته الشريعة الإسلامية بأولي الأمر؛ لأنها من باب المصالح المرسلة غالباً، أي إنها من السياسة الشرعية التي لا نصّ فيها بذاتها وخصوصها، بل يتخذ أهل الولاية قرارهم بشأنها، بما يتوافق مع مصلحة الرعية، تطبيقاً للقاعدة الفقهية: "التصرف على الرعية منوط بالمصلحة".
لذلك كان الالتزام بأحكام الدستور ونصوص القوانين من باب طاعة ولي الأمر الذي أقرّ العمل بها، وطاعة ولي الأمر واجبة في غير معصية، حفاظاً على وحدة الكلمة، ودفعاً للفتن، ومنعًا من اختلال نظام الدولة، والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
قول سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ) رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ) رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام الإمام النووي رحمه الله: "تجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يخالف حكم الشرع -أي يأمر بحرام-، سواء كان عادلاً أو جائراً" [الروضة 10/ 47]، فتجب طاعة الإمام إن أمر بمندوب أو مباح وكان فيه مصلحة عامة، فإن لم يكن فيه مصلحة عامة وجب الامتثال ظاهراً درءاً لوقوع الفتنة أو حصول الضرر، قال الإمام ابن قاسم العبادي الشافعي رحمه الله: "يتجه الوجوب في المباح حيث اقتضاه مصلحة عامة لا مطلقاً إلا ظاهرا لخوف الفتنة والضرر، فليتأمل فيما إذا كان وجود المصلحة وعمومها بحسب ظن الإمام فظن المأمور عدم ذلك ويلوح الاكتفاء بالامتثال ظاهراً" [حاشية العبادي على تحفة المحتاج 3/ 70].
وما نهى عنه الإمام تجري عليه القواعد السابقة، قال الإمام ابن قاسم العبادي رحمه الله: "وظاهرٌ أن منهيَّه كمأموره، فيمتنع ارتكابه ولو مباحاً على التفصيل في المأمور" [حاشية العبادي على تحفة المحتاج 3/ 70].
والحاصل أنّ طاعة الإمام واجبة ظاهراً وباطناً إن أمر بواجب حيث يتأكد وجوبه، أو أمر بمندوب أو مباح وكان فيه مصلحة عامة، بخلاف ما لو أمر بمحرم أو مباح ولم يكن فيه مصلحة عامة، فطاعته غير واجبة؛ لأن الطاعة لا تلزم بالمعاصي، ولا تجوز فيما لا يحلّ، ولا يعتبر الأمر بالمعصية سبباً للخروج على الحاكم، بل تتم معالجة الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ)، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) رواه مسلم، قال شيخ الإسلام الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم، قال الخطابي رحمه الله: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح، وهذا كله على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات" [شرح النووي على مسلم 2/ 38].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه فيما أخذ علينا: "أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" رواه الشيخان، قال شيخ الإسلام الإمام النووي رحمه الله في شرح الحديث: "ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضا فغلط من قائله مخالف للإجماع، قال العلماء وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه" [شرح النووي على مسلم 12/ 229].
وكذلك طاعة من استخلفه الإمام تلزم كلزوم طاعة الإمام، لقول سيدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم: (مَن أطاعَنِي فقَدْ أطاعَ اللَّهَ، ومَن عَصانِي فقَدْ عَصَى اللَّهَ، ومَن أطاعَ أمِيرِي فقَدْ أطاعَنِي، ومَن عَصَى أمِيرِي فقَدْ عَصانِي) رواه الشيخان.
وعليه؛ فإنّ أحكام الدستور أو القانون التي تؤكد الواجب أو تأمر بالمندوب أو المباح لمصلحة عامة -وهذا ما عليه غالب الدساتير في الدول الإسلامية- واجبة التطبيق شرعاً، ومن خالفها فهو آثم، أما إن كانت تلك الأحكام أو القوانين تأمر بحرام فالطاعة لا تلزم بالمعاصي، ولا توجب الخروج أو القتال، بل تعالج عن طريق النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حفاظاً على وحدة الصف والكلمة. والله تعالى أعلم.